الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ
الْقَدْر
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ لِلْقُرْآنِ قَطْعًا.
وَحَكَى الْأَلُوسِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ: مَا يُفِيدُ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا ضَعِيفًا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَنَّهُ لِجِبْرِيلَ.
وَمَا قَالَهُ عَنِ الضَّعْفِ لِهَذَا الْقَوْلِ، يَشْهَدُ لَهُ السِّيَاقُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [97 \ 4] .
وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ الرُّوحُ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَا لِغَيْرِهِ، وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَإِشْعَارًا بِعُلُوِّ قَدْرِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: ذِكْرُ سُورَةِ الْقَدْرِ قَبْلَهَا مُشْعِرَةٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ جَاءَتْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، أَيِ الْقُرْآنَ الْمَقْرُوءَ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي إِنَّا، وَنَا فِي إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْجَمْعِ وَلِلتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهَا نَحْنُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
[1
5 \ 9] ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا التَّعْظِيمُ قَطْعًا لِاسْتِحَالَةِ التَّعَدُّدِ أَوْ إِرَادَةِ مَعْنَى الْجَمْعِ.
فَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [39 \ 23] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الضَّمَائِرِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِالِاخْتِصَاصِ تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِنَّا، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ تَعْظِيمٍ وَاخْتِصَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [108 \ 1]، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا [71 \ 1] ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [50 \ 43] ، وَإِنْزَالُ الْقُرْآنِ مِنَّةٌ عُظْمَى.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْمِنَّةِ وَتَعْظِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [38 \ 29]، فَقَالَ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ بِضَمِيرِ التَّعْظِيمِ، ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ الْكِتَابِ: مُبَارَكٌ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ ص هَذِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِيَغِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ وَبِصِيَغِ الْإِفْرَادِ، فَمِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ صِيَغِ الْإِفْرَادِ قَوْلُهُ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2 \ 30]، وَقَوْلُهُ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [38 \ 71]، وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 30] .
وَيُلَاحَظُ فِي صِيَغِ الْإِفْرَادِ: أَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، كَالْأَوَّلِ فِي مَقَامِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ طِينٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ.
وَالثَّانِي: فِي مَقَامِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَسَوَاءٌ جِيءَ بِضَمِيرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ، فَفِيهَا كُلِّهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ سبحانه وتعالى سَوَاءٌ بِنَصِّهَا وَأَصْلِ الْوَضْعِ أَوْ بِالْقَرِينَةِ فِي السِّيَاقِ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُنْزَلِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، هَلْ هُوَ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ؟
فَقِيلَ: وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ أَوَائِلُ تِلْكَ السُّورَةِ فَقَطْ أَيْ: بِدَايَةُ الْوَحْيِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«ثُمَّ تَتَالَى نُزُولُ الْوَحْيِ، بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً» .
وَقِيلَ: الْمُنْزَلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، هُوَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ صَارَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا حَسَبَ الْوَقَائِعِ.
وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ عِنْدُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [2 \ 185] ، وَحَكَّاهُ الْأَلُوسِيُّ وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ.
وَعَنِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله قَوْلٌ يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ،
وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَكُونَ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبَدْءِ نُزُولِ أَوَّلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [96 \ 1] ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وَقَدْ أُثِيرَ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدَالٌ وَنِقَاشٌ كَلَامِيٌّ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ سُئِلَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رحمه الله عَنْ ذَلِكَ، وَكُتِبَ جَوَابُهُ وَطُبِعَ، فَكَانَ كَافِيًا. وَقَدْ نَقَلَ فِيهِ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ وَحْيِهِ، وَرَدَّ عَلَى كُلِّ شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ كَمَا تَقَدَّمَ، بَيْنَ كَوْنِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَنُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ اللَّوْحَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَنُزُولُهُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِمَّا فِي اللَّوْحِ وَهُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ، فَأَصْبَحَ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي كُلٍّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَمَوْجُودًا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْآنَ هُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَمْ يَخْلُ مِنْهُ اللَّوْحُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِإِنْزَالِهِ جُمْلَةً ثُمَّ تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ; لِأَنَّ نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ [97 \ 4]، أَيْ: فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ.
وَقَدْ جَاءَ أَنْزَلْنَاهُ، فَتَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ تَفْصِيلَ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.