المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مَنْصُوبٌ بِأَنَّ الْمُضْمَرَةَ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٢

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: مَنْصُوبٌ بِأَنَّ الْمُضْمَرَةَ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ

مَنْصُوبٌ بِأَنَّ الْمُضْمَرَةَ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُوَ يَكُونُ. وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا

يَقُولُ لَهُ كُنْ قَوْلَةً فَيَكُونُ

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: «لِشَيْءٍ» ، وَقَوْلِهِ:«لَهُ» لِلتَّبْلِيغِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا رِجَالًا، أَيْ: لَا مَلَائِكَةً. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَغْرَبُوا جِدًّا بَعْثَ اللَّهِ رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرْسِلَ بَشَرًا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ; فَلَوْ كَانَ مُرْسِلًا أَحَدًا حَقًّا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [10 \ 2]، وَقَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [50 \ 2]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 7]، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ الْآيَةَ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ، أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ. . . الْآيَةَ [54 \ 24]، وَقَوْلِهِ: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [23 \ 24]، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ - 34]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ اللَّهَ مَا أَرْسَلَ لِبَنِي آدَمَ إِلَّا رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ، وَهُمْ رِجَالٌ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَتَزَوَّجُونَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْآيَةَ [16 \‌

‌ 43]

، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] ،

ص: 378

وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [21 \ 7، 8]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [13 \ 38]، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ. . . الْآيَةَ [46 \ 9] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ هَذَا الْحَرْفَ: " يُوحَى إِلَيْهِمْ " بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ " نُوحِي إِلَيْهِمْ "[16 \ 43]، بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " يُوسُفَ ":" إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى "[12 \ 109]، وَأَوَّلِ " الْأَنْبِيَاءِ:" إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. . " الْآيَةَ [21 \ 7] . كُلُّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَرَأَ فِيهَا حَفْصٌ وَحْدَهُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ. . . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فِي " سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ " وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الْآيَةَ [21 \ 25] .

فَقَدْ قَرَأَهُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ. وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا. وَحَصْرُ الرُّسُلِ فِي الرِّجَالِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُنَافِي أَنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [22 \ 75]، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا الْآيَةَ [35 \ 1] ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُرْسَلُونَ إِلَى الرُّسُلِ، وَالرُّسُلُ تُرْسَلُ إِلَى النَّاسِ. وَالَّذِي أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ هُوَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي حَصَرَ اللَّهُ فِيهِ الرُّسُلَ فِي الرِّجَالِ مِنَ النَّاسِ، فَلَا يُنَافِي إِرْسَالُ الْمَلَائِكَةِ لِلرُّسُلِ بِالْوَحْيِ، وَلِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ، وَكَتْبِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [79 \ 5] .

تَنْبِيهٌ.

يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلِ امْرَأَةً قَطُّ ; لِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا [16 \ 43]، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [16 \ 43] أَنَّ مَنْ جَهِلَ الْحُكْمَ: يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَوْهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَيْضًا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا أَهْلُ الذِّكْرِ ; لِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ. . . الْآيَةَ [15 \ 9]، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:

ص: 379

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [16 \ 44]، قِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " مَا أَرْسَلْنَا " دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ " رِجَالًا "، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: " رِجَالًا " صِفَةً لَهُ، أَيْ: رِجَالًا مُتَلَبِّسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " أَرْسَلْنَا " مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَ أُرْسِلُوا؟ قِيلَ: بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " نُوحِي "، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ ; قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْقُرْآنُ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] .

وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكْمَتَيْنِ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [16 \ 64] ، وَقَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [4 \ 105] .

الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِهِ وَالِاتِّعَاظُ بِهَا ; كَمَا قَالَ هُنَا: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [16 \ 44]، وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29]، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82]، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

أَنْكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعَ ذَلِكَ يَأْمَنُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ أَخْذَهُ الْأَلِيمَ، وَبَطْشَهُ الشَّدِيدَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيُهْلِكَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَالْخَسْفُ: بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفَ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ ; كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَارُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ الْآيَةَ [28 \ 81]، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي

ص: 380

السَّمَاءِ الْآيَةَ [67 \ 16، 17]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [17 \ 68]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 99] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذِهِ فِي أَوَّلِ «سُورَةِ الْأَعْرَافِ» .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِعْرَابِ: «السَّيِّئَاتِ» [16 \ 45]، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَيْ: الْقَبِيحَاتِ قُبْحًا شَدِيدًا ; كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ [8 \ 30]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «مَكَرُوا» عَلَى تَضْمِينِ «مَكَرُوا» مَعْنَى فَعَلُوا. وَهَذَا أَقْرَبُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «أَمِنَ» ، أَيْ: أَأَمِنَ الْمَاكِرُونَ السَّيِّئَاتِ، أَيِ: الْعُقُوبَاتِ الشَّدِيدَةَ الَّتِي تَسُوءُهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا بِهِمْ. ذَكَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْأَخِيرَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَذَكَرَ الْجَمِيعَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» .

تَنْبِيهُ.

كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ أَوْ فَاؤُهُ ; كَقَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا [43 \ 5] ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [34 \ 9] ، أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [45 \ 31] ، إِلَخْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ ; كَقَوْلِكَ مَثَلًا: أَنُمْهِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا؟ أَعَمُوا فَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؟ أَلَمْ تَأْتِكُمْ آيَاتِي أَفَلَمْ تَكُنْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ؟ وَهَكَذَا وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتُبِحْ

وَعَطْفُكَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحْ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِي الشَّطْرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا ; إِلَّا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ تَزَحْلَقَتْ عَنْ مَحَلِّهَا فَتَقَدَّمَتْ عَلَى الْفَاءِ وَالْوَاوِ ; وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَتْ لَفْظًا عَنْ مَحَلِّهَا مَعْنًى ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامُ.

ص: 381