الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الخطبة الثالثة في حكم التصرف في الوقف]
الخطبة الثالثة
في حكم التصرف في الوقف الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة على وجه الكمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما تحملتموه من الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، وقد أمركم الله في كتابه أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على الوجه الذي تحملتموها عليه، وأن لا تخونوها بأخذ منها أو تصرف يضر بها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا إيمان لمن لا أمانة له» وقال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» . أيها المسلمون، ولقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فقال:«ينام الرجل نومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» .
أيها المسلمون، إن الأمانة تكون في معاملة العبد مع ربه كما تكون في معاملة الخلق، فالأمانة في العبادة أن تقوم بأوامر الله مخلصا له متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تترك ما نهى الله عنه ممتثلا بذلك أمر الله ورسوله.
ألا وإن الأمانة تكون في البيع والشراء والصناعة والإجارة وولاية النكاح، والودائع التي تودع إياها، والأقوال التي تكون سرا بينك وبين صاحبك، والولايات التي تتولاها شرعا أو عرفا، فالوكيل أمين وولي اليتيم أمين وناظر الوقف أمين والفلاح أمين والراعي أمين. فالأمانة تكون في
الدين كله والأعمال كلها، فمن أدى الأمانة على الوجه المطلوب فهو من المفلحين ومن خانها أو تهاون فيها كان من الخاسرين.
أيها المسلمون، إن بين أيديكم أوقافا أنتم الأمناء عليها فأدوا الأمانة فيها وراعوا فيها حقوق المستحقين من بعدكم، فإن لهم حقوقا فيها كما لكم فيها حقوق، فليست الأوقاف لكم تتصرفون فيها كما تحبون وإنما هي أمانة بين أيديكم تنفذونها بحسب شروط الموقفين.
أيها المسلمون، إني أحب أن أبين لكم في خطبتي هذه أمرين من أمور الوقف:
أحدهما في الناظر على الوقف، والثاني في التصرف في الوقف. أما الأمر الأول وهو الناظر، فإن كان الموقف قد عين ناظرا بشخصه أو بوصفه فالنظر لمن عينه، وإن كان الموقف لم يعين ناظرا لا بشخصه ولا بوصفه فإنه إن كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الفقراء وعلى المساجد ونحوها فالنظر للحاكم، وإن كان الوقف على معين كالأولاد ونحوهم كان النظر للموقوف عليهم جميعا. ألا وإن من الجهة العامة وقف أماكن الوضوء والاغتسال التي تسمونها الحساوة، فإذا أوقف الإنسان حسوا للمسلمين ولم يذكر له ناظرا معينا كان الناظر عليه الحاكم الشرعي لأن الوقف للمسلمين والحاكم نائبهم، وعلى هذا فالآبار السبل التي في الأسواق ولم يذكر الواقف لها ناظرا فإنه يتولاها القاضي دون غيره. وقد سمعنا أن بعض الناس لما غارت ماء بئر الحسو السبيل سده ولم يعرف كيف يتصرف فيه، والواجب عليه إذا تعطلت منافعه ولم يمكن إصلاحه أن يبيعه أو يصبره ويصرف العوض في نفع عام بعد مراجعة القاضي.
أما الأمر الثاني الذي أريد بيانه فهو التصرف في الوقف. فالوقف إذا تم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه إلا على الوجه الذي شرطه الموقف، ما لم يكن في ذلك مصلحة شرعية أنفع مما عينه الموقف، فإنه يسأل أهل العلم أو القاضي ويعمل بما يقولون، إلا أنه إذا تعطلت مصالح الوقف وصار لا ينتفع به لا بسكنى ولا بإجارة فإنه يجوز بيعه أو تصبيره ويشتري بعوضه إن بيع ما يكون بدلا عنه.
أيها المسلمون، لقد سمعنا أن بعض الناس بدؤوا يصبرون الأوقاف من دور أو دكاكين مع أنها لم تتعطل منافعها ويمكن إجارتها بدراهم تكفي ما عين فيها من تنافيذ، وهذا غلط منهم
وتعد على حق الواقف وحق من بعدهم من المستحقين، فلا يجوز لهم أن يحكروها بالصبرة عمن بعدهم، فإنه ربما تكون الأجرة في المستقبل أضعاف الصبرة فيحولون بتصبيرهم بين هذه الزيادة وبين مستحقيها من البطون المستقبلة فيلحقهم الإثم في قبورهم، وربما دعا عليهم من بعدهم لظلمهم إياهم، ودعاء المظلوم مستجاب. فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا الأمانة واسلكوا سبيل السلامة ولا تتبعوا أنفسكم شيئا يشغل ذمتكم، فلقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم لا يعدلون بالسلامة شيئا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.