المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شَيْءٌ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ ; إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. انْتَهَى - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٢

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: شَيْءٌ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ ; إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. انْتَهَى

شَيْءٌ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ ; إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ (فَتْحِ الْبَارِي) بِحَذْفِ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: تَحْرِيمُ قَلِيلِ النَّبِيذِ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ لَا شَكَّ فِيهِ ; لِمَا رَأَيْتُ مِنْ تَصْرِيحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» .

وَاعْلَمْ: أَنَّ قِيَاسَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ كَثِيرُهُ عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِأَنَّ «كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَالْقِيَاسُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَحُكْمِ الْأَصْلِ. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:

وَحَيْثُمَا يَنْدَرِجُ الْحُكْمَانِ

فِي النَّصِّ فَالْأَمْرَانِ قُلْ سِيَّانِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَخْبَارٍ مَعْلُولَةٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّيْءِ وَجَبَ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. اه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ هُنَا: الْإِلْهَامُ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْإِيحَاءَ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ ; وَلِذَا تُطْلِقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَعَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَلَى الْإِلْهَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [16 \‌

‌ 68]

، أَيْ: أَلْهَمَهَا. وَقَالَ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً الْآيَةَ [19 \ 11]، أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ. وَسَمَّى أَمْرَهُ لِلْأَرْضِ إِيحَاءً فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [99 \ 4، 5]، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَحْيِ عَلَى الْكِتَابَةِ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا

خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا

فَ «الْوُحِيَّ» فِي الْبَيْتِ (بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ) جَمْعُ وَحْيٍ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ. وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَمِّرُ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ آخِرُهُ الَّذِي تَفْسَدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلُّ فِيهِ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ، وَخُصَّ بِالرَّذِيلَةِ ; لِأَنَّهُ حَالٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ. بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ، فَإِنَّهَا حَالَةٌ يُنْتَقَلُ مِنْهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [22 \ 5]، وَقَوْلِهِ فِي الرُّومِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ

ص: 409

بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً الْآيَةَ [30 \ 54]، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَّنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [40 \ 67] .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [16 \ 70] ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» ، اه. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ أَرْذَلَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَعَنْ قَتَادَةَ: تِسْعُونَ سَنَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَحْدِيدَ لَهُ بِالسِّنِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَفَاوُتِ حَالِ الْأَشْخَاصِ ; فَقَدْ يَكُونُ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ أَضْعَفَ بَدَنًا وَعَقْلًا، وَأَشَدَّ خَرَفًا مِنْ آخَرَ ابْنِ تِسْعِينَ سَنَةً، وَظَاهِرُ قَوْلِ زُهَيْرٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ

ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبًا لَكَ يَسْأَمِ

أَنَّ ابْنَ الثَّمَانِينَ بَالِغُ أَرْذَلِ الْعُمُرِ

، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتُهَا

قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تُرْجُمَانْ

وَقَوْلُهُ: «لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا» [16 \ 70] (أَيْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلَ الْعُمُرِ، لِأَجْلِ أَنْ يَزُولَ مَا كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْعِلْمِ أَيَّامَ الشَّبَابَ، وَيَبْقَى لَا يَدْرِي شَيْئًا ; لِذَهَابِ إِدْرَاكِهِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ. وَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ لَا يَنَالُهُمْ هَذَا الْخَرَفُ وَضَيَاعُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، وَيُسْتَرْوَحُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ بَعْضِ التَّفْسِيرَاتِ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [95 \ 5 - 6] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، أَظْهَرُ التَّفْسِيرَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ فِيهَا مَثَلًا لِلْكُفَّارِ، بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُهُ الْمَالِكِينَ عَلَى الْمَمْلُوكِينَ فِي الرِّزْقِ، وَأَنَّ الْمَالِكِينَ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُونَ شُرَكَاءَهُمْ فِيمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ

ص: 410

الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَجَمِيعِ نِعَمِ اللَّهِ. وَمَعَ هَذَا يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي حَقِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ بِإِشْرَاكِ عَبِيدِكُمْ مَعَكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ: فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِيَا؟ ! .

وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [30 \ 28]، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ " مَا " فِي قَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] ، نَافِيَةٌ، أَيْ: لَيْسُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُسَوُّوهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ. اه.

فَإِذَا كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا لِأَنْفُسِهِمْ: فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ الْأَوْثَانَ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ؟ ! ! كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْقَائِلِ: بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْ أَحَدٍ فِي الرِّزْقِ، وَلِلَّهِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ حِكْمَةٌ ; قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا الْآيَةَ [43 \ 32]، وَقَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [13 \ 26]، وَقَالَ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [2 \ 236] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ جَعَلَكُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّزْقِ ; فَرَزَقَكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا رَزَقَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ; فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَرُدُّوا فَضْلَ مَا رُزِقْتُمُوهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَسَاوَوْا فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ ; كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ أَمَرَ مَالِكِي الْعَبِيدِ أَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَطْعَمُونَ، وَيَكْسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ "، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] ، لَوْمٌ لَهُمْ، وَتَقْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ رَازِقُ الْمَالِكِينَ وَالْمَمْلُوكِينَ جَمِيعًا ; فَهُمْ فِي رِزْقِهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَحْسَبَنَّ الْمَالِكُونَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ رِزْقُ اللَّهِ يُجْرِيهِ لَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْأَظْهَرُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ،

ص: 411

وَيَدُلُّ لَهُ الْقُرْآنُ كَمَا بَيَّنَّا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [16 \ 71] ، إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جُحُودَهُمْ بِنِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَعْمِلُ نِعَمَ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَسْتَعِينُ بِكُلِّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّهُ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَجَحَدَ: تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا الْآيَةَ [27 \ 14]، وَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [7 \ 51] ، وَالْجُحُودُ بِالنِّعْمَةِ هُوَ كُفْرَانُهَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً الْآيَةَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ امْتَنَّ عَلَى بَنِي آدَمَ أَعْظَمَ مِنَّةٍ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشَكْلِهِمْ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَا حَصَلَ الْائْتِلَافُ وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ.

وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُورِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ.

وَأَوْضَحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ آيَاتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - ; كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [30 \ 21]، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 36 - 39]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [7 \ 189] .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَفَدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْحَفَدَةُ: أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، أَيْ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنَ الْبَنِينَ حَفَدَةً. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَفَدَةُ الْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ مُطْلَقًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:

حَفَدُ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ

بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةَ الْأَجْمَالِ

أَيْ: أَسْرَعَتِ الْوَلَائِدُ الْخِدْمَةَ، وَالْوَلَائِدُ الْخَدَمُ. الْوَاحِدَةُ وَلِيدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً

إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا

أَيْ: أَسْرَعُوا فِي الْخِدْمَةِ.

ص: 412

وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَفْدِ الَّتِي نُسِخَتْ: وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، أَيْ: نُسْرِعُ فِي طَاعَتِكَ. وَسُورَةُ الْخُلْعِ وَسُورَةُ الْحَفْدِ اللَّتَانِ نُسِخَتَا يُسَنُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقُنُوتُ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

وَقِيلَ: الْحَفَدَةُ الْأَخْتَانُ، وَهُمْ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ

لَهَا حَفْدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ

وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ

عَيُوفٌ لِأَصْهَارِ اللِّئَامِ قَذُورُ

وَالْقَذُورُ: الَّتِي تَتَنَزَّهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، تَبَاعُدًا عَنِ التَّدَنُّسِ بِقَذَرِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَفَدَةُ: جَمْعُ حَافِدٍ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحَفْدِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ. فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَفَدَةَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [16 \ 72] ، دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْبَنِينَ وَالْحَفَدَةِ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ أَزْوَاجِهِمْ. وَدَعْوَى أَنَّ قَوْلَهُ:«وَحَفَدَةً» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَزْوَاجًا» [16 \ 72] ، غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. كَمَا أَنَّ دَعْوَى أَنَّهُمُ الْأَخْتَانُ، وَأَنَّ الْأَخْتَانَ أَزْوَاجُ بَنَاتِهِمْ، وَبَنَاتُهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلُّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَوْلَادَ الرَّجُلِ، وَأَوْلَادَ أَوْلَادِهِ: مِنْ خَدَمِهِ الْمُسْرِعِينَ فِي خِدْمَتِهِ عَادَةً. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [16 \ 72] ، رَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا.

حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يُرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكٍ تَزَوَّجَ سَعْلَاةً مِنْهُمْ، وَكَانَ يُخَبِّؤُهَا عَنْ سَنَا الْبَرْقِ لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَعَ الْبَرْقُ وَعَايَنَتْهُ السَّعْلَاةُ، فَقَالَتْ: عَمْرُو! وَنَفَرَتْ. فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا ; وَلِذَا قَالَ عِلْبَاءُ بْنُ أَرْقَمَ يَهْجُو أَوْلَادَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ:

أَلَا لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاةْ

عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتْ

ص: 413

لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلَا أَكَيَاتْ

وَقَوْلُهُ: «النَّاتُ» ، أَصْلُهُ «النَّاسُ» أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «أَكَيَاتٌ» أَصْلُهُ «أَكْيَاسٌ» جَمْعُ كَيِّسٍ، أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً أَيْضًا. وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ يَصِفُ مَرَاكِبَ إِبِلٍ مُتَغَرِّبَةٍ عَنِ الْأَوْطَانِ: إِذَا رَأَتْ لَمَعَانَ الْبَرْقِ تَشْتَاقُ إِلَى أَوْطَانِهَا. فَزَعَمَ أَنَّهُ يَسْتُرُ عَنْهَا الْبَرْقَ لِئَلَّا يُشَوِّقُهَا إِلَى أَوْطَانِهَا، كَمَا كَانَ عَمْرٌو يَسْتُرُهُ عَنْ سَعْلَاتِهِ:

إِذَا لَاحَ إِيمَاضٌ سَتَرْتُ وُجُوهَهَا

كَأَنِّي عَمْرٌو وَالْمُطِيُّ سَعَالِي

وَالسَّعْلَاةُ: عَجُوزُ الْجِنِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًّا» .

قَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَنَاوِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ فِي الْمِيزَانِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ: لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِنَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ مَنَاكِيرِهِ هَذَا الْخَبَرَ اه. وَبَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. انْتَهَى.

وَقَالَ الْمَنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًا» ، قَالَ قَتَادَةُ: وَلِهَذَا كَانَ مُؤَخَّرُ قَدَمَيْهَا كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَجَاءَ فِي آثَارٍ: أَنَّ الْجِنِّيَّ الْأُمُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهَا مَلِكَ الْيَمَنِ خَرَجَ لِيَصِيدَ فَعَطِشَ، فَرُفِعَ لَهُ خِبَاءٌ فِيهِ شَيْخٌ فَاسْتَسْقَاهُ، فَقَالَ: يَا حَسَنَةُ، اسْقِي عَمَّكِ ; فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا شَمْسٌ بِيَدِهَا كَأْسٌ مِنْ يَاقُوتٍ. فَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جِنِّيُّ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهَا عَنْ شَيْءٍ عَمِلَتْهُ فَهُوَ طَلَاقُهَا. فَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، وَلَمْ يُذَكِّرْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَبَحَتْهُ فَكَرَبَ لِذَلِكَ، وَخَافَ أَنْ يَسْأَلَهَا فَتَبِينُ مِنْهُ. ثُمَّ أَتَتْ بِبِلْقِيسَ فَأَظْهَرَتِ الْبِشْرَ ; فَاغْتَمَّ فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ سَأَلَهَا، فَقَالَتْ: هَذَا جَزَائِي مِنْكَ! بَاشَرْتُ قَتْلَ وَلَدِي مِنْ أَجْلِكَ! وَذَلِكَ أَنْ أَبِي يَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَسَمِعَ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: إِنَّ الْوَلَدَ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ ذَبَحَكَ، ثُمَّ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فِي هَذِهِ فَسَمِعَهُمْ يُعَظِّمُونَ شَأْنَهَا، وَيَصِفُونَ مُلْكَهَا، وَهَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ; فَلَمْ يَرَهَا بَعْدُ. هَذَا مَحْصُولُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَحْيَى الْغَسَّانِيِّ. اه مِنْ شَرْحِ الْمَنَاوِيِّ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ «سُورَةِ النَّحْلِ» : كَانَ أَبُو بِلْقِيسَ وَهُوَ: السَّرْحُ بْنُ الْهُدَاهِدِ بْنِ شُرَاحِيلَ، مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، وَكَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفْأً لِي. وَأَبَى

ص: 414

أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ ; فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بَنَتُ السَّكَنِ ; فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِمَةَ وَهِيَ بِلْقِيسُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا» - إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ سَبَبَ تَزَوُّجِ أَبِيهَا مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِمَلِكٍ عَاتٍ، يَغْتَصِبُ نِسَاءَ الرَّعِيَّةِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ غَيُورًا فَلَمْ يَتَزَوَّجْ. فَصَحِبَ مَرَّةً فِي الطَّرِيقِ رَجُلًا لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَإِنَّ مَلِكَ بَلَدِنَا يَغْتَصِبُ النِّسَاءَ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ. فَقَالَ: لَئِنْ تَزَوَّجْتَ ابْنَتِي لَا يَغْتَصِبُهَا أَبَدًا. قَالَ: بَلْ يَغْتَصِبُهَا! قَالَ: إِنَّا قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْنَا. فَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ بِلْقِيسَ مِنَ الْجِنِّ، يُقَالُ لَهَا: بِلْعِمَةُ بِنْتُ شَيْصَانَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي كَوْنِ أَحَدِ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا ضَعِيفٌ.

وَكَذَلِكَ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ.

مَسْأَلَةٌ.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ وَالْجِنِّ. فَمَنَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَبَاحَهَا بَعْضُهُمْ.

قَالَ الْمَنَاوِيُّ (فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : فَفِي الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِنْسَانِ الْمَاءِ ; لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَفِي فَتَاوَى الْبَارِزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّنَاكُحُ بَيْنَهُمَا. وَرَجَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ جَوَازَهُ. اه.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ لِلْعُقُولِ ; لِتَبَايُنِ الْجِنْسَيْنِ، وَاخْتِلَافِ الطَّبْعَيْنِ ; إِذِ الْآدَمِيُّ جُسْمَانِيٌّ، وَالْجِنِّيُّ رُوحَانِيٌّ. وَهَذَا مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَذَلِكَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَالِامْتِزَاجُ مَعَ هَذَا التَّبَايُنِ مَدْفُوعٌ، وَالتَّنَاسُلُ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَمْنُوعٌ. اه.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: نِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا ; فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أَعْلَمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم نَصًّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ الْإِنْسِ الْجِنَّ، بَلِ الَّذِي يُسْتَرْوَحُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ عَدَمُ جَوَازِهِ. فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [16 \ 72] ، مُمْتَنًّا عَلَى

ص: 415

بَنِي آدَمَ بِأَنَّ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا جَعَلَ لَهُمْ أَزْوَاجًا تُبَايِنُهُمْ كَمُبَايَنَةِ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30 \ 21]، فَقَوْلُهُ: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ ; وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ:«النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» ، فَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [16 \ 72] ، جَمْعٌ مُنْكَرٌ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَهُوَ يَعُمُّ، وَإِذَا عَمَّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَصْرِ الْأَزْوَاجِ الْمَخْلُوقَةِ لَنَا فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْفُسِنَا، أَيْ: مِنْ نَوْعِنَا وَشَكْلِنَا. مَعَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ زَعَمُوا «أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُنْكَرَةَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ» ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تَعُمُّ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ ; حَيْثُ قَالَ فِي تَعْدَادِهِ لِلْمَسَائِلِ الَّتِي عُدِمَ الْعُمُومُ فِيهَا أَصَحُّ:

مِنْهُ مُنْكَرُ الْجُمُوعِ عُرْفًا

وَكَانَ وَالَّذِيَ عَلَيْهِ انْعَطَفَا

أَمَّا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَالنَّكِرَةُ تَعُمُّ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ «أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [25 \ 48]، أَيْ: فَكُلُّ مَاءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ طَهُورٌ. وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ النَّهْيِ ; كَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 59]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [9 \ 6]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا الْآيَةَ [76 \ 24]، وَيَسْتَأْنِسُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [26 \ 166] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَتَعَدِّيَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمَلَامَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [26 \ 165 - 166] ، فَإِنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ الذُّكُورِ. وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا خَلَقَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّ مَا خُلِقَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، هُوَ الْكَائِنُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مِنْ نَوْعِهِمْ وَشَكْلِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [16 \ 72] ،، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [30 \ 21] ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 416