الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الخطبة السابعة في صلاة الكسوف]
الخطبة السابعة
في صلاة الكسوف الحمد لله الملك القهار العظيم الجبار، خلق الشمس والقمر، وسخر الليل والنهار، وأجرى بقدرته السحاب يحمل بحار الأمطار، فسبحانه من إله عظيم، خضعت له الرقاب، ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبة من خرج عن طاعته:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34]
سخر لكم الشمس والقمر دائبين لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] لا يختلفان علوا، ولا نزولا، ولا ينحرفان يمينا، ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما، ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته، آيتان من آياته في عظمهما، آيتان من آياته في نورهما وإضاءتهما:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ - لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40]
لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم، وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا، وخلله، وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار، وعلمهم كيف يصنعونها، وخلق لهم موادها، ويسرها لهم. غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين
آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن الفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار.
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله، ينجليان بأمره، وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كله أو بعضه إنذارا للعباد، وتذكيرا لهم لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب عليهم من أوامر ربهم، ويبعدون عما حرم عليهم من نواهي الله عز وجل، ولذلك كثر الكسوف في هذا العصر، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60]
أيها الناس إن كثيرا من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف، فلم يقيموا له وزنا، ولم يحرك منهم ساكنا، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية.
فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون، وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان، فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق.
لقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق، وذلك في يوم شديد الحر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعا إلى المسجد، وأمر ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالا ونساء، فقام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وصفوا خلفه، فكبر، وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته، ثم ركع طويلا جدا، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعا
طويلا دون الأول، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا، ولك الحمد، وقام قياما طويلا نحو ركوعه، ثم سجد سجودا طويلا جدا نحوا من ركوعه، ثم رفع، وجلس جلوسا طويلا، ثم سجد سجودا طويلا، ثم قام إلى الركعة الثانية، فصنع مثل ما صنع لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثم تشهد، وسلم، وقد تجلت الشمس، ثم خطب خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى الصلاة، وإلى ذكر الله ودعائه، واستغفاره» . وفي رواية: «فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا، وصلوا حتى يفرج الله عنكم» . وفي رواية حتى ينجلي. وقال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وايم الله - يعني والله - لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته، إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت النار يحطم بعضها بعضا، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه - يعني أمعاءه - ورأيت فيها امراة تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم، كفتنة الدجال يؤتى أحدكم، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وآمنا، واتبعنا، فيقال: نم صالحا، فقد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق، أو المرتاب، فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته» . " ثم ذكر الدجال، وقال:«لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا، وحتى تزول جبال عن مراتبها» .
أيها المسلمون إن فزع النبي صلى الله عليه وسلم للكسوف، وصلاته هذه الصلاة، وعرض الجنة والنار عليه فيها، ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيته الأمة تفتن في قبورها، وخطبته، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والصدقة بل أمر بالعتق أيضا. لأن كل هذه لتدل على عظم الكسوف، وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا، حتى قال بعض العلماء: إنها واجبة، وأن من لم يصلها، فهو آثم، فصلوا أيها المسلمون رجالا ونساء عند كسوف الشمس أو القمر، كما صلى
نبيكم صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة، فليقضها على صفتها، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول، فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول، فقد فاتته الركعة؛ لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة.
وفقني الله وإياكم لتعظيمه، والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته، والانتفاع بها إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.