الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي الْإِذَاقَةِ الْمُسْتَعَارَةِ لَمْسُ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.
وَقَدْ أَلْمَمْنَا هُنَا بِطَرَفٍ قَلِيلٍ مِنْ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ هُنَا لِيَفْهَمَ النَّاظِرُ مُرَادَهُمْ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْإِذَاقَةَ عَلَى الذَّوْقِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ وُجُودِ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ، وَأَنَّهَا تُطْلِقُ اللِّبَاسَ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى اللِّبَاسِ مِنَ الِاشْتِمَالِ ; كَقَوْلِهِ: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [2 \ 187]، وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عَطْفَهَا
…
تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسًا
وَكُلُّهَا أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ. وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ اللِّبَاسُ عَلَى مُؤَثِّرٍ مُؤْلِمٍ يُحِيطُ بِالشَّخْصِ إِحَاطَةَ اللِّبَاسِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِيقَاعِ الْإِذَاقَةِ عَلَى ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُحِيطِ الْمُعَبَّرِ بِاسْمِ اللِّبَاسِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ، مِمَّا شَرَعَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ (لَعَنَهُ اللَّهُ) مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [6 \ 150]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59]، وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [6 \ 140]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا الْآيَةَ [6 \ 139]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ الْآيَةَ [6 \ 138] ، وَقَوْلِهِ حِجْرٌ، أَيْ: حَرَامٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي قَوْلِهِ الْكَذِبَ [16 \
116]
، أَوْجُهٌ مِنَ الْإِعْرَابِ:
أَحَدُهُمْ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ: تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ; كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّامُ مَثَلُهَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَقُولُوا لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ: هُوَ حَرَامٌ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ الْآيَةَ [2 \ 154] ، وَجُمْلَةُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ، بَدَلٌ مِنَ: الْكَذِبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: تَصِفُ، بِتَضْمِينِهَا مَعْنَى تَقُولُ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ، فَتَقُولَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَقِيلَ: الْكَذِبَ، مَفْعُولٌ بِهِ لِ تَصِفُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ لَا تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ ; أَيْ: لَا تُحَرِّمُوا وَلَا تُحَلِّلُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَيَجُولُ فِي أَفْوَاهِكُمْ ; لَا لِأَجْلِ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ، قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقِيلَ: الْكَذِبَ بَدَلٌ مِنْ هَاءِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفَةِ ; أَيْ: لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.
تَنْبِيهٌ.
كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رضي الله عنهم يَتَوَرَّعُونَ عَنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ; خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا هَارُونُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ:«مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَطُّ يَقُولُ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ» .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ يَقُولُوا إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [16 \ 116]، مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفَرْضِ. اه. وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَالْبَيَانِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ حَرْفَ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ إِذَا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ ; كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا الْآيَةَ [28 \ 8]، وَقَوْلِهِ هُنَا: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [16 \ 116] ، أَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً فِي مَعْنَى الْحَرْفِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَمِنْ أَسَالِيبِهَا: الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ ; كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [57 \ 25]، وَمِنْ أَسَالِيبِهَا الْإِتْيَانُ بِاللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ ; كَتَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْغَائِيَّةِ. وَهَذَا الْأَخِيرُ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [28 \ 8] ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ الْبَاعِثَةَ لَهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ لَيْسَتْ هِيَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا، بَلْ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ ; كَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [28 \ 9] ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ ; كَتَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْغَائِيَّةِ، عُبِّرَ فِيهِ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يُطِيلُ بِهِ الْبَيَانِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَبْحَثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ - أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ عَلَيْهِ - كَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَدَعْوَاهُمْ لَهُ الشُّرَكَاءَ وَالْأَوْلَادَ - لَا يُفْلِحُونَ ; لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَنَالُونَ إِلَّا مَتَاعًا قَلِيلًا لَا أَهَمِّيَّةَ لَهُ، وَفِي الْآخِرَةِ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، الشَّدِيدَ الْمُؤْلِمَ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي يُونُسَ: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70]، وَقَوْلِهِ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24]، وَقَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [2 \ 126] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَتَاعُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْفَعَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ لَا يُفْلِحُونَ، أَيْ: لَا يَنَالُونَ الْفَلَاحَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ، وَالثَّانِي: الْبَقَاءُ السَّرْمَدِيُّ ; كَمَا تَقَدَّمَ بِشَوَاهِدِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ. هَذَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ، الْمَقْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ الْمُحَلُّ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي (سُورَةِ الْأَنْعَامِ)، فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [6 \ 164] .
وَجُمْلَةُ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ كُلُّ ذِي ظُفْرٍ: كَالنَّعَامَةِ
وَالْبَعِيرُ، وَالشَّحْمُ الْخَالِصُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ - وَهُوَ الثُّرُوبُ - وَشَحْمُ الْكُلَى. أَمَّا الشَّحْمُ الَّذِي عَلَى الظَّهْرِ، وَالَّذِي فِي الْحَوَايَا وَهِيَ الْأَمْعَاءُ، وَالْمُخْتَلِطُ بِعَظْمٍ كَلَحْمِ الذَّنَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّحُومِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْعِظَامِ ; فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ عَلَى نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بِأَنَّهُ أُمَّةٌ ; أَيْ: إِمَامٌ مُقْتَدًى بِهِ، يَعْلَمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] ، وَأَنَّهُ قَانِتٌ لِلَّهِ، أَيْ: مُطِيعٌ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ، أَيِ: اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ. وَأَنَّهُ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَكَرَّرَ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [53 \ 37]، وَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [21 \ 51]، وَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [6 \ 75]، وَقَوْلِهِ عَنْهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 79]، وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [3 \ 67]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [37 \ 83 - 84] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ «الْأُمَّةِ» ، فِي الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً الْآيَةَ [16 \ 221]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَسَنَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا: الذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ، وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ. وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ بِسَبَبِ إِخْلَاصِهِ لِلَّهِ، وَاعْتِزَالِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ: الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ. وَأَشَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ثَنَاءً حَسَنًا بَاقِيًا فِي الدُّنْيَا ; قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 49 - 50]، وَقَالَ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27]، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [26 \ 84] .