المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترجمة للشيخ رحمه الله - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٩

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌ترجمة للشيخ رحمه الله

‌تَرْجَمَةٌ لِلشَّيْخِ رحمه الله

فِي مُحَاضَرَةٍ أُلْقِيَتْ مَوْسِمَ ثَقَافَاتِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ

أَلْقَاهَا وَأَعَدَّهَا تِلْمِيذُهُ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم

عَنْ صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ وَالِدِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رحمه الله

بِقَلَمِ: الشَّيْخِ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم الْقَاضِي بِالْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ

ص: 469

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُسْتَحِقِّ لِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَكَمَالِ الْأَسْمَاءِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ وَبِالْبَقَاءِ. خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ عَدَمٍ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَجَعَلَ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَحَصَادَهَا الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، وَاخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ رُسُلًا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ، فَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وُسَطَاءُ، وَاصْطَفَى - خَاتَمَهُمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ صَفْوَةُ الْأَصْفِيَاءِ، بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَجَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ، أَطَلَّ فَجْرُهَا بِمَكَّةَ مِنْ قِمَّةِ حِرَاءٍ.

وَأَشْرَقَتْ شَمْسُ نَهَارِهَا بِطَيِّبَةِ الْفَيْحَاءِ. ظَلَّتْ مُهَاجَرَ صَحْبِهِ فِي أُلْفَةٍ وَوَفَاءٍ، فَتَحَمَّلَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ تُرَاثَهُ - مَا وَرِثُوهُ مِنْهُ هِدَايَةً وَضِيَاءً - وَوَرَّثُوهُ مِنْ بَعْدِهِمْ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. وَغَدَتِ الْمَدِينَةُ مُشْرِقَةً أَنْوَارُهَا يُشِعُّ مِنْهَا لِلْعَالَمِ نُورٌ وَسَنَاءٌ. وَتَوَالَتِ الْأَجْيَالُ تِلْوَ أَجْيَالٍ إِنْتَاجُهَا لِلْعَالَمِ صَفْوَةُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ قَامُوا لِلَّهِ حَقًّا، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ صِدْقًا، وَنَشَرُوا الْعِلْمَ فِي عِفَّةٍ وَإِبَاءٍ، نَهَلُوا مِنَ الْمَنْهَلِ الصَّافِي مِنْ مَنْبَعِهِ، قَبْلَ أَنْ يُخَالِطَهُ التُّرْبُ أَوْ تُكَدِّرَهُ الدِّلَاءُ، فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ مَحَطُّ رِحَالِهِمْ، وَفِي الرَّوْضَةِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُهُمْ فِي غِبْطَةٍ وَهَنَاءٍ.

دَرَسُوا كِتَابَ اللَّهِ حُكْمًا وَحِكْمَةً، حَتَّى غَدَتْ آيَاتُهُ لِمَرْضَى الصُّدُورِ شِفَاءً، وَتَكَشَّفَتْ حُجُبُ الْمَعَانِي فَانْجَلَتْ مِنْ تَحْتِهَا أَشْمُسٌ وَضِيَاءٌ.

وَتَرَسَّمُوا سُنَنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَكَذَاكَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ بِهِمْ أُسْوَةٌ وَاقْتِدَاءٌ، فَهُمُ النُّجُومُ فِي لَيْلِ السُّرَى، وَهُمُ الْهُدَاةُ لِطَالِبِ الْهُدَى وَأَدِلَّاءُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَعَلَى الدِّينِ أُمَنَاءُ.

وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِمَكَانَةِ الْعِلْمِ وَمَنْزِلَةِ الْعُلَمَاءِ، وَأَسْرَعُ فَرَحًا بِهِمْ وَأَشَدُّ حُزْنًا عَلَى مَوْتِهِمْ، وَأَلَمًا لِفِرَاقِهِمْ، إِنَّ فِي مَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَغُرْبَةٌ لِلْغُرَبَاءِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآلَامَ تَزْدَادُ، وَهَذَا الْحُزْنَ يَشْتَدُّ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حِينَمَا نَكُونُ قَدْ عَرَفْنَا هَذَا الْعَالِمَ أَوْ عَاصَرْنَاهُ، وَلَمَسْنَا فَضْلَهُ وَاسْتَفَدْنَا عِلْمَهُ.

وَهَذَا الْقَدْرُ كُنَّا فِيهِ سَوَاءً نَحْوَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَشَيْخِنَا الْأَمِينِ خَاصَّةً.

وَإِنِّي كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ أَقِفُ الْيَوْمَ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا، وَمُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا،

ص: 471

وَقَدْ عَظُمَ الْمُصَابُ وَعَزَّ فِيهِ الْعَزَاءُ، وَأَقُولُ مَا قَدْ قُلْتُهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ، عِنْدَمَا سَأَلَنِي سَائِلٌ مِنْ هَذَا نُعَزِّيهِ فِي الشَّيْخِ، فَقُلْتُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:

أَقُولُ لِلسَّائِلِ لَمَّا سَأَلَ

مَنْ ذَا نُعَزِّي فِيمَا نَزَلَ

كُلُّ مَنْ لَاقَيْتَ فَعَزِّهِ

وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فِي الْأُوَلِ

عَزِّ الْجَمِيعَ بِمَوْتِهِ

وَأَعْلِمْهُ أَنَّ الْخَطْبَ جَلَلٌ

مَوْتُ الْعَالِمِ رُزْءُ الْعَالَمِ

فِي مَوْتِهِ يَأْتِي الْخَلَلُ

لَوْ نَزَلَ الرُّزْءُ بِقِمَّةٍ

فَوْقَ الْجِبَالِ لَهَدَّ الْجَبَلَ

خَيْرُ التَّعَازِي فِي أَنَّنَا

نُرَدُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل

وَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدٌ الْعِزِّيَّةَ لِشَخْصِهِ لَاسْتَحَقَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ: الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَازٍ لِزَمَالَتِهِ 21 سَنَةً وَمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ مَنْزِلَةٍ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَهُ وَتَسَبَّبَ فِي جُلُوسِهِ، وَصَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلَكِيِّ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِمَحَبَّتِهِ وَتَقْدِيرِهِ.

نَعَمْ أَقِفُ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا مُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: " مَا لَكُمْ تَأْخُذُونَ الْعِلْمَ عَنَّا وَتَسْتَفِيدُونَ مِنَّا، ثُمَّ تَذْكُرُونَنَا فَلَا تَتَرَحَّمُونَ عَلَيْنَا "، إِنَّهُ رَبْطٌ أَصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالِمِ، وَتَنْبِيهٌ أَكِيدٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ الْعَالِمِ شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ لِنَفْسِ الْعِلْمِ.

رَحِمَ اللَّهُ شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَقَدْ قَامَ الْخَلَفُ بِحَقِّ السَّلَفِ فِي حِفْظِ تَارِيخِهِمْ بِالتَّرْجَمَةِ لَهُمْ خِدْمَةً لِتُرَاثِهِمْ وَإِحْيَاءً لِذِكْرَاهُمْ وَمَا أُثِرَ عَنِ السَّخَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ وَرَّخَ مُؤْمِنًا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ ". أَيْ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ وَأَرَّخَهُ. وَهَا هُمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ يُعَايِشُونَ كُلَّ جِيلٍ بِسِيرَتِهِمْ وَتَارِيخِهِمْ فِي أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ.

وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ حَقًّا أَنَّ تَرَاجِمَ الرِّجَالِ مَدَارِسُ الْأَجْيَالِ، أَيْ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَالِمِ حَيَاتِهِمْ.

وَإِنَّ مِثْلَ شَيْخِنَا الْأَمِينِ رحمه الله لَحَقِيقٌ بِتَرْجَمَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ مَنْهَجِ حَيَاتِهِ فِي تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ.

ص: 472

وَإِنِّي لَأَسْتَعِينُ اللَّهَ فِيمَا أُقَدِّمُ وَأَسْتَلْهِمُهُ فِيمَا أَقُولُ:

إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ جِوَارِهِ

فَقِيدَ الْعِلْمِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ

نَعَاكَ الْعِلْمُ فِي حِلَقِ السُّؤَالِ

نَعَمْ فَقَيْدَ الدَّرْسِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ

، نَعَاكَ الدَّرْسُ فِي فَصْلِ الْمَقَالِ

انْتَقَلَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ جِوَارِهِ صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ وَعَلَمُ الْأَعْلَامِ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ الْإِمَامُ الْهُمَامُ، زِكَيُّ النَّفْسِ، رَفِيعُ الْمَقَامِ، كَرِيمُ السَّجَايَا، ذُو الْخُلُقِ الرَّزِينِ، عَفُّ الْمَقَالِ، حَمِيدُ الْخِصَالِ، التَّقِيُّ الْأَمِينُ، وَالِدُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ الشِّنْقِيطِيُّ. تُوُفِّيَ ضُحَى يَوْمِ الْخَمِيسِ 17 \ 12 \ 93 هـ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمَعْلَاةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَمَاحَةُ رَئِيسِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، مَعَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ 20 \ 12 أُقِيمَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْغَائِبِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَصَلَّى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ آلِ صَالِحٍ إِمَامُ وَخَطِيبُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَرَئِيسُ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَحَاكِمِ مِنْطَقَةِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُبَاشَرَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْحُجَّاجِ مَا لًا يُحْصَى عَدَدًا.

وَمِنْ غَرِيبِ الصُّدَفِ وَحُسْنِ التَّفَاؤُلِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا.

وَقَدْ سَأَلْتُ فَضِيلَتَهُ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَهُوَ قَاصِدٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَمُخْتَارٌ لَهَا، أَمْ جَاءَتْ عَفْوًا؟ فَقَالَ حَفِظَهُ اللَّهُ: بَلْ عَفْوًا، لِمُلَاحَظَةٍ عَلَيْهَا؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مِنْ أَغْرَبِ الصُّدَفِ، لِأَنَّكَ صَلَّيْتَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَمِينِ رحمه الله بَعْدَهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّكَ قَصَدْتَ إِلَيْهَا. وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْحَسَنَةِ، تَغَمَّدَ اللَّهُ الْفَقِيدَ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ إِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، كَمَا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي مَسَاجِدِ الدَّوَادِمِيِّ.

ص: 473

مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَحْيَا عُلُومًا دَرَسَتْ، وَخَلَّفَ تُرَاثًا بَاقِيًا، وَرَبَّى أَفَوْجًا مُتَلَاحِقَةً تُعَدُّ بِالْآلَافِ مِنْ خِرِّيجِي كُلِّيَّاتِ وَمَعَاهِدِ الْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ بِالرِّيَاضِ، وَالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.

مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ لَهُ فِي كُلِّ دَائِرَةٍ مِنْ دَوَائِرِ الْحُكُومَةِ فِي أَنْحَاءِ الْبِلَادِ ابْنًا مِنْ أَبْنَائِهِ، وَفِي قُطْرٍ إِسْلَامِيٍّ بَعْثَةٌ مِنَ الْبَعَثَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِمِنَحِ الْجَامِعَةِ التَّعْلِمِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.

مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِي كُلِّ مَكْتَبَةٍ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ (أَضْوَاءَ الْبَيَانِ) تُبَدِّدُ الظَّلَامَ وَتَهْدِي السَّبِيلَ.

فَلَا يَبْعُدُ وَلَا يُعَالِي مَنْ يَقُولُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ هَذَا التُّرَاثِ، وَأَدَّى تِلْكَ الرِّسَالَةَ فِي حَيَاتِهِ، يُبْقِي أَثَرًا خَالِدًا عَلَى مَرِّ الْأَجْيَالِ وَالْقُرُونِ.

لَقَدْ أَدَّى رِسَالَةً عُظْمَى، وَانْتَقَلَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى لِيَحْصُدَ مَا زَرَعَ وَيَجْنِيَ ثِمَارَ مَا غَرَسَ، وَيَنْعَمَ بِمَا قَدَّمَ رحمه الله رَحْمَةً وَاسِعَةً.

لَقَدْ عَاشَ رحمه الله فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مُنْذُ سِنِينَ حِينَ قَدِمَ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، ثُمَّ اعْتَزَمَ الْمُقَامَ وَعَمِلَ فِي كُبْرَيَاتِ مَعَاهِدِ الْعِلْمِ وَجَامِعَاتِهِ، وَأَلَّفَ وَحَاضَرَ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَنْهُ كَلِمَةٌ وَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ. لَقَدْ كَانَتْ أَعْمَالُهُ تُتَرْجِمُ عَنْهُ وَمُؤَلَّفَاتُهُ تُعَرِّفُ بِهِ حَتَّى عَرَفَهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْقَاصِي وَالدَّانِي، وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، فَلَمْ تَكُنْ وَفَاتُهُ رُزْءًا عَلَى فَرْدٍ أَوْ أُسْرَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ قُطْرٍ، وَلَكِنْ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ.

وَمَا كَتَبْتُ عَنْهُ سِوَى كَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ اسْتَقَيْتُهَا مِنْهُ رحمه الله عِنْدَ طَبْعِ أَوَّلِ مُحَاضَرَةٍ لَهُ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَطُبِعَتْ فِي مُقَدِّمَتِهَا.

وَمَاتَ رحمه الله وَلَمْ يُكْتَبْ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا تَعْرِيفٌ مُوجَزٌ بِالنَّشْأَةِ وَالْمَوْلِدِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَالْآنَ وَقَدْ تَحَتَّمَتِ الْكِتَابَةُ عَنْهُ لَا تَعْرِيفًا بِهِ، فَهُوَ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، فَهُوَ الْعَلَمُ الْخَفَّاقُ، وَالطَّوْدُ الْأَشَمُّ، وَالشَّمْسُ الْمُشْرِقَةُ فَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ لِرَسْمِ خُطَاهُ وَبَيَانِ مَنْهَجِهِ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ رحمه الله وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِي مَعَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَإِنِّي

ص: 474

لَأُسَجِّلُ هَذَا عَنْهُ رحمه الله لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، لِكُلِّ مَنْ عَرَفَهُ عَالِمًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ طَالِبًا أَوْ عَرَفَهُ هُنَا وَلَمْ يَعْرِفْهُ هُنَاكَ فِي بِلَادِهِ، فَأَقُولُ أَوَّلًا: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِيفَاءَ الْمَقَامِ حَقَّهُ لِعِظَمِ مَقَامِهِ رحمه الله وَكَبِيرِ مَنْزِلَتِهِ، وَإِنَّ كُلَّ كِتَابَةٍ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ تُعْتَبَرُ ذَاتَ جَانِبَيْنِ:

جَانِبُ تَرْجَمَةٍ لَهُ وَبَيَانٍ لِحَقِيقَتِهِ وَتَعْرِيفٍ بِشَخْصِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَجَانِبُ سِيرَتِهِ وَمَنْهَجِهِ. بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَهْجًا يُسَارُ عَلَيْهِ وَمَنْهَجًا يُقْتَدَى بِهِ وَمُؤَثِّرًا يُؤَثِّرُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَرَادَ السَّيْرَ فِي سَبِيلِهِ وَالنَّسْجَ عَلَى مِنْوَالِهِ، وَالِاسْتِفَادَةَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

وَالْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ تُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ شَخْصِيَّتِهِ فِي إِبْرَازِ صُورَتِهِ وَبَيَانِ مَكَانَتِهِ وَفِيهَا تَقْيِيمُهُ فِي عَظَمَتِهِ أَوْ تَوَسُّطِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيُّ عَالِمٍ أَوْ طَالِبِ عِلْمٍ فَإِنَّ لَهُ شَخْصِيَّةً مُزْدَوِجَةً، فِي حَيَاتِهِ الْعَامَّةِ وَسُلُوكِهِ الْعَامِّ. وَحَيَاتِهِ الْخَاصَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَنْهَجِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَنَشْرِهِ، وَالْكِتَابَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْعِلْمِيَّةِ.

وَقَدْ مَثَّلَتِ الْمَكْتَبَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَرَاجِمِ وَسِيَرِ الْأَعْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلَى عُصُورِ التَّدْوِينِ وَامْتَدَّتْ إِلَى الْيَوْمِ، حِفْظًا لِلتُّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَسْجِيلًا لِلرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ وَافِيَةً إِلَّا بِتَعَدُّدِ الْكُتَّابِ عَنْهُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحَقِيقَةُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا كُتِبَ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ كَاتِبٍ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

1 -

إِمَّا مُوَالٍ مُتَأَثِّرٌ: فَقَدْ يَقَعُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْعَاطِفَةِ، فَيَنْظُرُ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ. فَيُقَالُ فِيهِ

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ

".

2 -

وَإِمَّا زَاوِيَةُ مُعَادٍ مُنْفَعِلٍ: فَيَقَعُ تَحْتَ طَائِلَةِ الِانْفِعَالِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ تَتِمَّةُ الْبَيْتِ السَّابِقِ: "

كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا

".

3 -

وَإِمَّا بَعِيدٌ مُعْتَدِلٌ: يَرْغَبُ التَّقْيِيمَ بِمِيزَانِ الِاعْتِدَالِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَرِيصًا عَلَيْهِ، بِدُونِ تَقْصِيرٍ.

وَمِنْ هُنَا لَمْ تَكُنْ كِتَابَةُ كَاتِبٍ عَنْ إِنْسَانٍ مَا مُطَابِقَةً كُلَّ التَّطَابُقِ وَمُكْتَمِلَةً غَايَةَ الِاكْتِمَالِ.

وَقَدْ يَتَحَرَّجُ الْأَصْدِقَاءُ مَخَافَةَ التُّهْمَةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْأُلْفَةِ أَوْ يَتَوَقَّفُ الْأَعْدَاءُ مُكْتَفِينَ

ص: 475

بِالْإِغْضَاءِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ الْآخَرُونَ خَشْيَةَ التَّقْصِيرِ. وَلِهَذَا فَقَدْ تَذْهَبُ الشَّخْصِيَّةُ الْفَذَّةُ دُونَ كِتَابَةٍ عَنْهَا فَيَفْتَقِدُهُ الْحَاضِرُونَ وَيَفْقِدُ سِيرَتَهُ الْقَادِمُونَ. عِلْمًا بِأَنَّ سِيرَةَ الرِّجَالِ مَدْرَسَةُ الْأَجْيَالِ.

وَفَضِيلَةُ الْوَالِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ رحمه الله لَهُ شَخْصِيَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ وَسِيرَةٌ وَاضِحَةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ أَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَوِ اسْتَمَعَ دَرْسَهُ أَوْ قَرَأَ كُتُبَهُ أَوْ حَتَّى سَمِعَ عَنْهُ. وَقَدْ طَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الْآفَاقَ.

وَإِنَّ الْكِتَابَةَ عَنْ مِثْلِهِ رحمه الله لَمِنْ أَشَقِّ مَا يَكُونُ لِتَعَدُّدِ جَوَانِبِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَانْفِسَاحِ مَجَالَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِمَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ إِلَّا الْخُلْطَةَ وَطُولَ الْعِشْرَةِ وَتَصَيُّدَ الْأَخْبَارِ مِنْ ذَوِيِهِ الْأَخْيَارِ.

وَحَيْثُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ هُمْ تَلَامِذَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِصُحْبَتِهِ وَطُولِ مُلَازَمَتِهِ لَيْلَ نَهَارٍ، وَكَثْرَةِ مُرَافَقَتِهِ فِي الظَّعْنِ وَالْأَسْفَارِ. دَاخِلَ وَخَارِجَ الْمَمْلَكَةِ. وَسَمِعْتُ مِنْهُ رحمه الله الشَّيْءَ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ جِدًّا، فَإِنِّي لَأَجِدُنِي تَتَجَاذَبُنِي عَوَامِلُ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِذَا اسْتَحْضَرْتُ كُلَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وَتَصَوَّرْتُ كُلَّ مَا لَمَسْتُهُ فِيهِ أَجِدُنِي أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ.

وَإِذَا تَذَكَّرْتُ مَكَانَتَهُ وَتَرَاءَتْ لِي مُنْزِلَتُهُ وَأَحْسَسْتُ تَأْثِيرَهُ عَلَى نَفْسِي تَلَاشَتْ مِنْ ذِهْنِي كُلُّ مَعَانِي الْكِتَابَةِ أَمَامَ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ الْمِثَالِيَّةِ وَتَرَاجَعَتْ بَعِيدًا عَنْ مَيَادِينِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ.

وَلَكِنْ إِذَا كَانَ كُلُّ كَاتِبٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَقْيِيمَ كُلِّ شَخْصِيَّةٍ تَقْيِيمًا حَقِيقِيًّا يَدُلُّ عَلَى الشَّخْصِ دَلَالَةً مُطَابِقَةً، وَفِي أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ. لَا مُوجِزًا وَلَا مُطْنِبًا. إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ كُلِّ كَاتِبٍ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ.

وَإِذَا كَانَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ فَمَا لِي لَا أُدْلِي بِدَلْوِي بِالدِّلَاءِ، وَأُعْمِلُ قَلَمِي مَعَ الْأَقْلَامِ، وَأُبْدِي مَا عِنْدِي سَوَاءٌ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً أَوْ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، أَوْ لَمَسْتُهُ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ.

دُونَ انْطِلَاقٍ مَعَ الْعَاطِفَةِ إِلَى حَدِّ الْإِطْنَابِ، وَدُونَ إِحْجَامٍ مَعَ الْوَجَلِ وَالتَّهَيُّبِ وَالْوَجَلِ إِلَى حَدِّ الْإِيجَازِ. إِنَّهُ لَشَيْخِي، وَأَعِزُّ عَلَيَّ مِنْ وَالِدِي.

إِنَّهُ حَقًّا وَالِدِي حِسًّا وَمَعْنًى، لَقَدْ عِشْتُ فِي كَنَفِهِ سَنَوَاتٍ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ يُظِلُّنَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فِي غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَدًا طَوِيلًا.

ص: 476

وَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ رحمه الله الْعِنَايَةَ وَالرِّعَايَةَ كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ كَأَشَدِّ مَا يَرْعَى الْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَقَدْ أَجِدُ مِنْهُ الْإِيثَارَ عَلَى نَفْسِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْيَانِهِ، مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَلَا يُنْسَى فَضْلُهُ.

وَأَعَزُّ مِنَ الْإِيثَارِ مَا مَنَحَنِي مِنَ الْعُلُومِ وَالْآثَارِ، وَالتَّوْجِيهِ الْأَدَبِيِّ، وَالْفَضْلِ الْخُلُقِيِّ، وَالسُّمُوِّ النَّفْسِيِّ، فِي مَجَالِسِهِ وَأَحَادِيثِهِ، وَدُرُوسِهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَدٍّ وَبِدُونِ تَقَيُّدٍ بِوَقْتٍ، إِذْ كَانَ رحمه الله كُلُّ مَجَالِسِهِ مَجَالِسُ عِلْمٍ، وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ أَحَادِيثُ أَدَبٍ وَتَوْجِيهٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْضِيرٍ لِدَرْسٍ، وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَوَابٍ عَلَى سُؤَالٍ.

وَلَمْ يَكُنْ لِي مَعَهُ رحمه الله مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ الدَّارِسِينَ عَلَيْهِ الْمُقِيمِينَ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ دِرَاسِيَّتَيْنِ وَنَحْنُ بِالرِّيَاضِ. قَرَأْتُ فِي خِلَالِهِمَا تَفْسِيرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

كَانَتْ تِلْكَ الدِّرَاسَةُ عَلَيْهِ رحمه الله هِيَ رَأْسُ مَالِي فِي جُلِّ تَحْصِيلِي، وَعَلَيْهَا أَسَاسُ دِرَاسَتِي الْحَقِيقِيَّةِ سَوَاءٌ فِي الْمُقَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. لِأَنَّ فِيهَا جَمِيعَ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَعَلَى مَبَاحِثِهَا تَنْطَبِقُ جُلُّ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ السُّوَرِ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرًا لَهَا، أَوْ أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ تَفْسِيرَهَا سَهُلَ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَا بَعْدَهَا. وَقَدْ كَانَتْ دِرَاسَتُهَا سَبَبًا فِي تَأْلِيفِ كِتَابِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَأَضْوَاءِ الْبَيَانِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِثْرَ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ.

مَعَ مَا دَرَسْتُ مِنَ الْأُصُولِ وَمَبَادِئٍ فِي الْمَنْطِقِ وَدَقَائِقَ فِي الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

لَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ رحمه الله مَا لَمْ أَجِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا وَأَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَا وَجَدْتُهُ أَنَا مِنْهُ. فَلَئِنْ شَرُفْتُ بِخِدْمَتِهِ فَلَقَدْ حَظِيتُ بِصُحْبَتِهِ. فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِّي أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.

وَإِنَّ صَاحِبَ مِثْلِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ لَيُحِسُّ بِثِقَلِ دُيُونِهِ عَلَى كَاهِلِهِ، وَيَلْمِسُ عِظَمَ الْمِنَّةِ تُطَوِّقُ عُنُقَهُ. فَهَلْ أَسْتَطِيعُ تَوْفِيَةَ هَذَا الْجَانِبِ فَحَسْبُ، فَضْلًا عَنِ الْجَوَانِبِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّرْجَمَةِ وَالسِّيرَةِ، وَهَلْ يَتَأَتَّى مِنِّي الْإِحْجَامُ عَنِ الْكِتَابَةِ وَأَنَا مَدِينٌ بِمِثْلِ تِلْكَ الدُّيُونِ، مُكَبَّلٌ بِتِلْكَ الْمِنَنِ مِمَّا يَجْعَلُنِي أَحَقَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

كَلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ

وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ

تَطَاوَلَ حَتَّى قُلْتُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ

وَلَيْسَ الَّذِي يَرْعَى النُّجُومَ بِآيِبِ

وَصَدْرٍ أَرَاحَ اللَّيْلُ عَازِبُ هَمِّهِ

تَضَاعَفَ فِيهِ الْحُزْنَ مِنْ كُلِّ جَانِبِ

ص: 477

عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ

لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ

وَلَئِنْ قِيلَ:

وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُو

أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ

فَإِنِّي لَأَقُولُ:

وَتَجَلُّدِي لِلسَّامِعِينَ أُرِيهُمُو

شَمْسَ الْحَقِيقَةِ مِنْ سَنَاءٍ تَطْلُعُ

وَإِنِّي مُلْزَمٌ بِالْكِتَابَةِ لَوْ تَأَثَّرْتُ بِالْعَاطِفَةِ فَإِنِّي مَعْذُورٌ.

وَإِنَّ قَصَّرْتُ عَنْ حَقِّهِ فَلَا عُذْرَ لِي فِي التَّقْصِيرِ.

وَإِنِّي لَأَعْتَبِرُ مَا أُقَدِّمُهُ بِدَايَةً لَا نِهَايَةً وَتَذْكِرَةً لِلْآخَرِينَ مِنْ حَاضِرِينَ وَغَائِبِينَ، لَعَلَّهُمْ يُتِمُّونَ مَا بَقِيَ، وَيُكْمِلُونَ مَا نَقَصَ.

وَإِذَا كَانَتِ التَّرَاجِمُ وَالسِّيَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَاتِيَّةٍ وَغَيْرِ ذَاتِيَّةٍ. وَالذَّاتِيَّةُ هِيَ مَا يَكْتُبُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ طُفُولَتِهِ إِلَى رُجُولَتِهِ. وَيُسَجِّلُ مَا جَرَى لَهُ وَعَلَيْهِ. وَهِيَ أَصْدَقُ مَا تَكُونُ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُعْتَدِلًا أَمِينًا.

وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهُمُ:

1 -

ابْنُ سِينَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 428 كَانَتْ تَرْجَمَتُهُ لِنَفْسِهِ مَرْجِعًا لِكُلِّ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ مِنْ تَلَامِيذِهِ.

2 -

وَالْعِمَادُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 597 فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ " الْبَرْقِ الشَّامِيِّ ".

3 -

وَابْنُ الْخَطِيبِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 776.

4 -

وَابْنُ خَلْدُونَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 805، وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

وَالتَّرْجَمَةُ غَيْرُ الذَّاتِيَّةِ مَا يَكْتُبُ غَيْرُهُ عَنْهُ.

وَإِنَّ مَا أُقَدِّمُهُ فِي هَذَا الْمَجَالِ لَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الذَّاتِيِّ، وَغَيْرِ الذَّاتِيِّ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَالَهُ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ وَسَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. كَمَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا عَرَفْتُهُ وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِهِ مُدَّةَ صُحْبَتِي لَهُ.

ص: 478

وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ سِيرَتِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ لِتَلَامِذَتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ فِي وَلَدَيْهِ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ. وَأَنْ يَأْجُرَنَا فِي مُصِيبَتِنَا وَيَخْلُفَنَا خَيْرًا مِنْهَا، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَغَمَّدَهُ بِوَافِرِ رَحْمَتِهِ وَيُسْكِنَهُ فَسِيحَهُ جَنَّتَهُ، وَأَنْ يُجْزِلَ لَهُ الْعَطَاءَ وَيَجْزِيَهُ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ عَمَّا بَذَلَهُ مِنْ جَهْدٍ، وَخَلَّفَهُ مِنْ عِلْمٍ. إِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَهُوَ الِاسْمُ وَاللَّقَبُ وَالنَّسَبُ وَالنَّشْأَةُ وَالْمَوْطِنُ) . . إلخ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ رحمه الله كَمَا سَمِعْتُهَا مِنْهُ مُبَاشَرَةً:

الِاسْمُ: هُوَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَهُوَ عَلَمٌ مُرَكَّبٌ مِنِ اسْمَيْنِ، وَذِكْرُ مُحَمَّدٍ تَبَرُّكٌ.

وَاللَّقَبُ: آبَّا بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ الْإِبَاءِ.

وَاسْمُ أَبِيهِ: مُحَمَّدٌ الْمُخْتَارُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ نُوحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَيِّدِي أَحْمَدَ بْنِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَوْلَادِ الطَّالِبِ أَوْ بِك وَهَذَا مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِ كَرَيْرِ بْنِ الْمُوَافِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ جَاكنَ الْأَبَرِّ، جَدِّ الْقَبِيلَةِ الْكَبِيرَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجِكْنِيِّينَ. وَيَعْرِفُونَ بِتجكَانْت.

نَسَبُ الْقَبِيلَةِ: وَيَرْجِعُ نَسَبُ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ إِلَى حِمْيَرَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمُورِيتَانِيُّ مُحَمَّد فَال وَلَدُ الْعَيْنَيْنِ مُسْتَدِلًّا بِفَصَاحَتِهِمْ عَلَى عُرُوبَتِهِمْ:

إِنَّا بَنُو حَسَنٍ دَلَّتْ فَصَاحَتُنَا

أَنَّا إِلَى الْعَرَبِ الْأَقْحَاحِ نَنْتَسِبُ

إِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَاتٌ أَنَّنَا عَرَبٌ

فَفِي «اللِّسَانِ» بَيَانٌ أَنَّنَا عَرَبُ

انْظُرْ إِلَى مَا لَنَا مِنْ كُلِّ قَافِيَةٍ

لَهَا تَنُمُّ شُذُورُ الزِّبْرِجِ الْقَشِبُ

وَبَيَّنَ شَاعِرٌ آخَرُ مَرْجِعَ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ إِلَى حِمْيَرَ بِقَوْلِهِ:

يَا قَائِلًا طَاعِنًا فِي أَنَّنَا عَرَبٌ

قَدْ كَذَّبَتْكَ لَنَا لُسْنٌ وَأَلْوَانُ

وَسْمُ الْعُرُوبَةِ بَادٍ فِي شَمَائِلِنَا

وَفِي أَوَائِلِنَا عِزٌّ وَإِيمَانُ

آسَادُ حِمْيَرَ وَالْأَبْطَالُ مِنْ مُضَرٍ

حُمْرُ السُّيُوفِ فَمَا ذَلُّوا وَلَا هَانُوا

لَقَدْ كَانَتْ خَصَائِصُ الْعُرُوبَةِ وَمُمَيِّزَاتُهَا مَوْفُورَةً لَدَى الشَّيْخِ رحمه الله، وَلَدَى أَهْلِهِ وَذَوِيِهِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، كَمَا تَوَفَّرَتِ الْعُلُومُ وَالْفُنُونُ فِي بَيْتِهِ وَقَبِيلَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَحَدُ

ص: 479

شُعَرَائِهِمْ أَصَالَةَ الْعُرُوبَةِ فِيهِمْ وَارْتِضَاعَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ يُخَاطِبُ مَنْ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ:

لَنَا الْعُرُوبَةُ الْفُصْحَى وَإِنَّا

أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَا اضْطِلَاعًا

عَنِ الْكُتُبِ اقْتَبَسْتُمُوهَا انْتِفَاعًا

بِمَا فِيهَا وَنَرْضَعُهَا ارْتِضَاعًا

الْمَوْلِدُ: وُلِدَ رحمه الله فِي عَامِ 1305 هـ.

الْمَوْطِنُ: كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِهِ رحمه الله عِنْدَ مَاءٍ يُسَمَّى (تَنْبهَ) مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةِ (كِيفَا) مِنَ الْقُطْرِ الْمُسَمَّى بِشِنْقِيطَ وَهُوَ دَوْلَةُ مُورِيتَانْيَا الْإِسْلَامِيَّةُ الْآنَ.

عِلْمًا بِأَنَّ كَلِمَةَ شِنْقِيطَ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ اسْمًا لِقَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةٍ أصَارَ فِي أَقْصَى مُورِيتَانْيَا فِي الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ.

نَشْأَتُهُ رحمه الله: وَقَبْلَ الْحَدِيثِ عَنْ نَشْأَتِهِ يَحْسُنُ إِيجَازُ نُبْذَةٍ عَنِ الْبِيئَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.

تُعْتَبَرُ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بِحَسَبِ الْمُوَاطِنِينَ قِسْمَيْنِ: عَرَبٌ وَعَجَمٌ وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْجَمِيعِ.

أَمَّا الْعَمَلُ: فَالْعَجَمُ أَكْثَرُ أَعْمَالِهِمُ الزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَسُلَالَتُهُمْ مِنَ الزُّنُوجِ.

وَأَمَّا الْعَرَبُ فَقِسْمَانِ: طَلَبَةٌ وَغَيْرُ الطَّلَبَةِ. وَالطَّلَبَةُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالتِّجَارَةُ، وَغَيْرُهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التِّجَارَةُ وَالْإِغَارَةُ. وَهُمْ قَبَائِلُ عِدَّةٌ، وَمِنَ الْقَبَائِلِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الطَّلَبُ، وَمِنْهَا مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْإِغَارَةُ وَالْقِتَالُ.

وَقَبِيلَةٌ الْجكنِيِّينَ خَاصَّةً قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفُرُوسِيَّةِ الْقِتَالِ. مَعَ عِفَّةٍ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْجَوِّ كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ سَوَاءٌ فِي حَلِّهِمْ أَوْ تِرْحَالِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمُ الْعَلَّامَةُ الْمُخْتَارُ بْنُ بُونَا:

وَنَحْنُ رَكْبٌ مِنَ الْأَشْرَافِ مُنْتَظَمُ

أَجَلُّ ذَا الْعَصْرِ قَدْرًا دُونَ أَدْنَانَا

قَدِ اتَّخَذْنَا ظُهُورَ الْعِيسِ مَدْرَسَةً

بِهَا نُبَيِّنُ دِينَ اللَّهِ تِبْيَانًا

أَمَّا كَرَمُ الطَّبْعِ فَهَذَا سَجِيَّةٌ فِي جَمِيعِهِمْ وَأَمْرٌ يَشِبُّ فِيهِ الصَّغِيرُ، وَيَشِيبُ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ وَقَدْ أَلِفُوا الضَّيْفَ لِنُجْعَةِ مَنَازِلِهِمْ، وَمِنْ عَادَاتِهِمْ إِذَا نَزَلَ وَفْدٌ عَلَى بَيْتٍ، فَإِنَّ أَهْلَ هَذَا

ص: 480

الْمَنْزِلِ يُرْسِلُونَ لِأَهْلِ بَيْتِ الْمُضِيفِ مِمَّا عِنْدَهُمْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُشَارَكَةً فِي قِرَى الضَّيْفِ وَتَعَاوُنًا مَعَ الْمُضِيفِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْدَمًا غَدَا وَاجِدًا، وَيَرْحَلُ الْوَفْدُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الرِّضَا. وَهَكَذَا لِيَكُ.

وَفِي هَذَا الْجَوِّ وَتِلْكَ الْبِيئَةِ نَشَأَ رحمه الله كَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ وَالِدِي وَأَنَا صَغِيرٌ أَقْرَأُ فِي جُزْءِ عَمَّ، وَتَرَكَ لِي ثَرْوَةً مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْمَالِ، وَكَانَتْ سُكْنَايَ فِي بَيْتِ أَخْوَالِي وَأُمِّي ابْنَةُ عَمِّ أَبِي، وَحَفِظْتُ الْقُرْءَانَ عَلَى خَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ نُوحٍ جَدِّ الْأَبِ الْمُتَقَدِّمِ.

طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ: حَفِظَ الْقُرْءَانِ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى خَالِهِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعُمُرُهُ عَشْرُ سَنَوَاتٍ.

قَالَ رحمه الله: ثُمَّ تَعَلَّمْتُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ (الْمُصْحَفِ الْأُمِّ) عَنِ ابْنِ خَالِي سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ التَّجْوِيدَ فِي مَقْرَأِ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَزْرَقِ وَقَالُونَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نَشِيطٍ، وَأَخَذْتُ عَنْهُ سَنَدًا بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ وَعُمُرِي سِتَّةَ عَشَرَ سَنَةً.

أَنْوَاعُ الدِّرَاسَةِ فِي الْقُرْءَانِ: تُعْتَبَرُ الدِّرَاسَةُ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ، بَلْ تَتَنَاوَلُ مَعْرِفَةَ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَيْ نَوْعَ كِتَابَتِهِ مَا كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا، وَمَا رُسِمَ فِيهِ الْمَدُّ أَوْ كَانَ يُمَدُّ بِدُونِ وُجُودِ حَرْفِ الْمَدِّ، وَقَدْ يَكُونُ حَرْفًا صَغِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

ثُمَّ ضَبْطُ مَا فِيهِ مِنْ مَنْشَأَيْهِ فِي الرَّسْمِ أَوِ التِّلَاوَةِ. وَمِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا رَجَزُ (مُحَمَّدِ بْنِ بُوجَهْ) الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَحْرِ، تَعَرَّضَ فِيهِ لِكُلِّ كَلِمَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْءَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَرَّةً أَيْ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَأَفْرَدَ كُلَّ عَدَدٍ بِفَصْلٍ فَمَثَلًا: كَلِمَةُ (أَعْيُنُهُمْ) بِالرَّفْعِ جَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فِيهَا:

أَعْيُنُهُمْ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ حُضُورْ

مِنْ بَعْدُ كَانَتْ وَتَوَلَّتْ وَتَدُورْ

وَمِنَ الثُّنَائِيِّ: كَلِمَةُ (الْأَشْيَاعِ) بِالْعَيْنِ قَالَ فِيهِ:

أَشْيَاعُ بِالْعَيْنِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ

فِي سَبَإٍ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ ذُكِرْ

ص: 481

وَقَدْ دَرَسَ هَذَا كُلَّهُ فِي طُفُولَتِهِ، وَكَانَتْ لَهُ زِيَادَةُ نَظْمٍ عَلَى ذَلِكَ تَذْيِيلًا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، كَمَا قَالَ: عَلَى الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مُبَيِّنًا حَرَكَاتِهِ وَإِعْرَابَهُ:

فِي سُورَةِ الْقَمَرِ خَاطِبْ وَانْصِبَا

وَجَلِّهِ وَغَيْبَتُهُ فِي سَبَأٍ

أَيْ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ تَكُونُ تِلَاوَتُهَا الْخِطَابُ وَالنَّصْبُ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ تَكُونُ تِلَاوَتُهَا بِالْغَيْبَةِ وَالْجَرِّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ وَهَذِهِ دِرَاسَةٌ لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ مِنَ الْمَهَامِّ الْعِلْمِيَّةِ لِحِفْظِهَا رَسْمَ الْقُرْءَانِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ تَعَهُّدِ اللَّهِ بِحِفْظِ هَذَا الْقُرْءَانِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ قَالَ رحمه الله: وَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَرَسْتُ بَعْضَ الْمُخْتَصَرَاتِ فِي فِقْهِ مَالِكٍ كَرَجَزِ الشَّيْخِ ابْنِ عَاشِرٍ، وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضًا دَرَسْتُ دِرَاسَةً وَاسِعَةً فِي الْأَدَبِ عَلَى زَوْجَةِ خَالِي أُمِّ وَلَدِ الْخَالِ أَيْ أَنَّ وَلَدَ خَالِهِ يُعَلِّمُهُ الْعُلُومَ الْخَاصَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَأُمُّهُ تُعَلِّمُهُ الْأَدَبَ، قَالَ: أَخَذْتُ عَنْهَا مَبَادِئَ النَّحْوِ كَالْأُجْرُومِيَّةِ وَتَمْرِينَاتٍ وَدُرُوسٍ وَاسِعَةٍ فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَنَظْمَ الْغَزَوَاتِ لِأَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى 500 بَيْتٍ وَشُرُوحَهُ لِابْنِ أُخْتِ الْمُؤَلِّفِ الْمَعْرُوفِ بِحَمَّادٍ، وَنَظَرَ عَمُودِ النَّسَبِ لِلْمُؤَلِّفِ وَهُوَ يُعَدُّ بِالْآلَافِ، وَشَرْحَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى خُصُوصِ الْعَدْنَانِيِّينَ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَحْطَانِيِّينَ.

هَذِهِ دِرَاسَةٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ وَالْأَدَبِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ وَأَبْنَاءِ أَخْوَالِهِ وَزَوْجَاتِ أَخْوَالِهِ، أَيْ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ الْمَدْرَسَةَ الْأُولَى إِلَيْهِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُنُونِ فَقَالَ:

أَوَّلًا: الْفِقْهُ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ السَّائِدُ فِي الْبِلَادِ دَرَسْتُ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ - بَدَأَ دِرَاسَتَهُ فِيهِ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ إِلَى قِسْمِ الْعِبَادَاتِ - ثُمَّ دَرَسَ عَلَيْهِ النِّصْفَ مِنْ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ. ثُمَّ أَخَذَ بَقِيَّةَ الْفُنُونِ عَلَى مَشَايِخَ مُتَعَدِّدَةٍ، فِي فُنُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْجكنِيِّينَ وَمِنْهُمْ مَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبِلَادِ مِنْهُمُ:

ص: 482

1 -

الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَحْمَدَ الْأَفْرَمِ.

2 -

وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ.

3 -

وَالشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ.

4 -

وَالْفَقِيهُ مُحَمَّدٌ النِّعْمَةُ بْنُ زَيْدَانَ.

5 -

وَالْفَقِيهُ الْكَبِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُودْ.

6 -

وَالْعَلَّامَةُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الْفُنُونِ أَحْمَدُ فَال بْنُ آدُهْ.

وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ الْجكنِيِّينَ.

قَالَ رحمه الله: وَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلَّ الْفُنُونِ: النَّحْوَ، وَالصَّرْفَ، وَالْأُصُولَ، وَالْبَلَاغَةَ. وَبَعْضَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ.

أَمَّا الْمَنْطِقُ وَآدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَقَدْ حَصَّلْنَاهُ بِالْمُطَالَعَةِ.

هَذَا مَا أَمْلَاهُ عَلَيَّ رحمه الله وَسَجَّلْتُهُ عَنْهُ.

عِلْمًا بِأَنَّ الْفَنَّ الَّذِي دَرَسَهُ عَلَى الْمَشَايِخِ أَوْ مُطَالَعَةً مِنَ الْكُتُبِ، لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَحْصِيلِهِ عَلَى دِرَاسَتِهِ، بَلْ كَانَ دَائِمًا يُدِيمُ النَّظَرَ وَيُوَاصِلُ التَّحْصِيلَ حَتَّى غَدَا فِي كُلٍّ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُتَخَصِّصٌ فِيهِ، بَلْ وَلَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُ اجْتِهَادَاتٌ وَمَبَاحِثُ مُبْتَكَرَةٌ، سَنُلِمُّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لِدِرَاسَتِهِ وَآثَارِهِ الْعِلْمِيَّةِ.

مَنْهَجُهُ الْعِلْمِيُّ فِي الدِّرَاسَةِ:

وَقَبْلَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لَهُ رحمه الله فِي دِرَاسَتِهِ، نُلِمُّ بِالْمَنْهَجِ الْعَامِّ السَّائِدِ فِي بِلَادِهِ لِكَافَّةِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَطَرِيقَةِ تَحْصِيلِهِ.

تُعْتَبَرُ طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جُزْءًا مِنْ حَيَاةِ الْبَوَادِي حِلًّا وَارْتِحَالًا. وَإِذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمَشَايِخِ فِي مَكَانٍ تَوَافَدَ عَلَيْهِ الطُّلَّابُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَمَكَثَ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ، وَقَدْ يُقِيمُ بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ لِدَوَامِ الدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ «الْمُرَابِطُ» نَظَرًا لِإِقَامَتِهِ الدَّائِمَةِ لِنَشْرِ الْعِلْمِ.

ص: 483

وَلَا يَأْخُذُ الْمُرَابِطُ مِنْ طُلَّابِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ سَاعَدَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ طُلَّابِهِ، وَقَدْ يُسَاعِدُ أَهْلَ ذَاكَ الْمَكَانِ الْغُرَبَاءَ مِنَ الطُّلَّابِ.

فَيَنْزِلُونَ حَوْلَ بَيْتِهِ وَيَبْنُونَ لَهُمْ خِيَامًا أَوْ مَسَاكِنَ مُؤَقَّتَةً. وَيَكُونُ لَهُمْ مَجْلِسُ عِلْمٍ لِلدَّرْسِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالِاسْتِذْكَارِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَابِطُ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ. فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ دُرُوسَهُ تَكُونُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُوَزَّعَةً فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهُ بِحَسَبِ مَجْمُوعَاتِ الطُّلَّابِ، فَقَدْ تَكُونُ مَجْمُوعَةٌ فِي الْبِدَايَةِ مِنْهُ، وَمَجْمُوعَةٌ فِي النِّهَايَةِ وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا. فَتَتَقَدَّمُ كُلُّ مَجْمُوعَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَدْرُسُ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَجْمُوعَةُ الْأُخْرَى وَهَكَذَا.

وَإِذَا كَانَ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ طُلَّابَ كُلِّ فَنٍّ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ.

إِفْرَادُ الْفُنُونِ: وَلَا يَحِقُّ لِطَالِبٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ فَنَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَدْرُسُ فَنًّا حَتَّى يُكْمِلَهُ كَالنَّحْوِ مَثَلًا، ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْبَلَاغَةِ حَتَّى يُكْلِمَهَا. وَهَكَذَا يَبْدَأُ مَثَلًا فِي الْفِقْهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْأُصُولِ حَتَّى يُكْمِلَهُ. سَوَاءٌ دَرَسَهَا عَلَى عِدَّةِ مَشَايِخَ أَوْ عَلَى شَيْخٍ وَاحِدٍ.

طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ الْيَوْمِيَّةِ: يَبْدَأُ الطَّالِبُ بِكِتَابَةِ الْمَتْنِ فِي اللَّوْحِ الْخَشَبِيِّ فَيَكْتُبُ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ، ثُمَّ يَمْحُوهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ قَدْرًا آخَرَ حَتَّى يَحْفَظَ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ حَسَبَ التَّقْسِيمِ الْمَعْهُودِ. فَمَثَلًا النَّحْوُ، تُعْتَبَرُ الْأَلْفِيَّةُ أَرْبَعَةَ مَقَارِئٍ، وَيُعْتَبَرُ مَتْنُ خَلِيلٍ فِي الْفِقْهِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.

فَإِذَا حَفِظَ الطَّالِبُ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ تَقَدَّمَ لِلدِّرَاسَةِ فَيَشْرَحُهُ لَهُ الشَّيْخُ شَرْحًا وَافِيًا بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَحْصِيلٍ، دُونَ أَنْ يَفْتَحَ كِتَابًا، أَوْ يَحْضُرَ فِي مَرْجِعٍ ثُمَّ يَقُومُ هَؤُلَاءِ لِلِاسْتِذْكَارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُنَاقَشَةِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ الشُّرَّاحِ لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى مَا سَمِعُوهُ أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى بَعْضِ الْحَوَاشِي، وَلَا يَجْتَازُونَ ذَاكَ الْمَكَانَ مِنَ الدَّرْسِ حَتَّى يَرَوْا أَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا كُلَّ مَا فِيهِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُرْعَةٍ أَوْ إِنْهَاءِ كِتَابٍ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَهْمِ وَتَحْصِيلِ مَا فِي الْبَابِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنْ بَعْضِ الطُّلَّابِ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالذَّكَاءِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْصِيلِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي مَتْنِ خَلِيلٍ عَلَى سَطْرَيْنِ فَقَطْ. فَقِيلَ لَهُ لِمَ لَا تَزِيدُ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى

ص: 484

التَّحْصِيلِ فَقَالَ: لِأَنَّنِي عَجْلَانُ لِأَعُودَ إِلَى أَهْلِي، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْعَجْلَانَ يَزِيدُ فِي حِصَّتِهِ، فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُتْقِنَ مَا أَقْرَأُ حَتَّى لَا أَحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ دِرَاسَتِهِ فَأَتَأَخَّرُ.

الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ:

دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رحمه الله: عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ كَانَتْ دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رحمه الله، إِلَّا أَنَّهُ تَمَيَّزَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، قَلَّ أَنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، نُوجِزُ مِنْهَا كَالْآتِي:

1 -

فِي مَبْدَأِ دِرَاسَتِهِ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ أُتِيحَ لَهُ فِي بَادِئِ دِرَاسَتِهِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِهِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ مَدْرَسَتَهُ الْأُولَى، فَلَمْ يَرْحَلْ فِي بَادِئِ أَمْرِهِ لِلطَّلَبِ، وَكَانَ وَحِيدَ وَالِدَيْهِ، فَكَانَ فِي مَكَانِ التَّدَلُّلِ وَالْعِنَايَةِ.

2 -

قَالَ رحمه الله: كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى اللَّعِبِ أَكْثَرَ مِنَ الدِّرَاسَةِ حَتَّى حَفِظْتُ الْحُرُوفَ الْهِجَائِيَّةَ وَبَدَأُوا يُقْرِئُونَنِي إِيَّاهَا بِالْحَرَكَاتِ، بَا فُتْحَةُ بَا، بِي كَسْرَةُ بِي، بُو ضَمَّةُ بُو، وَهَكَذَا ت د ث. فَقُلْتُ لَهُمْ أَوَ كُلُّ الْحُرُوفِ هَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ: كَفَى إِنِّي أَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهَا كُلَّهَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ كَيْ يَتْرُكُونَنِي فَقَالُوا: اقْرَأْهَا، فَقَرَأْتُ بِثَلَاثَةِ حُرُوفٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَتَنَقَّلْتُ إِلَى آخِرِهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَعَرَفُوا أَنِّي فَهِمْتُ قَاعِدَتَهَا وَاكْتَفَوْا مِنِّي بِذَلِكَ وَتَرَكُونِي. وَمِنْ ثَمَّ حُبِّبَتْ إِلَيَّ الْقِرَاءَةُ.

3 -

وَقَالَ رحمه الله: وَلَمَّا حَفِظْتُ الْقُرْءَانَ، وَأَخَذْتُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ، وَتَفَوَّقْتُ فِيهِ عَلَى الْأَقْرَانِ عُنِيَتْ بِي وَالِدَتِي وَأَخْوَالِي أَشَدَّ عِنَايَةٍ، وَعَزَمُوا عَلَى تَوْجِيهِي لِلدِّرَاسَةِ فِي بَقِيَّةِ الْفُنُونِ. فَجَهَّزَتْنِي وَالِدَتِي بِجَمَلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ مَرْكَبِي وَكُتُبِي، وَالْآخِرُ عَلَيْهِ نَفَقَتِي وَزَادِي، وَصَحِبَنِي خَادِمٌ وَمَعَهُ عِدَّةُ بَقَرَاتٍ، وَقَدْ هَيَّأَتْ لِي مَرْكَبِي كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنْ مَرْكَبٍ وَمَلَابِسَ كَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ فَرَحًا بِي وَتَرْغِيبًا لِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهَكَذَا سَلَكْتُ سَبِيلَ الطَّلَبِ وَالتَّحْصِيلِ.

تَقُومُ الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ مَنْعِ الْكُلْفَةِ وَتَمَامِ الْأُلْفَةِ سَوَاءٌ بَيْنَ الطُّلَّابِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَيْخِهِمْ مَعَ كَمَالِ الْأَدَبِ وَوَقَارِ الْحِشْمَةِ. وَقَدْ تَتَخَلَّلُهَا الطُّرَفُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْمُحَاوَرَاتُ الشِّعْرِيَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِيهِ رحمه الله قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَدْرُسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُنِي مِنْ قَبْلُ، فَسَأَلَ عَنِّي مَنْ أَكُونُ، وَكَانَ فِي مَلَأٍ مِنْ تَلَامِذَتِهِ فَقُلْتُ مُرْتَجِلًا:

ص: 485

هَذَا فَتًى مِنْ بَنِي جَاكَانَ قَدْ نَزَلَا

بِهِ الصِّبَا عَنْ لِسَانِ الْعُرْبِ قَدْ عَدَلَا

رَمَتْ بِهِ هِمَّةٌ عَلْيَاءُ نَحْوَكُمْ

إِذْ شَامَ بَرْقَ عُلُومٍ نُورُهُ اشْتَعَلَا

فَجَاءَ يَرْجُو رُكَامًا مِنْ سَحَائِبِهِ

تَكْسُو لِسَانَ الْفَتَى أَزْهَارُهُ حُلَلًا

إِذْ ضَاقَ ذَرْعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أَبَا

أَلَّا يُمَيِّزَ شَكْلَ الْعَيْنِ مِنْ فَعَلَا

قَدْ أَتَى الْيَوْمَ صَبًّا مُولَعًا كَلِفًا

بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لَا أَبْغِي لَهُ بَدَلًا

يُرِيدُ دِرَاسَةَ لَامِيَّةِ الْأَفْعَالِ.

وَقَدْ مَضَى رحمه الله فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قُدُمًا وَقَدْ أَلْزَمَهُ بَعْضُ مَشَايِخِهِ بِالْقِرَانِ. أَيْ أَنَّ يَقْرِنَ بَيْنَ كُلِّ فَنَّيْنِ حِرْصًا عَلَى سُرْعَةِ تَحْصِيلِهِ وَتَفَرُّسًا لَهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ فِي دَرْسٍ وَتَحْصِيلٍ.

وَقَدْ خَاطَبَهُ بَعْضُ أَقْرَانِهِ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ:

دَعَانِي النَّاصِحُونَ إِلَى النِّكَاحِ

غَدَاةَ تَزَوَّجَتْ بِيضُ الْمِلَاحِ

فَقَالُوا لِي تَزَوَّجْ ذَاتَ دَلٍّ

خَلُوبَ اللَّحْظِ جَائِلَةَ الْوِشَاحِ

تَبَسَّمُ عَنْ نَوْشَرَةٍ رِقَاقِ

يَمُجُّ الرَّاحَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ

كَأَنَّ لِحَاظَهَا رَشَقَاتُ نَبْلٍ

تُذِيقُ الْقَلْبَ آلَامَ الْجِرَاحِ

وَلَا عَجَبَ إِذَا كَانَتْ لِحَاظٌ

لِبَيْضَاءِ الْمَحَاجِرِ كَالرِّمَاحِ

فَكَمْ قَتَلَا كَمِّيًّا ذَا وَلَاحِي

ضَعِيفَاتُ الْجُفُونِ بِلَا سِلَاحِ

فَقُلْتُ لَهُمْ دَعُونِي إِنَّ قَلْبِي

مِنَ الْعِيِّ الصُّرَاحِ الْيَوْمَ صَاحِي

وَلِي شَغْلٌ بِأَبْكَارٍ عَذَارَى

كَأَنَّ وُجُوهَهَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ

أَرَاهَا فِي الْمَهَارِقِ لَابِسَاتٍ

بِرَاقِعَ مِنْ مَعَانِيهَا الصِّحَاحِ

أَبِيتُ مُفَكِّرًا فِيهَا فَتَضْحَى

لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ

أَبَحْتُ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا

وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحِ

نَعَمْ، إِنَّهُ كَانَ يَبِيتُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مُفَكِّرًا وَبَاحِثًا حَتَّى يُذَلِّلَ الصِّعَابَ، وَقَدْ طَابَقَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ.

حَدَّثَنِي رحمه الله قَالَ: جِئْتُ لِلشَّيْخِ فِي قِرَاءَتِي عَلَيْهِ فَشَرَحَ لِي كَمَا كَانَ يَشْرَحُ،

ص: 486

وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْفِ مَا فِي نَفْسِي عَلَى مَا تَعَوَّدْتُ، وَلَمْ يَرْوِ لِي ظَمَئِي. وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنَا أَجِدُنِي فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ بَعْضِ اللَّبْسِ وَإِيضَاحِ بَعْضِ الْمُشْكِلِ وَكَانَ الْوَقْتُ ظُهْرًا فَأَخَذْتُ الْكُتُبَ وَالْمَرَاجِعَ فَطَالَعْتُ حَتَّى الْعَصْرِ، فَلَمْ أَفْرَغْ مِنْ حَاجَتِي فَعَاوَدْتُ حَتَّى الْمَغْرِبِ فَلَمْ أَنْتَهِ أَيْضًا، فَأَوْقَدَ لِي خَادِمِي أَعْوَادًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْرَأُ عَلَى ضَوْئِهَا كَعَادَةِ الطُّلَّابِ، وَوَاصَلْتُ الْمُطَالَعَةَ وَأَتَنَاوَلُ الشَّاهِيَ الْأَخْضَرَ كُلَّمَا مَلِلْتُ أَوْ كَسِلْتُ وَالْخَادِمُ بِجِوَارِي يُوقِدُ الضَّوْءَ حَتَّى انْبَثَقَ الْفَجْرُ وَأَنَا فِي مَجْلِسِي لَمْ أَقُمْ إِلَّا لِصَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ وَإِلَى أَنِ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ دَرْسِي وَزَالَ عَنِّي لَبْسِي، وَوَجَدْتُ هَذَا الْمَحَلَّ مِنَ الدَّرْسِ كَغَيْرِهِ فِي الْوُضُوحِ وَالْفَهْمِ فَتَرَكْتُ الْمُطَالَعَةَ وَنِمْتُ، وَأَوْصَيْتُ خَادِمِي أَنْ لَا يُوقِظَنِي لِدَرْسِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اكْتِفَاءً بِمَا حَصَلْتُ عَلَيْهِ وَاسْتِرَاحَةً مِنْ عَنَاءِ سَهَرِ الْبَارِحَةِ.

فَقَدْ بَاتَ مُفَكِّرًا فِيهَا فَأَضْحَتْ

لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ

وَإِنَّ هَذَا لَدَرْسٌ لِأَبْنَائِهِ وَمَنْهَجٌ لِطُلَّابِ الْعِلْمِ فِي الصَّبْرِ وَالدَّأْبِ وَالْمُثَابَرَةِ. وَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي دِرَاسَتِي وَتَدْرِيسِي وَخَاصَّةً فِي صُورَةٍ مُشَابِهَةٍ فِي الْفَرَائِضِ لَمْ أَكُنْ دَرَسْتُهَا عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ الِاخْتِبَارُ فِي الْمَقْرُوءِ لَا فِي الْمُقَرَّرِ.

وَتِلْكَ هِيَ آفَةُ الدِّرَاسَةِ النِّظَامِيَّةِ الْيَوْمَ وَكُنْتُ كُلَّمَا ضَجِرْتُ فِي تَحْقِيقِهَا، تَذَكَّرْتُ قِصَّتَهُ رحمه الله فَصَبَرْتُ حَتَّى حَصَّلْتُهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ إِلَى هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَكِنْ كَمْ كَانَتْ لَذَّتِي وَارْتِيَاحِي.

وَمَعَ هَذِهِ الشَّاعِرِيَّةِ الرَّقْرَاقَةِ وَالْمَعَانِي الْعِذَابِ الْفَيَّاضَةِ وَالْأُسْلُوبِ السَّهْلِ الْجَزْلِ، فَقَدْ كَانَ يَتَبَاعَدُ رحمه الله عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مَعَ وَفْرَةِ حِفْظِهِ إِيَّاهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتٌ يَقُولُ فِيهَا:

أُنْقِذْتُ مِنْ دَاءِ الْهَوَى بِعِلَاجٍ

شَيْبٍ يَزِينُ مُفَارِقِي كَالتَّاجِ

قَدْ صَدَّنِي حِلْمُ الْأَكَابِرِ عَنْ لَمِيِّ

شَفَةِ الْفَتَاةِ الطَّفْلَةِ الْمِغْنَاجِ

مَاءُ الشَّبِيبَةِ زَارِعٌ فِي صَدْرِهَا

رُمَّانَتَيْ رَوْضٍ كَحُقِّ الْعَاجِ

وَكَأَنَّهَا قَدْ أَدْرَجَتْ فِي بُرْقُعٍ

يَا وَيْلَتَاهُ بِهَا شُعَاعَ سِرَاجِ

وَكَأَنَّمَا شَمْسُ الْأَصِيلِ مُذَابَةٌ

تَنْسَابُ فَوْقَ جَبِينِهَا الْوَهَّاجِ

يُعْلَى لِمَوْقِعٍ فِي خِدْرِهَا

فَوْقَ الْحَشِيَّةِ نَاعِمِ الدِّيبَاجِ

لَمْ يَبْكِ عَيْنِي بَيْنَ حَيٍّ جِيرَةً

شَدُّوا الْمَطِيَّ بِأَنْسَعِ الْأَحْدَاجِ

ص: 487

نَادَتْ بِأَنْغَامِ اللُّحُونِ حُدَاتُهُمْ

فَتَزَيَّلُوا وَاللَّيْلُ أَلْيَلُ دَاجِي

لَا تَصْطَبِينِي عَاتِقٌ فِي دَلِّهَا

رَقَّتْ فَرَاقَتْ فِي رِقَاقِ زُجَاجِ

مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا بَنَانُ مُدِيرِهَا

إِذْ لَمْ تَكُنْ مَقْتُولَةً بِمِزَاجِ

طَابَتْ نُفُوسُ الشِّرْبِ حَيْثُ أَدَارَهَا

رَشَأٌ رَمَى بِلِحَاظِ طَرْفٍ سَاجِي

أَوْ ذَاتُ عُودٍ أَنْطَقَتْ أَوْتَارَهَا

بِلُحُونِ قَوْلٍ لِلْقُلُوبِ شَوَاجِي

فَتَخَالُ رَنَّاتِ الْمَثَانِي أَحْرُفًا

قَدْ رُدِّدَتْ فِي الْحَلْقِ مِنْ مُهْتَاجِ

وَقَدْ سَأَلْتُهُ رحمه الله عَنْ تَرْكِهِ الشِّعْرَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَإِجَادَتِهِ فِيهِ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفَاضِلِ وَخَشِيتُ أَنْ أَشْتَهِرَ بِهِ، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ:

وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي

لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيَدِ

لِأَنَّ الشَّاعِرَ يَقُولُ فِي كُلِّ مَجَالٍ. وَالشِّعْرُ أَكْذَبُهُ أَعْذَبُهُ فَلَمْ أُكْثِرْ مِنْهُ لِذَلِكَ.

وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ رحمه الله عِدَّةُ مُؤَلِّفَاتٍ نَظْمًا فِي عِدَّةِ فُنُونٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَعْمَالُهُ فِي الْبِلَادِ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ رحمه الله كَعَمَلِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الدَّرْسَ وَالْفُتْيَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ بِالْقَضَاءِ وَبِالْفِرَاسَةِ فِيهِ، وَرَغْمَ وُجُودِ الْحَاكِمِ الْفَرَنْسِيِّ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاطِنِينَ كَانُوا عَظِيمِي الثِّقَةِ فِيهِ فَيَأْتُونَهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَيَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ نَازِلًا.

طَرِيقَتُهُ فِي الْقَضَاءِ: كَانَ إِذَا أَتَى إِلَيْهِ الطَّرَفَانِ اسْتَكْتَبَهُمَا رَغْبَتَهُمَا فِي التَّقَاضِي إِلَيْهِ وَقَبُولَهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ، ثُمَّ يَسْتَكْتِبُ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَيَكْتُبُ جَوَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَسْفَلَ كِتَابَةِ الدَّعْوَى وَيَكْتُبُ الْحُكْمَ مَعَ الدَّعْوَى وَالْإِجَابَةَ وَيَقُولُ لَهُمَا اذْهَبَا بِهَا إِلَى مَنْ شِئْتُمَا مِنَ الْمَشَايِخِ أَوِ الْحُكَّامِ.

أَمَّا الْمَشَايِخُ فَلَا يَأْتِي أَحَدَهُمْ قَضِيَّةٌ قَضَاهَا إِلَّا صَدَّقُوا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحُكَّامُ فَلَا تَصِلُهُمْ قَضِيَّةٌ حَكَمَ فِيهَا إِلَّا نَفَّذُوا حُكْمَهُ حَالًا. وَكَانَ يَقْضِي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَكَانَ لِلدِّمَاءِ قَضَاءٌ خَاصٌّ.

ص: 488

قَضَاءُ الدِّمَاءِ: كَانَ الْحَاكِمُ الْفَرَنْسِيُّ فِي الْبِلَادِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَعْدَ مُحَاكَمَةٍ وَمُرَافَعَةٍ وَاسِعَةِ النِّطَاقِ وَبَعْدَ تَمْحِيصِ الْقَضِيَّةِ وَإِنْهَاءِ الْمُرَافَعَةِ وَصُدُورِ الْحُكْمِ يُعْرَضُ عَلَى عَالِمَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْبِلَادِ لِيُصَادِقُوا عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى الْعَالِمَانِ لَجْنَةَ الدِّمَاءِ وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُ الْإِعْدَامِ فِي الْقِصَاصِ إِلَّا بَعْدَ مُصَادَقَتِهِمَا عَلَيْهِ.

وَقَدْ كَانَ رحمه الله أَحَدَ أَعْضَاءِ هَذِهِ اللَّجْنَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ حَتَّى عَلَا قَدْرُهُ وَعَظُمَ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَمَوْضِعَ ثِقَةِ أَهْلِهَا وَحُكَّامِهَا وَمَحْكُومِهَا.

خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ رحمه الله: كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَعَلَى نِيَّةِ الْعَوْدَةِ وَكَانَ سَفَرُهُ بَرًّا، كَتَبَ فِيهِ رِحْلَةً ضَمَّنَهَا مَبَاحِثَ جَلِيلَةً كَانَ آخِرُهَا مَبْحَثَ الْقَضَايَا الْمُوَجَّهَةِ فِي الْمَنْطِقِ مَعَ عُلَمَاءِ أُمِّ دُرْمَانَ بِالْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ بِالسُّودَانِ.

وَبَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ تَجَدَّدَتْ نِيَّةُ بَقَائِهِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ وَبَيَانِ الْوِقَاعِ ذِكْرُ سَبَبِ بَقَائِهِ: لَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِهِ كَغَيْرِهِ يَسْمَعُ الدِّعَايَةَ ضِدَّ هَذِهِ الْبِلَادِ بِاسْمِ الْوَهَّابِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الصِّدْقِ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ وِجْهَاتِ النَّظَرِ «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ» وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَنْزِلَ رحمه الله فِي بَعْضِ مَنَازِلِ الْحَجِّ بِجِوَارِ خَيْمَةِ الْأَمِيرِ خَالِدِ السّديرِيِّ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدٌ يَبْحَثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بَيْتًا فِي الْأَدَبِ وَهُوَ ذَوَّاقَةٌ أَدِيبٌ وَامْتَدَّ الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ سَأَلُوا الشَّيْخَ لَعَلَّهُ يُشَارِكُهُمْ فَوَجَدُوا بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِلْسَةِ وَذَاكَ الْمَنْزِلِ تَعَدَّلَتِ الْفِكْرَةُ بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْخَيْمَةُ بِدَايَةَ مُنْطَلَقٍ لِفِكْرَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَوْصَاهُ الْأَمِيرُ إِنْ هُوَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِالشَّيْخَيْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الزَّاحِمِ رحمه الله وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ.

وَفِي الْمَدِينَةِ الْتَقَى بِهِمَا رحمه الله. وَكَانَ صَرِيحًا مَعَهُمَا فِيمَا يَسْمَعُ عَنِ الْبِلَادِ وَكَانَا حَكِيمَيْنِ فِيمَا يَعْرِضَانِ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ مَذْهَبٍ فِي الْفِقْهِ وَمَنْهَجٍ فِي الِعَقِيدَةِ.

وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مُبَاحَثَةً مَعَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ. وَأَخِيرًا قَدَّمَ لِلشَّيْخِ كِتَابَ الْمُغْنِي كَأَصْلٍ لِلْمَذْهَبِ وَبَعْضَ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كَمَنْهَجٍ لِلْعَقِيدَةِ، فَقَرَأَهَا الشَّيْخُ وَتَعَدَّدَتِ اللِّقَاءَاتُ وَطَالَتِ الْجِلْسَاتُ فَوَجَدَ الشَّيْخُ مَذْهَبًا مَعْلُومًا لِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله.

ص: 489

كَمَا وَجَدَ مَنْهَجًا سَلِيمًا لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ تَعْتَمِدُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَذَهَبَ زَيْفُ الدِّعَايَاتِ الْبَاطِلَةِ وَظَهَرَ مَعْدِنُ الْحَقِيقَةِ الصَّحِيحَةِ، وَتَوَطَّدَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَجَدَّدَتْ رَغْبَةٌ مُتَبَادَلَةٌ فِي بَقَائِهِ لِإِفَادَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَرَغِبَ رحمه الله فِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَتَمَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنْ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله وَكَانَ الشَّيْخَانِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَدَرَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ الصَّرْفَ وَالْبَيَانَ عَلَيْهِ. رَحِمَ اللَّهُ الْمَوْتَى وَحَفِظَ اللَّهُ الْأَحْيَاءَ.

وَهُنَا كَلِمَةٌ يَجِبُ أَنْ تُقَالَ لِلْحَقِيقَةِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً نَضَعُهَا فِي مِيزَانِ الْعَدَالَةِ وَقَانُونِ الْإِنْصَافِ: لَقَدْ كَانَ لِجُلُوسِ الشَّيْخِ رحمه الله فَائِدَةٌ مُزْدَوِجَةٌ اسْتَفَادَ وَأَفَادَ.

أَمَّا اسْتِفَادَتُهُ فَأَمْرٌ حَتْمِيٌّ وَمَنْطِقُهُ عِلْمِيٌّ لِلْآتِي:

وَهُوَ أَنَّ مَنْهَجَ الدِّرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ كَانَ مُنْصَبًّا أَكْثَرَ مَا يَكُونُ عَلَى الْفِقْهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَطْ. وَعَلَى الْعَرَبِيَّةِ مَتْنًا وَأُسْلُوبًا، وَالْأُصُولِ وَالسِّيرَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رحمه الله دَرَسَ الْمَنْطِقَ بِالْمُطَالَعَةِ وَلَمْ تَكُنْ دِرَاسَةُ الْحَدِيثِ تَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ غَيْرُهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَكَانَ الشَّيْخُ رحمه الله إِمَامًا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ فِي الْبِلَادِ.

وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْبَقَاءِ وَبَدَأَ التَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ وَجَدَ مَنْ يُمَثِّلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَنْ يُنَاقِشُ فِيهَا، وَوَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دِرَاسَةً لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. بَلْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِجَانِبِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِمَا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْهَبِيَّ لَا يُنْهِيهِ إِلَّا الْحَدِيثُ أَوِ الْقُرْءَانِ، فَكَانَ لِزَامًا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَاعَدَ الشَّيْخَ عَلَى هَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِيعَابِ وَقُوَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَدِقَّةِ التَّرْجِيحِ مَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ مِنْ فَنِّ الْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَعَ تَوَسُّعِهِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَبِالْأَخَصِّ الْمَجَامِيعُ كَنَيْلِ الْأَوْطَارِ وَفَتْحِ الْبَارِي وَغَيْرِهَا.

وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِهِ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ حِينَمَا يَعْرِضُ لِمَبْحَثٍ فِقْهِيٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَيُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَقْلًا كَانَ أَوْ نَقْلًا.

وَهَذَا الْمَنْهَجُ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ، الدَّأْبُ عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَمُوَاصَلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَالتَّنْقِيحِ.

ص: 490

أَمَّا فِي الْعَقِيدَةِ فَقَدْ بَلْوَرَهَا مَنْطِقًا وَدَلِيلًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا فِي مُحَاضَرَةِ آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي أَوَّلِ مُحَاضَرَاتِ الْجَامِعَةِ ثُمَّ بَسَطَهَا وَوَضَّحَهَا إِيضَاحًا شَافِيًا فِي أُخْرَيَاتِ حَيَاتِهِ، فِي كِتَابَيْ آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ دَلِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَعَرْضًا وَإِقْنَاعًا. وَمِنْ آثَارِ بَيَانِهِ لَهَا وَأُسْلُوبِهِ فِيهَا مَا قَالَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيْخِ رحمه الله لَمَّا سَمِعَ بَيَانَ الشَّيْخِ لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَالَ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا الشَّيْخَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ خَيْرًا عَلَى بَيَانِهِ هَذَا، فَالْجَاهِلُ عَرَفَ الْعَقِيدَةَ، وَالْعَالِمُ عَرَفَ الطَّرِيقَ وَالْأُسْلُوبَ.

وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ تَضَعُ بَيْنَ يَدَيْ طَالِبِ الْعِلْمِ مَنْهَجَ الِاسْتِزَادَةِ فِي التَّحْصِيلِ وَطُمُوحَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ أَبَدًا: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ مَالٍ هَذَا جَانِبُ اسْتِفَادَتِهِ، أَمَّا جَانِبُ إِفَادَتِهِ فَهُوَ مَا سَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَوَّلًا: فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: يُعْتَبَرُ التَّدْرِيسُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنْ أَهَمِّ التَّدْرِيسِ فِي كُبْرَيَاتِ جَامِعَاتِ الْعَالَمِ، فِي نَشْرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْجَامِعَةُ الْأُولَى لِلتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مُنْذُ عَهْدِ النُّبُوَّةِ. وَحِينَ كَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَأْتِي لِتَعْلِيمِ الْإِسْلَامِ فِي مَجَالِسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَمُنْذُ كَانَتْ مَجَالِسُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. إِذْ كَانَتِ الْمَدِينَةُ الْعَاصِمَةَ الْعِلْمِيَّةَ وَظَلَّتْ مُحَافِظَةً عَلَى مَرْكَزِهَا الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ تَخْلُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ مِنْ عَالِمٍ يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا.

وَقَبْلَ مَجِيءِ الشَّيْخِ رحمه الله كَانَ قَبْلَهُ الشَّيْخُ الطَّيِّبُ رحمه الله نَفَعَ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 1363 هـ. فَكَانَ جُلُوسُ الشَّيْخِ رحمه الله لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ امْتِدَادًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ، مَعَ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ آنَذَاكَ مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ دَرْسُ الشَّيْخِ فِي التَّفْسِيرِ، خَتَمَ الْقُرْءَانَ مَرَّتَيْنِ.

مَنْهَجُهُ فِي دَرْسِهِ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَوْضُوعٍ فَهُوَ شَامِلٌ عَامٌّ بِشُمُولِ الْقُرْءَانِ وَعُمُومِهِ، فَكَانَ الْمَنْهَجُ أَوَّلًا بَيَانَ الْمُفْرَدَاتِ ثُمَّ الْإِعْرَابَ وَالتَّصْرِيفَ ثُمَّ الْبَلَاغَةَ مَعَ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا يُورَدُ.

ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْأَحْكَامِ إِنْ كَانَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ فِقْهًا، فَيَسْتَقْصِي بِاسْتِنْتَاجِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ وَالتَّرْجِيحِ لِمَا يَظْهَرُ لَهُ. وَيَدْعَمُ ذَلِكَ بِالْأُصُولِ وَبَيَانِ الْقُرْءَانِ وَعُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ عَامٍّ

ص: 491

وَخَاصٍّ وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَأَسْبَابِ نُزُولٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي قَصَصٍ أَظْهَرَ الْعِبَرَ مِنَ الْقِصَّةِ وَبَيَّنَ تَارِيخَهَا وَقَدْ يَرْبِطُ الْحَاضِرَ بِالْمَاضِي كَرَبْطِ تَكَشُّفِ النِّسَاءِ الْيَوْمَ بِفِتْنَةِ إِبْلِيسَ لِحَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، وَفِتْنَتِهِ لِلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى طَافُوا بِالْبَيْتِ عَرَايَا رِجَالًا وَنِسَاءً وَهَا هُوَ يَسْتَدْرِجُهُنَّ فِي التَّكَشُّفِ شَيْئًا فَشَيْئًا. بَدَأَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ ثُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الذِّرَاعَيْنِ. . . إلخ. فَكَانَ أُسْلُوبًا عِلْمِيًّا وَتَرْبَوِيًّا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ أَحْكَامًا وَحُكْمًا.

وَكَانَ دَرْسُهُ أَشْبَهَ بِحَدِيقَةٍ غَنَّاءَ احْتَوَتْ أَشْهَرَ الثِّمَارِ وَأَجْمَلَ الْأَزْهَارِ، فِي تَنْسِيقِ الْغَرْسِ وَجَمَالِ الْجَدَاوِلِ تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتَشْفِي الْقَلْبَ وَتَرُوقُ لِلْعَيْنِ. فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا طَابَ لَهُ وَمَا وَسِعَهُ.

وَقَدْ يَسْتَطْرِدُ لِلْقَاعِدَةِ بِمَبْحَثٍ كَامِلٍ كَمَا اسْتَطْرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي رَدِّهِ الْقِيَاسَ بِإِتْيَانِهِ بِأَنْوَاعِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وَقَدْ طُبِعَ فِي نِهَايَةِ مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ. وَبِهَذَا الشُّمُولِ وَالِاسْتِقْصَاءِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ مَجَالًا لِسُؤَالٍ وَلَمْ يَبْقَ لِذِي حَاجَةٍ تَسَاؤُلٌ.

وَأَذْكُرُ كَلِمَةً لِقَاضِي قَرْيَةِ «قرو» فِي مُورِيتَانْيَا بَعْدَ أَنْ سُئِلَ رحمه الله عَنْ مَهَامَّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَجَابَ إِجَابَةً مُسْتَفِيضَةً مُفَصَّلَةً كَافِيَةً. قَالَ قَاضِي قرو: لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ هُنَا كَلَامٌ فَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ. وَلَا سُؤَالَ فَقَدْ زَالَ اللَّبْسُ، وَإِنَّ الْحُضُورَ بَيْنَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ، عَالِمٌ فَقَدْ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ سُؤَالٌ، وَجَاهِلٌ فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ.

فَكَانَ نَفْعُهُ رحمه الله فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلْمُقِيمِ وَالْقَادِمِ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي نَفْعًا عَظِيمًا.

ثَانِيًا: فِي سَنَةِ 1371 هـ افْتُتِحَتِ الْإِدَارَةُ الْعَامَّةُ بِالرِّيَاضِ عَلَى مَعْهَدٍ عِلْمِيٍّ، تَلَاهُ عِدَّةُ مَعَاهِدَ وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ وَاللُّغَةِ.

وَاخْتِيرَ لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ نُخْبَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ دَاخِلِ وَخَارِجِ الْمَمْلَكَةِ. وَكَانَ رحمه الله مِمَّنِ اخْتِيرَ لِذَلِكَ فَتَوَلَّى تَدْرِيسَ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ إِلَى سَنَةِ 1381 هـ حِينَ افْتُتِحَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْمَدِينَةِ.

آثَارُهُ فِي الرِّيَاضِ: كَانَتْ مُدَّةُ اخْتِيَارِهِ لِلتَّدْرِيسِ بِالرِّيَاضِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ، يَعُودُ

ص: 492

لِقَضَاءِ الْعُطْلَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ عَمَلُهُ فِي التَّدْرِيسِ بِالْمَعْهَدِ وَالْكُلْيَةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُدَرِّسِينَ. وَلَكِنْ لِبَيَانِ أَثَرِهِ حَقِيقَةً نُورِدُ نُبْذَةً عَنِ الْحَالَةِ الْعِلْمِيَّةِ آنَذَاكَ بِالرِّيَاضِ.

كَانَتِ الرِّيَاضُ عَاصِمَةَ نَجْدٍ عِلْمِيًّا وَسِيَاسِيًّا وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهَا طُلَّابُ الْعِلْمِ مِنْ أَنْحَاءِ نَجْدٍ لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ آلِ الشَّيْخِ. وَكَانَ مَرْكَزُ الدِّرَاسَةِ وَالتَّدْرِيسِ فِي الْمَسَاجِدِ إِلَّا خَوَاصَّ الطُّلَّابِ لَدَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فَيَدْرُسُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الدُّرُوسِ فِي بَيْتِهِ ضُحًى، وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ عِمَادُهَا التَّوْحِيدُ وَالْفِقْهُ وَالتَّفْسِيرُ وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ وَالسِّيرَةُ وَالنَّحْوُ، وَكَانَتْ دِرَاسَةً مُبَارَكَةً تَخَرَّجَ عَلَيْهَا جَمِيعُ عُلَمَاءِ نَجْدٍ، حَتَّى جَاءَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ، أَوْ تَنْظِيمُ الدِّرَاسَةِ الْجَدِيدُ فِي عَامِ 1371 هـ.

نَشْأَةُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ: كَانَتْ نَشْأَتُهَا كَمَا سُمِعْتُ مِنْهُ رحمه الله اسْتِجَابَةً لِرَغْبَةِ الْمَرْحُومِ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله. قَالَ لِجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ فِي مَجْلِسِهِ الْخَاصِّ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّيَاضُ مَلِيئَةً بِالْعُلَمَاءِ عَامِرَةً بِالدُّرُوسِ. وَانْتَقَلَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَخْلُفْهُمْ مَنْ يُمَاثِلُهُمْ، وَأَرَدْتُ تَعَاوُنَكُمْ مَعَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فِي تَرْبِيَةِ جِيلٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ، فَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْمَسْؤُولِيَّةِ. فَكَانَتْ هَذِهِ النَّهْضَةُ تَرْعَاهَا عِنَايَةٌ مَلَكِيَّةٌ وَتَقُومُ عَلَيْهَا كَفَاءَةٌ عِلْمِيَّةٌ، تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمَعْهَدِ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَرِئَاسَتُهُ لِسَمَاحَةِ الْمُفْتِي، وَافْتُتِحَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى طُلَّابِ حِلَقِ الْمَسَاجِدِ الْأَكْفَاءِ وَفِيهِمْ خَوَاصُّ طُلَّابِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَأَبْنَاؤُهُ. صُنِّفَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ ثَانَوِيَّةٍ وَمِنْهَا إِلَى الْكُلِّيَّةِ، يُغَذِّي هَذَا الْقِسْمَ قِسْمٌ تَمْهِيدِيٌّ يَأْخُذُ مِنْ رَابِعَةِ ابْتِدَائِيٍّ وَيَدْرُسُ خَامِسَةَ وَسَادِسَةَ وَمِنْ ثَمَّ لِلْمَعْهَدِ الثَّانَوِيِّ فَالْكُلِّيَّتَيْنِ.

الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيُّ: وُضِعَ الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيَّ لِتِلْكَ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَسَاسٍ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَتَكْمِيلٍ مِنَ الْمَوَادِّ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَعُلُومِ الْآلَةِ مِنْ مُصْطَلَحٍ وَأُصُولٍ حَتَّى الْحِسَابِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْخَطِّ وَالْإِمْلَاءِ وَالتَّجْوِيدِ. فَكَانَ قَوِيًّا فِي مَوْضُوعِهِ شَامِلًا فِي مَنْهَجِهِ. وَكَانَ الطُّلَّابُ مِنَ الصَّفْوَةِ الَّذِينَ دَرَسُوا فِي الْمَسَاجِدِ الْمُتَعَطِّشِينَ لِلْعُلُومِ مُتَطَلِّعِينَ لِلتَّوَسُّعِ وَكَانَ الْقَائِمُونَ عَلَى التَّدْرِيسِ نُخْبَةً مُمْتَازَةً مِنَ الْأَجِلَةِ الْفُضَلَاءِ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَزْهَرِيِّينَ. فَكَانَ الْجَوُّ حَقًّا جِدًّا عِلْمِيًّا الْتَقَتْ فِيهِ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنْ طُلَّابٍ جَيِّدِينَ مَعَ عَزِيمَةٍ مَاضِيَةٍ مِنْ مَشَايِخَ مُجْتَهِدِينَ. كَانَ يَسُودُهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّ هَذِهِ طَلِيعَةُ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاسِعَةٍ، وَكَانَ رحمه الله كَوَالِدٍ لِلْجَمِيعِ وَكَانَ دَرْسُهُ التَّفْسِيرَ وَالْأُصُولَ. فَكَانَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَجَالُ الْوَاسِعُ لِجَمِيعِ

ص: 493

الْمَوَادِّ وَالْعُلُومِ. وَكَانَ مَعَ الْتِزَامِهِ بِالْمَنْهَجِ وَالْحِصَصِ إِذَا تَنَاوَلَ بَحْثًا فِي أَيِّ مَادَّةٍ يَخَالُهُ السَّامِعُ مُخْتَصًّا فِيهَا، فَعَرَفَ لَهُ الْجَمِيعُ قَدْرَهُ وَتَطَلَّعَ الْجَمِيعُ إِلَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى الْمُدَرِّسُونَ: وَقَدْ رَغِبَ الْمُدَرِّسُونَ آنَذَاكَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَاسْتِيعَابِ دَقَائِقِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ فَضِيلَتِهِ رحمه الله. خُصِّصَ لِذَلِكَ مَجْلِسٌ خَاصٌّ فِي صَحْنِ الْمَعْهَدِ بِدُخْنِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ: وَفِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رحمه الله بَدَأَ دَرْسُ الْأُصُولِ لِكِبَارِ الطَّلَبَةِ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، حَضَرَهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَكَانَ يَتَوَافَدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الرِّيَاضِ، وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْإِفْرِيقِيُّ رحمه الله يَدْرُسُ الْحَدِيثَ وَكَانَ دَرْسُ الْأُصُولِ بِمَثَابَةِ فَتْحٍ جَدِيدٍ فِي هَذَا الْفَنِّ

فِي بَيْتِهِ رحمه الله: وَلَمَّا كَانَ الدَّرْسُ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ عَامًّا - وَفِي الطَّلَبَةِ مِنْ خَوَاصِّهِمْ رَغِبُوا فِي دَرْسٍ خَاصٍّ فِي بَيْتِهِ رحمه الله، فَكَانَ لَهُمْ دَرْسٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَكَانَ بَيْتُهُ رحمه الله كَمَدْرَسَةٍ سَوَاءٌ لِأَبْنَائِهِ الَّذِينَ رَافَقُوهُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمْلَى شَرْحًا عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي بَيْتِهِ عَلَى أَخِينَا أَحْمَدَ الْأَحْمَدِ الشِّنْقِيطِيِّ.

لَقَدْ كَانَ لِتَدْرِيسِهِ هَذَا سَوَاءٌ رَسْمِيَّا فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْمَنْزِلِ - كَانَ لَهُ أَثَرٌ طَيِّبٌ وَنَتَائِجُ حَسَنَةٌ لَا يَسَعُ مُتَحَدِّثٌ التَّحَدُّثَ عَنْهَا بِقَدْرِ مَا تَحَدَّثَتْ هِيَ عَنْ نَفْسِهَا فِي أَعْمَالِ كَافَّةِ الْمُتَخَرِّجِينَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاهِدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ الْمُنْتَشِرَتَيْنِ فِي أَنْحَاءِ الْمَمْلَكَةِ الْمُبْرِزِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفِي أَعْلَى مَنَاصِبَ فِي كَافَّةِ الْوِزَارَاتِ.

وَلَا يُغَالِي مَنْ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ مَنْ تَخَرَّجَ أَوْ يَتَخَرَّجُ فَهُوَ إِمَّا تِلْمِيذٌ لَهُ أَوْ لِتَلَامِيذِهِ فَهُمْ بِمَثَابَةِ أَبْنَائِهِ وَأَحْفَادِهِ وَكَفَى.

تَقْدِيرُ الْمَسْؤُولِينَ لَهُ: لَقَدْ كَانَ بِعِلْمِهِ وَنُصْحِهِ وَجُهْدِهِ وَعِفَّتِهِ مَوْضِعَ تَقْدِيرٍ مِنْ جَمِيعِ الْمَسْؤُولِينَ وَبِالْأَخَصِّ أَصْحَابُ الْفَضِيلَةِ آلُ الشَّيْخِ وَصَاحِبُ الْجَلَالَةِ الْمَلِكُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَصَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلَكِيِّ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَقْدِيرًا لَهُ. وَقَدْ مَنَحَهُ جَلَالَةُ الْمَلِكِ رحمه الله أَمْرًا بِالْجِنْسِيَّةِ لِجَمِيعِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ وَفِي كَفَالَتِهِ ثِقَةً بِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ.

وَلَمَّا زَارَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ الْخَامِسُ مَلِكُ الْمَغْرِبِ الرِّيَاضَ اسْتَأْذَنَ فِي صُحْبَةِ الشَّيْخِ إِلَى

ص: 494

الْمَدِينَةِ فَرَافَقَهُ تَقْدِيرًا وَإِكْرَامًا وَأَلْقَى مُحَاضَرَتَهُ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِحُضُورِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ بِعُنْوَانِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا وَقَدْ طُبِعَتْ مَرَّتَيْنِ.

وَهَكَذَا قَدِمَ الرِّيَاضَ رحمه الله فِي تَرْحِيبٍ وَإِكْرَامٍ وَانْتَقَلَ مِنْهَا فِي إِعْزَازٍ وَإِكْبَارٍ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِيهَا أَطْيَبَ الْآثَارِ، وَسَاهَمَ فِي أَكْبَرِ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ.

دَوْرُهُ رحمه الله فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: إِنَّ مَنْ يَعْرِفُ نَشْأَةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ الْحَرَكَةَ الْعِلْمِيَّةَ الْحَدِيثَةَ بِالرِّيَاضِ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ امْتِدَادٌ لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ.

وَالْمُتَتَبِّعُ لِلْحَرَكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَدَارُكٌ لِلتَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا أُصِيبَتْ بَعْضُ دُورِ الْعِلْمِ الْكُبْرَى بِهِزَّاتٍ فِي بَرَامِجِهَا.

فَكَانَ إِيجَادُهَا امْتِدَادًا لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ وَمَجِيئُهَا آنَذَاكَ تَدَارُكًا لِبَعْضِ مَا فَاتَ، وَلَعَلَّهَا جُزْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ عَقِيدَةٌ وَعَمَلٌ وَالْعِلْمُ قَبْلَهُ.

وَمِنْ هُنَا نُجَدِّدُ أَوْ نَتَذَكَّرُ أَهَمِّيَّةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَدَى وُجُودِهَا بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَبِالتَّالِي مَجِيءُ أَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ إِلَيْهَا لِلدِّرَاسَةِ وَلِلتَّرْبِيَةِ فِي هَذَا الْجَوِّ الرُّوحِيِّ لِتَبْرُزَ لَنَا قِيمَةُ الْعَمَلِ فِي الْجَامِعَةِ وَأَنَّ رِسَالَتَهَا تَرْبَوِيَّةٌ بِجَانِبِ أَنَّهَا عِلْمِيَّةٌ، وَأَنَّهَا مَنَعَتِ الِانْتِسَابَ دُونَ الْحُضُورِ لِهَذَا الْغَرَضِ نَفْسِهِ.

وَقَدْ كَانَ لِوَالِدِنَا رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَجَالَاتِ الْيَدُ الطُّولَى وَالْمَجْهُودُ الْأَكْبَرُ فَلَمْ يَدَّخِرْ وِسْعًا فِي تَعْلِيمٍ وَلَمْ يَتَوَانَ فِي تَوْجِيهٍ، سَوَاءٌ فِي دُرُوسِهِ أَوْ أَحَادِيثِهِ أَوْ مُحَاضَرَاتِهِ مَعَ الطُّلَّابِ أَوِ الْمُدَرِّسِينَ فَكَانَ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَالدَّاعِيَةِ النَّاصِحِ الْأَمِينِ. تَحَمَّلَ عَنْهُ تَلَامِيذُهُ إِلَى أَنْحَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا وَصَلَتْ مِنَحُ الدِّرَاسَةِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِبُلْدَانِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ وَلَوِ ادِّعَاءً أَوْ تَجَوُّزًا إِنَّهُ كَانَ بِحَقٍّ فِي مَنْزِلَةِ [الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ] ، فِي هَذَا الْوَقْتِ. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

وَقَدْ كَانَ بِجَانِبِ التَّعْلِيمِ عُضْوَ مَجْلِسِ الْجَامِعَةِ سَاهَمَ فِي سَيْرِهَا وَمَنَاهِجِهَا،

ص: 495

كَمَا سَاهَمَ فِي إِنْتَاجِهَا وَتَعْلِيمِهَا.

وَفِي سَنَةِ 86 هـ افْتُتِحَ مَعْهَدُ الْقَضَاءِ الْعَالِي بِالرِّيَاضِ بِرِآسَةِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَفِيفِي وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ فِيهِ ابْتِدَاءً عَلَى نِظَامِ اسْتِقْدَامِ الْأَسَاتِذَةِ الزَّائِرِينَ فَكَانَ رحمه الله مِمَّنْ يَذْهَبُ لِإِلْقَاءِ الْمُحَاضَرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ.

قَدِ امْتَدَّ نَشَاطُهُ خَارِجَ الْمَمْلَكَةِ: إِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَتَحَتْ لِلْبِلَادِ نَوَافِذَ تُطِلُّ مِنْهَا عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، وَجَعَلَتْ مِنْ حَقِّ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ رِعَايَتِهِمْ، وَحَقِّ تِلْكَ الْأَقْطَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْوِيَةِ أَوَاصِرِ الرَّوَابِطِ. فَكَانَتْ فِكْرَةُ إِرْسَالِ بَعَثَاتٍ إِلَى الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَخَاصَّةً إِفْرِيقْيَا، فَكَانَ رحمه الله عَلَى رَأْسِ بَعْثَةِ الْجَامِعَةِ إِلَى عَشْرِ دُوَلٍ أَفْرِيقِيَّةٍ بَدَأَتْ بِالسُّودَانِ، وَانْتَهَتْ بِمُورِيتَانْيَا مَوْطِنِ الشَّيْخِ رحمه الله، كَانَ لِهَذِهِ الْبَعْثَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَعْظَمُ الْأَثَرِ، وَأَذْكُرُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْبِلَادِ بِمُورِيتَانْيَا وَفِي حَفْلِ تَكْرِيمٍ لِلْبَعْثَةِ وَكَلَ إِلَيَّ فَضِيلَتُهُ رحمه الله كَلِمَةَ الْجَوَابِ فَكَانَ مِنْهَا أَنَّ الذِّكْرَيَاتِ لَتَتَحَدَّثُ وَإِنَّهَا لَسَاعَةٌ عَجِيبَةٌ أَدَارَتْ عَجَلَةَ الزَّمَانِ حَيْثُ نَشَأَ الشَّيْخُ فِي بِلَادِكُمْ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحِجَازِ ثُمَّ هَا هُوَ يَعُودُ إِلَيْكُمْ عَلَى رَأْسِ وَفْدٍ وَرِئَاسَةِ بَعْثَةٍ فَقَدْ نَبَتَتْ غَرْسَةُ عِلْمِهِ هُنَا عِنْدَكُمْ فَذَهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَنَمَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فَامْتَدَّتْ أَغْصَانُهَا حَتَّى شَمَلَتْ بِوَارِفِ ظِلِّهَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَهَا نَحْنُ فِي مَوْطِنِهِ نَجْنِي ثِمَارَ غَرْسِهَا وَنَسْتَظِلُّ بِوَارِفِ ظِلِّهَا. فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّحْلَةُ حَقًّا حَلْقَةَ اتِّصَالٍ وَتَجْدِيدَ عَهْدٍ وَإِحْيَاءَ مَعَالِمٍ لِلْإِسْلَامِ.

وَكَانَ لَهُ رحمه الله الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ وَالْمُحَادَثَاتِ سُجِّلَتْ كُلُّهَا فِي أَشْرِطَةٍ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً، آمُلُ أَنْ أُوَفَّقَ لِنَقْلِهَا وَطَبْعِهَا إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَضُمُّ إِلَيْهَا مَنْهَجَهُ وَسُلُوكَهُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصِغَارِ الطُّلَّابِ وَالْعَوَامِّ مِمَّا يَرْسُمُ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

فِي هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ: وَكَمَا شُكِّلَتْ هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رحمه الله، وَهِيَ أَكْبَرُ هَيْئَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ. كَانَ رحمه الله أَحَدَ أَعْضَائِهَا. وَقَدْ تَرَأَّسَ إِحْدَى دَوْرَاتِهَا فَكَانَتْ لَهُ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ وَالنَّتَائِجُ الْحَمِيدَةُ. سَمِعْتُ فَضِيلَةَ الشَّيْخِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ وَهُوَ عُضْوٌ فِيهَا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ أَحْسَنَ إِدَارَةً مِنْهُ مَعَ بُعْدِ نَظَرٍ فِي الْأُمُورِ، وَحُسْنِ تَدَبُّرٍ لِلْعَوَاقِبِ.

فِي الرَّابِطَةِ: وَفِي رَابِطَةِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كَانَ عُضْوَ الْمَجْلِسِ التَّأْسِيسِيِّ لَمْ تَقِلَّ

ص: 496

خِدْمَاتُهُ فِيهِ عَنْ خِدْمَاتِهِ فِي غَيْرِهَا. أَذْكُرُ لَهُ مَوْقِفًا حَدَّثَنِي بِهِ، جَنَّبَ الرَّابِطَةَ مَأْزِقًا كَادَ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا شِقَاقًا أَوِ انْثِلَامًا.

حِينَمَا قَدِمَ مَنْدُوبُ إِيرَانَ وَقَدَّمَ طَلَبًا بِاعْتِرَافِ الرَّابِطَةِ بِالْمَذْهَبِ الْجَعْفَرِيِّ وَمَعَهُ وَثِيقَةٌ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ذَاتِ الْوَزْنِ الْكَبِيرِ تُؤَيِّدُهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَتُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ. فَإِنْ قَبِلُوا طَلَبَهُ دَخَلُوا مَأْزِقًا وَإِنْ رَفَضُوهُ وَاجَهُوا حَرَجًا فَاقْتَرَحُوا أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ فَضِيلَتُهُ رحمه الله فِي جِلْسَةٍ خَاصَّةٍ. فَأَجَابَ فِي الْمَجْلِسِ قَائِلًا: لَقَدِ اجْتَمَعْنَا لِلْعَمَلِ عَلَى جَمْعِ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَتَرَابُطِهِمْ أَمَامَ خَطَرِ عَدُوِّهِمْ، وَنَحْنُ الْآنَ مُجْتَمِعُونَ مَعَ الشِّيعَةِ فِي أُصُولٍ هِيَ:

الْإِسْلَامُ دِينُ الْجَمِيعِ وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَسُولُ الْجَمِيعِ، وَالْقُرْآنُ كِتَابُ اللَّهِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْجَمِيعِ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمُجْتَمِعُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَتْلٍ وَشُرْبٍ وَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّرَابُطِ. وَهُنَاكَ أُمُورٌ نَعْلَمُ جَمِيعًا أَنَّنَا نَخْتَلِفُ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مَثَارُ بَحْثِهَا، فَإِنْ رَغِبَ الْعُضْوُ الْإِيرَانِيُّ بَحْثَهَا وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فِيهَا فَلْيَخْتَرْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ جَمَاعَةً وَنَخْتَارُ لَهُمْ جَمَاعَةً وَيَبْحَثُونَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَيُعْلَنُ الْحَقُّ وَيُلْتَزَمُ بِهِ. أَوْ يَسْحَبُ طَلَبَهُ الْآنَ. فَأَقَرَّ الْجَمِيعُ قَوْلَهُ وَسَحَبَ الْعُضْوُ طَلَبَهُ.

وَهَكَذَا كَانَ رحمه الله حَكِيمًا فِي تَعْلِيمِهِ حَكِيمًا فِي دَعْوَتِهِ حَكِيمًا فِي بَحْثِهِ وَإِقْنَاعِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ.

مُؤَلَّفَاتُهُ رحمه الله: لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ يَحْكِي شَخْصِيَّةَ مُؤَلِّفِهِ فِي عِلْمِهِ وَفِي عَقْلِهِ بَلْ وَفِي اتِّجَاهِهِ كَمَا قَالُوا: مَنْ أَلَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ، أَيْ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ مَا عِنْدَهُ عَلَى أَنْظَارِ النَّاسِ. وَلِلشَّيْخِ تَآلِيفٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا فِي بِلَادِهِ وَمِنْهَا هُنَا. فَمَا كَانَ فِي بِلَادِهِ هُوَ:

1 -

فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ نَظْمًا، أَلَّفَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ:

سَمَّيْتُهُ بِخَالِصِ الْجُمَانِ فِي ذِكْرِ أَنْسَابِ بَنِي عَدْنَانَ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ دَفَنَهُ قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى نِيَّةِ التَّفَوُّقِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَقَدْ لَامَهُ مَشَايِخُهُ عَلَى دَفْنِهِ وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ وَتَحْسِينُهَا.

ص: 497

2 -

رَجَزٌ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ يَخْتَصُّ بِالْعُقُودِ فِي الْبُيُوعِ وَالرُّهُونِ، وَهُوَ آلَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِي أَوَّلِهِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ نَدَبَا

لِأَنْ نَمِيزَ الْبَيْعَ عَنْ لَبْسِ الرِّبَا

وَمَنَّ بِالْمُؤَلِّفِينَ كُتُبًا

تَتْرُكُ أَطْوَادَ الْجَهَالَةِ هَبًّا

تَكْشِفُ عَنْ عَيْنِ الْفُؤَادِ الْحُجُبَا

إِذَا حِجَابٌ دُونَ عِلْمٍ ضُرِبَا

3 -

أَلْفِيَّةٌ فِي الْمَنْطِقِ - أَوَّلُهَا:

حَمْدًا لِمَنْ أَظْهَرَ لِلْعُقُولِ

حَقَائِقَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ

وَكَشَفَ الرَّيْنَ عَنِ الْأَذْهَانِ

بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ

وَفَتَحَ الْأَبْوَابِ لِلْأَلْبَابِ

حَتَّى اسْتَبَانَتْ مَا وَرَاءَ الْبَابِ

4 -

نَظْمٌ فِي الْفَرَائِضِ: أَوَّلُهَا:

تِرْكَةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْخَامِصِ

مِنْ خَمْسَةٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ سَادِسِ

وَحَصْرُهَا فِي الْخَمْسَةِ اسْتِقْرَاءٌ

وَانْبِذْ لِحَصْرِ الْعَقْلِ بِالْعَرَاءِ

أَوَّلُهَا الْحُقُوقُ بِالْأَعْيَانِ

تَعَلَّقَتْ كَالرَّهْنِ أَوْ كَالْجَانِي

وَكَزَكَاةِ التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ

إِنْ مَاتَ بَعْدَ زَمَنِ الْوُجُوبِ

وَكُلُّ هَذِهِ الْمُؤَلَّفَاتِ مَخْطُوطَةٌ.

أَمَّا مُؤَلَّفَاتُهُ هُنَا فَهِيَ:

1 -

مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ. وَمَوْضُوعُهَا إِبْطَالُ إِجْرَاءِ الْمَجَازِ فِي آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِيفَاؤُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا بَعْدُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ.

2 -

دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ، أَبَانَ فِيهِ مَوَاضِعَ مَا يُشْبِهُ التَّعَارُضَ فِي الْقُرْءَانِ كُلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَأَنَّ السُّؤَالَ مُتَنَوِّعٌ وَالْمَوَاقِفَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ طُبِعَ وَمَا قَبْلَهُ وَنَفِدَا.

ص: 498

3 -

مُذَكِّرَةُ الْأُصُولِ عَلَى رَوْضَةِ النَّاظِرِ: جَمَعَ فِي شَرْحِهَا أُصُولَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَالَتَالِي الشَّافِعِيَّةِ. مُقَرَّرَةٌ عَلَى كُلِّيَّتَيِ الشَّرِيعَةِ وَالدَّعْوَةِ.

4 -

آدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ: أَوْضَحَ فِيهِ آدَابَ الْبَحْثِ مِنْ إِيرَادِ الْمَسَائِلِ وَبَيَانِ الدَّلِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُوَ أَيْضًا مُقَرَّرٌ فِي الْجَامِعَةِ وَمِنْ جُزْأَيْنِ.

5 -

أَضْوَاءُ الْبَيَانِ لِتَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ: وَهُوَ مَدْرَسَةٌ كَامِلَةٌ يَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهِ، طُبِعَ مِنْهُ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ كِبَارٍ وَالسَّابِعُ تَحْتَ الطَّبْعِ، وَصَلَ فِيهِ رحمه الله إِلَى نِهَايَةِ «قَدْ سَمِعَ» . وَلَعَلَّ اللَّهَ يُسَيِّرُ وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْمَلُ إِلَى إِكْمَالِهِ وَلَوْ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ. وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهُ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وَهُنَا الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ ذَاتِ الْمَوَاضِيعِ الْمُسْتَقِلَّةِ طُبِعَتْ كُلُّهَا وَنَفِدَتْ وَهِيَ:

1 -

آيَاتُ الصِّفَاتِ: أَوْضَحَ فِيهَا تَحْقِيقَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ.

2 -

حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ: عَالَجَ فِيهَا الْعَدِيدَ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهِ.

3 -

الْمُثُلُ الْعُلْيَا: بَيَّنَ فِيهَا الْمِثَالِيَّةَ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْأَخْلَاقِ.

4 -

الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: بَيَّنَ فِيهَا ضَابِطَ اسْتِعْمَالِهَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

5 -

حَوْلَ شُبْهَةِ الرَّقِيقِ: رَفَعَ اللَّبْسَ عَنِ ادِّعَاءِ اسْتِرْقَاقِ الْإِسْلَامِ لِلْأَحْرَارِ.

6 -

عَلَى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، أَلْقَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ لِلْمَدِينَةِ، وَكُلُّهَا عَامَّةً نَافِعَةٌ جَدِيدَةٌ.

وَبِالتَّالِي فَقَدْ كَانَ لِمَنْهَجِهِ الْعِلْمِيِّ فِي أَبْحَاثِهِ وَتَدْرِيسِهِ وَفِي مُؤَلَّفَاتِهِ إِحْيَاءٌ لِعُلُومٍ دَرَسَتْ وَتَصْحِيحٌ لِمَفَاهِيمَ اخْتَلَفَتْ.

فَمِمَّا أَحْيَا مِنَ الْعُلُومِ عِلْمُ الْأُصُولِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَالِاجْتِهَادُ التَّرْجِيحُ وَعُمْدَةُ الْمُجْتَهِدِ وَعِمَادُهُ، وَبِجَهْلِهِ لَا يَحِقُّ الِاجْتِهَادُ وَيَجِبُ التَّقْلِيدُ الْمَحْضُ. كَمَا يَقُولُونَ: جَهَلَةُ الْأُصُولِ عَوَامُّ الْعُلَمَاءِ: فَفَتَحَ - أَبْوَابَهُ وَسَهَّلَ صِعَابَهُ وَأَوْضَحَ قَوَاعِدَهُ، وَقَرَّبَ تَنَاوُلِهِ تَسْهِيلًا لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَصَادِرِهَا وَرَدِّ الْفُرُوعِ إِلَى أُصُولِهَا.

ص: 499

كَمَا أَحْيَا آدَابَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَوَضَعَ مَنْهَجُهُ وَأَلَّفَ مُقَرَّرَهُ فَكَانَ خِدْمَةً لِلْعَقِيدَةِ فِي أُسْلُوبِ بَيَانِهَا، وَكَيْفِيَّةِ إِثْبَاتِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهَا وَطُرُقِ الْإِقْنَاعِ بِمَا فِيهِ الْخِلَافُ.

كَمَا فَتَحَ أَبْوَابًا جَدِيدَةً وَأَحْدَثَ فُنُونًا طَرِيفَةً فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ مِنْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ، إِثْبَاتًا لِمَعَانِي آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَسَدَّ بَابَ تَعْطِيلِهَا عَنْ دَلَالَتِهَا إِجْرَاءً لِلنَّصِّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِ فِي دَلَالَتِهِ.

وَمِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَصْدِيقِ آيِ الْكِتَابِ بَعْضَهُ بَعْضًا بِدُونِ تَعَارُضٍ وَلَا إِشْكَالٍ.

وَمِنْ تَسْلِيطِ أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ رَسَمَ فِيهِ الْمَنْهَجَ السَّلِيمَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَبَانَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ وَفَتَحَ كُنُوزَهُ وَأَطْلَعَ نَفَائِيهِ وَنَشَرَ دُرَرَهُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ.

وَكُلُّ ذَلِكَ فَتْحٌ جَدِيدٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عَلَى هَذَا النَّسَقِ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ تُدْرَسُ بِهَذَا الْمَثَلِ.

كَمَا أَنَّهُ فِي غُضُونِهَا صَحَّحَ مَفَاهِيمَ مُخْتَلِفَةً مِنْهَا أَنَّ الْمَنْطِقَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ وَمُصَادَمَةُ النَّصِّ بِالرَّأْيِ، وَكَانَ فِعْلًا وَسِيلَةَ التَّشْكِيكِ فِي الْعَقِيدَةِ بِاسْتِخْدَامِ قَضَايَا عَقِيمَةٍ. فَهَذَّبَ الشَّيْخُ رحمه الله مِنْ أَبْحَاثِهِ وَأَحْسَنَ بِاسْتِخْدَامِهِ فَنَظَّمَ قَضَايَاهُ الْمُنْتِجَةَ وَرَتَّبَ أَشْكَالَهُ السَّلِيمَةَ وَاسْتَخْدَامَ قِيَاسَهُ فِي الْإِلْزَامِ. سَوَاءٌ فِي الْعَقِيدَةِ أَوْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ أَنْ كَانَ يُسْتَخْدَمُ ضِدَّهَا أَصْبَحَ يَعْمَلُ فِي خِدْمَتِهَا. كَمَا وَضَّحَ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ.

مَوَاقِفُهُ مَعَ الْحَقِّ: كَانَ رحمه الله قَوِيًّا صُلْبًا لَيِّنًا سَهْلًا.

كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا فِي بَيَانِهِ، لَيِّنًا سَهْلًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَا ظَهَرَ إِلَيْهِ مِنْهُ.

فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ الَّتِي حَجَجْتُهَا مَعَهُ رحمه الله قَدِمْنَا مَكَّةَ يَوْمَ سَبْعٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَكَانَ مُفَرِدًا الْحَجَّ، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ صَحِبْتُهُ لِلسَّلَامِ عَلَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رحمه الله بِمِنًى، فَسَأَلَهُ رحمه الله عَنْ نُسُكِهِ فَقَالَ: جِئْتُ مُفْرِدًا الْحَجَّ وَقَصْدًا فَعَلْتُ، فَأَدْرَكَ الْمُفْتِي رحمه الله أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَكِنْ تَلَطَّفَ مَعَ الشَّيْخِ وَقَالَ: أَهْوَ أَفْضَلُ عِنْدَكَ حَفِظَكَ اللَّهُ؟ فَأَجَابَ أَيْضًا

ص: 500

حَفِظَكُمُ اللَّهُ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ فَعَلْتُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ وَتَأَكَّدَ عِنْدِي أَنَّ أَشْخَاصًا يَنْتَمُونَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَا يَصِحُّ الْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ وَيُلْزِمُونَ الْمُفْرِدِينَ بِالتَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ. وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَدِيدِ مِنْ وُفُودِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، كُلٌّ بِمَا اخْتَارَ مَنْ نُسُكٍ وَكُلٌّ يَعْمَلُ بِمَذْهَبٍ صَحِيحٍ، وَجَرَتْ مُحَادَثَةٌ مِنْ أَنْفَسِ مَا سَمِعْتُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبَحْثِ مِنْ مُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ وَبَيَانِ الرَّاجِحِ. وَأَخِيرًا قَالَ رحمه الله: إِنَّهُ لَا يَعْنِينِي بَيَانُ الْأَفْضَلِ فَهَذَا أَمْرٌ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَكُلٌّ يَخْتَارُ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ. وَلَكِنْ يَعْنِينِي إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ إِفْرَادِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى صِحَّتِهِ. فَمَا كَانَ مِنْ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رحمه الله إِلَّا أَنِ اسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَدَعَا لَهُ.

وَلَكَأَنِيٍّ بِهَذَا الْعَمَلِ مِنَ الشَّيْخِ رحمه الله الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ عَمَلِيًّا صُورَةً مِمَّا وَقَعَ مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَمَا بَلَغَهُ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ التَّمَتُّعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا وَعُمْرَةً.

أَمَّا لِينُهُ مَعَ الْحَقِّ وَرُجُوعُهُ إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ، فَفِي آخِرِ دُرُوسِهِ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ فِي رَمَضَانَ الْمَاضِي فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» أَعْلَنَ عَنْ رُجُوعِهِ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً. وَكُنَّا نَقُولُ بِنَسْخِهَا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لَنَا بِالتَّأَمُّلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ.

وَمِمَّا وَقَعَ لِي مَعَهُ رحمه الله وَأَكْبَرْتُهُ فِيهِ تَوَاضُعُهُ وَإِنْصَافُهُ سَمِعْتُ مِنْهُ فِي مَبْحَثِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عِنْدَ سَرْدِ الْأَدِلَّةِ وَمُنَاقَشَتِهَا، أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُوجِبِينَ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْيَمَنِيَّةِ وَمَعَهَا ابْنَتُهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَسَأَلَهَا صلى الله عليه وسلم أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقَالَ: هُمَا حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ. فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْ بِهِمَا.

وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِبَاحَةِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، فَتَسَاءَلْتُ مُسْتَوْضِحًا مِنْهُ رحمه الله: وَمَاذَا يُسَمَّى هَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم سُكُوتُهُ عَنْ لُبْسِهِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَسُؤَالُهُ عَنْ زَكَاتِهِ، فَقَالَ: عَجَبًا إِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ وُجُودَ اللُّبْسِ عِنْدَ السُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ آنَذَاكَ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْكُتَ عَلَى لُبْسِهَا إِيَّاهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَيَهْتَمُّ لِزَكَاتِهِ وَلَوْ أُعِيدَ طَبْعُ الْكِتَابِ لَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ رَغْمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَرَاجِعِ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَهُوَ بِهَذَا يُلَقِّنُ طَلَبَةَ

ص: 501

الْعِلْمِ دَرْسًا فِي مَوْقِفِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكَأَنِيٍّ بِكَلَامِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي كِتَابِهِ لِأَبِي مُوسَى رحمه الله: وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ، أَنْ تَأْخُذَ بِهِ، فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ قَبْلُ لِلشَّافِعِيِّ الْقَدِيمَ وَالْجَدِيدَ. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ إِنْصَافُ الْعُلَمَاءِ وَأَمَانَةُ الْعِلْمِ.

هَذَا مَا وَسِعَنِي ذِكْرُهُ عَنْ حَيَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ فِي نَشْأَتِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَعَنْ تُرَاثِهِ الْعِلْمِيِّ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ وَآثَارِهِ التَّرْبَوِيَّةِ فِي أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، رحمه الله رَحْمَةً وَاسِعَةً.

وَلَعَلَّ مِنْ أَبْنَائِهِ الْحُضُورِ أَوْ غَيْرِهِمْ مَنْ لَدَيْهِ الْمَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا النَّاحِيَةُ الشَّخْصِيَّةُ: فِي تَقْوِيمِهِ الشَّخْصِيِّ لِسُلُوكِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَآدَابِهِ، وَكَرْمِهِ، وَعِفَّتِهِ، وَزُهْدِهِ وَتَرَفُّعِ نَفْسِهِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. فَهَذَا مَا يَسْتَحِقُّ أَنَّ يُفْرَدَ بِحَدِيثٍ، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَصْوِيرَهُ وَلَا يَسَعُنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ تَفْصِيلُهُ. وَمَا كَانَ رحمه الله يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَوْ أَنَّ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَكْرُمَاتِ وَالشِّيَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الرِّجَالِ عُنْوَانًا يَجْمَعُهَا لَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ.

وَإِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ يُعَنْوِنُونَ لِأُصُولِ الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ بِالْمُرُوءَةِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ كَانَتْ شِعَارَهُ وَدِثَارَهُ. وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ سَوَاءٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَعَ إِخْوَانِهِ وَطُلَّابِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ، مَنْ عَرَفَهُمْ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ: إِنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ سِوَى عَيْبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أَنَّنَا نَفْقِدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَإِنَّ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَمَتْرُوكٌ لِمَنْ خَالَطَهُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدِ اسْتَعْصَى عَلَيَّ الْمُقَالُ فِي ذَلِكَ وَلِكَأَنِيٍّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

أَهَابُكَ إِجْلَالًا وَمَا بِكَ سُلْطَةٌ

عَلَيَّ وَلَكِنْ مَلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا

وَلَكِنْ قَدْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ إِذَا لَمْ تُسْعِفِ الْعِبَارَةُ. وَأَقْرَبُ شَيْءٍ زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَعِفَّتُهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَرَمُهُ بِمَا فِي يَدِهِ: لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا لِمَنْ خَالَطَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ مَنْ دَاخَلَهُ وَلَازَمَهُ.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ تُسَاوِي عِنْدَهُ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ لَهَا. وَمُنْذُ وُجُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَصِلَتِهِ بِالْحُكُومَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا لَمْ يَطْلُبْ عَطَاءً وَلَا مُرَتَّبًا وَلَا تَرْفِيعًا لِمُرَتَّبِهِ وَلَا حُصُولًا عَلَى مُكَافَأَةٍ أَوْ عِلَاوَةٍ وَلَكِنْ مَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَخَذَهُ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ

ص: 502

لِيَسْتَبْقِيَهُ بَلْ يُوَزِّعُ فِي حِينِهِ عَلَى الْمُعْوِزِينَ مِنْ أَرَامِلَ وَمُنْقَطِعِينَ، وَكُنْتُ أَتَوَلَّى تَوْزِيعَهُ وَإِرْسَالَهُ مِنَ الرِّيَاضِ إِلَى كُلٍّ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَمَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا بِعِفَّتِهِ وَقَنَاعَتِهِ. بَلْ إِنَّ حَقَّهُ الْخَاصَّ لَيَتْرُكُهُ تَعَفُّفًا عَنْهُ كَمَا فَعَلَ فِي مُؤَلَفَّاتِهِ وَهِيَ فَرِيدَةٌ فِي نَوْعِهَا، لَمْ يَقْبَلِ التَّكَسُّبَ بِهَا وَتَرَكَهَا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ.

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتُ مَعِي مِنَ الْبِلَادِ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ يَكْفِينِي مَدَى الْحَيَاةِ وَأَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَكَانَ شِعَارُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

الْجُوعُ يُطْرَدُ بِالرَّغِيفِ الْيَابِسَهْ

فَعَلَامَ تَكْثُرُ حَسْرَتِي وَوَسَاوِسِي

وَكَانَ اهْتِمَامُهُ بِالْعِلْمِ عِنْدَهُ آلَةً وَوَسِيلَةً، وَعِلْمُ الْكِتَابِ وَحْدَهُ غَايَةٌ. وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِ الْأَدِيبِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الْحَسَنِ الشِّنْقِيطِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ:

لَا تَسُؤْ بِالْحِلْمِ ظَنًّا يَا فَتَى

إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ عَطَبْ

لَا يُزَهِّدْكَ أَحَدٌ فِي الْعِلْمِ إِنْ

غَمَرَ الْجُهَّالُ أَرْبَابَ الْأَدَبْ

إِنْ تَرَ الْعَالِمَ نِضْوًا مِرْمَلًا

صِفْرَ كَفٍّ لَمْ يُسَاعِدْهُ سَبَبْ

وَتَرَى الْجَاهِلَ قَدْ حَازَ الْغِنَى

مُحْرِزَ الْمَأْمُولِ مِنْ كُلِّ أَرَبْ

قَدْ تَجُوعُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا

وَالذِّئَابُ الْغُبْشُ تَعْتَامُ الْقَتَبْ

جَرِّعِ النَّفْسَ عَلَى تَحْصِيلِهِ

مَضَضَ الْمُرَّيْنِ ذُلٌّ وَسَغَبْ

لَا نَهَابُ الشَّوْكَ قِطَافَ الْجَنَى

وَإِبَارَ النَّحْلِ مُشْتَارَ الضَّرَبْ

حَقَا إِنَّهُ لِمَ يُسِئْ بِالْعِلْمِ ظَنًّا، وَلَمْ يَهَبْ فِي تَحْصِيلِهِ شَوْكَ النَّخْلِ وَلَا إِبَارَ النَّحْلِ، فَنَالَ مِنْهُ مَا أَرَادَ وَاقْتَحَمَ الْحِمَى عَلَى عَذَارَى الْمَعَانِي وَأَبَاحَ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحٍ.

أَمَّا مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ وَمُرَاعَاةُ شُعُورِ جُلَسَائِهِ، فَهَذَا فَوْقَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمُذْ صَحِبْتُهُ لَمْ أَسْمَعَ مِنْهُ مُقَالًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَلَوْ مُخْطِئٍ عَلَيْهِ يَكُونُ فِيهِ جَرْحٌ لِشُعُورِهِ، وَمَا كَانَ يُعَاتِبُ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّغَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَحِينَمَا كُنْتُ أُسَائِلُهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ:

لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ

لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي

وَلَمْ يَكُنْ يَغْتَابُ أَحَدًا أَوْ يَسْمَحُ بِغَيْبَةِ أَحَدٍ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ لِإِخْوَانِهِ

ص: 503

(اتكايسوا) أَيْ مِنَ الْكِيَاسَةِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ خَطَرِ الْغَيْبَةِ وَيَقُولُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ يَأْتِي فِي صَحِيفَتِهِ، فَلَا يَأْتِي فِيهَا إِلَّا الشَّيْءُ الطَّيِّبُ.

وَمِمَّا لُوحِظَ عَلَيْهِ فِي سَنَوَاتِهِ الْأَخِيرَةِ تَبَاعُدُهُ عَنِ الْفُتْيَا، وَإِذَا اضْطُرَّ يَقُولُ: لَا أَتَحَمَّلُ فِي ذِمَّتِي شَيْئًا، الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا.

وَسَأَلْتُهُ مَرَّةً عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي عَافِيَةٍ مَا لَمْ يُبْتَلَ وَالسُّؤَالُ ابْتِلَاءٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ عَنِ اللَّهِ وَلَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لَا. فَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ التَّحَفُّظُ فِيهِ.

وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا قَتَلْتَ الشَّيْءَ عِلْمًا فَقُلْ بِهِ

وَلَا تَقُلِ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ

فَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا

وَيَكْرَهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مُقَاتِلُهْ

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَقَدْ كَانَ رحمه الله خَيْرَ قُدْوَةٍ وَأَحْسَنَهَا فِي جَمِيعِ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ: فَكَانَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، وَقَدْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ فَاضِلَيْنِ أَدِيبَيْنِ يَدْرُسَانِ بِكُلِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ، وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُسْكِنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ وَيُوَسِّعَ لَهُ فِي رِضْوَانِ رَحْمَتِهِ وَأَنْ يُعْلِيَ مَنْزِلَتَهُ وَيَرْفَعَ دَرَجَتَهُ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

وَنَفَعَنَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَسَلَكَ بِنَا طَرِيقَةَ عَمَلِهِ بِمَا يُرْضِيهِ تبارك وتعالى عَنَّا، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. . . .

ص: 504