المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ الْعَلَق قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٩

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ الْعَلَق قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةُ‌

‌ الْعَلَق

قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ تِسْعُ مَسَائِلَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ارْتِبَاطَ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ، وَالْعَامِّ بِالْخَاصِّ، وَالدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَكُلُّهَا مِنْ مَنْهَجِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَفِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا كُلَّهَا مَسَائِلُ أَسَاسِيَّةٌ بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ عَظِيمَةُ الدَّلَالَةِ.

وَقَدْ قَالَ عَنْهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهَا وَأَمْثَالَهَا مِنَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْعَجَائِبُ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ التَّأْسِيسِ لِافْتِتَاحِيَّةِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا تَسْتَطِيعُ إِيفَاءَهَا حَقَّهَا عَجْزًا وَقُصُورًا.

وَقَدْ كَتَبَ فِيهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأُسْلُوبِهِ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ صَفْحَةً مُتَتَالِيَةً، وَفَصْلًا آخَرَ فِي مَبَاحِثَ تَتَّصِلُ بِهَا، وَلَوْ أَوْرَدْنَا كُلَّ مَا يَسَعُنَا مِمَّا تَحْتَمِلُهُ، لَكَانَ خُرُوجًا عَنْ مَوْضُوعِ الْكِتَابِ، وَلِذَا فَإِنَّا نَقْصُرُ الْقَوْلَ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِمَوْضُوعِهِ، إِلَّا مَا جَرَى الْقَلَمُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

أَمَّا الْمَسَائِلُ التِّسْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنَا، فَإِنَّا نُورِدُهَا لِنَتَقَيَّدَ بِهَا وَهِيَ:

أَوَّلًا: الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ، يُوَجَّهُ لِنَبِيٍّ أُمِّيٍّ.

وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقِرَاءَةِ هَذِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مُضَافًا لِلْمُخَاطَبِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِ رَبِّكَ.

الثَّالِثَةُ: وَصْفٌ لِلرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَاسْمِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

الرَّابِعَةُ: خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِخُصُوصِهِ، بَعْدَ عُمُومِ خَلْقٍ وَإِطْلَاقِهِ.

ص: 12

الْخَامِسَةُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَ الْعَلَقَةِ مِنْ نُطْفَةٍ أَوْ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ.

السَّادِسَةُ: إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ مَعَ «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» بَدَلًا مِنْ أَيِّ صِفَةٍ أُخْرَى، وَبَدَلًا مِنَ الَّذِي خَلَقَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.

الثَّامِنَةُ: التَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ.

التَّاسِعَةُ: تَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْخَمْسُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَهِيَ بِحَقٍّ افْتِتَاحِيَّةُ الْوَحْيِ، فَكَانَتْ مَوْضِعَ عِنَايَةِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَفِيضٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ، فَلَا مُوجِبَ لِإِيرَادِهِ هُنَا. وَلَكِنْ نُورِدُ الْكَلَامَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَوْضُوعِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ، فَالْقِرَاءَةُ لُغَةً الْإِظْهَارُ، وَالْإِبْرَازُ، كَمَا قِيلَ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ: لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، أَيْ لَمْ تُنْتِجْ.

وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى لُغَةً، وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا تَعَارُضَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَكُونُ مِنْ مَكْتُوبٍ وَتَكُونُ مِنْ مَتْلُوٍّ، وَهُنَا مِنْ مَتْلُوٍّ يَتْلُوهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَهَذَا إِبْرَازٌ لِلْمُعْجِزَةِ أَكْثَرُ ; لِأَنَّ الْأُمِّيَّ بِالْأَمْسِ صَارَ مُعَلِّمًا الْيَوْمَ. وَقَدْ أَشَارَ السِّيَاقُ إِلَى نَوْعَيِ الْقِرَاءَةِ هَذَيْنِ، حَيْثُ جَمَعَ الْقِرَاءَةَ مَعَ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بَدْءٌ لِلنُّبُوَّةِ وَإِشْعَارٌ بِالرِّسَالَةِ ; لِأَنَّهُ يَقْرَأُ كَلَامَ غَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِاسْمِ رَبِّكَ، تُؤَكِّدُ لِهَذَا الْإِشْعَارِ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ عِنْدِكَ وَلَا مِنْ عِنْدِ جِبْرِيلَ الَّذِي يُقْرِئُكَ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا الرَّدَّ عَلَى كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتُبْ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا، مِنْ أَنَّهُ صِيَانَةٌ لِلرِّسَالَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ الْآيَةَ [29 \ 48] . وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [62 \ 2] .

ص: 13

وَهُنَا لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَقْرَؤُهُ وَلَكِنَّ مَجِيءَ سُورَةِ الْقَدْرِ بَعْدَهَا بِمَثَابَةِ الْبَيَانِ لِمَا يَقْرَؤُهُ وَهِيَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1]، وَجَاءَ بَيَانُ مَا أُنْزِلَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [4 \ 1 - 3] .

وَلِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [4 \ 113] ، فَكَأَنَّهُ فِي قُوَّةٍ اقْرَأْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ بِالْإِجْمَاعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ، أَيِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ مُنْشِئًا وَمُبْتَدِئًا الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْبَاءِ أَهِيَ صِلَةٌ، وَيَكُونُ اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، أَيْ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ، كَمَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ.

وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، وَعَلَيْهِ: فَالْمَقْرُوءُ مَحْذُوفٌ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ أَنَّ مَا تَقْرَؤُهُ هُوَ مِنْ رَبِّكَ، وَتُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَأَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] .

وَقَوْلِهِ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [5 \ 99]، أَيْ: عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَكَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [4 \ 64] .

وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ الْحَاضِرَةِ خِطَابُ الْحُكْمِ، أَوْ مَا يُسَمَّى خِطَابَ الْعَرْشِ، حِينَمَا يَقُولُ مُلْقِيهِ بِاسْمِ الْمَلِكِ، أَوْ بِاسْمِ الْأُمَّةِ، أَوْ بِاسْمِ الشَّعْبِ، عَلَى حَسَبِ نِظَامِ الدَّوْلَةِ، أَيْ بَاسِمِ السُّلْطَةِ الَّتِي مِنْهَا مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ وَالتَّوْجِيهِ السِّيَاسِيِّ.

وَهُنَا بَاسِمِ اللَّهِ، بِاسْمِ رَبِّكَ، وَصِفَةُ رَبِّكَ هُنَا لَهَا مَدْلُولُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُنَبِّهُ الْعَبْدَ إِلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، إِذِ الرَّبُّ يَفْعَلُ لِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُهُ، وَمِنْ كَمَالِ إِصْلَاحِهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَحْيَهُ بِخَبَرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُخَاطَبِ إِينَاسٌ لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَصْفُ الرَّبِّ بِـ الَّذِي خَلَقَ مَعَ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَةَ الْخَلْقِ هِيَ أَقْرَبُ الصِّفَاتِ إِلَى مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا أَجْمَعُ الصِّفَاتِ لِلتَّعْرِيفِ بِاللَّهِ

ص: 14

تَعَالَى لِخَلْقِهِ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يُسَلِّمُونَ بِهَا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [31 \ 25] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [43 \ 87] .

وَلِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ، وَقَدْ أَطْلَقَ صِفَةَ الْخَلْقِ عَنْ ذِكْرِ مَخْلُوقٍ لِيَعُمَّ وَيَشْمَلَ الْوُجُودَ كُلَّهُ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [6 \ 102] .

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [39 \ 62] .

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [59 \ 24] .

وَتِلْكَ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ: هِيَ الْأُصُولُ فِي الرِّسَالَةِ وَمَا بَعْدَهَا دَلَالَةٌ عَلَيْهَا، فَالْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ تَكْلِيفٌ لِتَحَمُّلِ الْوَحْيِ، وَبِاسْمِ رَبِّكَ بَيَانٌ لِجِهَةِ التَّكْلِيفِ، «وَالَّذِي خَلَقَ» تَدْلِيلٌ لِتِلْكَ الْجِهَةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُرْسَلِ مَعَ الدَّلِيلِ الْمُجْمَلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا بِالتَّفْصِيلِ.

وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الْمُرْسَلِ هِيَ الْأَسَاسُ وَهِيَ الْمَصْدَرُ، كَانَ التَّدْلِيلُ عَلَيْهَا أَوَّلًا، فَجَاءَ التَّفْصِيلُ فِي شَأْنِهَا بِمَا يُسَلِّمُونَ بِهِ وَيُسَلِّمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ.

وَالْخَامِسَةُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ بِبَيَانٍ لِلْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَالْإِنْسَانُ بَعْضٌ مِمَّا خَلَقَ، وَذِكْرُهُ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصَّ أَوَّلًا، وَمِنْ إِلْزَامِهِمْ بِمَا يُسَلِّمُونَ بِهِ ثُمَّ لِانْتِقَالِهِمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ وَيُقِرُّونَ بِهِ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيُنْكِرُونَ.

وَفِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ تَكْرِيمٌ لَهُ، كَذِكْرِ الرُّوحِ بَعْدَ عُمُومِ الْمَلَائِكَةِ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا وَنَحْوِهِ، وَالْإِنْسَانُ هُنَا الْجِنْسُ بِدَلِيلِ الْجَمْعِ فِي عَلَقٍ جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَلِأَنَّهُ أَوْضَحُ دَلَالَةً عِنْدَهُ، لِيَسْتَدِلَّ بِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَوْلُهُ: مِنْ عَلَقٍ، وَهُوَ جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ، كَالْعَرَقِ أَوِ الْخَيْطِ بَيَانٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ أَحْيَانًا فِيمَا تُلْقِي بِهِ الرَّحِمُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ.

ص: 15

فَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ إِنْسَانٍ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ، قَادِرٌ عَلَى جَعْلِكَ قَارِئًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْقِرَاءَةَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الْعَلَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَتَعَهَّدُ تِلْكَ الْعَلَقَةَ حَتَّى تَكْتَمِلَ إِنْسَانًا يَتَعَهَّدُهَا بِالرِّسَالَةِ.

وَقَدْ يَكُونُ فِي اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ بِالذَّاتِ وَبِخُصُوصِهِ لِتَفْصِيلِ مَرْحَلَةِ وَجُودِهِ، أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَعْلَمْ مَبَادِئَ خِلْقَتِهَا كَعِلْمِهِمْ بِالْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ كَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَمِنْ حُسْنِ تَقْوِيمٍ إِنْزَالُ الْكِتَابِ الْقَيِّمِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، فَبَدَأَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وَيُسَلِّمُونَ بِهِ لِلَّهِ، وَلَمْ يَبْدَأْ مِنَ النُّطْفَةِ أَوِ التُّرَابِ ; لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ لَمْ يُشَاهِدُوهُ، وَلِأَنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمٍ لَهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ تُقْذَفُ فِي غَيْرِ رَحِمٍ كَالْمُحْتَلِمِ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ، وَلَا تَكُونُ مُخَلَّقَةً. اهـ.

وَهَذَا فِي ذَاتِهِ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السُّورَةَ فِي مُسْتَهَلِّ الْوَحْيِ وَبِدَايَتِهِ، فَهِيَ كَالَّذِي يَقُولُ: إِذَا كُنْتُ بَدَأْتُ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ، فَلَيْسَ هُوَ بِأَكْثَرَ مِنْ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا.

وَعَلَيْهِ يُقَالُ: لَقَدْ تُرِكَتْ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ مُقَابِلَ مَرْحَلَةٍ مِنَ الْوَحْيِ، قَدْ تُرِكَتْ أَيْضًا وَهِيَ فَتْرَةُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ الْوَحْيُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا فَتَأْتِي كَفَلَقِ الصُّبْحِ» فَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَاصًا لِلنُّبُوَّةِ وَتَمْهِيدًا لَهَا لِمُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وَهِيَ نِسْبَةُ نِصْفِ السَّنَةِ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مُدَّةِ الْوَحْيِ، وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ قَدْ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ تَمَامًا فَتْرَةُ النُّطْفَةِ، فَقَدْ تَكُونُ النُّطْفَةُ وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ، كَمَا تَكُونُ الرُّؤْيَا وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ، أَمَّا الْعَلَقَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي رَحِمٍ وَقَرَارٍ مَكِينٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَأْتِي الْإِنْسَانُ مُخَلَّقًا كَامِلًا، أَوْ غَيْرَ مُخَلَّقٍ عَلَى مَا يُقَدَّرُ لَهُ.

فَلَمَّا كَانَتْ فَتْرَةُ النُّطْفَةِ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ مِثْلُهَا فَتْرَةَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلنُّبُوَّةِ تُرِكَ كُلٌّ مِنْهَا مُقَابِلَ الْآخَرِ، وَيَبْدَأُ الدَّلِيلُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُسَلَّمُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ، وَالْخَالِقُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، فَكَانَ فِيهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَاتِيَّةِ الْمُسْتَدِلِّ،

ص: 16

فَالدَّلِيلُ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَالْمُسْتَدَلُّ بِهِ هُوَ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [51 \ 21] ، فَيَسْتَدِلُّ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ.

وَإِذَا تَمَّ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ، كَانَ بَعْدَهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَرِسَالَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ إِعَادَةُ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، إِذْ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تُبَلِّغُ عَنْهُ وَتَقْرَأُ بِاسْمِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ وَهَذَا الْوَحْيَ مِنْ رَبِّكَ الْأَكْرَمِ، وَالْأَكْرَمُ قَالُوا: هُوَ الَّذِي يُعْطِي بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَلَا انْتِظَارِ مُقَابِلٍ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَجِيءَ الْوَصْفِ هُنَا بِالْأَكْرَمِ بَدَلًا مِنْ أَيِّ صِفَةٍ أُخْرَى، لِمَا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ تَلَاؤُمٍ لِلسِّيَاقِ، مَا لَا يُنَاسِبُ مَكَانَهَا غَيْرُهَا لِعِظَمِ الْعَطَاءِ وَجَزِيلِ الْمِنَّةِ.

فَأَوَّلًا: رَحْمَةُ الْخَلِيقَةِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي رَبَطَتِ الْعِبَادَ بِرَبِّهِمْ. وَكَفَى.

وَثَانِيًا: نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَهُمَا نِعْمَتَانِ مُتَكَامِلَتَانِ: الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ بِالْخَلْقِ، وَالْإِيجَادُ الثَّانِي مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا مِنَ الرَّبِّ الْأَكْرَمِ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ تَأْتِي الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى: اقْرَأْ، وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.

أَوِ الْوَقْفُ عَلَى الْأَكْرَمِ وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ; لِأَنَّ مَنْ يُعَلِّمُ الْجَاهِلَ بِالْقَلَمِ، يُعَلِّمُ غَيْرَهُ بِدُونِ الْقَلَمِ بِجَامِعِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ الْجَهْلِ. فَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَالتَّاسِعَةُ: بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا الَّذِي عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ. فَقَالَ: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ فِي أَشْخَاصِهِمْ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [16 \ 78] .

فَاللَّهُ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّمَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [5 \ 4] ، وَهَلِ الرِّسَالَةُ وَالنُّبُوَّةُ إِلَّا تَعْلِيمُ الرَّسُولِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ؟ وَبِهَذَا تَمَّ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُرْسَلِ، وَهِيَ أُسُسُ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ الْجَدِيدَةِ.

وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ نُبِّئَ بِـ «اقْرَأْ» وَأُرْسِلَ بِـ «الْمُدَّثِّرِ» وَلَكِنْ فِي

ص: 17

نَفْسِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ، فَفِيهَا إِثْبَاتُ الرِّسَالَةِ مِنْ أَوَّلِ بَدْءِ الْوَحْيِ.

تَنْبِيهٌ

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، مَبْحَثُ التَّعْلِيمِ وَمَوْرِدُ سُؤَالٍ، وَهُوَ إِذَا كَانَ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَأَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَكَانَ فِيهِ الْإِشَادَةُ بِشَأْنِ الْقَلَمِ، حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَ بِهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الشَّرَفِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى التَّعْلِيمِ بِدُونِ الْقَلَمِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي مَعْرِضِ التَّكْرِيمِ فِي قَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [68 \ 1 - 2] ، وَعِظَمُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ، يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ الْقَلَمُ وَمَا يَسْطُرُونَ بِهِ مِنْ كِتَابَةِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ ذُكِرَ الْقَلَمُ فِي السُّنَّةِ أَنْوَاعًا مُتَفَاوِتَةً، وَكُلُّهَا بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ.

مِنْهَا: أَوَّلُهَا وَأَعْلَاهَا:

الْقَلَمُ الَّذِي كَتَبَ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ:«أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ» الْحَدِيثَ.

فَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ، يَكُونُ هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ جَرَى بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، وَبِمَا قُدِّرَ وُجُودُهُ كُلِّهِ.

ثَانِيهَا: الْقَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ مَقَادِيرَ الْعَامِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [44 \ 4] .

ثَالِثُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ بِهِ الْمَلِكُ فِي الرَّحِمِ مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ مِنْ رِزْقٍ وَعَمَلٍ.

رَابِعُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي بِأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الْمُنَوَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18]، أَيْ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 11 - 12] ، إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْكِتَابَةَ فِي ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ قَلَمًا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ.

خَامِسُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ يَكْتُبُونَ بِهِ مَا يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَقْلَامُ كُتَّابِ الْوَحْيِ، الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكِتَابَةُ سُلَيْمَانَ لِبِلْقِيسَ.

ص: 18

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، شَامِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ، إِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ شَأْنَ الْقَلَمِ وَعِظَمَ أَمْرِهِ، وَعَظِيمَ الْمِنَّةِ بِهِ عَلَى الْأُمَّةِ، بَلَى وَعَلَى الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا.

وَقَدِ افْتُتِحَتِ الرِّسَالَةُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَعْلَنَ عَنْ هَذَا الْفَضْلِ كُلِّهِ لِلْقَلَمِ! لَمْ يَكُنْ هُوَ كَاتِبًا بِهِ، وَلَا مِنْ أَهْلِهِ بَلْ هُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [62 \ 2] .

وَالْجَوَابُ: أَنَّا أَشَرْنَا أَوَّلًا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ أَنَّهُ أَكْمَلُ لِلْمُعْجِزَةِ، حَيْثُ أَصْبَحَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مُعَلِّمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [3 \ 164] .

وَثَانِيًا: لَمْ يَكُنْ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مُغْفِلًا شَأْنَ الْقَلَمِ، بَلْ عَنَى بِهِ كُلَّ الْعِنَايَةِ، وَأَوَّلُهَا وَأَعَظُهُمَا أَنَّهُ اتَّخَذَ كُتَّابًا لِلْوَحْيِ يَكْتُبُونَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ وَيَضْبُطُهُ، وَتَعَهَّدَ اللَّهُ لَهُ بِحِفْظِهِ وَبِضَبْطِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [87 \ 6 - 7] ، حَتَّى الَّذِي يَنْسَاهُ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106]، وَوَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] .

وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْمَحْفُوظِ وَكَانَ لَهُ عِدَّةُ كُتَّابٍ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِنَايَةِ بِالْقَلَمِ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْكُتَّابِ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَعَهُمْ تَتِمَّةُ سَبْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ صلى الله عليه وسلم فِي عِنَايَتِهِ بِالْقَلَمِ وَالتَّعْلِيمِ بِهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْوَحْيِ، بَلْ جَعَلَ التَّعْلِيمَ بِهِ أَعَمَّ، كَمَا جَاءَ خَبَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ الْكِتَابَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ كَاتِبًا مُحْسِنًا» ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّرْتِيبَاتِ الْإِدَارِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «عَلَّمَتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَةَ وَالْقُرْآنَ» .

وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْمُلُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْكِتَابَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، حَيْثُ كَانَ يُفَادِي بِالْمَالِ مَنْ يَقْدِرُ

ص: 19

عَلَى الْفِدَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ كَانَتْ مُفَادَاتُهُ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنَ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ، فَكَثُرَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَكَانَ مِمَّنْ تَعَلَّمَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ.

فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ فِي بَادِئِ أَمْرِهِمْ وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى الْمَالِ وَالسِّلَاحِ، بَلْ وَاسْتِرْقَاقِ الْأُسَارَى، فَيُقَدِّمُونَ تَعْلِيمَ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَيَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: شِدَّةُ وَزِيَادَةُ الْعِنَايَةِ بِالتَّعْلِيمِ.

وَثَانِيهِمَا: جَوَازُ تَعْلِيمِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ، كَمَا يُوجَدُ الْآنَ مِنَ الْأُمُورِ الصِّنَاعِيَّةِ، فِي الْهَنْدَسَةِ، وَالطِّبِّ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالْقِتَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدْ كَثُرَ الْمُتَعَلِّمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ عَدَدُ كُتَّابِ الْوَحْيِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ كَانَ انْتِشَارُ الْكِتَابَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ النَّصُّ عَلَى الْكِتَابَةِ فِي تَوْثِيقِ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ الْآيَةَ [2 \ 282] ، وَهِيَ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُسِمَتْ فِيهَا كِتَابَةُ الْعَدْلِ الْحَدِيثَةُ كُلُّهَا.

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ الْقَلَمِ وَتَعَلُّمُهُ، فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ لِلنِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْعِلْمِ، فَهَلْ كُنَّ كَذَلِكَ فِي تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ أَمْ لَا؟

مَبْحَثُ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ

وَقَعَ الْخِلَافُ بِسَبَبِ نَصَّيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ لِي: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ؟» رَوَاهُ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَقَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.

وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا: «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ يَعْنِي النِّسَاءَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ» قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، عَلَى حَدِيثِ الْمُنْتَقَى وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ حَدِيثَ الشِّفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِهِنَّ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخْشَى مِنْ تَعْلِيمِهَا الْفَسَادُ، أَعْنِي تَعْلِيمَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ.

ص: 20

أَمَّا تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فَلَيْسَ مَحَلَّ خِلَافٍ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاضِحَةُ الْمَعَالِمِ، إِذَا نَظَرْتَ كَالْآتِي:

أَوَّلًا: لَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَالْعِلْمُ قِسْمَانِ: عِلْمُ سَمَاعٍ وَتَلَقٍّ، وَهَذِهِ سِيرَةُ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَائِشَةُ كَانَتِ الْقُدْوَةَ الْحَسَنَةَ فِي ذَلِكَ فِي فِقْهِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَمِ اسْتَدْرَكَتْ عَلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَشْهُورٌ وَمَعْلُومٌ.

وَالثَّانِي: عِلْمُ تَحْصِيلٍ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَدُورُ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ عَدَمِهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ تَعْلِيمَهُنَّ مَفْسَدَةٌ مَنَعَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُ امْرَأَةً الْكِتَابَةَ فَقَالَ: لَا تَزِدِ الشَّرَّ شَرًّا.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ الْكِتَابَةَ، فَقَالَ: أَفْعَى تُسْقَى سُمًّا، وَأَنْشَدُوا الْآتِيَ:

مَا لِلنِّسَاءِ وَلِلْكِتَا

بِةِ وَالْعِمَالَةِ وَالْخَطَابَهْ

هَذَا لَنَا وَلَهُنَّ مِنَّا

أَنْ يَبِتْنَ عَلَى جَنَابَهْ

وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْمَنْفَلُوطِيُّ:

يَا قَوْمُ لَمْ تُخْلَقْ بَنَاتُ الْوَرَى

لِلدَّرْسِ وَالطَّرْسِ وَقَالَ وَقِيلَ

لَنَا عُلُومٌ وَلَهَا غَيْرُهَا

فَعَلِّمُوهَا كَيْفَ نَشْرُ الْغَسِيل

وَالثَّوْبُ وَالْإِبْرَةُ فِي كَفِّهَا

طَرْسٌ عَلَيْهِ كُلُّ خَطٍّ جَمِيل

وَهَذَا نَظَرَ إِلَى تَعْلِيمِهِنَّ وَمَوْقِفِهِنَّ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْآخَرُ:

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُول

مَعَ أَنَّنَا وَجَدْنَا فِي تَارِيخِ الْمَرْأَةِ نِسْوَةٌ شَارَكْنَ فِي الْقِتَالِ، حَتَّى عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تُسْقِي الْمَاءَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ تُدَاوِي الْجَرْحَى، إِذْ لَا يُؤْخَذُ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى عُمُومِهِ.

قَالَ صَاحِبُ التَّرَاتِيبِ الْإِدَارِيَّةِ: أَوْرَدَ الْقَلْقَشَنْدِيُّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ كُنَّ يَكْتُبْنَ، وَلَمْ يَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ أَنْكَرَ عَلَيْهِنَّ. اهـ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ رِوَايَةُ كَرِيمَةَ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَدْ رَأَيْتُ بِنَفْسِي وَأَنَا مُدَرِّسٌ بِالْأَحْسَاءِ نُسْخَةً لِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ آلِ الْمُبَارَكُُِ

ص: 21

وَعَلَيْهَا تَعْلِيقٌ لِأُخْتِ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَيُّوبِيِّ، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّرَاتِيبِ الْإِدَارِيَّةِ قَوْلَهُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الصَّحْرَاءِ الْإِفْرِيقِيَّةِ خُصُوصًا شِنْقِيطَ: شِنْجِطَ، أَيْ شِنْقِيطَ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بِمُورِيتَانْيَا، وَتِيتْبِكْتُو، وَقَبِيلَةَ كِنْتِ الْعَجَبِ، حَتَّى جَاءَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمُخْتَارَ الْكُنْتِيَّ الشَّهِيرَ، خَتَمَ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ لِلرِّجَالِ، وَخَتَمَتْهُ زَوْجَتُهُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى لِلنِّسَاءِ. اهـ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّنَا وَنَحْنُ فِي بَعْثَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِفْرِيقِيَا، سَمِعْنَا وَنَحْنُ فِي مَدِينَةِ أَطَارَ وَهِيَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مَدِينَةِ شِنْجِيطَ الْمَذْكُورَةِ، سَمِعْنَا مِنْ كِبَارِ أَهْلِهَا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِهَا سَابِقًا مِائَتَا فَتَاةٍ يَحْفَظْنَ الْمُدَوَّنَةَ كَامِلَةً.

وَقَدْ سَمِعْتُ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، أَنَّهُ كَانَتْ تُوجَدُ امْرَأَةٌ تُدَرِّسُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، الْحَدِيثَ، وَالسِّيرَةَ، وَاللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَهِيَ شِنْقِيطِيَّةٌ.

وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّظْرَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ضَوْءِ وَاقِعِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقَدْ أَصْبَحَ تَعْلِيمُ الْمَرْأَةِ مِنْ مُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ تَكْمُنُ فِي مَنْهَجِ تَعْلِيمِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهَا الْعِلْمَ.

فَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ مَنْهَجُ تَعْلِيمِهَا قَاصِرًا عَلَى النَّوَاحِي الَّتِي يَحْسُنُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا كَالتَّعْلِيمِ وَالطِّبِّ وَكَفَى.

أَمَّا كَيْفِيَّةُ تَعْلِيمِهَا، فَإِنَّ مُشْكِلَتَهَا إِنَّمَا جَاءَتْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ فِي مُدَرَّجَاتِ الْجَامِعَاتِ، وَفُصُولِ الدِّرَاسَةِ فِي الثَّانَوِيَّاتِ فِي فَتْرَةِ الْمُرَاهَقَةِ، وَقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ، وَفِي هَذَا يَكْمُنُ الْخَطَرُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيمِهَا، فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنَ الْمَنْهَجِ الَّذِي يُحَقِّقُ الْغَايَةَ مِنْهُ، وَيَضْمَنُ السَّلَامَةَ فِيهِ، وَالتَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

أَمَّا مَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ الِاتِّصَالِ عَنْ طَرِيقِ الْكِتَابَةِ، فَقَدْ وُجِدَ مَا هُوَ أَقْرَبُ وَأَسْرَعُ مِنْهَا لِمَنْ شَاءَتْ وَهُوَ الْهَاتِفُ فِي الْبُيُوتِ، فَإِنَّهُ فِي مُتَنَاوَلِ الْمُتَعَلِّمَةِ وَالْجَاهِلَةِ. وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَصَانَةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالْمَتَانَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ.

وَقَدْ أَوْرَدْتُ هَذَا الْمَبْحَثَ اسْتِطْرَادًا لِبَيَانِ وِجْهَةِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، اقْتِبَاسًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 22

مَسْأَلَةٌ

بَيَانُ أَوَّلِيَّةِ الْكِتَابَةِ عَامَّةً وَالْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ عَلَى الْأَرْضِ:

جَاءَ فِي الْمَطَالِعِ النَّصْرِيَّةِ لِلْمَطَابِعِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الْأُصُولِ الْخَطِّيَّةِ الْمَطْبُوعِ سَنَةَ 1304 هـ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا أُصُولُ الْكِتَابَةِ اثْنَيْ عَشَرَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ، وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، كَالدِّمِيرِيِّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَالْحَلَبِيِّ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرِهِمَا.

قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ كِتَابَاتِ الْأُمَمِ مِنْ سُكَّانِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كِتَابَةً، خَمْسٌ مِنْهَا ذَهَبَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَبَطَلَ اسْتِعْمَالُهَا وَهِيَ: الْحِمْيَرِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ، وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ، وَالْيُونَانِيَّةُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا فُقِدَ مَنْ يَعْرِفُهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَمُسْتَعْمَلَةٌ فِي بِلَادِهَا، وَهِيَ السُّرْيَانِيَّةُ وَالْفَارِسِيَّةُ وَالْعِبْرَانِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ. اهـ. كَلَامُهُ بِاخْتِصَارٍ وَفِيهِ مَا فِيهِ.

قَالَ: وَالْحِمْيَرِيَّةُ: هِيَ خَطُّ أَهْلِ الْيَمَنِ قَوْمِ هُودٍ وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى، وَهِيَ عَادُ إِرَمَ، وَكَانَتْ كِتَابَتُهُمْ تُسَمَّى الْمُسْنَدَ الْحِمْيَرِيَّ، وَكَانَتْ حُرُوفُهَا كُلُّهَا مُنْفَصِلَةً، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا فَلَا يَتَعَاطَاهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، حَتَّى جَاءَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ بِجَمِيعِ الْيَمَنِ مَنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ.

وَقَالَ الْمَقْرِيزِيُّ فِي الْخُطَطِ: الْقَلَمُ الْمُسْنَدُ، هُوَ الْقَلَمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْلَامِ حِمْيَرَ وَمُلُوكِ عَادٍ. اهـ.

وَالْمَعْرُوفُ الْآنَ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْكِتَابَةِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللُّغَاتِ الْمَنْطُوقِ بِهَا هِيَ ثَلَاثَةٌ فَقَطْ، الْخَطُّ الْعَرَبِيُّ بِحُرُوفِ أَلِفٍ بَاءٍ وَبِهَا لُغَاتُ الشَّرْقِ. وَالْحُرُوفُ اللَّاتِينِيَّةُ وَبِهَا لُغَاتُ أُورُوبَّا وَالْحُرُوفُ الصِّينِيَّةُ.

أَمَّا اللُّغَاتُ، وَهِيَ فَوْقَ أَلْفَيْ لُغَةٍ «وَالْأَمْهَرِيَّةُ بِحَرْفٍ قَرِيبٍ مِنَ اللَّاتِينِيِّ» .

أَمَّا أَوَّلِيَّةُ الْكِتَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ النَّصْرِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهَا، كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَوَائِلِ.

وَكَذَا فِي الْمُزْهِرِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ، قَالَ: إِنَّهُ يَرَى أَنَّ آدَمَ عليه السلام أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ، وَأَنَّ الْكِتَابَاتِ كُلَّهَا مِنْ وَضْعِهِ، كَانَ قَدْ كَتَبَهَا فِي طِينٍ وَطَبَخَهُ، يَعْنِي

ص: 23

أَحْرَقَهُ وَدَفَنَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَعْدَ الطُّوفَانِ وَجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابًا فَتَعَلَّمُوهُ، وَكَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ كِتَابًا، فَتَعَلَّمُوهُ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ.

وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ بِالْعَرَبِيِّ إِسْمَاعِيلُ عليه السلام. اهـ.

وَقَدْ أَطَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُزْهِرِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، نَقْلًا عَنِ ابْنِ فَارِسٍ الشِّدْيَاقِيِّ.

وَعَنِ الْعَسْكَرِيِّ عَنِ الْأَوَائِلِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، فَقِيلَ إِسْمَاعِيلُ، وَقِيلَ مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:

كَتَبْتُ أَبَا جَادٍ وَخَطِّي مُرَامِرُ

وَسَوَّرْتُ سِرْبَالِي وَلَسْتُ بِكَاتِب

وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ أَبْجَدْ، وَهَوَّزْ، وَحُطِّي، وَكَلَمُنْ، وَصَعْفَصْ، وَقَرَشَتْ، وَكَانُوا مُلُوكًا فَسُمِّيَ الْهِجَاءُ بِأَسْمَائِهِمْ.

وَذُكِرَ عَنِ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، تَعَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَتَعَلَّمَ أَهْلُ الْحِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْنَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: تَعَلَّمْنَا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَسَأَلْنَا أَهْلَ الْحِيرَةِ: مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْخَطَّ تَوْقِيفِيٌّ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَقَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [68 \ 1] .

وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، أَنْ يُوقِفَ اللَّهُ آدَمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام عَلَى الْكِتَابَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُخْتَرَعًا اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَهَذَا شَيْءٌ لَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ إِلَّا مِنْ خَبَرٍ صَحِيحٍ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: قُلْتُ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ مِنَ التَّوْقِيفِ، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ شُقَّةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«أَوَّلُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَبَا جَادٍ» .

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ إِدْرِيسُ عليه السلام» . اهـ.ُُ

ص: 24

وَقَدْ أَطَالَ النُّقُولَ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ يُقْطَعُ بِهِ.

وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ النُّبْذَةَ بِخُصُوصِ كَلَامِ ابْنِ فَارِسٍ، مِنْ أَنَّ تَعْلِيمَ الْكِتَابَةِ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَوَّلِ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الصُّحُفَ لِمُوسَى مَكْتُوبَةً.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْأَلْوَاحَ لِمُوسَى بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ» .

وَإِذَا كَانَ مُوسَى تَلَقَّى أَلْوَاحًا مَكْتُوبَةً، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مَعْلُومَةً لَهُ قَبْلَ إِنْزَالِهَا، وَإِلَّا لَمَا عَرَفَهَا.

أَمَّا الْمَشْهُورُ فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي نَكْتُبُ بِهَا الْآنَ، فَكَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُزْهِرِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ الْمِصْرِيَّةِ مَا نَصُّهُ:

الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَوَانَةَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِخَطِّنَا هَذَا. وَهُوَ الْجَزْمُ مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ، وَأَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ، وَعَامِرُ بْنُ حَدْرَةَ. كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَهُمْ مِنْ عَرَبِ طَيِّئٍ تَعَلَّمُوهُ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ لِسَيِّدِنَا هُودٍ عليه السلام، ثُمَّ عَلَّمُوهُ أَهْلَ الْأَنْبَارِ، وَمِنْهُمُ انْتَشَرَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْعِرَاقِ وَالْحِيرَةِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَلَّمَهَا بِشْرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخُو أُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَاحِبِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ بِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ فَتَعَلَّمَ حَرْبٌ مِنْهُ، ثُمَّ سَافَرَ مَعَهُ بِشْرٌ إِلَى مَكَّةَ فَتَزَوَّجَ الصَّهْبَاءَ بَنْتَ حَرْبٍ أُخْتَ أَبِي سُفْيَانَ. فَتَعَلَّمَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

فَبِهَذَا كَثُرَ مَنْ يَكْتُبُ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ.

وَلِذَا قَالَ رَجُلٌ كِنْدِيٌّ مِنْ أَهْلِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، يَمُنُّ عَلَى قُرَيْشٍ بِذَلِكَ:

لَا تَجْحَدُوا نَعْمَاءَ بِشْرٍ عَلَيْكُمُ

فَقَدْ كَانَ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ أَزْهَرَا

أَتَاكُمْ بِخَطِّ الْجَزْمِ حَتَّى حَفِظْتُمُو

مِنَ الْمَالِ مَا قَدْ كَانَ شَتَّى مُبَعْثَرًا

وَأَتْقَنْتُمُو مَا كَانَ بِالْمَالِ مُهْمَلًا

وَطَمْأَنْتُمُو مَا كَانَ مِنْهُ مُبَقَّرًا

فَأَجْرَيْتُمُ الْأَقْلَامَ عَوْدًا وَبَدْأَةً

وَضَاهَيْتُمْ كُتَّابَ كِسْرَى وَقَيْصَرًا

وَأَغْنَيْتُمُ عَنْ مُسْنَدٍ إِلَى حِمْيَرَا

وَمَا زَبَرَتْ فِي الصُّحْفِ أَقْلَامُ حِمْيَرَا

قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ نَقَلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَتَبُوا الرِّبَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَلُغَتُهُمُ الرِّبَوا، فَعَلَّمُوهُمْ صُورَةَ الْخَطِّ عَلَى لُغَتِهِمْ. اهـ.ُُ

ص: 25