المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تَنْبِيهٌ آخَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، لَا يَمْنَعُ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٩

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: تَنْبِيهٌ آخَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، لَا يَمْنَعُ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى

تَنْبِيهٌ آخَرُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، لَا يَمْنَعُ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى بِغَيْرِ الْقَلَمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [18 \‌

‌ 6

5] .

وَكَمَا فِي حَدِيثِ: «نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا» الْحَدِيثَ.

وَكَمَا فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ لِمَنْ لَدْغَتْهُ الْعَقْرَبُ فِي قِصَّةِ السَّرِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم:«وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ قَالَ: شَيْءٌ نَفَثَ فِي رُوعِي» .

وَحَدِيثِ عَلِيٍّ لَمَّا سُئِلَ «هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِلْمٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِهِ. وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» .

وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [2 \ 282] . نَسْأَلُ اللَّهَ عِلْمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَالْعَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ مُوجِبٌ لِلطُّغْيَانِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَلَفْظُ الْإِنْسَانِ هُنَا عَامٌّ، وَلَكِنْ وَجَدْنَا بَعْضَ الْإِنْسَانِ يَسْتَغْنَى وَلَا يَطْغَى، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَمُخَصِّصُهُ إِمَّا مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ أَوْ مِنْ خَارِجٍ عَنْهَا، فَفِي نَفْسِ الْآيَةِ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ رَآهُ، أَيْ: إِنْ رَأَى الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَقَدْ يَكُونُ رَأْيًا وَاهِمًا وَيَكُونُ الْحَقِيقَةُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَطْغَى، فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْنَاءُ هُوَ سَبَبُ الطُّغْيَانِ.

وَلِذَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ ذَمُّ الْعَائِلِ الْمُتَكَبِّرِ ; لِأَنَّهُ مَعَ فَقْرِهِ يَرَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى، فَهُوَ مَعْنِيٌّ فِي نَفْسِهِ لَا بِسَبَبِ غِنَاهُ.

أَمَّا مِنْ خَارِجِ الْآيَةِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 37 - 39] ، فَإِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ مُوجِبُ الطُّغْيَانِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا الْآيَةَ [104 \ 2 - 4] .

ص: 26

وَمَفْهُومُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثِرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَحْسَبْ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، فَلَنْ يُطْغِيَهُ مَالُهُ وَلَا غِنَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَوْسَعِ غِنًى فِي الدُّنْيَا فِي نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، آتَاهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَعَ هَذَا قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ الْآيَةَ [38 \ 32] .

وَقِصَّةُ الصَّحَابِيِّ الْمَوْجُودَةُ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمَّا شُغِلَ بِبُسْتَانِهِ فِي الصَّلَاةِ، حِينَ رَأَى الطَّائِرَ لَا يَجِدُ فُرْجَةً مِنَ الْأَغْصَانِ، يَنْفُذُ مِنْهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فُتِنْتُ بِبُسْتَانِي فِي صَلَاتِي، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغِنَى وَحْدَهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلطُّغْيَانِ، وَلَكِنْ إِذَا صَحِبَهُ إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ طُغْيَانُ النَّفْسِ مِنْ لَوَازِمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ غِنًى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [12 \ 53] . وَأَنَّهُ لَا يَقِي مِنْهُ إِلَّا التَّهْذِيبُ بِالدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الْآيَةَ [42 \ 27] .

وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ فِرْعَوْنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ حِينَ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [43 \ 51]، وَكَذَلِكَ قَالَ قَارُونُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [28 \ 78]، وَقَالَ ثَالِثُ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ:«إِنَّمَا وَرِثْتُهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ، إِلَى آخِرِهِ. فَلَا يَزِيدُهُ غِنَاهُ إِلَّا تَوَاضُعًا وَشُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [27 \ 78]، وَقَدْ نَصَّ فِي نَفْسِ السُّورَةِ أَنَّهُ شَكَرَ اللَّهَ: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [27 \ 19] .

وَفِي الْعُمُومِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [46 \ 15] .

وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِ الْمَالِ الْوَفِيرِ فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا قُرْبًا لِلَّهِ، كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ

ص: 27

رَبْطٌ لَطِيفٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ، إِذَا كَانَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَهِيَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي رَحِمِ أُمِّهِ، فَإِذَا بِهَا مُضْغَةٌ ثُمَّ عِظَامٌ، ثُمَّ تُكْسَى لَحْمًا، ثُمَّ تُنْشَأُ خَلْقًا آخَرَ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الدُّنْيَا طِفْلًا رَضِيعًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْبُكَاءَ، فَيُجْرِي اللَّهُ لَهُ نَهْرَيْنِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، ثُمَّ يُنْبِتُ لَهُ الْأَسْنَانَ، وَيَفْتِقُ لَهُ الْأَمْعَاءَ، ثُمَّ يَشِبُّ وَيَصِيرُ غُلَامًا يَافِعًا، فَإِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ أَوِ الْعَافِيَةِ، فَإِذَا هُوَ يَنْسَى كُلَّ مَا تَقَدَّمَ، وَيَنْسَى حَتَّى رَبَّهُ وَيَطْغَى وَيَتَجَاوَزُ حَدَّهُ حَتَّى مَعَ اللَّهِ خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [36 \ 77 - 79] .

وَمِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ لُطْفِ التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، أَيْ أَنَّ الطُّغْيَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ عَنْ وَهْمٍ، تَرَاءَى لَهُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى سَوَاءٌ بِمَالِهِ أَوْ بِقُوَّتِهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ جِبَالًا، لَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَكَلَ وَلَبِسَ وَأَنْفَقَ.

وَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً وَاحِدَةً إِلَّا بِنِعْمَةِ الْعَافِيَةِ، فَإِذَا مَرِضَ فَمَاذَا يَنْفَعُهُ مَالُهُ، وَإِذَا أَكَلَهَا وَهَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا إِلَّا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ ; لِأَنَّ الْغِنَى مُوجِبٌ لِلطُّغْيَانِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الصَّبْرُ عَلَى الْعَافِيَةِ، أَشَدُّ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ

. قَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ: أَسْنَدَ الْكَذِبَ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَسْنَدَهُ إِلَى غَيْرِ النَّاصِيَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [16 \ 105] .

وَذَكَرَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ النَّاصِيَةَ وَأَرَادَ صَاحِبَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ لِإِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِيرَادِ الْكُلِّ، وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [111 \ 1] .

وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، لَا

ص: 28