الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و"
المُقَدِّمة
" بِكَسر الدال: كلام متقدم أمام المقصود؛ لتَوَقُّفه عليه أو انتفاعه به بِوَجْهٍ، كمقدمة الجيش طائفة تتقَدَّمه. وهو مِن "قَدَّم" بمعنى: تَقدَّم، كما في قوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، أَيْ: لا تتقدَّموا. وقد تفتح الدال؛ لأنَّ صاحب الكلام أو أمير الجيش قَدَّمها، أو لأنها مُشبهة بمقدمة الرَّحْل، وهي ما أمام الراكب مقابلة لمؤخرته وهي ما وراءه. وعلى الفتح جَرَى الشيخ أبو حيان، وادَّعَى أنَّ تجويز الكسر مِن تغييرات النَّقَلة، واقتصر جَمْعٌ على الكسر، والحقُّ جواز الوجهين بالاعتبارين، والله تعالى أعلم.
المقدمة
10 -
أَقُولُ فِيهَا: حَقُّ كُلِّ مَنْ طَلَبْ
…
عِلْمًا تَصَوُّرٌ لَهُ قَدِ انْتَسَبْ
11 -
مِنْ حَيْثُ مَعْنًى جَامِعٌ لِكَثْرَتِهْ
…
لَا جِهَةُ التَّفْصِيلِ في حَقِيقَتِهْ
12 -
فَطَلَبُ المجْهُولِ مُسْتَحِيلُ
…
وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا، مَطْلُولُ
13 -
وَالْعِلْمُ بِالْغَايَةِ [مِنْهُ]
(1)
بَعْدُ
…
نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ
14 -
وَمَا اسْتُمدَّ مِنْهُ كَيْ يَرْجِعَ لَهْ
…
إنْ رَامَ تحْقِيقَ الَّذِي قَدْ حَصَّلَهْ
الشرح:
بدأتُ هذه المقدمة بقاعدةٍ كُلية، وهي أنَّ حق كُل مَن [حاول]
(2)
عِلْمًا مِن العلوم وطَلَب معرفته أنْ يَعْرِف أمورًا ثلاثة:
(1)
كذا في (ش، ق، ص). لكن في (ت، ز، ر، ن 1، ن 2، ن 3، ن 5): فيه. وفي (ن 4): فيها.
(2)
في (ز): طلب.
أولها: مَعْرفة ذلك العِلم، أَيْ: تَصَوُّره بِوَجْهٍ؛ لأنَّ طَلَب الإنسان ما لا يَعْرفه - مُحالٌ ببديهة العقل. وذلك الوجه الذي يَعرفه به هو المعنى الذي يحيط بِكَثرته. ثُم يَطْلبه مِن جهة تفصيله. فإنْ عَرفه مِن جهة التفصيل، كان طَلَبه له مُحالًا؛ لأنه تحصيل الحاصل؛ فلذلك بَرْهَنْتُ على الأمْرَيْن مَعًا.
وقولي: (وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا) أَيْ: مَن يُرِيد تحصيل الحاصل، فهو مطلول، أَيْ: مُهْدَرٌ، لا التفات له؛ لأنه طالبُ مُحال، مِن قولهم:(طُلَّ دَمُه) بالبناء للمفعول، أَيْ: هُدِرَ.
ثُم الجهة التي يَعرفه بها إنْ كانت ذاتية، فالمُنْبِئُ عنها "الحدُّ"، وإلَّا فَـ "الرسمُ" كما سيأتي بيانُ ذلك.
وثانيها: أنْ يَعْرف غاية ذلك العِلم؛ لئلَّا يَكون سَعيه عَبَثًا؛ لأنه تضييع للعُمر فيما لَمْ يعْلَم له فائدة، وهو معنى قولي:(نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ) بالنصب على المفعول لأجله. و"في عَبَثٍ" متعلِّق بِـ "يُعَد".
وثالثها: أنْ يَعْرِف ما يُسْتَمَد مِنه ذلك العِلم؛ لأنه إذَا رام تحقيقه والاطِّلاع على أصله الذي نشأ منه، فلا بُدَّ له مِن معرفة ما استُمِد منه؛ ليرجع في تلك الجزئية إلى مَحَلِّها منه.
واعْلَم أنَّ أصل هذه القاعدة أنَّ كُلَّ معدوم يُوجَد يتوقف وجوده على أربع عِلَل:
العِلة الصُّورية: وهي التي تقُوم بها صُورتُه، وتتميز عن غيرها، فَتَصَوُّر "المُرَكَّب" مُتَوَقِّف عَلَى تَصَوُّر أركانه وانتظامها على الوجه المقصود. وتَصَوُّر "البسيط" باعتبار تميُّزه عن غيره مما شاركه - يَكون بِتَصَوُّر مُتَعَلّقِه معه؛ فيصير كالمُرَكَّب؛ ولهذا أَدْخَله بعضُهم في المُركَّب تقديرًا مِن هذه الحيثية، وجعله يُعَرَّف بالحدِّ الحقيقي الذي هو بالذاتيات.
والعِلة الغائية: وهي الباعث على إيجاده، وهي الأُولَى في الفِكر مُقَدَّمة على سائر العِلَل وإنْ كانت آخِرًا في الوجود الخارجي؛ ولهذا يقال:"مَبْدَأُ العِلْمِ مُنْتَهَى العمل"، ويقال أيضًا:
هي عِلة في الذهن، معلولة في الخارج.
والعِلَّة المادية: هي التي منها [تُستمد]
(1)
المُرَكَّباتُ أو ما في حُكمها كما تَقَدَّم، كالعلوم المتميزة بمتعلقاتها بِدُون ملاحظة الهيئة التي هي عليها؛ فإنَّ تلك العلة الصورية كما سبق.
والعِلة الفاعلية: هي المؤثِّرة في إيجاد ذلك وإخراجه مِن العَدَم للوجود، ولكن هذه عند أهل السُّنة لا حقيقة لها في شيء مِن العالَم؛ لأنَّ الوجود كُله بإرادة الله تعالى وتأثيره فيه بالقدرة والإرادة، وليس لشيء عندهم تأثير في وجود شيء بالذات.
وقولي: (جامع) مرفوع؛ لأنه صفة لِـ "مَعْنًى"، و"مَعْنًى" مبتدأ وخبره محذوف، أَيْ: موجود، والجملة في محل خفض بإضافة "حَيْثُ"؛ لأنها [لا]
(2)
تضاف لِمُفْرَد إلَّا شذوذًا، والله أعلم.
ص:
15 -
فَلِأُصُولِ الْفِقْهِ مَعْنَيَانِ
…
إضَافَةٌ وَلَقَبٌ، فالثَّاني
16 -
مَقْصُودُنَا: عِلْمٌ بِطُرْقِ الْفِقْهِ
…
مِنْ حَيْثُ إجْمَالٌ لها بِوَجْهِ
17 -
وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ مِنها حُكْمُهُ
…
وَحَالِ مُسْتَفِيدِها، ذَا رَسْمُهُ
الشرح:
لَمَّا [ثَبَتَ]
(3)
أنَّ كُلَّ طالب عِلم لا بُدَّ له مِن مَعرفة أمور ثلاثة، شرعتُ في بيانها فيما أنا بِصدده، وهو عِلم أصول الفقه، فلا بُدَّ مِن معرفته مِن حيث المعنى الجامع لجزئياته كلها،
(1)
في (ش): يستمد.
(2)
ليس في (ز).
(3)
كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ز، ر، ت): بينت.
ومعرفة غايته، ومعرفة استمداده.
فالأول: لَفْظ "أُصُول الفقه" مُرَكَّبٌ إضافيٌّ في الأصل، ثُم صار بكثرة الاستعمال في عُرْف أهل الأصول والفقه له معنًى آخَر غَيْر الأول، وصار عَلَمًا عليه بالغَلَبة، لَقَبًا مُشْعِرًا بِرِفعته؛ فينبغي أنْ يُعَرَّفَ مِن حيث معناه الإضافي ومِن حيث معناهُ اللَّقَبيُّ، وهو مَعْنَى قولي في النَّظْم:(إضافةٌ ولَقَبٌ)، أَيْ: ذو إضافةٍ، كَـ "رَجُل عَدْل" أَيْ: ذُو عدل، والمراد: مَعْنًى إضافة ومعنى لقبٍ، فهو على حَذْف مُضَاف دَلَّ عليه مَعْنيان، أَيْ: المعنى الذي دَلَّ عليه بالإضافة، والمعنى الذي دَلَّ عليه باللقب.
فأمَّا المعنى اللقبي وبدأتُ به لأنه المقصود وإنْ كان مَعرفة المُفْرد ينبغي أنْ تَكون قَبْل المُرَكَّب، بل أقول: إنَّ ذلك فيما تركيبه ملحوظ، أمَّا ما صار كالمفرد فلَا.
واعْلَم أنَّ العِلْم لَمَّا كان بسيطًا كان تَنَوُّعه وانقسامه إنما هو بِحَسب مُتَعَلَّقه، فجهة معلومات كل عِلْم (التي تجمعُ كثرتَه وتضبطها) لا تَكون ذاتية كُلها، بل مع لازِمٍ وهو متعلَّقها المُمَيِّزُ لها، إلَّا بالتأويل الذي حكيناه عن بعضهم قريبًا، فالمُعَرف له دائمًا "الرسم"، إلَّا على هذا القول؛ فلذلك قلتُ بَعْد فراغ تعريفه:(ذَا رَسْمه)، ولَمْ أَقُلْ:(ذَا حَدُّه).
فَرَسْم "أُصول الفقه" مِن حيث اللقب: عِلْم طُرُق الفقه مِن حيث الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.
فَلفْظ "عِلْم" كالجنس، يشمل سائر العلوم، والمراد به هنا ما هو أَعَم مِن اليقين والظن؛ لأنَّ بعض مسائل أصول الفقه ظنيَّة، خِلَافًا لِمَن زَعَم أنَّ الكل قَطْعِي، ولِمَن قال: إنَّ الظني فيه يَرْجع إلى القَطْع.
وما بَعْده خاصَّةٌ يخرج به ما سواه، فيخرج عِلْم نَفْس الفقه، وطُرُق غَيْر الفقه. والمراد بِـ "الطُّرُق" المُوَصِّلات إليه، وهي أدلته. وإنْ خُصَّت الأدلة بالقَطْع وجُعِل ما يفيد الظنَّ
أمارة، فهو داخِل في الطُّرُق.
وإنما أَتَيْتُ بالجَمْع في قولي: (طُرُق) إشارة إلى التنوع، كما أضيف العِلم إلى ثلاثة أشياء؛ لإفادة أنَّ أُصول الفقه أنواع يَصْدُق على كُل نوع منه أنه "أصول الفقه"؛ لأنَّ طُرُق الفقه إذَا كانت أنواعًا وكُل نوع منها أصول فقهٍ، كان كُل مِن الأمور الثلاثة كذلك أيضًا، فَكُل مِن عِلم الطُّرُق وعِلم الاستفادة وعِلم حال المستفيد - تحته أنواع، وانقسام أصول الفقه إلى كُل مِن أنواعه - مِن قِسمة الكُلي إلى جزئياته، لا مِن قِسمة الكُل إلى أجزائه؛ ولهذا لَمْ يَصِر عِلْمًا بالغَلبَة إلَّا جَمْعًا؛ ملاحظةً لهذا المعنى، فتأَمَّله؛ فإنه نفيس.
وخرج بِكَوْنه "مِن حيث الإجمال" عِلمُ الأدلة في نَفْس الفقه؛ لأنه "مِن حيث التفصيل" كما سيأتي بيانه في تعريف "الفقه".
وقولي: (وكيفية الاستفادة) أَيْ: استنتاج الحُكْم مِن الدليل بالجهات التي تُفَصَّل في أقسام الألفاظ وفي تَعَارُض الأدلة وأشباه ذلك.
وقولي: (وحال المستفيد)[يشمل]
(1)
المستفيد مِن الأدلة وهو المجتهد، والمستفيد مِن المجتهد وهو المقلِّد لكن بدليل إجمالي كما سيأتي.
وعُلِمَ مِن هنا وَجْه مُغايرة تفسير "أصول الفقه" باعتبار اللقب وتفسيره باعتبار الإضافة بكَوْنها أدلَّةَ الفقه، ومدلولُ اللقبي عِلْمٌ متعلِّق بثلاثة أمور، وذاك نفسُ الأدلة بلا زيادة، فحكاية خِلَافٍ في أنَّ أصول الفقه هل هو الأدلة أو العِلم بالأدلة - لا حاصلَ له؛ لِعَدَم التوارُد على محَلٍّ واحدٍ.
وأَبْعَد مِنه مَن يجعلُ "أُصول الفقه" أدلَّته، ويجعل العِلمَ بها وبِطُرُق استفادتها ومستفيدها - مِن أوصاف الأُصولي، لا مِن نَفْس الأُصول (كما وقع في "جَمْع الجوامع" لابن
(1)
في (ش): بل.
السبكي، وقَرَّره في "مَنْع الموانع" بما لا يَشْفِي). فهل يَكون "المنسوبُ" فيه زيادة على "المنسوب إليه" قَيْدًا له مِن حيث النسبة؟ هذا لا يُعْرَف، والله أعلم.
ص:
18 -
وَالْأَوَّلُ: "الْأُصُولُ" جَمْعُ "أَصلِ"
…
وَهْوَ الدَّلِيلُ ها هُنَا بِوَصْلِ
19 -
وَ"الْفِقْهُ" عُرْفًا عِلْمُ حُكْمٍ شرْعِيْ
…
مُفَصَّلِ الدَّلِيلِ مِنْهُ فَرْعِيْ
الشرح:
هذا تعريف "أصول الفقه" بالمعنى الأول وهو الإضافي، وكُل مُركَّبٍ فإنما يُعرف بمعرفة أجزائه. فَـ "أصول الفقه" مُرَكَّب مِن مضاف ومضاف إليه.
فأمَّا المضاف فَـ "أصول": جَمْع "أَصْلٍ"، وهو لُغَةً: ما يُبْنَى عَلَيْه غَيْرُه، أو ما يُحتاج إليه، أو ما مِنْه الشيء، أو نحو ذلك مِن الأقوال التي لا طائل في اختلافها. وفي الاصطلاح يُطْلَق غالبًا على الدليل، فإذا وَصلْتَه بالفقه فَقُلْتَ:(دليل الفقه)، كان تفسيرًا لِـ "أصول الفقه" مِن حيث الإضافةُ، وهو معنى قولي:(بِوَصْلِ)؛ لأنَّ المضاف يُفَسَّر مِن حيث هو ومِن حيث اتصاله بالمضاف إليه.
واحترَزْتُ بقولي: (ها هنا) عن إطلاق "الأصل" على غَيْر الدليل في مواضعَ أخرى، كما يُطْلَق:
- عَلَى "الراجح مِن الأَمْرَيْن" في نحو قولك: (الأَصْلُ في الإطلاق الحقيقةُ، لا المجازُ).
أَيْ: الراجح.
- وعَلَى "الأَمر المستمر"، كقولك:(أَكْل الميتة على خِلَاف الأصل). أَيْ: على خِلَاف الحالة المستمرَّة في الحُكْم.
- وعَلَى ما يُقابِل "الفَرْع" في باب القياس، وسيأتي.
وأَمَّا المضاف إليه (وهو "الفقه") فهوَ في اللغة: الفَهْم، قال تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وعَبَّر عنه ابن فارس في "المجمل" بِـ "العِلْم"، وجَرَى عليه إمام الحرمين في "التلخيص"، وإلكِيَا الهْرَّاسِي وأبو نصر القُشيري والماوردي، وفَسَّره الراغبُ بِأَخَصّ مِن الفَهْم والعِلم، فقال:(التوصل إلى عِلْمٍ غائبٍ بِعِلْمٍ [شاهدٍ])
(1)
.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وصاحب "اللُّباب" مِن الحنفية: (فَهْم الأشياء الدقيقة). ولا يَحْسُن الردُّ عليهما بِنَحْو: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]؛ لأنَّ ذلك كُله مَظِنَّة الخفاء.
وأمَّا في الاصطلاح: فهو عِلْم حُكْمٍ شرعي فَرْعي مِن دليل تفصيلي.
فَـ "العِلْم" كالجنس، والمراد به هنا مُطْلَق التصديق، وهو ثاني إطلاقات "العِلْم" الآتي ذِكْرها؛ ليشمل اليقين والظن؛ لأنَّ مجرد الدليل النقلي لا يفيد إلَّا الظن، وأدلة الفقه نَقْلِيَّة.
نَعَم، ما كان يقينًا لِكَوْنه مِن ضروريات الدِّين (كإيجاب الصلوات الخَمس، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنى والسرقة، ونحو ذلك) ليس مِن الفقه؛ لأنه ليس مُسْتَخْرَجًا مِن دليل تفصيلي، وهذا أَصْوَبُ مِن ادِّعاء أنَّ الفقه قَطْعي كما زَعَمه الإمام وأتباعه كالبيضاوي، وقَرَّروه بدليل لا يُفِيدُهم المُدَّعَى؛ لفساده مِن وجوه كما بُيَّن ذلك في مَوْضعه.
نَعَم، سَبَق الإمامَ إلى نحو ذلك إمامُ الحرمين حيث قال في جواب السؤال:(ليست الظنون فِقْهًا، إنما الفقه العِلْم بوجوب العمل عند قيام الظنون)
(2)
.
(1)
في (ز): مُشاهَد.
(2)
البرهان في أصول الفقه (1/ 87).
فأخذه الإمام الرازي وبسطه
(1)
.
ثُم المراد بِـ "العِلم بالأحكام": التصديق بِتَعَلُّقها بأفعال المكلَّفين، لا تَصَوُّرها (لأنَّ ذلك مِن مبادئ أصول الفقه كما سيأتي)، ولا التصديق بثبوتها (لأنَّ ذلك مِن عِلم الكلام).
وإنما قُلْتُ: (عِلْم) بالتنكير، ولَم أُعَرِّفه باللام؛ لأنَّ التعريف إنما هو للماهية مِن غير اعتبار كميَّة مشخَّصاتها، ودخول اللام إنما هو لكمية عموم أو خصوص يُعْهَدُ. فإنْ أُرِيدَ بها الجنس فَلَم تُفِد زيادة، فلا حاجة لها؛ لأنَّ اللفظ المُنَكَّر هنا لَمْ يقصد به فَرْد مُبْهَم شائع، بل أُرِيدَ به مُطْلَق الحقيقة، وسيأتي الفَرْق بين المُطْلَق والنَّكرة.
وخرج بِقَيْد إضافة "العِلْم" لِلْـ "حُكْم" ما تَعَلَّق بالذات أو الصفة أو الفعل. وإنما لَمْ أَقُل "بالحكم" لأنَّ "عِلْم" يَتَعَدَّى بنفسه، فزيادة الباء تحتاج إلى تأويله بتضمين العلم معنى الإحاطة، أو غَيْر ذلك، وإنْ كُنتُ أتيتُ بالباء في تعريف "أصول الفقه" جَرْيًا على المشهور في العبارة؛ لِمَا حصل به مِن سهولة نَظْمه هناك.
وإنما لَمْ أُعَرِّف الحكم ولا قُلتُ "الأحكام" بالجَمْع؛ لِمَا ذُكِرَ في تنكير "عِلْم".
وأيضًا فلو أَتَيْتُ باللام:
1 -
فإنْ كانت للاستغراق، فيخرج فِقْه الأئمة الذين أجابوا في مسائل بِـ "لا أَدْرِي"؛ فلا يَكُون التعريف جامعًا؛ فَقَدْ روى ابن عبد البر في مقدمة "التمهيد" أنَّ مالكًا سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها:"لا أَدرِي". وحكى العبادي (مِن أصحابنا) في فتاويه أنَّ أبا حنيفة سُئل عن خمس مسائل، فقال فيها:"لا أدْرِي": الخنثى الذي له آلة الرجال وآلة النساء، ووقت الختان، وأطفال المشركين، ومَن حلف لا يكَلِّم فلانًا دَهْرًا، وهل يَجوز للقَيِّم نقش جدار المسجد مِن غلة الوقف؟
(1)
المحصول (1/ 92).
وفي كتاب "مآل الفتاوى" للشريف أبي القاسم ابن يوسف الحَسَني الحنفي (مؤلف كتاب "النافع" وغَيْره) مسائلُ غَيْرُ [الخمسة]
(1)
قال فيها أبو حنيفة: "لا أَدْرِي"، فذكر ثمانية: ما الدهر؟ ومحل أطفال المشركين، ووقت الختان، وإذَا بال الخنثى مِن الفرجين، والملائكة أفضل؟ أَمِ الأنبياء؟ ومتى يصير الكلب معلَّمًا؟ وسؤر الحمار، ومتى يطيب لم الجلَّالة؟
فيحصل مِن مجموع النَّقْلَيْن تِسع مسائل.
وفي مقدمة "شرح المهذب" للنووي: (عن الأثرم: سمعتُ أحمدَ بنَ حَنْبَل يُكْثِرُ أنْ يَقُول: "لا أَدْرِي")
(2)
.
وفي "تذكرة السامع والمتكلم" لقاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة أنَّ الشافعي سأله محمد بن عبد الحكم عن المتعة [أَكَان]
(3)
فيها طلاقٌ أو ميراثٌ أو نفقة تجبُ أو شهادةٌ؟ فقال: (والله ما نَدْرِي)
(4)
.
وهذا وإنْ لَمْ يَكُن مِن النوع الماضي بل مِن قبيل التاريخ لكن فيه التنبيه على أنَّ العالِمَ إذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْرِف، يقول:"لا أَدْرِي"؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (إذَا أَخْطَأ العالِمُ "لا أَدْرِي"، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُه)
(5)
. ورواه البيهقي في "المدخل" مِن حديث أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن محمد بن عجلان: أنَّ محمد بن عجلان قاله أيضًا، لكن بِلَفْظ: (إذَا أَغْفَلَ
(1)
في (ز): ذلك.
(2)
المجموع شرح المهذب (1/ 73)، الناشر: مكتبة الإرشاد - جدة، تحقيق: محمد نجيب المطيعي.
(3)
في (ش): ان كان.
(4)
تذكرة السامع والمتكلم (ص 68)، طبعة: دار البشائر الإسلامية - بيروت.
(5)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 54).
الحاكِمُ)
(1)
.
وإذَا كان كذلك، فلا يَكُون التعريف جامعًا.
وقد أُجِيبَ عن ذلك بأنهم كانوا يَعرفون الكل بالقوة، بمعنى أنهم لو اجتهدوا فيه، لَعَلِمُوه، ولكن شَغَلهم (وقت الجواب بِـ "لا أَدْرِي") ما هو أَهَم، أو تَرَكوا الجواب لِمَعنى آخَر، فالله أعلم.
نَعَم، إطلاق أنهم عَلِموا بِمَعْنى القوة - مَجَاز يُصان عنه الحدُّ، إلَّا أنْ يُدَّعَى قرينة أو اشتهار عُرْفِي صَيَّرَه حقيقة.
2 -
وإنْ كانت اللام للعهد، فليس هناك معهود، ولو سُلِّمَ فالمراد الأَعَم.
3 -
وإنْ كانت للجنس، فتقتضي أنَّ بِعِلْم المقَلِّد بعض [مسائل]
(2)
الفقه يَكون فقيهًا، ولا قائل به؛ فلا يَكون التعريف مانعًا؛ لأنَّ ما عَرَفه المقلِّد ليس فِقْهًا وقد دخل في التعريف.
وقد أُجِيب عنه بأنه لَمْ يَعْرف ذلك مِن دليل تفصيلي، وإلَّا لكان فقيهًا، والمراد إنما هو أنْ يَعرفه مِن دليله التفصيلي كما سيأتي.
إذَا عَلِمتَ ذلك، عَلِمْتَ أنَّ حذف لام التعريف تُغْنِي عن الأسئلة والأجوبة، ولذلك أيضًا لَمْ أَقُل:"أحكام" بالجمع كما عَبَّر به كثيرٌ؛ لأنَّ الكمية خارجة عن الحقيقة، وهو واضح، فَفِي الإفراد سلامة مِن ذلك، وفي التجريد مِن اللام نقص لفظ واستغناء عن قرينة تَصْرف عن العموم والعهد للجنس.
وخرج بِقَيْد "الشرعي" نحو: عِلمُ الحساب والطب والهندسة وعلوم العربية مِن نحو وتصريف ولغة وبيان وعَرُوض، وغير ذلك.
(1)
المدخل إلى السنن الكبرى (ص 436).
(2)
ليس في (ز).
وخرج بِقَيْد "الفرعي" الأصليُّ، كأصول الدِّين وأصول الفقه، وهو أحسن مِن التعبير بِـ "العَمَلِي"، أَيْ: عمل الجوارح؛ ليخرج الاعتقادات؛ لأنَّ فيه مجاز تخصيص العمل ببعض أنواعه، فَمِن الفقه ما ليس بعمل جارحة، كالنيَّة وأحكامها وسائر القصُود المذكورة في الفقه، إلَّا أنْ يُجاب بأنه تابع لأفعال الجوارح، لا مُجَرَّد اعتقاد كعقائد الأَصْلَين.
وخرج بِكَوْن عِلم ذلك مِن دليل تفصيلي:
- ما ليس مُكْتَسَبًا أصلًا، كَعِلْم الله عز وجل.
- أو كان مكتسبًا لا مِن دليل تفصيلي، كَعِلْم الملائكة، وعِلْم الرُّسُل فيما ليس مِن اجتهادهم حيث جَوَّزناه، وكذا ما عُلِمَ مِن الدِّين بالضرورة كما تَقَدَّم وإنْ كان يُسَمَّى فروعًا بالنسبة إلى أُصُول الدِّين (كما يقال في "تكليف الكافر بالفروع"، مرادهم بذلك الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك كما سيأتي)، وكذا عِلْم المقلِّد؛ فإنه مِن دليل إجمالي وهو أنَّ كل ما أفتاه به المفتي فهو حُكم الله في حقه؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وقيام الإجماع كما سيأتي بيانه في الباب الرابع.
لا يُقال: إنَّ الذي يَعلمه المقلِّد هو أيضًا مِن دليل تفصيلي باعتبار أنَّ مُقَلَّدَه أَخَذه مِنه، فينبغي أنْ يُزاد "بالاستدلال"؛ ليخرج.
لأنَّا نَقُول: مُسَلَّم، لكن المُقَلِّد ما أخذ مِن الدليل التفصيلي، وهو معنى قولي:(مِنْه)، وهو متعلق بِـ "عِلْم"، وفاعل "العِلم" محذوف، أَيْ: عِلْم إنسان، أو نحو ذلك، فذلك الفاعل مُقَيَّد بِكَوْنه عَلِمه مِن الدليل التفصيلي؛ فَلَم يَدخل المُقَلِّد أَصْلًا، والله أعلم.
ص:
20 -
وَغَايَةُ الْفَنِّ هُوَ التَّوَصُّلُ
…
لِكُلِّ خَيْرٍ يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ
الشرح: لَمَّا فرغ الكلام في الأول مِن الثلاثة (وهو تَصَوُّر العِلم) شَرعْتُ في الثاني
(وهو الغاية والفائدة منه).
و"الفنُّ" قال الجوهري: (هو النوع. و"فَننَ الرَّجُل": كَثُرَ تَفَنُّنه في الأمور، أَيْ: تَنَوُّعُه. ومِنه "أَفنت الشَّجَرَة": صارت ذات أفنان، أَيْ: أغصان. وَاحِدُهُ "فَنَن")
(1)
.
والمراد هنا فَنُّ "أُصُول الفقه"، فاللام للعهد.
فغايةُ "أصول الفقه" التوصُّل إلى استنباط الأحكام الشرعية، أو معرفة كيف استُنْبِطَت حيث تَعَذَّر إمكان الاستنباط والاجتهاد؛ لِيَسْتَنِد العِلمُ إلى أَصْله، وذلك مُوصلٌ إلى العمل، والعمل مُوصلٌ إلى كُل خير في الدنيا والآخرة، وهو معنى قولي:(يقتضيه العمل). ومعناه هنا: يُعَرِّفه ويَدُل عليه، لا التأثير؛ لحديث:"لن يَدخُل الجنةَ أَحَدٌ بِعَمله"
(2)
إلى آخِره. وإنما الكُلُّ بفضل الله ورحمته، والله أعلم.
ص:
21 -
وَمَا اسْتُمِدَّ مِنْهُ فَالْكَلَامُ
…
وَعَرَبِيَّةٌ، كَذَا الْأَحْكَامُ
الشرح:
هذا هو الثالث مِن الثلاثة، وهو مادة "أصول الفقه"، فهو مستمد مِن ثلاثة أمور: مِن عِلْم الكلام، ومِن عِلْم العربية، ومن معرفة الأحكام.
ووَجْهُ الحصر الاستقراءُ، وأيضًا:
1 -
فالتوقُّف إمَّا أنْ يَكون مِن جهة ثبوت حُجِّيَّة الأدلة، فهو عِلم الكلام، أَيْ: أُصُول
(1)
الصحاح تاج اللغة (6/ 2177).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 5349)، صحيح مسلم (رقم: 2816).
الدِّين؛ فإنَّ حُجية الأدلة تستدعي مَعْرفة الصانع خالِق الخَلْق وباعث الرُّسُل إليهم بالشرائع؛ حتى يُسْتَدَل بما جاءوا به على الأحكام. وثبوت رسالتهم متوقف على المعجزة الدالة على صدقهم، حتى يُعْلَم أنَّ ما جاءوا به مِن عند الله، ويتفرع مِن ذلك ما يُسْتَدَل به في شَرعِنا مِن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وما نشأ مِن ذلك عند مُثْبِتِه، وثبوت ذلك إنما هو في أصول الدِّين؛ فحصل التوقف عَلَيه.
2 -
وإمَّا أنْ يَكون التوقُّف مِن جهة دلالة الألفاظ على الأحكام؛ إذِ الأدلة هي موضوع أصول الفقه كما سبق، وعوارضُها هي مسائل أصول الفقه، والأصلُ في الأدلة الكتابُ والسُّنةُ، وهُمَا عربيَّان؛ فَتَوقَّفَ فَهْمُهما على معرفة الكلم العربية وأحكامها. فإنْ كان مِن حيث المدلول فهو عِلمُ اللغة، أو مِن أحكام تركُّبها فَعِلمُ النحو، أو مِن أحكام إفرادها فَعِلْمُ التصريف، أو مِن جهة مطابقته لِمُقْتضَى الحال وسلامته مِن التعقيد وتحسينه بشيء مِن وجوه الحُسْن فَعِلْمُ البيان بأنواعه الثلاثة.
3 -
وإمَّا أنْ يتوقَّف مِن جهة تَصَوُّر ما يدل بها عليه، وهو الأحكام؛ فإنه لا بُدَّ مِن تَصَوُّر الأحكام؛ لِيُتَمَكَّن مِن إثباتها ونَفْيها؛ فالحُكْم على الشيء فَرعُ تَصَوُّرِه، والله أعلم.
ص:
22 -
إذَا عَرَفْتَ مَا مَضَى بِالْجُمْلَهْ
…
[فَهاءَ]
(1)
شرْحَ مَا ذَكَرْتُ أَصْلَهْ
23 -
العِلْمُ، والدَّلِيلُ، ثُمَّ النَّظَرُ
…
والْحُكْمُ بِالتَّفْصِيلِ فِيمَا حَرَّرُوا
الشرح:
أَيْ: إذَا عَرَفْتَ ما قَدَّمْتُه في صَدْر هذه المقَدِّمة إلى هنا، تَبَيَّن لك أنه لا بُدَّ مِن شَرْح أمور
(1)
في (ن 2، ن 5): فهاك. وفي (ن 4): فهذا.
أربعة مُهِمة تضمنها ما سبق، وهي: العِلْم، والدليل، والنظر، والحُكْم.
فأمَّا العِلْم فلوقوعه في التعاريف السابقة.
وأمَّا الدليل فلأنه مدلول أصول الفقه الإضافي، ولوقوعه في تعريف اللقبي (حيث كان هو المراد بالطُّرُق) وتعريف الفقه.
وأمَّا النظر فلأنَّ الأحكام إذا كانت مِن أدلتها التفصيلية فإنما يُتَوَصَّل إليها بالنظر.
وأمَّا الحُكْم فلوقوعه في التعاريف، ولِكَوْن تَصَوُّره هو أحد الثلاثة المستمد منها.
فَخُذْ شَرْحَ كُلٍّ منها بالتفصيل والإيضاح إلى آخر المقَدِّمة.
و"هاءَ" اسم فِعْل بمعنى "خُذْ"، و"شَرْح" مفعول به، و"العِلْم" وما بَعْده بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أَيْ: وما ذَكرْتُ أَصْلَه هو العِلم وكذا وكذا، والله أعلم.
العِلْم
24 -
فَمُطْلَقُ الْعِلْمِ لَهُ مَعَانِي
…
عَلَى اصْطِلَاحاتٍ لَها مُعَانِي
(1)
25 -
أَحَدُهَا: مُجَرَّدُ الْإدْرَاكِ
…
وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي
(2)
26 -
أَوْ مُسْتَوٍ، وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ
…
إلى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ فُهِمْ
27 -
فَأَوَّلٌ حُصُولُ صُورَةٍ بِلَا
…
حُكْمٍ، وثانٍ مَعَ حُكْمٍ حُصِّلَا
28 -
إثباتًا اوْ نَفْيًا، وكُلُّ مَا دُرِيْ
…
إمَّا ضَرُورِيٌّ وَإمَّا نَظَرِيْ
29 -
فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا
…
فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا، وَمَا انْتَفَى
(1)
قال البرماوي في الشرح: (اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه). كذا "عَانَا" في كل النُّسَخ.
(2)
أَيْ: راجِح أو مُستوٍ.
30 -
عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ
…
هُوَ الضَّرُورِيُّ، فَلَا يُبَرْهَنُ
الشرح:
هذا هو الأول مِن الأربعة التي لا بُدَّ مِن شرحها وإيضاحها، وهو العِلم، وله إطلاقات في اللغة والعُرْف، وهو معنى قولي:(عَلَى اصْطِلَاحات). فإنه يشمل اللغة والعُرْف؛ إذِ المراد هنا اصطلاح التخاطب، لا المقابِلُ لِلُّغة والشرع كما سيأتي. وقد ذَكرتُ منها ثلاثةً يحتمل أنْ يَكون حقيقةً في كُل منها، أو حقيقةً في البعضِ مَجَازًا في الباقي، أو لِقَدْر مشترك؛ مِن باب التواطؤ. وتحريرُ ذلك عَسِرٌ، ولا طائل في بَسْطه في هذا المختصر.
وقولي: (لها مُعَاني) هو - بِضَم الميم - اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه.
وقولي: (مُطْلَقُ العِلْمِ) أَيْ: لَفْظُهُ المُطْلَقُ السالم مِن قَيْدٍ ومِن قرينةٍ.
أَحَدُ المعاني الثلاثة: مُجَرَّد الإدراك، وبدأتُ به لأنه الأَعَم، سواء أَكان ذلك الإدراك جازِمًا أو مع احتمال خِلَافِه، رَجحَ ذلك الاحتمال أو ضَعُفَ أو ساوَى.
ولَمَّا كان الراجح والمساوي يَبْعُد معهما أنْ يُقال: (عَلِمَ الشيءَ) أتَيْتُ بهما بَعْد "لو" في قولي: (وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي)، أَيْ: راجِح أو مُستوٍ. وأمَّا عند الجَزْم أو الرجحان في الأول فواضح، ومن هذا قوله تعالى:{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51]؛ إذِ المراد نَفْيُ كل إدراكٍ ولو تَوَهُّمًا.
وقولي: (وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ) إلى آخِره - بيان لأقسام "العِلْم" بهذا المعنى العام.
ويَنْبَغِي أنْ نُقَدِّم على هذا التقسيم أَمْرَيْن:
أحدهما: قد اختُلِف في "العِلْم" هل تَصَوُّره ضروري؟ أو نَظَرِي؟ ذهب الإمام الرازي
إلى أنه ضروري لا يحتاج [لِتَعْرِيف]
(1)
، وكأنَّ مراده "العِلْم" بهذا المعنى الأَعَم، لا بالمعنى الثالث الذي هو أخَصُّ هذه الثلاثة؛ فإنه قد عَرَّفَ ذلك في ضِمْن تقسيم كما سيأتي؛ فَنِسْبَتُه إلى المناقَضَة ليس بِجَيِّد.
وقال إمامُ الحرمين: إنَّ "العِلْم" لا يُحَدُّ؛ لِعُسْره، لا لِكَوْنه ضروريًّا؛ فإنه قد اخْتُلِفَ في حقيقته: أَهُو جوهَر؟ أمْ عَرَض؟ وعَلَى أنه عَرَضٌ: أَهُوَ مِن مَقُولة الكيف ولكنه وصفٌ حقيقي تَلْزَمُه الإضافة؟ أمْ هو مِن مَقُولة الإضافة؟ أَمْ هو مِن مقولة الانفعال، لا الفعل؟
وإذَا لَمْ تتميز ذاتياته عن عَرَضياته، عَسُرَ تحديده؛ فلا طريق لتعريفه، إلَّا إنْ تَمَيَّز عن غَيْره بالقسمة بِأَنْ يُؤْخَذ المشتركُ بَيْنه وبَيْن غَيْره ثُمَّ يُؤخَذ المُمَيَّزُ؛ حتى يَخْرُج لنا "العِلْم".
قلتُ: فَعَاد إلى تعريفه بالرَّسْم، وتَبَيَّن أنه إنما أراد عُسْر التعريف بالحَدِّ.
نَعَم، ظاهر كلام الإمام والغزالي في "المستصفَى" وغيرهما مِن المحققين أنَّ الخلافَ المذكور إنما هو في "العِلْم" بالمعنى الذي يأتي في ثالث الإطلاقات وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنَّ المذكور هنا هو مَحَل الخلاف، وليس تحت هذا الخلاف كبيرُ فائدة؛ فلا حاجة للتطويل فيه.
الثاني: أنَّ مُجَرَّد الإدراك الذي قُلناه - يشارك "العِلْم" فيه ألفاظ تُظَنُّ مترادفة لكنها لِمعانٍ تتميَّز بقيود لا ينبغي أنْ يَخْلُوَ مُرِيدُ العِلم مِن معرفتها؛ لكثرة دَورها في الكلام، فَلنَذْكُرها مختصرة:
فَمِن ذلك: الشُّعور، وهو أول مراتب وصول العِلْم إلى القوة العاقلة. مأخوذ مِن الشعار، وهو ما يَلي الجسد؛ ولهذا كان وَصْف الكفار [بأنهم لا يشعرون]
(2)
أَبْلَغ مِن نَفْي العِلم ونحوه عنهم.
(1)
في (ش): إلى تعريف.
(2)
ليس في (ش).
ثانيها: الإدراك الذي سبق ذِكْرُه، وهو وصول المعقول إلى العقل، مأخوذٌ مِن "أَدْرَكْتُ الشيءَ": وَصَلْتُ إليه.
ثالثها: التَّصَوُّر، وهو حصول الصورة في العقل، كما سيأتي.
رابعها: الحفظ، وهو تَأَكُّد المعقول في العقل، واستحكامُه.
خامسها: التَّذَكُّر، وهو محاولة القوة استرجاع ما زال مِن المعلومات.
سادسها: الذِّكْر، وهو فائدة التذَكُّر، وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذِّهْن. ويقال بضم الذال وكسرها. قال ابن سِيدَه:(هو ضِد النسيان)
(1)
. وزَعَم ابنُ جنِّي أنه بِالكَسْر: بِاللسان، وبِالضَمِّ: بالقلب. وكأنَّ هذا باعتبار الأكثر في الاستعمال.
سابعها: الفَهْمُ، وهو متعلِّق بِلَفْظِ مَن يُخَاطِبُك في الغالب.
ثامنها: الفقه، وقد سَبق.
تاسعها: الدِّراية، وهي المعرفة الحاصلة بَعْد تَرَوٍّ ومقدماتٍ.
عاشرها: اليقين، وهو أنْ يَعْلَم [الشيءَ]
(2)
، لا يَتَخَيَّلُ خِلَافَه.
الحادي عشر: الذهنُ، وهو قوةُ النَّفْس واستعدادُها لِكَسْب العلوم غَيْرِ الحاصلة.
الثاني عشر: الفِكْر، وهو الانتقال مِن الأمور الحاضرة إلى الأمور المُحْضَرَة، كما سيأتي بيانه [في "النَّظَر"]
(3)
.
الثالث عشر: الحَدْسُ، وهو الذي يتميَّزُ به عَملُ الفِكْر، وهو استعداد النفْس بوجود
(1)
المحكم والمحيط الأعظم (8/ 581).
(2)
في (ش): الذي.
(3)
ليس في (ش).
المتوسِّط بَيْن الطرفين.
الرابع عشر: الذكاء، وهو قوة الحدس وبلوغه الغاية؛ لأنه مِن "ذكت النار".
الخامس عشر: الفِطْنَةُ، وهي التَّنَبُّه للشيء الذي [يقصد]
(1)
معرفته.
السادس عشر: الكَيْس، وهو استنباط الأنفَع والأَوْلَى، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَه وعمل لِمَا بعد الموت"
(2)
. ولذلك جُعِلَ [مُقابِلَ]
(3)
العَجْز في حديث: "كُلُّ شيء بِقضاءٍ وقَدرٍ، حتى العَجْز والكَيْس"
(4)
.
السابع عشر: الرأي، وهو استحضار المقدمات، وإجَالةُ الخاطِر فيها وفيما يُعارِضُها.
الثامن عشر: التبَيُّن، وهو عِلْمٌ يَحْصُل بَعْد الالتباس.
التاسع عشر: الاستبصارُ، وهو عِلْم بَعْد التأَمُّل.
العشرون: الإحاطة، وهي العِلم بالشيء مِن جميع وُجُوهه.
الحادي والعشرون: العقل، تقُول:(عَقلْتُ الشيء)، أَيْ: عَلِمْتُه. وتكَرَّر في القرآن {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]، وفي الحديث في تسوية الصفوف:"حتى رَأَى أنْ قد عَقلْنَا"
(5)
. فهو مَصْدَر "عَقلْتُ الشيءَ أعْقلُه". وفي الفَرْق بين العقل والعِلْم أَوْ هُمَا مترادفان - خِلَافٌ مشهورٌ.
(1)
كذا في (ش، ت، ص). لكن في (ز): تقصد.
(2)
سنن الترمذي (رقم: 2459)، سنن ابن ماجه (4260) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 2459).
(3)
في (ش): في مقابله.
(4)
صحيح مسلم (رقم: 2655).
(5)
صحيح مسلم (رقم: 436).
الثاني والعشرون: الحِسْبَان، وبابه مِن الظن والإخالة وغيرهما مما ذُكِر في العربية في باب "ظنَّ" وأخواتها، وقد نَظَمْتُ هذه الأنواع قديمًا، فَقُلْتُ:
عليك بأنواع العلوم مُرَتّبًا
…
شُعُورٌ وإدراكٌ تَصَوُّرُ حِفْظِهَا
تَذَكُّرُ مَنْ بالذِّكْرِ يَفْقَهُ فَهْمَها
…
ويَدْرِي يَقينًا ذِهْنُهُ مُتَوَجَّهَا
وفي الفِكْرِ مِن حَدْسِ الذَّكِي بِفطْنَةٍ
…
يرى الكَيْسَ منها قد تَبَيَّن مَا وَهَى
[كذلك]
(1)
في استبصاره بإحاطةٍ
…
وفي العقل مع حِسْبَانِه ما يُتِمُّها
إذَا عرفت ذلك، فَلنَرْجِع للمقصود، وهو انقسام العِلْم بهذا المعنى إلى تَصَوُّر وتصديق، فالتصور حصول صورة الشيء في الذهن بِشَرْط عَدَم الحُكْم، والتصديقُ تَصَوُّرٌ مع حُكْم، فالأول ساذِجٌ، أَيْ مشروط فيه عدمُ الحكم، والثاني مشروط فيه الحكمُ، فليس فيه تقسيمُ الشيء إلى نَفْسه، ولا كَوْنُ قِسْم الشيء قسيمه؛ إذِ الفَرْق ظاهر بين الماهية "لَا بِقَيْدٍ" و"بِقَيْدِ لَا"، ومن معنى هذا الفَرْق تظهر التفرقة بين مُطْلَق الماء والماء المُطْلَق
(2)
، ومُطْلَق الجَمْع والجَمْع المُطْلَق، وما أَشبه ذلك.
ومعنى "الحُكْم" في التصديق: إسنادُ أَمْرٍ إلى آخَر إثباتًا أو نَفْيًا. نحو كَوْن زَيْد قائمًا، أو ليس بقائم؛ فَخَرجَ: ما لا نِسْبَة فيه أَصْلًا، وما فيه نِسبةٌ قد تُصِوِّرت ولَم يُحْكَم فيها بإثبات أو نَفْي.
(1)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): كذاك.
(2)
إذا قلت: "إيمان" فهذا مطلق الإيمان (لا بِقَيْد)، وإذا قلت:"إيمان لا معصية معه" فهذا هو الإيمان المطلق (بِقَيْد "لا"). فمطلق الماء أن تقول "ماء"، فليس مقيدًا بكونه ماء صابون أو ماء ورد، فهو أَيّ ماء كان، أما الماء المطلق فهو "ماء لا يختلط به شيء"، فهو ماء مع قيد "لا".
وكُل تصديق متضمِّنٌ مِن مُطْلَق التصوُّر [ثلاثة تَصَوُّرات]
(1)
: تَصَوُّر المحكوم عليه والمحكوم به مِن حيث هُمَا، ثُمَّ تَصَوُّر نِسْبة أحدهما للآخَر، فالحُكْمُ يَكونُ تَصَوُّرًا رابعًا عَلَى ما قاله المحقِّقون؛ لأنه تَصَوُّرُ تلك النسبة مُوجبَة أو تَصَوُّرُها مَنْفِيَّة، وهذا التصور أيضًا مِن مُطْلَق التصور، لا تَصَوُّرٌ مُطْلَق؛ لأنه قسيمُه. وبهذا التقرير لا يخرج التصديق عن مَقُولة الانفعال التي منها العِلْم على قول الأكثرين، أو مِن مقولة الكَيْف وبه قال كثير، وليس المراد مِن [الحُكْم بالنفي أو الإثبات]
(2)
إلَّا هذا، لا التأثير في إيجاده أو في عَدَمه؛ لأنَّ ذلك مِن مقولة الفعل وهو خارج عن مقولة العِلْم، فَيَعُود معنى الحُكْم إلى اعتقاد [الشيء]
(3)
مُثْبَتًا أو اعتقاده منفِيًّا. وفي الموضع مباحثُ أخرى ليس في التطويل بها كبيرُ فائدة.
نَعَم، ذهب الأقدمون - كابن سينا وغيْره - إلى أنَّ التصديق نفسُ الحُكْم كيف [فرضته]
(4)
، وتلك التصوراتُ الثلاثة السابقةُ عَلَيه شَرْطٌ له.
وذهب الإمامُ الرازي وجَمْعٌ مِن المحققين إلى أنَّ المجموع هو التصديق، فالتصورات السابقة عَلَى الحكم شطْرٌ مِن التصديق، لا [شَرْطٌ]
(5)
، وإنما سُمِّي التصورُ تصَوُّرًا لِأَخْذِه مِن الصُّورة؛ لأنه حصول صورة الشيء في الذهن، والتصديق تصديقًا؛ [لأنَّ فيه]
(6)
حُكْمًا يُصَدَّق فيه أو يُكَذَّب؛ فَسُمِّي بِأَشْرَف لَازِمَي الحُكْم في النسبة.
(1)
كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): ثلاث تصويرات. وفي (ض): ثلاث تصورات.
(2)
كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): النفي والاثبات. وفي (ض): الحكم بالنفي الاثبات.
(3)
ليس في (ش).
(4)
في (ش): فرض.
(5)
في (ز): شرط فيه.
(6)
في (ش): لأنه.
وقولي: (وكُلُّ مَا دُرِيْ) إلى آخِره - أَيْ: كُل ما عُلِم، وسَبق تفسيرُ "الدراية"، والذي دُرِي فيما ذكرناه المرادُ به التصور والتصديق السابقان، لا يخلو كل منهما إمَّا أنْ يَكون ضروريًّا، أَيْ: يَحْصُل للإنسان بالضرورة مِن غَيْر نَظَر، أو نَظَريًّا وهو بِخِلَافه فيهما، فالأقسام أربعة:
أحدها: التصور النظري: وهو ما تَوَقَّف على تَصَوُّر آخَر، بِأنْ يَكون المُتَصَوَّرُ مُرَكَّبًا؛ فيتوقف تَصَوُّره على تَصَوُّر ما تَرَكَّب مِنه، فَيُطْلَب تَصَوُّرُه مِن تَصَوُّرِ مادَّته وجُزئِه الصُّوري وهو جهة التركب؛ ولذلك يُسَمَّى مطلوبًا وذلك بمعرفة جُزئه الشامل له ولِغَيْره، ثُمَّ جُزئه المُمَيِّز له عن غَيْره، وهُمَا "الجنس" و"الفصل"، وربما عرفه بِلَازِمه كما سنذكره مِن بَعْدُ مُفَصَّلًا.
وفي معناه ما كان مِن البسيط في حُكم المُرَكَّب؛ فَيُمَيَّزُ باعتبار تَعَلُّقه اللازم له وإنْ كان خارجيًّا؛ ليتميز عن غَيْره، فتعريفه حينئذ بالرسم، لا بِالحَدِّ كما سيأتي، وذلك كَتَصَوُّر حقيقة الصلاة والحج ونحو ذلك.
ثانيها: التصديق النظري: وهو ما يتوقف على تصديقٍ سابقٍ عليه؛ لِكَونه دالًّا عليه، فَيُطْلَب مِنه؛ فلذلك يُسَمَّى النظري مطلوبًا، وسيأتي بيان الدليل وكيفية دلالته.
مثاله: الحكم بِكَوْن الصلاة واجبةً أو مندوبةً، وكَوْن الحج واجبًا على الفَوْر أو التراخي.
وذلك معنى قولي في التصوُّر والتصديق النظريَّيْن: (فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا).
وإنما قَدَّمْتُ النظَرِيَّيْن على الضرورِيَّيْن؛ لأنَّ تقابُلَهما تَقابُل العلم والمَلَكَة، فلا تُعْرَف الأَعدام إلَّا بِمَلَكاتها.
ثالثها ورابعها: التصور الضروري والتصديق الضروري، وَهُمَا ما لا يتوقفان على
مثلهما، وهو معنى قولي:(وَمَا انْتَفَى عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ)، أَيْ: توقُّف التصور على تصور، والتصديق على تصديق.
مثالهما: تَصَوُّر الواحد والحُكْم عليه بأنه نِصْفُ الاثنين.
تنبيه:
قد عُلِم مِن تقسيم كل مِن التصور والتصديق إلى ضروري ونظري أنه ليس الكل مِن كل منهما ضروريًّا (وإلَّا لَمَا جَهلْنَا شيئًا) ولا نظريًّا (وإلَّا لَمَا تحَصَّلْنَا على شيء)، والمسألةُ فيها مذاهبُ كثيرة وأدلة منتشرة لا يليق بِذِكْرها هذا المختصر، ولا طائل تحتها، والله أعلم.
ص:
31 -
أمَّا الَّذِي [ثانِي]
(1)
مَعَانِي العِلْمِ
…
فَمُطْلَقُ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الفَهْمِ
32 -
وَهْوَ الَّذِي قَدْ قابَلُوا بِالْمَعْرِفَهْ
…
لِأنَّهَا تَصَوُّرٌ دُونَ صِفَهْ
33 -
مِنْ أَجْلِ هذَا عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ
…
وَهْوَ إلَى اثْنَيْنِ؛ [لِحُكْمٍ]
(2)
زائِدِ
الشرح:
أَيْ: الثاني مِن معاني العِلم وإطلاقاته أنْ يُرَاد به مُطْلَق التصديق، سواء أكان قَطْعِيًّا أَم ظنَّيًّا، لا التصور. وحينئذ فيَكون مُقابِلًا للمعْرفة التي هي تَصَوُّرٌ مُجَرَّدٌ لا حُكْم فيه، وهو معنى قولي:(دُونَ صِفهْ). أَيْ: دُونَ حُكْم، وليس مُرادِي هنا بِـ "الصفة" ما هو مُقابِل للذَّات والفعل والحُكْم، ومعنى مقابلته أنك تقول:(إمَّا معْرفة وإمَّا عِلم)، كما تقول: (إمَّا تَصَوُّر
(1)
في (ن 2): يأتي.
(2)
كذا في (ص، ش، ن 1، ن 2، ن 4). لكن في (ز، ت، ض، ق، ن 5): بحكم.
وإمَّا تصديق)، ومن أَجْل ما قَرَّرْناه كان "عَرفَ" وما في معناه مِن مادته - مُتَعَدَّيًا إلى مفعولٍ واحدٍ، تقول:(عَرفْتُ زَيْدًا). أَيْ: تَصَوَّرْتُه، بلا زيادة على ذلك. بِخِلَاف "العِلم" وما تصرّف مِنْه؛ فإنه مُتَعدٍّ إلى مفعولين، تقول:(عَلِمْتُ زَيْدًا صائمًا). إذِ المقصود نِسْبةُ الصيام إلى زَيْد، فَتَوَقَّف عَلَى "مُسْنَدٍ" و"مُسْنَدٍ إليه".
فَمِن الأول قوله تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]، ومن الثاني قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، عَلَى أنه قد جاء "عَلِمَ" بمعنى "عَرفَ" فيتعدى لِوَاحدٍ، كقوله تعالى:{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد: 31]، وغير ذلك.
واعْلَم أنَّ الفرق بَيْن "العِلْم" و"المعرفة" بذلك ذكره جماعةٌ كما قرره الماوردىُّ في تفسيره، وأَوْرَدَه ابن الحاجب في مختصره، ولكِن ذُكِرَ بينهما فُروقٌ أخرى، فَلْنَذكر أَحْسنها؛ تكميلًا للفائدة:
فَمِن ذلك أنَّ "المعرفة" تتعلق بالجزئيات، و"العِلْم" بالكُليات. قاله السهيلي في "نتائج الفِكَر"، ونقله غيْره عن ابن سِينا.
وقيل: "العِلْم" ما كان بدليل، و"المعرفة" ما كان فيه الإدراك أَوَّلِيًّا بِلَا استدلال. ذكره ابن الخشاب، لكن يَلْزَم منه أنَّ "العِلم" لا يَكون إلَّا نَظَرِيًّا، ولا يَكون ضروريًّا، وهو ضعيف كما سبق؛ ولذلك لَمْ أعُد مِن إطلاقات "العلم" ما كان لدليل فقط.
وقِيل: "المعرفة" عِلم الشيء مِن حيث تفصيله، بِخِلَاف "العلم"؛ فإنه المتعلق بالشيء مُجْمَلًا ومُفَصَّلًا. ذكره العسكري في "الفروق"
(1)
.
(1)
الفروق اللغوية للعسكري (ص 80)، الناشر: دار العلم والثقافة - القاهرة.
وقيل: "المعرفة" لا تَكون إلا بَعْد جَهْل، بِخِلَاف "العلم"؛ فَقَدْ يَكون بَعْد جهل (كقوله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]) وقد لا يَكون كذلك (كالعِلم القديم). نقله ابن إياز في "شرح الفصول" عن بعضهم، وكذا [النيلي]
(1)
في شرح الحاجبية.
وَرُدَّ بأنَّ "المعرفة" تُطْلَق نِسْبتها إلى الله تعالى كالعِلْم.
وأُجِيبَ بأنَّ اشتراط سَبْق الجهل فيها إنما هو فيمن يُتَصَوَّرُ فيه الجهلُ، لا مُطْلَقًا.
وقيل: "العِلم" في الإنسان، و"المعرفة" تَكون في الناس وفي البهائم. قاله ابن القطاع.
وقيل: "المعرفة" فيما يَكون مشعورًا به بالحواس، و"العِلْم" في غير ذلك. حكاه ابن جني في خاطرياته عن الفارسي، ويدل له قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]، ومنه أيضًا قول الشاعر
(2)
وهو مِن أبيات سيبويه:
أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ
…
بَعَثُوا إلَىَّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ
(1)
كذا في (ض، ق، ز). وفي (ش): البعلي. وفي (ت): النبلي. و"النيلي" نِسْبَة إِلَى بلد النّيل، مَدِينَة بَين وَاسِط والكوفة، مَبْنِيَّة على نهر النّيل. (توضيح المشتبه، 1/ 686).
وفي (الأنساب، 5/ 551) للسمعاني: (النِّيلي .. هذه النسبة إلى النِّيل، وهي بليدة على الفرات، بين بغداد والكوفة).
وهو تقي الدين النيلي، وله "التحفه الشافيه في شرح الكافيه" شَرَح "الكافية" لابن الحاجب. فلعله المقصود بقوله:(شرح "الحاجبية").
قال السيوطي في كتابه (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 1/ 410): (إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن عبيد الله بن إِبْرَاهِيم بْن ثَابت الطَّائِي تَقِيّ الدّين النيلي، شَارِح "الكافية").
(2)
طريف بن تميم العنبري.
وقيل: "المعرفة" لِمَا نُسِي ثُمَّ ذُكِر، كقوله تعالى:{فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، ونحو ذلك، بِخِلَاف "العلم"؛ فإنه أَعَم.
وفروق أخرى أَضْرَبْتُ عنها؛ لِضعفها.
قولي: (عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ) أَيْ: المعرفة، (وَهْوَ إلَى اثْنينِ) أَيْ: العِلم. فالتمييزُ بينهما بالتذكير والتأنيث في الضمير.
وقولي: (لِحُكْمٍ زائِدِ) تعليل للتعدية إلى اثنين؛ لأنَّ الحُكم يستدعي محكومًا عليه ومحكومًا به كما قررناه، والله سبحانه أعلم.
ص:
34 -
وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَى الشَّهِيرُ الْفَائِقُ
…
حُكْمٌ لِذِهْنٍ جازِمٌ مُطَابِقُ
35 -
لِمُوجِبٍ، فَغَيْرُ جازِمٍ رَجحْ
…
"ظَنٌّ"، ومَرْجُوحٌ [فَوَهْمٌ]
(1)
اتَّضَحْ
36 -
وَمُسْتَوِي الطَّرْفَيْنِ "شَكٌّ" نُبِذَا
…
وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ، فَذَا
37 -
يُسْمَى "اعتِقَادًا فَاسِدًا" وَ"جَهْلَا
…
مُرَكَّبًا"، أمَّا "الْبَسِيطُ" نَقْلَا
38 -
فَهْوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ
…
عَنْ قابِلٍ لِلْعِلْمِ، لَا جُلْمُودِ
(2)
الشرح:
أَيْ: الثالث مِن إطلاقات "العِلم"(وهو أشهرها وأكثرها استعمالًا): أنْ يَكون بمعنى
(1)
كذا في (ض، ت). لكن في (ص، ز، ق، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): بِوَهْم.
(2)
الجلمود: الصخر.
التصديق اليقيني، وهو "حُكمُ الذِّهنِ الجازمُ المطابِقُ؛ لِمُوجِبٍ". كذا عَرَّفه الإمامُ فخر الدين الرازي في "المحصول" في تقسيم حَصَر به "العِلم" وأضداده، ولكن بَعْد أنْ ذَكر قَبْل ذلك أنَّ العِلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف، وأقام على ذلك دليلين ذكرهما ابن الحاجب في مختصره، وأجاب عنهما؛ فَعُدَّ ذلك مِن تناقض كلام الإمام.
والجواب عندي أنه أراد بـ "الضروري الذي لا يحتاج لِحَدٍّ"[العِلْمَ]
(1)
بالإطلاق الأول (وهو مُجَرَّد الإدراك)، وما ذَكَره في التقسيم إنما هو العِلم بالمعنى الثالث الذي نَحْن فيه وهو أَخَصُّ مِن ذلك، ولا يَلْزَم مِن كَوْن الأَعَم ضروريًّا أنْ يَكون الأَخَصُّ ضروريًّا - كما سبق الوَعْدُ به.
وبالجُمْلَة فحاصل ما ذُكِر مِن قيود هذا التعريف ثلاثة: الجَزْمُ، والمطابقَةُ لِمَا في الخارج، وكَوْنُ ذلك لِمُوجِبٍ يَقْتَضِيه. وَكُل مِن الثلاثة مُحْتَرَزٌ به عن أمور هي أضداد للعِلم، فلا بُدَّ مِن شرح كل قَيْد وما احْتُرِزَ به عنه مِن قسائم العِلْم.
فقولي: (فَغَيْرُ جازِمٍ) إلى آخِره - بيان للمُحْتَرَز عنه بالقيد الأول وهو "الجَزْم"، ومعناه أنْ يعتقده بحيث لا يُحتمل عنده نقيضُه؛ فخرج عنه المحتملُ، وهو قِسمان: ما فيه طرفٌ راجحٌ، وما استوى طرفاه. فالأول يُسَمَّى الراجِحُ فيه "ظَنًّا" والمرجُوحُ فيه "وَهْمًا". والثاني (وهو المستوِي) يُسَمَّى "شَكًّا"، وربما أُطْلق "العِلْم" بمعنى "الظن" مجازًا كَعَكْسه إنْ قُلْنَا العِلْم حقيقةٌ في هذا المعنى الثالث؛ فَمِن ثَمَّ لَمْ أعُدّ مِن إطلاقات "العِلم" كَوْنه بمعنى الظن مِن حيث هو ظن، فإنَّ تلك إمَّا حقائق لُغَوِية إنْ ثَبَتَ استعمالُ العرب لها كذلك، وإمَّا حقائق عُرْفِية اشتهرت لِكَثْرة الاستعمال.
فَمِن إطلاق "العِلم" بمعنى الظن قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:
(1)
كذا في (ز، ظ)، لكن في سائر النُّسخ: هو العلم.
10] الآية، فليس المرادُ اليقينَ؛ إذْ لا اطِّلَاع لنا على الباطن، إنما حَكَمْنَا به لِمُطْلَق [التلفُّظ]
(1)
بالشهادتين، لكن لَمَّا نزل ذلك مَنْزِلة اليقين لِتَعَذُّر اليقين ولِعِظَم هاتين الكلمتين، أُطْلِقَ على ذلك عِلْمًا.
ومِن عَكْسه (وهو إطلاق الظن بمعنى العِلْم) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، فإنَّ المرادَ هنا اليقينُ؛ لأنه مِن عقائد الدِّين، لكن قُصد فيه التيسيرُ والبشارةُ لِمَن قد دَخَل فيه بضعف اعتقادٍ (كالمؤلَّفة قَبْل أنْ يَحْسُن إسلامُهم)، فَلَعَلَّه بذلك يَحْسُن إسلامُه ويَقْوَى حتى يَصِير يقينًا، فهو مِن ألطاف الله تعالى؛ فإنه إذَا كان بهذا الظن مُبَشَّرًا بهذه السعادة، فكَيْف إذَا حَسُن اعتقادُه وقَوِيَ؟ وكَيْف مَن كان يَقِينه ابتدائيًّا؟
تنبيه:
"الشك" في اللُّغة: مُطْلَق التردد، وكَوْنه مع الاستواء إنما هو اصطلاحٌ للأصوليين، وزَعَم النووي أنه عند الفقهاء كما في اللغة، فلا يُفَرَّق في الفقه بَيْن حالَتَي التساوِي والرجحان.
ورُدَّ ذلك بأنَّ هذا إنما هو في بعض الأبواب، كباب الحدث في قاعدة "مَن تَيَقَّن الطهارة وشَكَّ في الحدث، أو عَكْسه"؛ ولذلك ضُعِّف ما قاله الرافعي وتبعه في "الحاوي الصغير" فِيمَن تَيَقَّن الحدث وظنَّ الطهارة بَعْدَه: (إنه يرتفع به، لا مَن شَكَّ، أَي استوى عنده الطرفان)[بِأنه]
(2)
لا فَرْق بَيْن الشك والظن في هذا الباب ونحوه؛ لِمَعْنى يخصُّ ذلك الموضع، لا مُطْلَقًا، فَقَدْ فَرَّقُوا في أبواب بينهما كالأصوليين:
(1)
ليس في (ش).
(2)
كذا في (ز)، ومعنى العبارة هكذا:(ما قاله الرافعي ضُعِّفَ بأنه لا فَرْق بَيْن الشك والظن في هذا الباب). لكن في (ص): فإنه.
فقالوا في باب الإيلاء: لو قيد بِمُسْتَبْعَدِ الحصولِ في أربعةِ أشهُر (كنزول عيسى عليه السلام فمول، وإنْ ظَنَّ حصوله قَبْلها فليس بمول قَطْعًا. وإنْ شك فوجهان، أصحهما كذلك.
ولو شك في المذبوح: هل فيه حياة مستقرة؟ أو لا؟ فإنْ غَلَب على ظنه بقاؤها، حَلَّ، وإلَّا حَرُم؛ للشك في المُبِيح.
وقالوا في القاضي: يَقْضي بِعِلْمه وبِغَلَبة الظن باستصحاب الحال، وعند الشك المستوِي لا يَقْضي.
وفي الأكل مِن مال مَن يغلب على ظنه الرِّضَا: يَحِلُّ، دُونَ مَن يَشُك.
وغَيْر ذلك مما لا ينحصر.
وقولي: (وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ) إلى آخِره - هذا هو المحترز عنه بالقيد الثاني، وهو المطابقة لِمَا في الخارج، فَغَيْر المطابِق مع الجَزْم هو الاعتقاد الفاسد، ويُسَمَّى "الجهْل المُرَكَّب"؛ لأنه مُرَكَّب مِن عَدَم العِلم بالشيء واعتقادٍ غَيْرِ مطابِقٍ، وهذا كاعتقاد المعتَزلي أنَّ الله تعالى لا يُرَى في الدار الآخِرة.
وسَواءٌ في هذا القِسم:
- ما اعتقده تقليدًا، كما في اعتقاد بعض الكفار الذين حَكَى الله تعالى قولهم:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
-[أو]
(1)
اعتقده بشيء باطلٍ ظَنَّه دليلًا، كما في رؤوس المبتدعة وكثير مِن الكفار يَحْسبون أنهم على شيء إلَّا أنهم هُم الكاذبون.
(1)
في (ش): وان.
وأمَّا الجهل البسيط فهو انتفاء إدراك الشيء بِالكُلِّيَّة بحيث لا يَخْطُر بالبال أصْلًا. وهو معنى قولي: (انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالمَقْصُودِ). وهو أحسن مِن التعبير بِـ "انتفاء العِلْم بالشيء"؛ لأنَّ الشيء لا يُطْلَق على المعدوم، ولَفْظ "المقصود" شامل للموجود والمعدوم.
نَعَم، شَرْط هذا النوع أنْ يَكون انتفاؤه عن القابِل للعِلْم، أَيْ الذي مِن شأنه الإدراك؛ فيخرج نَفْيه عن نحو "الجَلْمُود" بفتح الجيم والضم كما قاله الجوهري، أَيْ: الصَّخْر، ومِثْله الحيوان غَيْر العاقل، فلا يُوصَف شيء مِن ذلك بالجهل؛ لِعَدَم القابِلية. كذا ذَكَره الآمدي في "أبكار الأفكار". وقد عُلِمَ مِن "تَقْرِير أنهما نَوْعان للجهل" أنَّ ما في "جَمْع الجوامع" مِن حكاية العبارتين قولين - ليس بِجَيِّد، وإنما تبع في ذلك ابن مكي في قصيدته.
وما أحسن قول الإمام الرافعي في باب الربا مِن "شرح الوجيز" في الكلام على قاعدة مُدّ عجوة: (إنَّ الجهل معناه المشهور: الجَزْمُ بِكَوْن الشيء على خِلَاف ما هو عليه)
(1)
.
قال: (ويُطْلَق ويُراد به عَدَمُ العِلم)
(2)
. انتهى.
فأشار إلى أنهما نوعان وإنْ كان إطلاق الجهل في أحدهما أَشْهَر. نَعَم، تعبيره بِـ "الشيء" فيه ما سَبَق.
وقَوْلي: (أمَّا البَسِيطُ نَقْلَا) يجوز أنْ يَكون نَصْبُ "نَقْلَا" فيه على الحال (أَيْ: حال كَوْنه مَنْقُولًا عن العلماء)، وأنْ يَكون تمييزًا (أَيْ: معنى البسيط مِن حيث النقل عنهم)، والله أعلم.
(1)
فتح العزيز شرح الوجيز (4/ 87)، ط: دار الكتب العلمية.
(2)
فتح العزيز شرح الوجيز (4/ 87)، ط: دار الكتب العلمية.
ص:
39 -
فَإنْ يَكُنْ [ذَا]
(1)
بَعدَ عِلْمٍ وُجِدَا
…
فَـ "السَّهْوَ" يُسْمَى، وبِطُولٍ في المَدَى
40 -
يَكُونُ "نِسْيَانًا"، فَكُلُّ قِسْمِ
…
أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ
الشرح: هذا تقسيم للجهل البسيط إلى ثلاثة أقسام: سَهْو، ونسيان، وغيرهما.
وذلك أنه إنْ سَبقه إدراك ثُمَّ زال، سُمِّيَ سَهْوًا. وإنْ لا، فَلَا.
والأولُ إنْ قَصُرَ فيه زمانُ ذهابِ الإدراك، اشتهر تسميته "سَهْوًا"، وربما سُمي "غَفْلةً"؛ ولهذا قال الجوهري:(السهو: الغفلة)
(2)
. وإنْ طال زمانه وامتد، سُمِّي - مع كَوْنه سَهْوًا - "نسيانًا"؛ لاستحكام الغفلة فيه بالطول، فهو أَخَص مِن مُطْلَق السهو، ومُطْلَق السهو أَخَص مِن مُطْلَق الجهل البسيط.
وهو معنى قولي: (فكُلُّ قِسْم أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ)، أَيْ: في رَسْمه وتعريفه الذي يُعَرَّف به، وهذا أَحْسَنُ ما فُرَّق به بَيْن "السهو" و"النسيان" كما يُؤخَذ ذلك مِن استقراء استعمال اللفظين في كلام العَرَب.
ومنهم مَن فَرَّق بينهما بأنَّ "النسيانَ" عَدَمُ ذِكْر ما كان مذكورًا، و"السهو" غَفْلةٌ عمَّا كان مذكورًا وعمَّا لَمْ يَكُنْ مذكورًا؛ فَعَلَى هذا "النسيان" أخَصُّ مِن "السهو" مُطْلَقًا، فهو باعتبار آخَر غير الأول.
ومنهم مَن يُفَرِّق بِغَيْر ذلك، وهو كثير، فلا حاجة للتطويل به.
وذهب كثير إلى أنَّ معناهما واحد. قال القاضي عياض في "المشارق": (السهوُ في
(1)
كذا في (ش، ض، ت، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وفِى (ز، ص، ق): من.
(2)
الصحاح تاج اللغة (6/ 2386).
الصلاة: النسيانُ فيها)
(1)
.
وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": (إنَّ الفَرق بينهما مِن حيث اللغة بَعيدٌ)
(2)
. والله أعلم.
ص:
41 -
وَالْمُوجِبُ الْمَذْكُورُ إمَّا فَرْدُ
…
أَوْ ذُو تَرَكُّبٍ، وكُلٌّ عَدُّوا
42 -
مُوجَبَهُ مِنَ الضَّرُورِيِّ سِوَى
…
مُحَصَّلٍ بِنَظَرٍ لَهُ حَوَى
43 -
فَالْفَردُ حِسٌّ ظَاهِرٌ مِنْ خَمْس
…
وَالْعِلْمُ في هذَا يُسَمَّى "الْحِسِّي"
44 -
أوْ بَاطِنٌ وَمَا بِهِ "وِجْدَانِي"
…
كَالْعِلْمِ أَوْ كَالْجُوعِ، ثُمَّ ذَانِ
45 -
مَا بِهِمَا "الْمُشاهدَاتِ" يُسْمَى
…
وَمِنْهُ عَقْلٌ دُونَ شَيْءٍ ضُمَّا
46 -
فَإنْ يَكُنْ بَدِيهةً، أَيْ تُلْفِي
…
تَصَوُّرَ الطَّرْفَيْنِ فِيهِ يَكْفِي
47 -
فَذَا "الْبَدِيهِيُّ" وَيُسْمَى "الْأَوَّلِيْ"
…
أَوْ [إنْ]
(3)
يَكُنْ قِياسُهُ معْهُ جَلِيْ
48 -
فَسَمِّهِ "الْفِطْرِيَّ"، نَحْوُ: الْأَرْبَعُ
…
زَوْجٌ؛ لِكَوْنِ الْقَسْمِ فِيهَا يَقَعُ
49 -
بِمُتَسَاوِيَيْنِ، أَمَّا بِالنَّظَرْ
…
فَـ "النَّظَرِيُّ" اسْمٌ لِعِلْمِهِ اشْتَهَرْ
50 -
وَمِنْهُ مَا رُكِّبَ مِنْ عَقْلٍ وَمِنْ
…
سَمْعٍ مُكَرَّرٍ مُفِيدٍ لِلْفَطِنْ
(1)
مشارق الأنوار (2/ 229).
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 252)، تحقيق: محمد الفقي - أحمد شاكر، الناشر: مطبعة السنة المحمدية - 1953 م.
(3)
في (ن 1): أن.
51 -
وَذَا تَوَاتُرٌ، وَعِلْمُنَا بِهِ
…
تَوَاتُرِيٌّ، وَسَيَأْتِي، فَادْرِهِ
52 -
وَمِنْهُ مَا ترْكِيبُهُ مِنْ عَقْلِ
…
وَحِسَّ غيْرِ السَّمْعِ، بَلْ بِوَصْلِ
53 -
مُشَاهَداتٍ كُرِّرَتْ بِتَجْرِبَهْ
…
فَـ "التَّجْرِبِيُّ" اسمٌ لِعِلْمٍ أَكْسَبَهْ
54 -
وَإِنْ تَكُنْ قَرائِنٌ قَوِيَّهْ
…
في حَدْسِ نِسْبَةٍ، فَذِي "الْحَدْسِيَّهْ"
55 -
بَلْ كُلُّ ظَنِّيٍّ حَوَى قَرَائِنَا
…
يَصِيرُ عِلْمِيًّا بِمَا قَد قَارَنَا
الشرح:
أَيْ: الثالث مِن قيود "العِلْم": كَوْن الجَزْم - المُطَابِق - لِمُوجِبٍ
(1)
، وهذا الموجِبُ المذكور له أقسام كثيرة، يتنوع العِلْم بسببها إلى أنواع، ولِكُل نوع لَقَبٌ، فَذَكَرْتُ في هذه الأبيات ذلك مُرَتَّبًا على وَجْهٍ حَسَن. ثُمَّ أَذْكُر بعد ذلك ما يَخْرُج بهذا القيد.
فَـ "المُوجِبُ" المراد به المُقْتَضِي لذلك والمُحَصِّلُ له، وهو بِخَلْق الله تعالى العِلْم عنده، لا على جهة تأثير ذلك المُوجِب كما هو رَأْي المعتزلة في العِلَل كما سيأتي.
وهو إمَّا مُفْرَد أو مُرَكَّب، والمُفْرَد إمَّا حِسٌّ وَحْده (ظاهرٌ أو باطنٌ)، أو عَقْل وَحْده [بِضرورةٍ أو نَظَر]
(2)
.
والمُرَكَّبُ إمَّا مِن حِسًّ مُطْلَقًا
(3)
وعَقْل، وإمَّا مِن حِس سَمْعٍ وعَقْل.
وكُلُّ ما أَوْجَبَه شيء مِن هذه الموجِبات فَمَعْدُودٌ عندهم مِن العلوم الضرورية (عَلَى خِلَاف في بَعْضه)، سِوَى ما اسْتُفِيدَ بِنَظَرِ العَقْل، فإنه عِلْمٌ نَظَرِيٌّ كما سيأتي بيانه.
(1)
يَعْني: الجزم المطابق يَكُون لِوجود مُوجِب.
(2)
من (ز، ظ).
(3)
يعني: سواء كان الحس بالسمع أو بِغَير السمع من الحواس الخَمْس.
فَأَوَّل أقسام المُوجِبِ المُفْرَدِ: الحِسُّ الظاهرُ، أَيْ: يَكون المُدْرِكُ لِلشيء إحدَى الحواس الخَمْس التي هي: البَصَر، والسَّمْع، والذوق، والشَم، واللمس. كإدراك كَوْن الشمس مضيئة وأنَّ صَوْتَ البلبُل حَسَنٌ دُونَ صوت الحمار، وأنَّ ريح الوَرْد طيب، وطَعْم العسل حلوٌ، وأنَّ القطنَ لَيِّنٌ.
ويُسَمَّى العِلم بشيء مِن هذه الخَمْس "العِلْم الحِسِّي"، سواء قُلْنَا: إنَّ نَفْس الحواس مُدرِكة، أو المُدْرِكَ النَّفْسُ بواسطتها، على الخلاف في ذلك. ومنهم مَن أَنْكَر إفادةَ الحواسِّ اليقين، وهو مباهتة، وتَعَلَّقُوا في ذلك بِشُبَه ضعيفة.
وَجَعْلُ الإدراك بِالحِس مِن قبيل العلوم هو قَوْل الأشعري، خِلَافًا لِمَن خَصَّ العِلم بالمعنوي [وهو الأمر الكُلِّي، لا الحسي]
(1)
.
الثاني: الحسُّ الباطن، كإحساس الإنسان بحصول عِلْم شيء، وبحصول جوع أو عطش، ويُسَمَّى هذا النوع "العِلْم الوِجْداني"؛ نِسْبَة إلى الوِجدان، أَيْ: الوجود النفساني.
وكُلٌّ مِن [المحسوس]
(2)
بالظاهر والباطن يُسَمى "المشاهَدة"، ويقال لقضاياهما: المشاهَدات.
الثالث: العقل الصَّرْف، وهو معنى قولي:(عَقْلٌ دُونَ شَيْءٍ ضُمَّا)، أَيْ: بدون شيء انضم إليه العِلم. وهذا ضربان:
أحدهما: أنْ يَكون ببديهة العقل، وهو القضية التي يجزم العقل بها بِمُجَرَّد تَصَوُّر الطرفين الموضوع والمحمول، سواء أكان تَصَوُّر كُل مِن طَرَفَيْها بِضَرورة أو بِنَظَر، فهي أربعة أقسام.
(1)
في (ز، ظ): لا بالحسي.
(2)
في (ز، ظ): المحسوسين.
مثاله قَوْلنا: (الكُل أعْظَم مِن الجُزْء)، و (الواحد نِصف الإثنين). وتُسَمَّى القضايا المعلومة بذلك "الأوليات"؛ نِسْبَة إلى الأول؛ لحصولها أَوَّلًا مِن غير تَوَقُّفٍ على قضية أخرى، بخلاف النظريات كما سيأتي.
ويلحق بهذا القِسْم ما هو كالبديهي، وهي القضايا التي قياساتها معها، وذلك بأنْ يَحْكُم العقل بها بواسطة لا يغفُلُ عنها الذهن عند تَصَوُّر حدود تلك القضايا المحكوم عليه وبه فيها. كقولنا:(الأربعةُ زوجٌ)؛ لانقسامها بمتساويين؛ فإنَّ الانقسام بمتساويين وسطٌ حاضرٌ في الذهن دائمًا عند تَصَوُّر الأربعة والزوجيَّة؛ فلذلك قِيل فيها: إنَّ قياساتها معها. فَمِن حيث إنَّ لها دليلًا - هي نظرية، ومِن حيث إنه معه في العِلم - بديهية، وهذا يَغْلب فيها؛ ولذلك تُسَمَّى "القضايا الفِطْرِيَّة"؛ لأنَّ عِلْمها بالفطرة.
فقَوْلي: (أو إنْ يَكُنْ قِياسُهُ مَعْهُ) ينبغي أنْ يَكون عَطْفًا على تفسير البديهي بِقَوْلي: (أَيْ تُلْفِي)، أَيْ: تَجِد يَأَيُّها المخاطَبُ تَصَوُّرَ الطرفين كافِيًا في حصول العِلْم، أو إنْ كان قياسُه معه فهو أيضًا بديهي.
وقَوْلي بَعْده: (أَمَّا بِالنَّظَرْ) هو بِفَتْح الهمزة، أَيْ: أمَّا إذا كان حصول العِلْم بالعقل الصِّرف إنما هو [بالنظر]
(1)
والتفكْر المؤدِّي إليه، فهذا هو الضرب الثاني مِن المستفاد بالعقل، وهو "العِلم النظري"، وذلك كل قضية يَقُوم عليها البرهان، نحو:"العَالَم حادِث؛ لأنَّ العالَم مُتَغَيَّر، وكُل مُتَغَيِّر حادث"؛ فأنتج المطلوب، والعِلْم حينئذ يحصل عند الدليل، لا بِهِ - كما تَقَدَّم تقريره، لا أنه متولِّد منه كما يقوله المعتزلة.
واعْلَم أنَّ النظري لا يتقيَّد بِكَون كل مِن مُقَدِّمَتَي دليله بالعقل الصِّرف، بل قد تَكون إحداهما سمعية حيث أفاد السمعُ اليقين بأنْ يَكون مِن ضروريات الدِّين (كوجوب الصلاة
(1)
في (ز، ظ): بالنظر فيه.
ونحوه)، وربما كانت القضيتان سمعيتين لكن إنتاجهما المطلوب وإفادتهما العِلْم به - بالعقل الصِّرف، ولا يَضُر كَوْن عِلم النسبة في كلتيهما أو إحداهما بِغَيْر العقل.
وأمَّا الموجِبُ المُرَكَّب - وإليه أَشَرْتُ بقولي: (وَمِنْهُ مَا رُكِّبَ) إلى آخِره - فأقسام:
أحدها: ما تَرَكَّب مِن "عقل" و"حِس هو سَمْعٌ" بواسطة كثرة ذلك السمع وتكَرُّره، وهو "التواتُر"، وسيأتي بيانه في باب "طريق ثبوت الدليل" أَيْ: سَنَد الأخبار، وفي إفادته العِلم وَكَوْنه عِلْمًا ضروريًّا أو نَظَريًّا خِلَافٌ يأتي هناك [أيضًا]
(1)
، وذلك كَعِلْمنا بالقرون الماضية كعاد وثمود و [قَوْم]
(2)
موسى وعيسى والبلاد النائية كالرُّوم والهند، ويُسَمَّى الإدراكُ بذلك "العِلم التواتُري".
الثاني: أنْ يَتَرَكَّب الموجِب مِن "عَقْل" و"حِسّ غَيْر سَمع"، وهو أنواع:
أحدها: بواسطة مشاهداتٍ متكررة تُؤدِّي إلى جَزْم العقل بِتَرْتيب أَمْر على أَمْر، لا على سبيل الاتفاق، كمشاهدة تَرَتُّب الإسهال على السقمونيا؛ فَيَحْكُم بأنَّ السقمونيا مُسْهِلة. وتُسَمَّى هذه القضايا "التجربيَّات".
وثانيها: أنْ يَكون بواسطة قرائن قوية يَجْزِم العقلُ - بسبب توسطها - بالحُكم المترتِّب عليها، كقولنا:(نورُ القمر مستفاد مِن الشمس). فإنه لَمَّا اختلف تشكل النور في القمر بسبب قُرْبه مِن الشمس وبُعْده منها، فكُلما قَرُب مِن الشمس وانحرف مِن مقابلتها ينقص نورُه، وكُلما بَعُد عنها ازداد نورُه؛ فيحصل حَدسٌ قوي بأنَّ نُورَه مستفاد منها. و"الحدْسُ" عبارة عن سرعة انتقال الذِّهن مِن المبادئ إلى المطالب، وليس بِفِكْر؛ إذْ لا بُدَّ في
(1)
ليس في (ش).
(2)
ليس في (ز). وفي (ش): قومي.
الفِكْر مِن حركة؛ لأنَّ المبادئ [تَسْبَح]
(1)
في الذهن؛ فيحصل المطلوبُ مِن غَيْر حركة. وتسمى هذه القضايا "الحَدْسيات".
واعْلَم أنَّ كُلًّا مِن التجربي والحدسي مقصورٌ حصول العِلْم به على صاحبه، فليس حُجَّةً على غَيْره؛ لِجَواز أنْ لا تَحْصُل التجربةُ أو الحدسُ لِغَيْره عَلَى الوجْه الذي أفادَهُ العِلْمَ.
قلتُ: ويَجْرِي مِثْل ذلك في التواتر وغَيْره؛ فإنَّ العِلْم إنما يحصل لِمَن حصَل عنده المُوجِبُ، فلا يُقْصَر ذلك على التجربي والحدسي، ولكن يَتَميزان بأنَّ أصلهما "ظَنٌّ" انضم إليه قرائن قَويَتْ حتى أفادت العِلْم، بِخِلَاف ما سبق، فإنه عِلْمٌ في أَصْله؛ وعلى هذا فلا يختص ذلك [بهما]
(2)
أيضًا، بل كُل ظني انضم إليه قرائن يَحْدُث عنها يَقينٌ - يصير ذلك عِلْمِيًّا. وإليه أَشَرْتُ بِقَوْلي:(بَلْ كُلُّ ظَنِّي حَوَى القرائن) إلى آخِره. وسيأتي بيان أنَّ الدليل السمعي لا يفيد اليقين إلَّا بواسطة قرائن تنضم إليه، ومثله ثبوت المَروِي بالآحاد لا يُقْطَع بِصحته عَمَّن نُقِلَ عنه إلَّا بقرائن، بِخِلَاف المتواتر، والله أعلم.
ص:
56 -
وَالْجَزْمُ لَا لِمُوجِبٍ "تَقْلِيدُ"
…
صَحيحُ الِاعْتِقَادِ ذَا الْمُفِيدُ
الشرح:
لَمَّا بُيَّنَ القَيْدُ الثالث في حَدِّ العِلم (وهو كَوْنه لِمُوجِب) وشُرِحَ الموجِب، ذُكِرَ هنا ما يُحْتَرَز به عنه.
فإذَا كان حُكْمُ الذِّهنِ الجازِمُ المطابِقُ لَا لِمُوجِب، سُمِّيَ ذلك "تقليدًا"؛ لاستناده إلى
(1)
في (ت): تسنح.
(2)
في (ص، ز): بها.
غَيْر دليل، بل مأخوذ بالتسليم، ويُسَمَّى اعتقادًا صحيحًا؛ لِكَوْنه مُطابِقًا للواقع، وبذلك يفارق الاعتقاد الفاسد وهو الجهل المُرَكَّب - كما سبق، والله أعلم.
الدليل
57 -
حَدُّ الدَّلِيلِ هُوَ مَا يُمْكِنُنَا
…
بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ بَيِّنَا
58 -
تَوَصُّلٌ لِمَطْلَبٍ تَصْدِيقِي
…
المَنْطِقِيْ: مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ
59 -
حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ
…
هُوَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ في الرَّسْمِ
60 -
لَكِنَّهُ سَمَّى "قِيَاسًا" ذَا، وَمَا
…
يُعْرَفُ بِـ "الْقِيَاسِ""تَمْثِيلًا" سَمَا
الشرح: لَمَّا انتهى الكلامُ في أول الأربعة (وهو العِلْم)، شَرَعْتُ في الثاني (وهو الدليل)، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل، مِن دَلَّ يَدُلُّ دَلَالة - بِفَتْح الدال على الأفصح، وبكسرها، وقِيل بالفتح في الأعيان وبالكسر في المعاني. تقول: دَلَّه على الطريق دَلالة، ودَلَّ الدليلُ على الحُكْم دلالة، ومعنى "الدلالة": الإرشاد إلى الشيء. فالدليل إمَّا المُرْشِد حقيقة وإمَّا ما به الإرشاد. والمُرْشِد إمَّا الناصب لِلَّذِي به الإرشاد مِن العلامات مثلًا، وإمَّا الذاكِر لذلك. ففيما نحن فيه: الناصبُ هو البارئ سبحانه وتعالى، والذاكِرُ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وما به الإرشاد هو كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما نشأ عنهما مِن الإجماع والقياس وغيرهما عِند مَن يَقُول به - كما سيأتي.
وأمَّا "الدليل" في الاصطلاح فَفِيه رأيان:
أحدهما للفقهاء وأهل الأصول وكذا المتكلمون (إلَّا فيما سيأتي): ما يُمْكِن التوصُّل - بصحيح النَّظَر فيه - إلى مَطْلُوب خَبَرِي. وهو معنى قولي: (تَصْدِيقي).
مثاله: الدليلُ على حَدَث العالَم نَفْسُ العالَم؛ لأنَّ بالنظر في أحواله مِن التغير والتجدد
والتحول - على اختلاف أنواع ذلك - يُتَوصَّل إلى المطلوب وهو الحدوث فيه، وإنما عُبِّر بِـ "ما يُمْكن" دُون "ما يتوصل"؛ للإشارة إلى أنَّ المعتبَر التوصل بالقوة، لا بالفعل؛ لأنَّ الدليل [قد]
(1)
لا يُنْظر فيه، ولا يُخْرِجه ذلك عن أنْ يَكون دليلًا.
وقولي: (بَيِّنَا) نَصْب على الحال مِن "النظر"، وقد خرج بذلك ما لا يمكن التوصل به إلى المطلوب، [أو يمكن]
(2)
لَكِن لا بالنظر، كسلوك طريق يمكن أن يتوصل بها اتفاقًا، أو يمكن لا بصحيح النظر، بل بفاسده، ككاذب المادة في اعتقاد الناظر، أو يمكن التوصل بصحيح النظر لكن لمطلوب تَصَوُّري لا تصديقي، فإنَّ المفِيد لذلك إنما هو المعَرِّفُ كما سيأتي. فَكُل ذلك لا يُسَمَّى دليلًا.
نَعَم، يدخل في التعريف المذكور ما يفيد القَطْع وما يفيد الظن، فَيُعْلَم أنَّ كُلًّا يُسَمَّى دليلًا، وهو طريقة الفقهاء ونحوهم؛ لأنَّ مطلوبهم عَمَلٌ، وهو لا يتوقف على اليقين. ومنهم مَن لا يُسَمِّي مُفِيدَ الظنَّ "دليلًا"، بل "أَمَارَةً"، وهو اصطلاح المتكلمين؛ لأنَّ مطلوبهم يقين، فحينئذ يُزاد فيه:"إلى العِلم بالمطلوب الخَبَرِي".
وخَرَج مِن التعريف بذلك أيضًا الدليل بَعْد تمامه مُرَتَّبًا صحيح المادة والصورة؛ فإنه قد حصل به المطلوب، فلا يُسَمَّى دليلًا؛ إذْ لا يُتَوَصَّل به؛ لأنَّ المطلوب حاصل به مِن قَبْل النظر فيه في الحال، وتحصيلُ الحاصل مُحَال.
ويدخل فيه أيضًا ما فَسد فيه الدليلُ لِفَسَادِ صُورته لكن مادته صحيحة؛ لأنه يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، بِخِلَاف فاسد المادة، سواء أكانت صورته
(1)
ليس في (ش).
(2)
في (ز، ظ): أو يمكن التوصل به إلى المطلوب.
صحيحة أَمْ لَا. وكذلك ما [تُوُصِّل]
(1)
بِفاسد النظر فيه إلى المطلوب ومادته صحيحة؛ فإنَّ الوصول مع الفساد إنما هو اتفاق، ومِثل ذلك لا ينافي التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب.
الثاني: وإليه أَشَرْتُ بِقَولي: (المَنْطِقِي) إلى آخِره، أَيْ: وقال المنطقي. والمراد أنَّ أهل المنطق رأوا تفسير "الدليل" بأنه تصديقان فصاعِدًا، يَكون عن ذلك تصديقٌ آخَرُ هو المطلوب، وذلك معنى قَوْلي:(مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ). أَيْ: عَدَدٌ مِن التصديقات (اثنان فأكثر)، فاللام في "المنطقي" للجنس. نَعَم، هذا إنما هو بناءٌ على جواز القياس المُرَكَّب، وهو ما كان فيه أكثرُ مِن مقدمتين، وعلى ذلك جَرَى ابنُ الحاجب بقوله:(قولان فصاعدًا).
وأمَّا مَن يَرَى بأنَّ ذلك قياسان لا قياسٌ واحد - لا يحتاج أنْ يقول: (فصاعِدًا)، بل يقول:(تصديقان يَكُون عنهما تصديق ثالث).
وقَوْلي: (حيث يَكون مُنْتِجًا لِلحُكْم) إشارة إلى أنَّ التصديقين - أو أكثر - إنما يُسَمَّى دليلًا إذَا كان على وَجْهٍ يُنْتِج الحُكمَ المطلوبَ، بأنْ يَكون على القانون [المُبَيَّن]
(2)
في المنطق المُبَرْهَن على صحته.
والتعبير بقولنا: (يَكُون عنهما قول ثالث) إشارة إلى شمول ما يُنْتِج القَطْعَ والظن، أمَّا مَن يُخَصِّص الدليلَ بما يُنْتِج القطعي فيقول:"يَلْزمُ" مَوْضِع "يَكُون".
نَعَم، أهل المنطق يُسَمُّون ذلك قياسًا، سواء أفاد الظن أو القَطْعَ - كما سيأتي، ويُقسِّمونه إلى اقتراني واستثنائي.
فالاقتراني: ما كان مُقَدِّمتاه خَبَرِيَّتَيْن، نحو:"العالَم مُتَغَيِّر، وكُل مُتَغَيِّر حادِث" فَيُنْتِج
(1)
كذا في (ش). لكن في (ص): يُوصل.
(2)
في (ش): المعين.
"العالَم حادث"؛ لأنَّ المحكوم عليه في المقدِّمة الأُولَى (وهو المُسَمَّى بـ "الموضوع") قد اندَرَج في المحكوم به فيها (وهو المُسَمَّى بِـ "المحمول"). وهذا المحمولُ مندرجٌ تحت محمول الثانية؛ لأنه موضوع له؛ فَلَزِمَ اندراج موضوع الأُولى تحت محمول الثانية، وسَقَط الوسطُ المتكَرِّرُ، ويُسَمَّى موضوع الأُولى "الحد الأصغر" ومحمول الثانية "الحد الأكبر" والوسط المتكَرِّر "الحد الأوسط"، و [تُسَمَّى]
(1)
ذات الأصغر "الصُّغْرَى" وذات الأكبر "الكُبْرَى". وهذا هو الشكل الأول عندهم الذي هو ضروري الإنتاج بِشَرْطه.
فأمَّا إذَا كان الحدُّ المتكرِّرُ "موضوعًا في الصغرى، محمولًا في الكُبرى" عكس ما سبق، فهو الشكل الرابع (نحو:"كُل أب"
(2)
و"كُل ج أ")
(3)
، أو كان محمولًا في المقدمتين فهو الشكل الثاني (نحو:"كُل ب أ" و"كُل ج أ")، أو كان موضوعًا في المقدمتين فهو الشكل الثالث (نحو:"كُل ب أ" و"كُل ب ج").
ولا ينتج شيء مِن هذه الثلاثة إلَّا بَعْدَ الردِّ [للأول]
(4)
غالبًا على الوجْه المُبَيَّن في الفن.
وأمَّا الاستثنائي فهو ما كان بشرط أو تقسيم.
فالأولُ (ويُسمَّى المتصل) نحو: إنْ كان هذا إنسانًا، فهو حيوان. ويُسَمَّى الشرطُ "مُقَدمًا" والجزاءُ "تاليًا"، ثُم يُستثنى بِـ "لَكِن"، فيقال:"لكنه ليس بحيوان؛ فليس إنسانًا"، أو:"لكنه إنسان؛ فهو حيوان"؛ فيحصل الإنتاجُ باستثناء نقيض التالي؛ فينتج نقيض المقدم، وباستثناء عَيْن المقدم؛ فينتج عَيْن التالي كما مَثَّلناه؛ لأنه يَلْزَم مِن ثبوتِ المَلْزُوم ثبوتُ
(1)
كذا في (ص). لكن في (ز، ت): يسمى.
(2)
هذه المقدمة الأُولى، موضوعها "أ" ومحمولها "ب".
(3)
هذه المقدمة الثانية، موضوعها "ج" ومحمولها "أ".
(4)
في (ز، ظ): للأول الملزوم.
اللازم، ومن انتفاء اللازِم انتفاءُ [الملزُوم]
(1)
.
أمَّا استثناء عَيْن التالي أو نقيض المقدم فلا ينتجان؛ لِجَوَاز أنْ يَكون اللازِم أَعَم مِن الملزوم. أمَّا إذَا استوى المقدم والتالي في التلازم، فينتج الأربعة، نحو:"لو كان بَشَرًا لَكَان إنسانًا".
والثاني (ويُسَمَّى المنفصل) نحو: "العَدَد إمَّا زَوْجٌ أو فَرْد، لكنه زَوْج؛ فليس بِفَرْد"، أو:"فَرْد؛ فليس بِزَوْج"، أو:"لكنه ليس بِزَوْج؛ فهو فَرْد"، أو:"ليس بِفَرْدٍ؛ فهو زَوْج". وهذا مُبَيَّن في مَوْضعه بشروطه، وإنما ذَكَرْته أنموذجًا؛ لِتفسير قولي:(حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ). ومَن أراد بَسْطَه، يَطْلُبه مِن موضعه.
تنبيه:
الحاصل مِن الفَرْق بين تعريف "الدليل" على الرأي الأول وتعريفه على الثاني أنَّ "الدليل" عند المناطقة هو المادة والصورة، وعند غَيْرهم المادة فقط، فإذا أُرِيدَ الدليل على إثبات الصانع بِحدُوث مَصْنُوعه (وهو العالَم)، كان مجموع قَوْلنا:(العالَم حادث، وكُل حادث له صانع) هو الدليل على أنَّ العالَمَ له صانعٌ عند المناطقة، والدليل عند غيرهم "العالَمُ" فقط؛ لأنَّ النظر فيه يُتَوَصَّل به إلى المطلوب، أمَّا بَعْد أنْ يَترتَّب ويَحْصُل المطلوب فكيف يَكون دليلًا؟ !
ورُجح رأي المناطقة بأنَّ النظر إلى دلالة الشيء بالفعل أقوى مِن النظر إليه باعتبار دلالته بالقوة.
واعْلَم أني إنما قلتُ: (مُعَدَّدُ التصديق) ولَمْ أَقُلْ: (مُقَدِّمتان فَصَاعِدًا)؛ لأنَّ التصديق لا
(1)
في (ز، ظ): الملزوم غالبا.
يُسَمَّى مُقَدِّمَة حتى يَكون جُزْءًا مِن الدليل، فلو عَبَّرْتُ بذلك، لَزِمَ الدَّوْرُ.
وأمَّا تعبيرُ ابن الحاجب بقوله: (قولان) فَفِيه استعمال القول مقصورًا على القضية - مع كَوْن القول (في الأصل) لِلْأَعَم.
وقولي: (وَمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ تَمْثِيلًا) معناه أنَّ المنطِقي لَمَّا سَمَّى هذا "قياسًا"، سَمَّى ما هو معروف بِـ "القياس" - في أُصول الفقه وغَيْره - "تمثيلًا"؛ لأنه حُكْم [بِمَا]
(1)
لِأحَد المِثْلَين في تلك [الْعِلَّة]
(2)
على المِثْل الآخَر؛ تحقيقًا للمماثلة الحاصلة بينهما.
وقولي: (سَمَا) أَيْ: عَلَا وارتفع هذا التمثيل؛ لأنه أحَدُ الأدلة المتفق عليها بين الأئمة كما سيأتي؛ فَشَرُفَ بذلك.
ومَوْضعُ جملة "سَمَا" حينئذ نَصْبٌ على [الحالية]
(3)
مِن المفعول (وهو "مَا" الموصولة) أو على الصفة لِـ "تمثيلًا"، والله أعلم.
ص:
61 -
فَإنْ يَكُنْ جَمِيعُهُ قَطْعًا، فَلَا
…
يُنْتِجُ إلَّا القَطْعَ مَهْمَا حَصلَا
62 -
وَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ، أمَّا مَا قُضِي
…
فِيهِ بِظَنٍّ فَلِظَنٍّ [يَقْتَضِي]
(4)
63 -
وَمِنْهُمُ مَنْ قَالَ: ذَا "أَمَارَهْ"
…
وَخَصَّ بِالقَطْعِ الدَّلِيلَ اخْتَارَهْ
الشرح: أَيْ: إذَا كانت مُقَدِّمَتَا الدليل أو مقدماته كُلها قَطْعِية، فلا ينتجُ إلَّا قَطعِيًّا،
(1)
كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): لما.
(2)
كذا في (ز، ض، ق، ص، ت). لكن في (ش): للعلة.
(3)
في (ت): الحال.
(4)
في (ز، ص): مقتضى.
ويُسمَّى حينئذ "برهانًا". وإنْ كان قد قُضِي في مقدماته كلها أو بعضها بِمُقْتَضَى الظن، فلا ينتجُ إلَّا ظنِّيًّا؛ لأنَّ النتيجة دائمًا تَتْبَع أَدْوَن المقدمتين. وَمَا يُفِيد الظن سَمَّاه المتكلِّمون "أَمَارة"، ولَمْ يُسموه "دَلِيلًا" كما سبق.
فمثال القَطْع ما سبق، ومثال الظن قولنا:(الوضوء عبادة، وكُل عبادة بِنِيَّة)، ينتج أنَّ "الوضوء بِنِيَّة".
ومثال ما إحْدَى مقدمتيه قطعية والأخرى ظنية قولنا: (صلاة الظهر فَرْض، وكُل فَرْض يُسَنُّ له الأذان؛ فصلاة الظهر يُسَنُّ لها الأذان).
وقولي: (اخْتَارَهْ) جُملة حالية، أَيْ: حال كَوْن هذا القائل اختار هذا القول، والله أعلم.
ص:
64 -
أَمَّا الَّذِي يُكْسِبُنَا التَّصَوُّرَ
…
فَهْوَ الْمُعَرِّفُ، وَ"حَدًّا" قَدْ يُرَى
65 -
وَحَصْرُهُ في خَمْسَةٍ أَقْسَامِ
…
"الْحَدِّ" وَ"الرَّسْمِ" ذَوَيْ تَمَامِ
66 -
أَوْ دُونَهُ، وَالْخَامِسُ "اللَّفْظِيُّ"
…
فَـ "الْحَدُّ": مَا كَانَ بِهِ الذَّاتِيُّ
67 -
جِنْسًا قَرِيبًا، ثُمَّ فَصْلًا مُخْرِجَا
…
وَ"الرَّسْمُ": مَا بِلَازِمٍ قَدْ أَخْرَجَا
68 -
فَـ "الْحَدُّ" لِلْإنْسَانِ إذْ [تُطَابِقُ]
(1)
…
تَقُولُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ نَاطِقُ"
(2)
69 -
والرَّسْمُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ ضَاحِكُ"
…
وَ ["النَّاقِصَانِ": الْجِنْسَ]
(3)
أَنْتَ تَارِكُ
(1)
كذا في (ز، ص، ض، ش، ن 1، ن 5) ويوافِق الشرح. لكن في (ق، ن 2، ن 3، ن 4): يطابق.
(2)
كذا هذا البيت في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكنه جاء في (ز، ق، ص) هكذا:
تَقُولُ في الْإنسانِ إذْ تُطَابِقُ
…
بِالحْدِّ: "هَذَا حَيَوَانٌ نَاطِقُ"
(3)
كذا في (ض، ش، ت، ن) ويوافِق الشرح. لكن في (ز، ص، ق): النقص ما للجنس.
70 -
و"الْخَنْدَرِيسُ: الْخَمْرُ" في اللَّفْظِيِّ
…
[فَيُبْدَلُ]
(1)
الْأَشْهَرُ بِالْخَفِيِّ
71 -
وَشَرْطُ كلٍّ كَوْنُهُ "مُطَّرِدَا"
…
أَيْ: يُوجَدُ الْمَحْدُودُ حَيْثُ وُجِدَا
72 -
"مُنْعَكِسًا" أَيْ: يَنْتَفِي بِالِانْتِفَا
…
وَالمَنْعُ فَالْجَمْعُ بِذَيْنِ عُرِّفَا
الشرح: لَمَّا [ثَبتَ]
(2)
أنَّ الدليل هو ما يمكن التوصُّل به إلى المطلوب مِن التصديقات، ذَكَرْتُ بَعْده ما يُحْتَرَز عنه بهذا القَيْد وأوضَحْتُه استطرادًا، فقُلْتُ: إنَّ الذي يُكْسِبُ التصوراتِ هو المُعَرِّف، ومُعَرِّف الشيء هو ما [تَكُون]
(3)
معرفته سَبَبًا لمعرفته، أَعَم مِن أنْ [يَكون]
(4)
معرفة حقيقته وذاته، أو بِوَجْهٍ يَتَمَيَّزُ به على جميع ما عَدَاه.
وهذا المُعَرِّف ينقسم إلى خمسة أقسام: الحَد التام، والحد الناقص، والرَّسْم التام، والرسم الناقص، واللفظي. وربما سُمِّي الكُل حدودًا؛ تَوَسُّعًا كما هو طريقة المتكلمين خِلَافًا للمناطقة، وجَرَى على ذلك ابنُ الحاجب حيث قال:(والحدُّ حقيقي ورسميٌّ ولفظي) إلى آخِره، وهو معنى قولي:(وَحَدًّا قَدْ يُرَى). أَيْ: قد يُقال فيه (عَلَى رَأْيٍ): إنه حَدٌّ.
وبالجُملة فلا بُدَّ مِن تفسير كُلٍّ مِن الأقسام الخمسة.
فَـ "الحَدُّ" لُغَةً: المنع، ومِنْه "الحديد" لِمَنْعه، وسُمِّي البوَّابُ حَدَّادًا لذلك، فَسُمِّي "التعريف" حَدًّا؛ لِمَنْعِه الداخل مِن الخروج، والخارج مِن الدخول.
والتامُّ منه (ويُسَمَّى "الحقيقي"): ما أنبأَ عن جميع ذاتيات الشيء الكُلية المُرَكبة، كَـ "الحيوان الناطق" في حَدِّ "الإنسان".
(1)
في (ص): فأبدل. وكذلك (ق) لكن تم تصويبها في هامشها.
(2)
في (ز): بينت.
(3)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ق، ش): يكون.
(4)
كذا في (ت، ق، ش)، لكن في (ص): تكون.
فقولنا: (ما أنبأ) جنس يشمل الخمسة، وخرج:
بِـ "الذاتي": الرسميُّ؛ لأنه باللازِم.
وبِجَمْع "الذاتي": التعريفُ اللفظي؛ لِوحدته.
وباشتراط استيعابها: الناقصُ.
وبِـ "الكُلية": المشخَّصات وإنْ كانت هي ذاتيًّا للمشخَّص مِن حيث هو مشخَّصٌ؛ فإنه لا يُحَدُّ بها حَدًّا حقيقيًّا؛ لأنَّ الحدَّ للكليات؛ لأنَّ التشخيصَ خارجٌ عن الماهية.
وخرج بِـ "المركبة" ما لَمْ يُفَسَّر التركيبُ معها، وهو الهيئة الصُّوريَّة التي يحصُل بها صورةٌ [وحْدانية]
(1)
مطابِقة لِصورة المَحْدُود، بل ذلك مجرَّد ذِكْر الموادِّ المفردة وإسقاط لبعض الأجزاء وهو الصُّوري، وذلك بأنْ يذكُر مثلًا الفصلَ قَبْل الجنس، بل يَكون الصوابُ ذِكر الجنس ثم الفصل بَعْده كما مَثَّلْناه.
لا يقال: جميع ذاتيات الشيء هو عَيْن الشيء، والشيء لا يُفَسِّر نَفْسَه.
لِأنَّا نقول: دلالة المحدودِ مِن حيث الإجمال، والحدّ مِن حيث التفصيل، فليس عَيْنَه مِن كل وَجْهٍ؛ فَصَحَّ تعريفُه به؛ ولذلك لَمْ يُجْعل اللفظان مترادفين (عَلَى المُرَجَّح) إلَّا إذَا كان الحد لفظيًّا كما سيأتي.
وأمَّا "الناقص": فهو ما اقتُصِر فيه على ذِكْر الفصل وَحْده. كقولك في الإنسان: (ناطِق). أو يُؤتَى به
(2)
مع الجنس البعيد، نحو:(جِسْم [ناطِق])
(3)
.
(1)
كذا في (ز، ش)، لكن في (ض، ق، ص، ت): وجدانية.
(2)
يعني: يؤتَى بالفصل.
(3)
في (ش): ناقص.
وأمَّا "الرسم" فمأخوذ مِن رَسْم الدار، وهو أثَرُها الباقي بَعْد زوالها، وهو ما أنبأ عن الشيء بِلَازِمٍ له مُخْتَصٍّ به، كَـ:(الإنسان حيوان ضاحك)، أَيْ: فيه قوة أنْ يضحك.
فَـ "التام" مِنْهُ: أنْ يُؤتَى بذلك اللازِم مع الجنس القريب، كما مثَّلنا.
و"الناقِص": أنْ يُؤتَى بتلك الخاصَّةِ وَحْدها أو مع الجنس البعيد، نحو:(الإنسان جسم ضاحك).
و"اللفظي" لَفْظٌ مرادِفٌ أَشْهَرُ عند السامع مِن الذي ذَكَره في سؤاله، كَـ:(الخندريسُ: الخمر). ويُسَمى "لفظيًّا"؛ لأنه تعريف المعنَى بلفظٍ لمنْ كان عالِمًا بالمعنى مِن حيث هو مدلول اللفظ الأظهر، وجاهلًا به مِن حيث هو مدلول اللفظ الأخفى.
وقد عُلِمَ بهذا التقرير الفرقُ بين هذا وبين تفسير اللفظ مِن حيث اللغة مثلًا، فإنه قد يَكون لمن لا يَعْرف مدلوله أصْلًا، لا مِن حيث ذلك ولا مِن غَيْره. نَعَم، هو راجِعٌ إلى الرسم؛ فإنَّا عَرَّفْنَا مدلول "الخندريس"(مِن حيث هو مجهول) بمدلول "الخمر"(مِن حيث هو معلوم)، ومدلول "الخمر" خاصّة لمدلول "الخندريس"؛ لأنَّ نِسْبة مدلولية هذا إلى لفظه غَيْرُ مَدلولِيَّة الآخَر إلى لَفْظه، وإنْ كان المدلولان مِن حيث هُما متحدَين؛ ولأَجْل ذلك اقتصر أكثر المناطقة على التعريفين الحَدِّي والرسْمِي، تامَّيْن وناقصين.
قولي: (أَوْ دُونَهُ) أَيْ: دُون التمام فيهما، وهُمَا الناقصان.
وقولي: (إذْ تُطَابِقُ) أَيْ: إذْ تُرِيدُ أنْ تُعَرِّفه بِمُطَابِقٍ لأجزائه، المادِّيِّ منها والصُّورِيِّ.
وقولي: (الناقصان) أَيْ: الحَد والرسم الناقصان ما أنت تارِكٌ فيهما الجنس. فَـ "الجنس" مفعول مُقَدَّم لِـ "تارِك". واللام في "الجنس" للعَهْد، وهو الجنس القريب؛ فَدَخَل في ذلك ما ليس فيه جنس أصْلًا، وما فيه جنس بعيد.
وقولي: (وَشَرْطُ كُلٍّ كَوْنُهُ مُطَّردَا) أَيْ: شَرْط المُعَرِّفات الخمسة الاطِّراد والانعكاس.
ومعنى كَوْن التعريف مُطَّرِدًا: أنْ يوجَد بوجودِه المُعَرَّف، فلا يُعَرَّفُ الإنسانُ بأنه "جِسْم نامٍ حَسَّاسٌ"؛ لوجود الحدِّ في الفرس ولا مَحْدُودَ
(1)
.
ومعنى كَوْنه منعكسًا: أنْ يَنتفي المُعَرَّف بانتفائه، فلا يُعَرَّف الإنسانُ بِـ "الكاتِب بالفعل"؛ لانتفاء الحَدِّ في الأُمِّي دُون المَحْدُود
(2)
. وكذا في اللفظي لا يُؤتَى بِلَفْظٍ أَعَم (فيوجَد ولا محدود) ولا أخَصّ (فينتفي والمحدود موجود). ولكن هذا مفهوم مِن قولهم: (مرادِف). وربما عُبِّر عن هذا الشرط بِـ "المساواة في العموم والخصوص".
وقولي: (وَالمَنْعُ فَالْجَمْعُ بِذَيْنِ عُرِّفَا) مِن باب اللف والنشر المُرَتَّب، أَيْ: ربما عُرِّفَ كَوْن التعريف مانعًا بِكَوْنه مُطَّردًا، وكَوْنه جامِعًا بِكَوْنه منعكسًا، [أيْ: عُبِّرَ عنهما بذلك]
(3)
؛ لِمَا قَرَّرْناه في تفسيرهما الملائم للتسمية بكُل مِن ذلك. وَوَهِمَ القرافي فَعَكَسَ ذلك، فجعَل الجامِع هو المُطَّرِد، والمانِع هو المنعكس، وهو بعيد المناسبة، ومخالِف للاصطلاح، والله أعلم.
النَّظَر
73 -
وَ"النَّظَرُ": الْفِكْرُ الَّذِي يُؤَدِّي
…
لِلْعِلْمِ أَوْ لِلظَّنِّ لَا [لِلضِّدِّ]
(4)
74 -
ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ
…
فِي "الْحَدِّ" وَ"الدَّلِيلِ" بِالتَّقْرِيبِ
(1)
"لا محدود" يعني: لا يوجد إنسان؛ لأن "المحدود" هو الإنسان، فهو الذي يُراد تعريفه.
(2)
لأنَّ الحد (وهو: الكاتب بالفعل) مُنْتَفٍ في الإنسان الأُمِّي، لكنه إنسان، فالمحدود (وهو الإنسان) موجود.
(3)
من (ز).
(4)
كذا في (ز، ص، ق، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2): لضد.
الشرح: هذا هو الثالث مِن الأربعة الموعود ببيانها في المقدمة.
و"النظر" لُغَةً: يُطْلَق على الانتظار، وعلى رؤية العَيْن، وعلى الإحسان، وعلى المقابَلَة، وعلى الاعتبار.
وأمَّا في الاصطلاح: فَمَا ذَكَرْناه، وهو: فِكْرٌ يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ.
وتعبيري في النَّظْم بالمُعَرَّف باللام في الثلاثة؛ للسهولة فيه، وإلَّا فلا ينبغي أنْ يُؤْتَى بها كما قررناه في تعريف "الفقه". وهذا التعريف للقاضي أبي بكر.
فَـ "الفِكْر" كالجنس، ويُطْلَق على ثلاثة معانٍ: حركة النَّفْس بالقوة التي آلتها مُقَدَّم البطن الأوسط مِن الدماغ إذَا كانت تلك الحركة في المعقولات. فإنْ كانت في المحسوسات، سُمِّيَت "تَخَيُّلًا".
والثاني (وهو أَخَص مِن الأول): حركتها مِن المطالب إلى المبادئ، ورجوعها مِن المبادئ إلى المطالب.
ويُرْسَم "الفِكْر" بهذا المعنى بِـ "تَرْتيب أمورٍ حاصلة في الذِّهْن؛ لِيُتَوَصَّل بها إلى تحصيل غَيْرِ الحاصل".
والثالث: إطلاقه على جُزْء الثاني، وهو الحركة مِن المطالب إلى المبادئ، وإنْ كان الغرض منها الرجوع. وهذا هو الذي يُستعمل بإزائه "الحدْس" كما تَقَدَّم وهو سرعة الانتقال مِن المبادئ إلى المطالب.
وقوله: (الذي يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ) هو "الفِكر" بالمعنى الثاني، فيخرج "الفِكر" بالمعنى الأول والثالث.
وعُلِم مِن قوله: (يُطْلَبُ به) أنه متضمن لمبادٍ وأنها [مَعْلُومَة]
(1)
؛ لأنَّ الطَّلَب مِن
(1)
كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): تعلق به. وفي (ش): يتعلق به. وفي (ق): معلق مة.
المجهول مُحَال، ومُتضمن لِمَا يَقَع به الطَّلَب وهو ترتيب تلك المبادئ. وهو معنى قولي:(ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ) أَيْ: في الكلام على "الدليل" وعلى "المُعَرِّفات"، فإنَّ المطلوب أَعَم مِن أنْ يَكون تَصَوُّرًا أو تصديقًا.
وقوله: (عِلْم أو ظن) يدل على عدم حصولهما، وإلَّا لكان تحصيل الحاصِل، وهو معنى قول الحكماء:(إلى تحصيل ما ليس بحاصِل).
ويخرج بذلك حديث النفْس الذي لا يؤدي لِعِلْم ولا لِظَن.
وهنا أسئلة وشكوك جدواها قليل، فلا حاجة للتطويل بها، والله أعلم.
الحُكْم
75 -
وَ"الْحُكْمُ" في الشَّرْعِ: خِطَابُ اللهِ
…
عُلِّقَ بِالْفِعْلِ بِلَا اشْتِبَاهِ
76 -
مِنَ الْمُكَلَّفِ اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا
…
وَمَا أَتَى وَضْعًا يَكُونُ خَبَرَا
77 -
وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ
…
فَافْطَنْ لِمَا ضُمِّنَ فِي التَّعْرِيفِ
الشرح: هذا هو الرابع مِن الأربعة، وهو الثالث مما استُمِدَّ أصول الفقه مِنْه كما سبق.
و"الحُكْم" الشرعي الإنشائي: هو خِطاب الله المُتَعَلِّق بِفِعل المُكَلَّف اقْتِضَاءًا أو تَخْيِيرًا.
وإنما قلتُ: (الإنشائي) لأنَّ الوضعي سيأتي الخلاف في كَوْنه حُكْمًا أو لَا (لِكَوْنه خَبَرًا)؛ ولذلك لمْ أُقَيِّده في النَّظْم؛ لأنَّ الكلام هنا في الإنشائي، وسيأتي التنبيه على الوضعي.
فَـ "خِطَاب" جِنْسٌ، وهو مَصْدَر "خاطَب"، لكن المراد به هنا الكلامُ المخاطَبُ به، لا مَعْنَى المصدر الذي هو توجيه الكلام لِمُخَاطَب.
نَعَم، في تسمية الكلام في الأزَل "خِطَابًا" خِلَافٌ لَمْ يُرَجِّح ابنُ الحاجب منه شيئًا، ورَجَّح القاضي المنع، وجَرَى عليه الآمدي؛ لِعَدَم المخاطَب حينئذ، بِخِلَاف تسميته في الأزَل "أَمْرًا" و"نَهْيًا" ونحوهما؛ لأنَّ مِثْله يَقُوم بِذَات المتكَلِّم بِدُون مَن يتعلق به، كما يُقال في المُوصِي:(أَمَر في وصيته ونَهَى)، ولا يُقال:(خاطَبَ). وعلى هذا فينبغي التعبير بِـ "الكلام " لا بِـ "الخطَاب"، إلَّا أنْ يُراد باعتبار القوة والتهيُّؤ مَجَازًا، وقرينته العِلْمُ بِكَوْن الأزَل لا مُخَاطَب فيه؛ فَتَعَذَّرَت الحقيقة. بل ولو وُجِدَ المُخَاطَب، لا يَحْصُل الخطاب إلَّا بإسماعه ما خُوطِبَ به:
- إمَّا بإسماع الخطاب القديم إذَا جَوَّزْنَا ذلك - عَلَى مَعْنَى قوة سمعيَّة يُدْرِكَ بها القديم على الوجه اللائق، وهو قَوْل أهل السُّنَّة، كما في إسماع موسى عليه السلام.
- وإمَّا بإسماع ما يدل على القديم مِن اللفظ، كما في قوله:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، ونحو ذلك.
نَعَم، قال ابن القشيري في "المرشد":(إنَّ الصحيح وقَوْل الأشعري: إنه يُسَمَّى خِطابًا في الأزَل). وحينئذ فيستقيم التعبير هنا بِـ "الخطاب" قَطْعًا.
وخَرَج بإضافة "الخطاب" إلى الله تعالى خطابُ غَيْره، ولا يُعْتَرَض بخطاب الرسول وبخطاب الملائكة عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّ ذاك دالٌّ على خطاب الله عز وجل.
وقولي: (عُلِّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمُكَلَّفِ) جُملة حاليَّة خَرَج بالتقييدِ بها: المُتَعَلِّقُ بِذَات الله تعالى (نحو: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18])، وبِفِعْله (نحو:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102])، وصِفَته (نحو:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255])، وبِغَيْر المكَلَّف مِن الخَلْق (نحو:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47])، وبِذَوَات المكَلَّفين (نحو:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1])، ونحو ذلك.
والمراد بِـ "المُتَعَلِّق" الذي مِن شأنه أنْ يتعلق، وإلَّا يَلْزَم أنه قبل التعلق لا يَكون حُكْمًا؛
إذِ التعلق حادث - على المُرَجَّح عند الإمام وأتباعه. وإذَا كان المجاز بقرينةٍ، لا يَضُرُّ وقوعُه في التعريف كما سبق. نَعَم، إذَا قُلنا:(التعلُّق قديم) كما في "المحصول" في باب القياس واختاره الشيخ تقي الدين السبكي، أو قُلنا:(له اعتباران: قَبْل وجود التكليف، وبَعْدَه) كما هو ظاهر كلام الغزالي في "المستصفى" وصَرَّح به في "الوسيط" في مسألة "أنت طالق إن شاء الله"، فلا مَجَاز في التعريف، إلَّا أنْ يُقال:[إنَّ]
(1)
الحُكْم يتعلق بالفعل قَبْل حصوله؛ لئلَّا يَلْزَم تحصيل الحاصل، وهو في حالة عَدَمه لا يُسَمَّى فِعْلًا إلَّا مَجَازًا باعتبار ما [يؤول]
(2)
، أو باعتبار القابلية. وسيأتي إن شاء الله تعالى مسألة تَعَلُّق الحُكْم قَبْل المباشرة.
وقد عُلِم بما قَرَّرْناه أنَّ مِثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لا بُدَّ فيه مِن تقدير فِعْل، والحنفية وإنْ عَلَّقوا في ذلك الحُكم بِذَوات الأمهات وذات الميتة - ونحو ذلك - فليس مرادهم إلَّا وصف العين بالتحريم مع مراعاة الفعل، لا مَعَ قَطْع النظر عنه أصلًا، وكذا سائر الأحكام.
والمراد بِـ "فِعْل المكلَّف": الأَعَم مِن القول والاعتقاد؛ ليدخل عقائد الدِّين والنيَّات في العبادات و [القصود]
(3)
عند اعتبارها، ونحو ذلك.
وقولي: (المُكَلَّف) بالإفراد، ولَمْ أَقُلْ كالبيضاوي وغَيْره:(المُكَلَّفِين)؛ لِيَشْمَل ما تَعَلَّق بِفِعل الواحد، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكالحكم بشهادة خزيمة
(4)
، وإجزاء العناق في
(1)
ليس في (ش).
(2)
في (ش): يؤول إليه. وفي (ز) كتب الناسخ: "إليه"، ثم شطبها.
(3)
في (ش): المقصود.
(4)
صحيح البخاري (رقم: 2652).
الأضحية لأبي بُردة
(1)
(لكن قد ثَبَت ذلك لِغَيْره، كزيد بن خالد الجهني وعقبة بن عامر الجهني)، وشِبْه ذلك.
والمراد بِـ "المُكَلَّف": البالغ العاقل الذاكِر، غَيْر المُلْجَأ (كما سيأتي إيضاحه)، لا مَن تَعَلَّق به التكليفُ، وإلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ؛ إذ لا يَكون مُكَلَّفًا حتى يتعلق به التكليف، ولا يتعلق التكليف إلا بمكلَّف.
نَعَم، لنا خِلَافٌ في أنَّ الصبي المأمور بالصلاة والصوم - ونحوهما - مِن الوَلِي هل يَصِير بذلك مأمورًا مِن الشرع أيضًا؟ أو لا؟ إنْ قُلنا:(نَعَم)، فيشكل التعبير بِـ "المكلَّف"، وإنما ينبغي أنْ يُعَبَّر بما يشمل الصبي، لكن الظاهر المنع، وما يُحْكَم به مِن صحة عباداته والثواب عليها فَمِن خطاب الوضع كما سيأتي.
[وقولي: (مِنَ الْمُكَلَّفِ) حالٌ مِن قولي: (بالفعل) أو صفة له؛ لأنَّ المُحَلَّى بِلام الجنس يجوز في الظرف بَعده الوجهان]
(2)
.
وقولي: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا) حال، والتقييد بها هو آخِر قيود التعريف لِلْحُكْم، فيخرج به ما تَعَلَّق بِفِعل المكلَّف على جهة الإخبار، نحو:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فإنه إخبار بِخَلْق العمل، لا إنشاء مُتَعَلِّق بالعمل اقتضاءًا أو تخييرًا؛ لأنَّ "الاقتضاء" هو الطلب للفعل (جَزْمًا أو غَير جَزْم)، أو التَّرْك (جَزْمًا أو غَيْر جَزْم) بِنَهْي مقصود أو غَيْره، و"التخيير" هو الإباحة؛ فتدخل الأحكام كلها كما سيأتي إيضاح ذلك.
نَعَم، في كَوْن الإباحة حُكْمًا شرعيًّا خِلَافٌ. فإنْ قُلْنَا بالمنع، فلا حاجة لقولنا:(أو تخيير).
(1)
صحيح البخاري (رقم: 922)، صحيح مسلم (رقم: 1961).
(2)
من (ز).
لكن الصحيح فيها أنها حُكْم شرعي. ومنهم مَن يُعَبِّر عن هذا القيد بقوله: (على [جهة]
(1)
الإنشاء)؛ ليتخلَّص مِن وقوع "أو" في التعريف؛ لأنها لِأَحَد الشيئين، وذلك مُنَافٍ للبيان، لكن "أو" هنا إنما هي للتقسيم، فلا تَرْدِيد، بل [يرجح]
(2)
التعبير بهذا؛ لإفادته تنوع الحكم وسلامته مِن إيهام لفظ "الإنشاء"؛ لأنَّ له معاني لا يُدْرَى ما المراد منها. وهذا أحسن أيضًا مِن تعبيره في "جَمْع الجوامع" بقوله: (مِن حيث إنه مكلَّف)؛ لأنها حيثية مجهولة. نَعَم، هو أراد أنْ يُدْخِل في التعريف خطاب الوضع الآتي بيانه؛ تفريعًا على أنه حُكم شرعي، لكن أُورِدَ عليه أنه غَيْر جامع؛ لخروج الندبِ والإباحةِ وخِلَافِ الأَوْلَى؛ فإنه لا تكليف فيها، وتَعَلُّق الحُكم بصلاة الصبي وصومه وسائر عباداته حتى إنه يُثاب عليها.
وأجاب في "منع الموانع" بأنه لَمْ يَقُل: (مِن حيث إنه مكلَّف به) حتى يَرِدَ، أَيْ: ومسألة الصبي مِن خطاب الوضع، وهو داخل على مختاره.
قلتُ: لكن هو مُكَلَّف بالندب والإباحة ونحوهما - على معنى الاعتقاد لِنَدْبِيَّتها و [إباحتها]
(3)
؛ فَيَكون هذا جوابًا آخَر عنه، لكنه مُشْكل مِن حيث إنَّ المكلَّف إذَا كان المراد به هنا مَن تَعَلَّق به التكليف، يَلْزَم الدَّوْر كما سبق، ولا يقال: إنه أراد [ما]
(4)
سبق مِن القابِل لِتَعَلُّق التكليف؛ لأنه جعل القَيْد مِن حيثية التكليف، أَيْ مِن جهة تَعَلُّقه، فَتَأَمَّله.
[والضمير في قولي: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا) إما أنْ يعود على الخطاب مجازًا شائع الاستعمال، وإلَّا فالحقيقة في الطالب والمُخَيِّر هو المخاطِب لا الخطاب، ويحتمل - وهو الأحسن - أنْ
(1)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): وجه.
(2)
كذا في (ش)، لكن في سائر النُّسَخ: يرجع.
(3)
في (ز): إباحيتها.
(4)
في (ش): بما.
يُعاد على الله تعالى في قولي: (خِطَابُ اللهِ)]
(1)
.
وقولي: (وَمَا أَتَى وَضْعًا) هو إشارة إلى بيان خطاب الوضع، والضمير في "أَتَى" للخطاب، أَيْ: وَمَا أَتَى مِن الخطاب لا اقتضاءًا ولا تخييرًا، وإنما وَرَدَ بِجَعْلِ شيءٍ سَبَبًا لِشَيءٍ (كدلوك الشمس لِوجوب الصلاة)، أو شَرْطًا له (كالطهارة للصلاة)، أو مانعًا له (كالنجاسة لإفساد الصلاة أو البيع)، أو لِكَوْنه صحيحًا أو فاسدًا - كما سيأتي شرحُ هذه الأقسام.
فهذا في الحقيقة خَبَرٌ عن تَرَتُّب آثارها عليها، لا إنشاء، فَعَلَى هذا لا يُسَمَّى "حُكْمًا" إلَّا مَجَازًا. وَقِيل: بل هو حُكْم شرعي؛ لأنه لَمْ يُعْلَم إلَّا بِوَضْع الشرع، فكأنَّ الشارع أنشأه؛ وعَلَى هذا فلا يستقيم تعريفُ الحكم حتى يُزاد فيه فيقال:(اقتضاءًا، أو تخييرًا، أو [وَضْعًا])
(2)
. وإليه أشار ابن الحاجب بقوله: (فَزِيدَ "أو الوضع"؛ فاستقام).
وقِيلَ: هو داخِل تحت الاقتضاء والتخيير؛ لأنه لا مَعْنى لِكَوْن الدلوك سَبَبًا إلَّا وجوب الصلاة، ولا لِكَوْن الطهارة شَرْطًا إلَّا إباحة الإقدام عند وجودها، ولا [لِصحة]
(3)
البيع إلَّا إباحة الانتفاع، ونحو ذلك. فهو داخل بالاستلزام باعتبار المعنى المقصود منه، لا أنه منهما حقيقةً، وليس تحت هذا [الخلاف]
(4)
كبيرُ فائدة.
وعَلَى كل تقدير فَخطاب الوضع يتعلق بفعل المكلَّف وغير المكلَّف، وهو معنى قولي:(وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ)؛ ولهذا تجب عندنا الزكاة في مال الصبي والمجنون، والوَلِي
(1)
من (ز).
(2)
في (ش): وضعيا.
(3)
في (ش، ض): بصحة.
(4)
في (ش): الاختلاف.
مُخَاطَبٌ بالإخراج خطاب تكليف، وكذلك ضمان مُتْلفهما ونحوهما كالنائم، ومنه أيضًا كما سبق صحة صلاة الصبي وصومه وحجِّه وسائر عباداته وإثابته عليها. وسيأتي لذلك مَزِيدُ بيان.
فإنْ قُلْتَ: هل يقال في مِثل ذلك: (إنه وَجَب على غَيْر المكلَّف) أو: (وَجَبَ في مالِه)؟
قلتُ: حكى المتولي وغيره من أصحابنا أنه لا يقال: (وَجَب على الصبي والمجنون الزكاة) مَثَلًا، وإنما يقال:(يَجِب في مالهما). ولَمْ يَمتنع قَوْمٌ من إطلاق ذلك، لا على معنى تكليفهما، بل على معنى تكليف مَن يَقُوم مقامهما عنهما فيه، وهو ما صححه القاضي حسين والروياني حتى قال: إنَّ الأول غَلَط. ولكن الذي يظهر رجحانُ الأول؛ لأنه الحقيقة، وهذا مجاز بتأويل.
وقولي: (فَافْطَنْ لِمَا ضُمِّنَ فِي التَّعْرِيفِ) أَيْ: تَفَطَّن لِكُل قَيْدٍ ذُكِرَ في تعريف "الحُكْم"، فإنه تخرج منه مسائل الفصل كلها كما ستراها، وبه ينضبط ارتباط المسائل و [مناسباتُ]
(1)
وَضْعها، [ولا]
(2)
تنتشر ولا تختلط. وهو بِكَسْر الطاء وفتحها؛ لأنَّ ماضيه "فَطنَ" بالفتح والكسر، فَعَلَى الفتح في الماضي يجيء الكسر في المضارع، وبالعكس، والله أعلم.
ص:
78 -
مِن ذَاكَ مَا يُعْلَمُ أنَّ العَقْلَ
…
لَيْسَ بِحُكْمٍ يَسْتَقِلُّ أَصْلَا
79 -
إذْ لَيْسَ مُدْرِكًا لِمَا فِي الْفِعْلِ
…
مِنْ حُسْنٍ اوْ قُبْحٍ بِدُونِ نَقْلِ
80 -
مِنْ حَيْثُ مَا يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ
…
لَكِنْ بِمَعْنَى "وَفْقِ طَبْعٍ" يَسْمُو
(1)
في (ز): تناسبات.
(2)
في (ز): فلا.
81 -
أَوْ "صِفَةِ الْكَمَالِ" أَوْ ضِدِّهِمَا
…
فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ لِمَنْ قَدْ أَنْعَمَا
82 -
بِالشَّرْعِ، ثُمَّ لَيْسَ حُكْمٌ قَبْلَهُ
…
وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلِيُّ كُلَّهُ
الشرح: هذا الذي يخرج بأول قَيْد مِن تعريف الحُكم، وهو إضافة الخطاب لله تعالى؛ فَيُعْلَم مِنه أنه لا حُكْم للعقل، أَيْ: ليس له استقلال بِحُكم مِن أحكام الشرع أصْلًا، خِلَافًا للمعتزلة بَنَوْهُ على قاعدتهم الفاسدة أنَّ العقل له إدراكُ حُسْن الفعل وقُبْحه، إمَّا باعتبار ذاته أو صفةٍ فيه أو بوجوهٍ واعتبارات يظهَر للعقل بها حُسْن الفعل أو قُبْحه - على خِلَافٍ عندهم في ذلك، وقَسَّموا الحكم باعتبار إدراك العقل إلى أقسامه المشهورة.
فقال بعضهم: إنَّ الفعل الاختياري إمَّا أنْ يشتمل على مَفْسَدة أو مصلحة أَوْ لَا [وَلَا]
(1)
.
فالأول: إنْ كانت في جانِب:
- التَّرْك، فواجبٌ.
- أو الفعل، فَحَرامٌ.
والثاني: إمَّا في جانب:
- الفعل، فمندوب.
- أو التَّرْك، فمكروه.
والثالث: المباحُ.
وما تَحَيَّر العقل فيه فَلَمْ يُدْرِك شيئًا - فيه ثلاثة أقوال عندهم: الحَظْر احتياطًا،
(1)
كذا في (ص، ض، ت)، وقوله:(لا ولا) معناه: لا مفسدة ولا مصلحة.
والإباحة [بالأصالة]
(1)
، والوقْف؛ للتعارُض. ولبعضهم عبارة أخرى في التقسيم، هذه أَجْوَد منها.
ومَذْهَب أهْل السُّنَّة أنَّ إدراك المصلحة والمفسدة في الفعل (المُؤْذِنَة بِحُسْنه وقُبْحه) إنما تُتَلَقَّى مِن الشرع؛ لأنَّ الله تعالى هو الحاكم بما يشاء، الفعَّال لِمَا يريد.
وقولي: (مِنْ حَيْثُ مَا يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ) أَيْ: الحُسْن والقُبْح الذي يمتنع إدراك العقل له - على قَوْل أهل السُّنة - إنما هو مِن حيث تَرَتُّب المدح في الحال [والثواب في الآجِل، والذم في الحال]
(2)
والعقاب في الآجِل. أمَّا إذَا فُسِّر "الحُسْن" بملائمة الطَّبْع و"القُبْح" بمنافرته (كإنقاذ الغريق واتهام البريء)، أو باعتبار الكمال والنقص (كَحُسْن العِلم وقُبْح الجهل) فالعقلُ مستقِلٌّ بإدراكهما بِهَذَيْن الاعتبارَيْن اتفاقًا. ومنهم مَن يَرُدُّ هذين الاعتبارين لِمَعْنى واحدٍ وهو اللذة والألم.
واعْلَم أنَّ لازِم قَوْل المعتزلة باستقلال العقل بإدراك ترَتُّب المدح والذم أنَّ العقلَ هو الحاكمُ، والشرعَ تَبَعٌ له؛ فلذلك قلتُ: إنَّ كَوْن الحاكم العقل عندهم مَبْنِيٌّ على قاعدة التحسين والتقبيح. وإنما قالوا: إنَّ الشرع تاجٌ له؛ لأنه لو لَمْ يوافقه، لَكان ظُلْمًا، وهو نَقْصٌ مُحَال على الله تعالى.
ولَنَا: أنَّ المالِك يتصرف في ملكه كيف شاء، لا يُسْأَل عَمَّا يَفْعل.
ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الشرعَ هو الحاكمُ اتفاقًا مِنَّا ومنهم، وإنما الخلاف في أنَّ العقل هل يُدرِك ما حَكَم به الشرعُ؟ أَوْ لَا؟ لكن مَن يقول بأنه يُدرِك إنما هو لأجل أنَّ الشرع لا
(1)
في (ص): بالاضافة.
(2)
ليس في (ص).
يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، [فيرجع]
(1)
إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع
(2)
يوافقه ولا يخالفه؛ فَيَكُون مؤكِّدًا له ومُقَرِّرًا لِحُكْمه، فهو الأول بِعَيْنه.
نَعَم، للمعتزلة مذهبٌ آخَر: أنَّ العقل يُدْرِك المدحَ والذمَّ في الحال، ولا يُدْرِك الثواب والعقاب في الآجِل، فاقتصر عليه كثيرٌ مِن النَّقَلة، وقوَّاه بَعْضُهم.
وقولي: (فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ) إلى آخِره - تَضَمَّن فَرْعَيْن على هذه القاعدة، جَرَت عادة الأصوليين بإفرادهما بِالذِّكْر ورَدِّهما؛ لِمَا يَخُصُّهما مِن وجوه الفساد زيادةً على فساد القاعدة؛ فلذلك عَقَّبتهما بالفاء؛ للترتيب، وإنما يَحْسُن إفرادهما ممن يَذكُر أدلة المسائل، أمَّا مَن يقتصر على مُجَرَّد الحُكم فلا فائدة في إفرادهما بِالذِّكْر إلَّا لِغَرضِ قَصْدِ التصريح بهما أو نحو ذلك كما فعل ذلك في "جمع الجوامع"، فاتَّبعتُه فيه:
الأول: شُكْرُ المُنعِم واجب بالشرع، لا بالعقل؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ولو وَجَب عَقْلًا، لَعُذِّبَ تارِكُه وإنْ لَمْ يَرِد شَرْعٌ.
الثاني: أنه لا حُكْم قَبْل الشرع، بل الأَمْر موقوف إلى وُرُودِه؛ للآية السابقة. كذا عَبَّر به القاضي في "مختصر التقريب" عن أهل الحق، أَيْ: إنَّ الحكم مَنْفِيٌّ، والتوقُّف إنما هو عن ثبوته حتى يَجِيء الشرعُ بإثباته، وليس المراد أنَّ هناك حُكْمًا ولكن لا نَعْلَمه فَيَكُون التوقُّف عن العِلْم به كما زعم ذلك الإمام في "المحصول" في تفسير الوقْف المنقول عن الأشعري، وكذا البيضاويُّ بَعْد أنْ نَسَب الذي قَبْله للإمام، ولكنه وَهْمٌ مِنه على الإمام.
وبالجملة فالصواب الأول، وهو نَفْي الحكم كما قاله إمامُ الحرمين في "البرهان"
(1)
في (ز، ض، ت): فرجع.
(2)
ليس في (ص) عبارة: (لا يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، فيرجع إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع).
والغزاليُّ وابنُ السمعاني وغيرُهم. وقال النووي في "شرح المهذب": (إنه الصحيح عند أصحابنا)
(1)
؛ إذِ المراد بِنَفْي الحكم إنما هو نَفْي التعلق، والتعلق حادث كما سبق؛ فلا محذور، فاعْلَمه.
وقيل: بل [المَنْفِي العِلم]
(2)
؛ لأنَّ الأشعري يقول بالتكليف بالمُحَال. وفيه نَظَر؛ لأَنَّه مِن تكليف المُحَال؛ لأنه جاهل بذلك.
أمَّا بَعْد وُرُود الشرع في صورة لا يوجد فيها حُكْمٌ في الشرع أصْلًا ففيها ثلاثة أقوال:
- الحظْرُ؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] الآية، [يدلُّ]
(3)
على أنَّ التحريم كان سابقًا.
- والإباحة؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
- والوَقْف؛ لِتَعَارُض الدليلين.
وقولي: (قَبْلَهُ) الضمير فيه عائد إلى الشرع.
وقولي: (وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلِيُّ كُلَّهُ) أَيْ: القاعدة وأصْلها وما تَفَرَّع منها مِمَّا بَيَّنَّاه، فاللام في "المعتزلي" للجنس.
وذكرتُ الخلاف هنا وإنْ كان موضوعُ هذا النَّظْم تجريده مِن الخلاف والدليل؛ لِمَا ذَكرْتُ أنَّ المراد أنِّي لا أَلْتَزِمُ فيه ذلك، وليس مُرادي التزام أنْ لا أَذْكُره، فَقَدْ أذكره تبرعًا، وسيأتي في الكتاب مواضع مِن ذلك أُنَبِّه عليها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(1)
عبارة النووي في "المجموع شرح المهذب، 1/ 264": (وَقَوْلُهُمْ: "أَصْلُ الْأَشْيَاءِ الإباحة" ليس كذلك، بل مذهب داود أَنَّهَا عَلَى الْوَقْفِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ).
(2)
من (ز، ظ).
(3)
في (ق، ش): فدل. وفي (ت): تدل.
ص:
83 -
وَمِن تَعَلُّقِ الْخِطَابِ في الْأَزَلْ
…
يُعْلَمُ أنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ دَخَلْ
84 -
لَكِنْ عَلَى "مَعْنَى": إذَا يُؤَهَّلُ
…
يَكُونُ بِالْحُكْمِ الْقَدِيمِ يَفْعَلُ
الشرح: أيْ: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا (وهو إضافة الخطاب لله تعالى المقتضية لِكَوْن الحُكم قديمًا؛ لأنَّ خِطابَه تعالى كلامُه، وهو قديم على مذهب أهل السُّنة في أنه صفة قديمة قائمة به وهي الكلامُ النفساني
(1)
، خِلَافًا لِمَن زعم أنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ قائمان به فَيَكونان قديمين كما يُنْقَل ذلك عن الحنابلة، وخِلَافًا لِمَن قال: إنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ [لا قائمان]
(2)
به، بل حادثان يخلقُهما فيما شاء مِن شجر ونحوه كما هو مذهب المعتزلة
(3)
، [قالوا: كما كلم موسى كذلك]
(4)
. وفسادُ المذهبين ظاهرٌ؛ لأنَّ الحادث لا يَقُوم بالقديم، ولا يُوصَف أَحَد بما لَمْ يَقُم به) أنَّ خطاب المعدوم جائز
(5)
؛ لأنه إذَا ثَبتَ الكلام النفساني وقِدَمُه (خِلَافًا للطائفتين) وَثَبتَ أنَّه مُتَعَلِّق بأفعال المكلَّفين وهُم معدومون في الأزَل، ثَبتَ أنَّ المعدوم داخِلٌ في الحكم، وأنه محكوم عليه بالأحكام كُلها في القِدَم لا عَلَى معنى أنه مخاطَبٌ بأنْ يأتي بها في حال عَدَمه (لأنه ظاهر الفساد)، وإنما المراد أنه إذَا وُجِدَ وَوُجِدَتْ فيه أَهْلِيَّة
(1)
سبق تعليقي على هذه المسألة في مقدمة تحقيقي هذا الكتاب (ص 31)، ولَيس هذا موضع بسط هذه المسألة.
(2)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ظ): لكن لا قائمين.
(3)
في (ز) بعد كلمة "المعتزلة" زيادة: (قالوا: كما كَلَّم موسى كذلك).
(4)
من (ز، ظ).
(5)
كأنَّ الكلام هكذا بعد حذف العبارات الاعتراضية التي بين القوسين: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا أنَّ خطاب المعدوم جائز.
التكليف، يَكُون محكومًا عليه مَأْمُورًا بأنْ يَمْتَثِل بالحُكم القديم الذي تَعَلَّق به [قُبيل]
(1)
وجوده، لا بِأَمْرٍ آخَر مُتَجَدِّد؛ لأنَّ تَجَدُّد القديم مُحَالٌ، والمتجدد إنما هو الدال على القديم.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وأَقْرَبُ مثالٍ لذلك "الوكالة"، فإنَّ تعليقها باطل على المذهب. فإذَا نجّزها وعَلَّق التصرف عَلَى شَرْطٍ، جاز، وهو الآن وكيل وكالة منجّزة، ولكن لا يتصرف إلَّا على مقتضاها وهو وجدان الشرط)
(2)
.
ولَمَّا كانت المعتزلة تُنكِر كلام النفْس مَنَعُوا تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم، وحينئذ فيتخَرَّج عَلَى هذا الخلاف الحكم على أطفال المؤمنين بالإيمان وعلى أطفال الكفار بالكفر حتى يجوز سَبْي هؤلاء ودخولهم في الرق. ومنهم مَن قال: إنه حُكم على موجود في العِلم، فليس معدومًا على الإطلاق، بخلاف مَن عَلِم الله أنه لا يوجد.
وأمَّا قَوْل المعتزلة: (يؤدِّي ذلك إلى أمرٍ ونهيٍ ولا مأمورَ ولا مَنْهِيَّ، وهو عَبَث) فَمَبْنِي على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وهي باطلة، عَلَى أنَّ كثيرًا مِن الطوائف وافق المعتزلة في منع تَعَلُّق الحكم بالمعدوم كما هو ظاهر كلام الإمام في "البرهان"؛ ولهذا قال الصفي الهندي:(خِلَافًا للمعتزلة وأكثر الطوائف)
(3)
.
نَعَم، نَصَر الإمامُ مذهبَ الأشعري في "الشامل".
واعْلَم أنَّ بِناء هذه المسألة على الأصل السابق وهو أنَّ كلام الله في الأزل هل يُسَمَّى خِطابًا؟ أوْ لَا؟ وقد سبق بيانه.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ز): قبل.
(2)
رفع الحاجب (2/ 65).
(3)
نهاية الوصول (3/ 1128).
وذهب عبد الله بن سعيد والقلانسي (مِن أصحابنا) إلى أنه لا يُسَمَّى في الأزل أمرًا ولا نَهْيًا ولا خَبَرًا حتى يوجد المأمور والمنهي والمُخْبَرُ؛ تَعَلُّقًا بهذه الشبهة.
ولكن جوابها أنه يَلْزَم مِن رفع جزئيات الكلام النفساني كلها رَفْعُه؛ إذْ لا يوجَد إلَّا في ضمنها، وَهُم لا يُثْبِتونه؛ فَوَجَب الحكم بأنه في الأزل أمرٌ ونهي وخَبَر وغيرها.
تنبيه:
قِيل: قد تستشكل هذه المسألة مع ما سيأتي مِن أنَّ الغافل غَيْر مكلَّف؛ لأنَّ مُقْتَضَى ما هنا أنْ يَكون الغافل داخِلًا في الخطاب لا على معنى أنْ يَفعل في حال غَفْلته، بل إذَا تَذَكَّر يَفْعَل بِالأمر السابق، بل الغافل أَوْلَى؛ لأنه موجود، فَمَا الفَرْق؟ فإنِ التُزِم أنَّ الغافل مأمور بَعْدَ تَذَكُره بالأَمْر الوارِد حال غَفْلَته فَيَكُونان سواء، فَيُقال: فَلِمَ أفردت هذه المسألة عن تلك؟ !
قلتُ: المُمْتَنِع تكليف الغافل على معنى المباشرة حال الغفلة أو ثبوته في الذمة حتى تزول الغفلة، وأمَّا تَعَلُّق الحكم بالمعدوم فَعَلَى ما سبق تقريره أنْ يُعَلَّق به في الأزَل بالقوة حتى يتأهل فَيَتَعَلَّق به حِسًّا، والغافل وغَيْره في ذلك سواء، فإنَّ التعَلُّق مُسْتَصحَب حتى تَزُول غفلته ويَصِير أهْلًا. فإنْ أُرِيدَ [في الغافل]
(1)
أنْ يتعلق به تَعَلُّقًا جديدًا بهذا الوجه، فلا فائدة فيه. وإنْ أُرِيدَ بالتعلق به أنْ يَفْعَله حال غفلته، فَمُحال؛ فافترقت المسألتان، والله أعلم.
(1)
ليس في (ش).
ص:
85 -
نَعَمْ، لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفِعْلِ
…
بَعْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ الْأَصْلِي
86 -
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبَاشِرَ الْفِعْلَ إلَى
…
فَرَاغِهِ، وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَمِلَا
الشرح:
مما يتعلق بالمسألة السابقة وهي تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم: تَعَلُّقه بالفعل المعدوم مِن الفاعل الموجود بعد وجود سببه المُقْتَضِي له، كدخول الوقت (مَثَلًا) للصلاة. وهذه المسألة مِن أشكل مسائل أصول الفقه؛ لِمَا فيها مِن اضطراب [المنقول]
(1)
وغموض المعقول، وهي في الحقيقة دخِيلَة فيه، وإنما هي مِن عظائم مسائل الكلام، وهي قليلة الجدْوَى في الفقه، وإنما ذَكَرتُها لِمُناسبتها لِمَا قَبْلها، كالاستطراد.
ومُلَخَّصُ ما فيها مذاهب لِأَهل السُّنة والمعتزلة، نذكرها مختصرة.
أحدها: مما ذكرناه في النَّظْم، وهو تَعَلُّق الأمر بالفعل قَبْل المباشرة له، واستمراره إلى فراغه، وعلى ذلك قولان:
أحدهما: أنَّ التعلق الذي قَبْل المباشرة على معنى الاقتضاء والترغيب، والتعلق حال حدوث الفعل على معنى الطاعة لا الاقتضاء؛ لأنَّ المقصود فيه محققٌ. نقله القاضي (كما في تلخيص الإمام) عن مُحَقِّقي أهل السُّنة، ونقله ابن الحاجب عن الأشعري، وضَعَّفه بما هو مَردود عند المحققين.
والثاني (ونَقَله أيضًا القاضي عن بعض مَن ينتمي إلى أهل الحق): أنه قَبْل الفعل أَمْر
(1)
في (ص): النقول.
إنذار وإعلام، وعند [الحدوث]
(1)
اقتضاء و [إلزام]
(2)
. وجَرَى على هذا القولِ الإمامُ وأتباعُه، ولَمْ يُعَرِّجُوا على ما قَبْله.
نَعَم، ضَعَّفه إمام الحرمين في "البرهان" بَعْد أنْ نَقَله عن أصحاب الشيخ بما معناه أنه يَلْزَم مِنْه تحصيل الحاصل، وأنه لا يرتضيه لِنَفْسه عاقِل.
المذهب الثاني: وحكاه القاضي عن القدرية (أَيْ المعتزلة)، أنَّ التعلق قَبْل الحدوث وينقطع عند الحدوث، ثم اختلفوا في مقدار زَمَن التقدم، فَقِيل: بِوَقتٍ واحد. والأكثرُ: بأوقات.
ثم اختلف هؤلاء: هل يشترط اجتماع شرائط التكليف في كل الأوقات؟ أو عند حدوث الفعل؟ وأمَّا قَبْله فالشرط كَوْنُ المخاطَب ممن يَفهم الخطاب.
ثم اختلفوا مِن وجْهٍ آخَر: هل يشترط أنْ يَكون فيما قَبْل الفعل بأوقات لطف ومصلحة [زائدٌ ذلك]
(3)
على التبليغ مِن المبلغ والقبول مِن المخاطَب؟ أوْ لَا؟ هذا معنى كلام القاضي، وهو أَثبت منقول.
واختار الإمامُ في "البرهان" مذهبَ المعتزلة أنَّ الأمرَ قَبْل الحدوث، لا بَعْدَه.
وقال الآمدي: (اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه، سوى شذوذ مِن أصحابنا، وعلى امتناعه بَعْد حدوث الفعل. واختلفوا في جواز تَعَلُّقه في أول زمان حدوثه، فَأَثْبَته أصحابنا ونفاه المعتزلة)
(4)
.
(1)
كذا في (ص، ز، ض، ش)، لكن في (ت، ض): الحادث.
(2)
في (ص، ق، ش، ض): التزام.
(3)
في (ز): زائدة.
(4)
الإحكام للآمدي (1/ 195 - 196).
وتَبعه ابنُ الحاجب إلَّا أنه نَسَبَ القول بِعَدَم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل إلى الشيخ الأشعري، والشيخُ لَمْ يَنُص عليه، إنما تُلُقِّيَ مِن قضايا مذهبه، ولا يَخْفَى ما في نَقْلَيهما مِن المخالفة لِلنقول السابقة عند التأمل.
وذكر صاحب "جمع الجوامع"
(1)
أنَّ التحقيق أنَّه لَمْ يَتَعَلَّق إلَّا عند المباشَرة، وأنَّ المَلَام قَبْلها على التَّلَبُّس بالكَفِّ [المَنْهِي]
(2)
. واستصوبه بَعْضهم.
قلتُ: وهو عجيب، فإنَّ النهي عن الضِّد فَرْعُ تَعَلُّق الأمر، فإذَا لَمْ يَتَعَلَّق - عَلَى قَوْله - فَكيف يُلام على التلَبُّس بالكفِّ المَنْهِي؟ !
وقد اجتمعت هذه النقول المتفرقة والأقوال المنتشرة بما قررناه، وقد بسطتها في "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول" بما يَتَعَيَّن على مُرِيده الوقوفُ عليه. وفيما أَوْرَدته هنا كفاية في غَرض هذه المنظومة، والله تعالى أعلم.
وقولي: (وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَملَا) تَتِمَّتُه ما بَعْدَه، وهو:
ص:
87 -
لِلتَّرْكِ؛ فَهْوَ أَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ
…
فَكَانَ مَطْلُوبًا بِنَهْيٍ مَسَّهُ
الشرح: أَيْ: قولنا في تعريف "الحُكم": (المتعلِّق بِفِعل المكلَّف) يَدخُل في الفعلِ "التَّرْكُ"؛ لأنه كَفُّ النفْس، وحينئذ فيتعلق به النهي عَلَى مَعْنَى [أنه]
(3)
المطلوب إيجاده، وكذا الأمر بِالكَف ونحوه هو المطلوب فيه، نحو:"اتْرُك" و"امْسِك" وما أشبه ذلك كما
(1)
جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 284).
(2)
في (ش): المنهي عنه.
(3)
في (ز، ظ): أن.
أَشَرْتُ إليه في البيت الآتي بَعْد ذلك بِقَوْلي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاه) عَطْفًا على المجرور وهو "بِنَهْيٍ"، أَيْ: ما بِمَعْنَى النَّهي. وهذا أصح المذاهب في المسألة عند ابن الحاجب وغَيْره.
وثانيها (ويُنْسَب للجمهور): أنَّ المكلَّف به في النهي ونحوه فِعْل الضِد للمنهي عنه. فإذَا قال: (لا تتحرك)، فمعناه: افْعَل ما يُضاد الحركة.
وثالثها (عن أبي هاشم أيضًا): انتفاء الفعل، أَيْ: عدم الحركة في مثالنا، لكن العدَم لا يدخُل تحت القدرة. فإنْ أراد الإعدام، رجع للقول الأول.
ورابعها (وهو ظاهر كلام "المستصفى"): إنْ كان مُجَرَّد التَّرْك مقصودًا من غير ملاحظة ضِدٍّ، فهو المكلَّف به، كالصوم؛ فلذلك وَجَبَت فيه النيَّة. وإنْ كان الملاحَظُ فيه إيقاع [الضِدِّ]
(1)
، فهو المكلَّف به، كالزنا والشرب.
وخامسها: ما في "الدلائل والأعلام"
(2)
لأبي بكر الصيرفي: أنَّ الواجبَ في المنهياتِ (إذَا ذَكَرها) اعتقادُ تحريمها وهو على أول الحال من الاعتقاد.
وسادسها: الكَفُّ بِشَرْط قَصْدِ التَّرْك، حتى يَأْثَم إذَا لَمْ يَقْصد التَّرْك. وهو غريب، نقله [ابن]
(3)
تيمية في "مسودة الأصول"
(4)
.
وقولي: (شَمِلَ) هو بِكَسر الميم، وفيه لُغة بالفتح، واللام في "لِلتَّرْك" زائدة؛ لأنه يتعدى
(1)
في (ش): الضد من غير ملاحظة ضد.
(2)
ذكر البعض أن اسمه: "دلائل الأعلام على أصول الأحكام" أو: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام".
(3)
في (ز، ظ): بنو.
(4)
الذي في (المسودة، ص 72): (وقيل: إنْ قصَد المكلَّف الكف مع التمكن من الفعل، أُثيب وإلا فلا ثواب ولا عقاب).
بنفسه. والضمير في "فكَانَ مَطْلُوبًا" يَعُود على "التَّرْك"، والله أعلم.
ص:
88 -
أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، وَكُلُّ فِعْلِ
…
قَدْ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ في الْأَصْلِ
89 -
يَعُمُّ مَا كانَ مُحَالًا أَنْ يَقَعْ
…
لِعِلْمِ رَبِّنا بِأَنَّهُ امْتَنَعْ
90 -
كَأَمْرِهِ لِكَافِرٍ أَنْ يُؤْمِنَ
…
مَعْ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ إلَى الْفَنَا
91 -
كَذَاكَ مَا مُحَالُهُ لِلْعَادَهْ
…
كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ
92 -
وَمَا مُحَالُهُ لِذَاتِهِ كَذَا
…
كَجَمْعِهِ الضِّدَّيْنِ، لَكِنْ نُبِذَا
93 -
وُقُوعُ ذَيْنِ دُونَ مَا تَقَدَّمَا
…
وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ حَيْثُ حُكِمَا
الشرح: قولي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ) راجِعٌ إلى ما سَبَق كما بَيَّنَّاه.
وقولي: (وَكُلُّ فِعْلٍ) إلى آخِره - إشارة إلى أنَّ مما يدخل أيضًا تحت الفعل (في قولي في التعريف بالفعل) ما وقوعه في الوجود مُحَال، ويُعَبَّر عن هذه المسألة بأنَّ التكليف بِالمُحَال أو بما لا يُطَاق هل يجوز؟ وتحريرُها أنَّ المُحال على ثلاثة أقسام:
- المُحال لِتَعَلُّق عِلْمِ الله تعالى بأنه لا يقع؛ إذْ لو وقع خِلَاف معلومه، لَزِمَ انتفاءُ عِلْمه أو عِلْمُه بالشيء على خِلَاف ما هو عليه، وهو مُحَال.
- والمُحال باعتبار العادة، كَصُعُود السماء ورَفْع الجبل أو الصخرة العظيمة التي لا يُعْتَاد رَفْعُها.
- والمُحال لِذَاته، كالجَمْع بَيْن الضِّدَّيْن، وهو المستحيل العقلي.
فالأول جائِزٌ وواقِعٌ قَطْعًا، وربما عُبِّر عنه بِـ "المستحيل العقلي"؛ لأنَّ جِهَة استحالته تؤول إلى أَمْرٍ عَقْلي، ولكنه خِلَاف المصطلَح.
وفي "المنخول" للغزالي أنه لا يُسَمَّى "مستحيلًا" أَصْلًا؛ لأنه في ذاته جائز الوقوع، فلا تتغَيَّر حقيقته بالعِلْم، فانظر ما بَيْن هذين القولين مِن التباعد.
ودليل وقوعه أنَّ الله تعالى كَلَّف الكفار بالإيمان قَطْعًا - مع عِلْمه تعالى بأنَّ بَعْضهم لا يؤمِن، كما قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
ومما هو واقِعٌ قَطْعًا: ما استحالتُه لِعَدَم القُدرة عليه حال التكليف مَعَ كَوْنه مقدورًا حالة الامتثال إذَا قُلنا بأنه مُتَعَلِّق قَبْل المباشرة - كما سبق - وقُلْنَا: (إنَّ القُدرة مع الفعل) كما يقوله الأشعري، فالتكاليف كلها - على رأيه - مِن التكليف بالمُحَال.
وإنما قال: (إنَّ القُدرة مع الفعل) لأنَّ القُدرة صفة متعَلِّقة بالمقدور، ووجود المُتَعَلِّق بدُونَ المُتَعَلَّق مُحَال. وأيضًا فَقُدْرة العَبْد عَرَض، والعَرَض لا يَبْقَى زَمانَيْن، فلو تَقَدَّمت القُدْرَة لَعُدِمَتْ عند الحدوث.
وضعَّفَ كثيرٌ ذلك، ورَدُّوا هذين الوَجْهَيْن:
الأول: بأنَّ التعلق لا يقتضي وجودًا إذَا كان بالقوة، وإنما يقتضيه إذَا كان بالفعل.
والثاني: بأنه إذَا ذَهَبَ، خَلَفَهُ مِثْلُه؛ فلا يَنْفَكُّ.
فِلأَجْل ذلك لَمْ أَجْعَل هذا قِسْمًا آخَر مِن المستحيل.
وأمَّا الثاني (وهو المُحَالُ العادِي وَإنْ كان مُمْكِنًا في ذاته، كَحَمْل الآدَمِي الجبَلَ وطيرانه وعَدْو المُقَيَّد ومَشْي الزَّمِن ونحوها مما فيه مانع يُمْكِن زوالُه عَقْلًا) والثالث (وهو المُحَال لِذَاته، كَجَمْع الضِّدَّيْن) فَهُمَا مَحَلُّ الخِلَاف.
والأصح فيهما عند الجمهور الجوازُ مُطْلَقًا، ونُقِلَ عن الأشعري؛ لأنه قضيَّة مَذْهَبه كما سبق، ولقوله تعالى:{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. ولو كان مُحَالًا لَمَا استقام سؤالُ دَفْعِه.
والثاني: المنع مُطْلَقًا، وهو قول أكثر المعتزلة، واختاره ابن الحاجب والأصفهاني في شرح "المحصول"، ونقل عن صاحب "التلخيص" حكايته عن نَصِّ الشافعي، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وإمامُ الحرمين.
والثالث: الامتناع في المُحَال لِذَاته، والجواز في المُحَال للعادة، وإليه ذهب معتزلة بغداد، واختاره الآمدي، وصَرَّح به الغزالي في "المستصفى"، واختاره أيضًا الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح العنوان". فَمَن نَقَل عنه أو عن الغزالي أنهما مَنَعَا مُطْلَقًا، ليس بِمُصِيب.
نَعَم، مَن وافق المعتزلة مِن أهل السُّنة فَلَيْسَ لِمُدْركهم العقلي، بل لدليلٍ آخَر.
وقولي: (كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ) أَيْ: تكليف الآدمي ذلك بِخِلَاف ما لو كُلِّف الجِنِّيُّ مَثَلًا بذلك.
وقولي: (لَكِنْ نُبِذَا) إلى آخِره - إشارة إلى ما سَبَق مِن الوقوع في القسم الأول وعَدَم الوقوع في القِسمين الآخَرين ولو قُلْنَا بالجواز فيهما.
وقولي: (وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ) أَيْ: السِرُّ في التكليف بالمُحَال مُطْلَقًا - حيث حَكَمْنَا بجوازه وبوقوعه - الابتلاء والاختبار، والله أعلم.
ص:
94 -
وَبِالْمُكَلَّفِ أُرِيدَ الْعَاقِلُ
…
الْبَالِغُ الذَّاكِرُ، فَهْوَ [الْكَامِلُ]
(1)
الشرح: لَمَّا سَبَقَ في تَعْرِيفِ الْحُكْمِ أنه المتعلِّق بِفِعل المكَلَّف، احْتِيجَ إلى شَرْحه وما
(1)
كذا في (ص، ز، ق، ن 2) ويوافق الشرح. وفي (ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): كامل. والوزن صحيح في الحالتين.
يخرج منه، والمراد المُتهَيِّئُ للتكليف، لا مَن تَعَلَّق به التكليف، وإلَّا يَلْزَم الدَّوْرُ كما سبق.
والمُتَهَيِّئُ لذلك مَن اتَّصَف بِصفاتٍ أرْبَع:
- العقل.
- والبلوغ.
- والذِّكْر للشيء، لا مَن لَمْ يَعْلَم به أصلًا أو كان غافلًا عنه.
وربما عُبِّرَ عن هذه الثلاثة بِـ "الفَهْم"، فيقال: شَرْطُ التكليفِ الفَهْمُ.
- والرابعُ: عدم الإلجاء، وسيأتي - بَعْد احترازات هذه الثلاثة - بَيَانُه.
والباء في قولي: (بالمكلَّف) متعلِّقة بِـ "أُرِيدَ".
ومَن اتصف بالصفات الثلاث، فهو الكامل، وغَيْرُه غافِلٌ، والله أعلم.
ص:
95 -
لا نَائِمٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ سَاهِي
…
وَذُو جُنُونٍ أَوْ صِبًى وَضَاهِي
96 -
أَوْ مُخْطِئٌ، وَهَؤلَاءِ "الْغَافِلُ"
…
خِطَابُهُ خِطَابُ وَضْعٍ [شَامِلُ]
(1)
97 -
مِثْلُ ضَمَانِ مُتْلَفٍ في مَالِهِ
…
وَلَيْسَ سَكْرَانُ عَلَى مِنْوَالِهِ
98 -
فَإنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْحُكْمِ
…
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيْ في "الْأُمِّ "
99 -
أَنْزَلَهُ لِلسَّبَبِ الْمُجْتَرَءِ
…
كفَاعِلٍ بِالِاخْتِيَارِ الْمُنْشَأِ
الشرح: هذا هو المحتَرز عنه بالشروط الثلاثة، لكن لا على ترتيب ذِكْرها أوَّلًا:
(1)
كذا في (ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5) وأراه يوافق الشرح؛ لقول المؤلف: (الغافل يتعلِّق به خطابُ الوضع مِن سببٍ وشَرْطٍ ومانعٍ وصحةٍ وفسادٍ). لكن في (ص، ض، ق، ش، ت): نازل.
فيخرج بِـ "العاقل" المجنونُ بأنواعه، وكذا شبِيهُه، كالمغمى عليه؛ فإنه يشاركه في عَدَم الفَهْم وإنْ خالفه مِن وَجْهٍ آخَر؛ فلذلك قلتُ:(وَضَاهِي) أَيْ: [و]
(1)
شابِهْ بذلك ما في معناه.
وخرج بِـ "الذاكِر" النائمُ والجاهلُ الذي لَمْ يَبْلُغه الخطاب، والساهي [ومِنه الناسي كما سبق]
(2)
الذي بَلَغَه ونسي، أَيْ: نَسِي كَوْن الذي فَعَله منهيًّا، أو نحو ذلك.
ويخرج أيضًا المُخْطِئُ، وهو اسم فاعِل مِن "أخطأ يُخْطِئُ أخطاءً"، خِلَاف العَمْد، فإنَّ غَيْر المُتَعَمِّد ليس ذاكِرًا. واسم المَصْدَر "الخَطَأ" بفتح الخاء والطاء، وأمَّا "خَطِئَ" بِكَسْر الطاء "يَخْطَأ" بفتحها (يوزن "عَلِمَ يَعْلَم") فمعناه: أَثِمَ، والمصدَر "الخِطْأ" بكسر الخاء وسكون الطاء، قال تعالى:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]، [أَيْ: إثمًا]
(3)
، ومنه قوله تعالى:{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]. وقد يُطْلَق "الخاطِئ" بمعنى "المُخْطِئ"، وكثيرًا ما يَستعمل الغزالي ذلك في كُتُبه.
وبِـ "البالغ" يخرج الصبيُّ.
وهؤلاء يُعَبَّر عنهم في الأصول بِـ "الغافِل"، فيقال: هل يُكَلَّف الغافل؟ أَوْ لا؟
والتعبير بأنه: (هل يتعلق بِهِم الخطاب أو الحُكم غَيْر الوضعي؟ ) أَجْوَد؛ لأنَّ المباح لا تكليف فيه وإنْ كان حُكْمًا شرعيًّا (على الأصح فيهما)، والمندوب غَيْر مُكَلَّف به وإنْ كان مأمورًا به (على الراجِح)؛ بِناءً على أنَّ التكليف إلزامُ ما فيه كُلفة، لا طَلَب ما فيه كُلفة، خِلَافًا للقاضي.
(1)
ليس في (ص).
(2)
كذا في (ش، ض، ت). وليس في (ص، ز، ق).
(3)
ليس في (ش).
ودليلُ مَنْع خطاب الغافل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}
(1)
[الأحزاب: 5]، وهو معنى حديث: "إنَّ اللهَ [وَضَع]
(2)
عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ ومَا استُكرهوا عليه"
(3)
، فهو مُغْنٍ [عن الاستدلال بهذا الحديث؛ فإنَّ فيه ضعْفًا "بَيَّنَه"
(4)
بعضهم، لكنه رواه ابنُ ماجه وصححه ابنُ حبان والحاكمُ وقال: على شرط الشيخين. وصححه أيضًا عبد الحق وابنُ الصلاح. وإنما قُلنا: في الآية غِنًى]
(5)
؛ لأنه في الآية الكريمة نَفَى الجناح (وهو الإثم) عن المُخطِئ والناسي في قوله: {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، فَنَسَبَ التعمُّد للقلب، والناسي ليس مُتَعَمِّدًا بِقَلْبه. وأمَّا "المُكْرَه" فخارِج أيضًا بقوله:{تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ؛ لأنَّ المُكْرَه تَعَمَّد بجوارحه الظاهرة دُون قَلْبه، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وسيأتي بيانُ تكليف المكرَه وانقسامه إلى مُلْجَأٍ وغَيْره وما في ذلك مِن الخلاف.
ودليله أيضًا حديثُ: "رُفِعَ القَلَم عن ثلاث: عن الصبي حتى يَبْلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق"
(6)
. رواه الأربعة مِن حديث علي، وقال الترمذي:(حسن)، وأخرجه ابن حبان والحاكمُ وقال:(صحيح على شرط الشيخين). وأخرجه البخاري موقوفًا مُعَلَّقًا بِالجَزْم، ورواه أبو داود والنسائي وابنُ ماجه وابنُ حبان مِن رواية عائشة
(1)
في جميع النُّسخ: لا جناح عليكم.
(2)
في (ز): رفع.
(3)
سنن ابن ماجه (رقم: 2045)، المعجم الأوسط للطبراني (8/ 161، رقم: 8273)، وغيرهما. وقال الألباني: صحيح. (صحيح الجامع: 1836)، (إرواء الغليل: 82).
(4)
كذا في (ض، ق، ت)، لكن في (ص، ش): عند.
(5)
في (ز): (عنه لأن الحديث فيه ضعف، وذلك). وفي (ظ): (عنه لأن الحديث فيه ضعف، ولذلك).
(6)
صحيح البخاري (5/ 2019)، سنن أبي داود (رقم: 4401)، سنن الترمذي (1423).
وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم). وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام": إنه أَقْوَى إسنادًا مِن رواية عَلِي.
وفي التعبير بِالْـ "رَفْع" تأويلان:
أحدهما: أنه على حقيقته في كَوْنه يستدعِي سَبْق وَضْعٍ، وهو في الصبي المُمَيِّز كذلك، فَقَدْ قال البيهقي:(إنَّ الأحكام إنما نِيطَت بِخَمْس عشرة سَنَة مِن عام الخندق، وإنما كانت قَبْل ذلك تتعلق بالتمييز). انتهى؛ ولذلك صَحَّ إسلام عَلِيٍّ رضي الله عنه في الصِّبَا؛ لأنه قَبْل رَفْع القَلَم.
وغلب في الباقي مَجَازًا.
الثاني: أنَّ المرادَ بالرفعِ نَفْيُ وَضْعه أصلًا، كما أطْلق الإخراج في قوله تعالى:{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] على عَدَم دخولهم في الظلمات بالكُلية، ولا خِلَاف في مَنعْ تكليف الغافل إلَّا ما خرج مِن مسألة التكليف بالمُحال كما أشار إليه البيضاوي حيث قال:(بِناءً على التكليف بالمحال)
(1)
. أَيْ: فإنْ منعناه فَهُنَا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاه فللأشعري قولان هنا نقلهما ابن التلمساني وغَيْرُه. نَعَم، في "الأوسط" لابن برهان عن الفقهاء (خِلَافًا للمتكلمين) أنه يصح تكليف الغافل - عَلَى معنى ثبوت الفعل في الذمة.
قلتُ: وَيشْهَدُ له قولهم في المرتد إذَا جُنَّ: يَقْضِي العبادات الفائتة في زَمَنِ الجنون الواقع [في]
(2)
الرِّدَّة. ولو قُلْنَا: القضاء بِأَمرٍ جديد، فسيأتي بيان المراد بذلك.
وقولي: (خِطَابُهُ خِطَابُ وَضْعٍ) أَيْ: الغافل يتعلِّق به خطابُ الوضع مِن سببٍ وشَرْطٍ
(1)
عبارة البيضاوي في كتابه "منهاج الوصول، 142" بتحقيقي: (لا يُجَوِّزُ تكليفَ الغافِلِ مَن أَحَال تكليفَ المُحَال).
(2)
كذا في (ص، ض، ظ)، لكن في (ز): في زمن.
ومانعٍ وصحةٍ وفسادٍ، كضمان مُتْلَف النائم ونحوه، ووضوء الصبي وصلاته وبطلانها بالنجاسة وصحة غَيْر ذلك مِن عباداته وفساده، وجريان الشروط والموانع فيها، ونحو ذلك مما هو منتشر معروف في الفقه.
وقولي: (وَلَيْسَ سَكْرَانٌ عَلَى مِنْوَالِهِ) أَيْ: ليس السكران مِن أقسام الغافل فيما تَقَدَّم مِن عَدَم تكليفه. ومعنى "على منواله" أَيْ: مِثْله، والمنوال ما [يُنسَج]
(1)
عليه، فاستُعير هنا؛ للمماثلة، وهذا على المُرَجَّح؛ فَقَدْ نَصَّ عليه الشافعي في "الأُم" كما نقله الروياني في "البحر" في كتاب الصلاة، ونقله النووي في "التهذيب" عن الجويني والقاضي والبغوي، ونَقَله غَيْرُه عن فتاوى القفال.
وإنما خرج عن الغافل بتكليفه؛ لأنه قد اجترأ على سبب السُّكْر الذي هو حرام حتى نَشَأَ عنه السُّكْرُ؛ فَنزل ذلك بالنسبة إلى ما يقع مِن أفعاله مَنْزِلَة الذي فَعَلها في حالة الصحة بالاختيار؛ تغليظًا عليه؛ لأنه تَعَاطَى السبب بالاختيار.
وهو معنى قولي: (أَنْزَلَهُ)، أَيْ: أَنْزَل الشافعي رضي الله عنه أفعال السكران مَنْزِلَة أفعال الصاحي؛ لِأَجْل تَعَاطيه السبب واجترائه على هذا المُحَرَّم الكبير الذي ينشأ عنه ما لا يتناهَى مِن المفاسد، فَصَيَّرَهُ كالمُخْتار في أفعاله كلها.
وأمَّا ما وقع للنووي في "المنهاج" وغَيْره مِن استثناء السكران مِن المُكَلَّف في باب الطلاق وغَيْره (وَزَعَم في "الدقائق" أنه لا بُدَّ مِن استثنائه؛ [لأنه]
(2)
يصح بَيْعُه وتصرفاته ويقع طلاقُه مع كَوْنه غَيْر مُكَلَّف) فاعتمادٌ مِنه عَلَى شمول الغافل له، وإطلاق الأصوليين أنَّ "الغافل" غَيْر مُكَلَّف، بل وصَرَّح به القاضي في "التقريب" فيه بخصوصه، وقال الغزالي:
(1)
في (ز): ينسخ. وفي (ض): نسج.
(2)
في (ش): لا.
(إنه أسوأ حالًا مِن النائم؛ لأنه لا يمكن تنبيهه)
(1)
.
لكنه
(2)
قد حَكَى عن أئمة مذهبه في "تهذيب الأسماء واللغات" خِلَافه كما سبق، بل وصاحب المذهب قد نَصَّ عليه؛ فلا يُعْمَل بِغَيْرِه، فلا حاجة لاستثنائه مِن المكلَّف في باب مِن الأبواب.
[ولا يُغتَر بمن قال: إنَّ نَصَّ الشافعي على تكليف السكران يؤخَذ منه أنه يرى بتكليف الغافلين كلهم. وفساد هذا ظاهرٌ لا يَخْفَى]
(3)
.
نَعَم، [احتجوا على ذلك]
(4)
بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فإنَّ المراد الطافح، بدليل:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ، فَقَدْ وُجِّه إليه النهي في حال سُكْره.
ونُوزِعُوا في الاستدلال المذكور:
- باحتمال أنْ يَكون ذلك مِن خطاب الوضع، بمعنى أنَّ صلاته في سُكْره ممتنعة، أَيْ: باطلة.
- أو أنَّ المرادَ النهيُ عن السُّكْر عند إرادة الصلاة، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وكما يقال:(لا تَمُتْ وأنت ظالم). أيْ: لا تَظْلم فيؤول بك الأمرُ إلى الموت في حال الظلم.
- أو أنَّ المراد بالسُّكْر هنا أنْ يَكون ثمِلًا حاضرَ الوَعْي. وقد قال ابنُ الحاجب: إنَّ الآية
(1)
المستصفى (ص 68).
(2)
يقصد: النووي.
(3)
من (ز، ظ).
(4)
في (ز، ظ): احتج مَن قال بتكليف السكران.
يجب تأويلها على أَحَد هذين الأخيرين.
ولكن الكل ساقط:
- أمَّا الأول: فلأنه لو كان مِن خطاب الوضع، لَمْ يَأْثَم، والفَرْض أنه آثِمٌ.
- وأمَّا الثاني: فمثل ذلك مجازٌ لا يُعْدَل إليه إلَّا عند تَعَذُّر الحقيقة أو قيام دليلٍ على إرادته. ولا مانع مِن الحقيقة؛ فَوَجَبَ المصيرُ للحَمْل عليها.
- وأمَّا الثالث: فلأنه يَلْزَم أنَّ مَن به مبادئ [النَّشَاة]
(1)
وله تمييزٌ، تَحْرُم عليه الصلاة. وهو باطلٌ، على أنَّ لفظ "الثَّمِل" ليس هو كما فَهِمَ مَن حَمَلَه على النشوان الذي فيه أوائل الطرب، فإنه خِلَاف قول أهل اللغة: إنَّ الثَّمل هو الطافح؛ ولذلك جاء في حديث حمزة في ذبح إبل علِيٍّ رضي الله عنهما قال: "وهل أنتم إلَّا عبيدٌ [لي]
(2)
"، فَعَرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلٌ
(3)
.
نَعَم، في تكليف السكران إشكال مِن حيث إنه يَلْزَم أنْ يَكون مُكَلَّفًا بالعبادات كلها ومنها الصلاة، ومكلَّفًا بأنْ لا يُصَلِّي؛ لهذه الآية، وَهُمَا متنافيان.
قلتُ: ويمكن الجواب بأنه مَنْهِيٌّ عن قربان الصلاة وهو سكران، بل يزيل السُّكْر ويُصَلِّي، كما يُؤْمَر مَن هو مُحْدِث بإزالة الحَدَث ويُصَلِّي مع أنه مَنْهِيٌّ عن الصلاة حال حَدَثِه، فهو مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ باعتبارين. فإنْ كان إزالته ليست مقدورة له فهو معاقَب؛ تغليظًا عليه؛ لأنَّ التفريع على كَوْنه ليس غافِلًا وأنه يتعلق به الخطاب - غايتُه هنا أنْ يَكون مُكَلَّفًا بما لا يطيقه، فهو مِن جواز التكليف بالمُحَال، والله أعلم.
(1)
في (ص): النشأة.
(2)
في (ت): لأبي.
(3)
سنن أبي داود (2986) بلفظ: "قال حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلا عَبِيدٌ لِأَبي؟ فَعَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ثَمِلٌ".
قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2986).
ص:
100 -
وَالشَّرْطُ أَيضًا عَدَمُ الْإلْجَاءِ
…
فَمُكْرَهٌ مكَلَّفٌ، "فَالْجَائِي"
101 -
فِي القَتْلِ مِنْ إثْمٍ وَمنْ قِصَاصِ
…
لَيْسَ لإِيثَارٍ بِلَا اخْتِصَاصِ
102 -
وَمَوْضِعُ الْإكْرَاهِ غَيْرُ مَا حُكِمْ
…
بِكَوْنِهِ مَحَلَّ هَذَا الْمُنْحَتِمْ
103 -
[لِأنَّهُ]
(1)
قَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ
…
بِأنَّهُ يَعُمُّهُ الْخِطَابُ
الشرح: هذا هو الشرط الرابع مِن شروط المكلَّف، وهو أنْ لا يَكون مُكْرَهًا بِإلجاءٍ. فالمُلْجَأُ إلى فِعل وهو لا يَجِد مندوحةً عنه مع حضور عَقْله (كَمَن أُلْقِيَ مِن شاهق، فهو كالآلة، أو كحركة المرتعش) يمْتَنع تكليفُه، قِيل: باتفاق. لكن الآمدي أشار إلى أنه يطرقه الخِلَاف من التكليف بالمُحَال؛ لِتَصَوُّر الابتلاء فيه، بِخِلَاف الغافل.
نَعَم، عندنا وَجْهٌ في أنَّ الصائم إذَا أُوجر مُكْرَهًا، يفطر، لكن ليس لِكَوْنه مُكَلَّفًا، بل لأنَّ المُفَطِّر عنده ما يَصِل للجوف مُطْلَقًا، فيرجع لِخِطَاب الوَضْع، فلا [يُكَلَّف]
(2)
بِفِعْلٍ المُلْجَأُ إليه (لأنه واجب الوقوع) ولا بِتَرْكه (لأنه ممتنع الوقوع).
أمَّا المُكْرَه غَيْر المُلْجَأ فلا يمتنع تكليفه كما صرَّح به القاضي وإمام الحرمين والشيخ أبو إسحاق والغزالي وغيرهم، ومال إليه صاحب "المحصول" وأتباعُه.
قال ابنُ التلمساني: وهو مذهب أصحابنا؛ لأنَّ الفعل مُمْكِن والفاعل متمكن. وكذلك ابنُ بَرهان.
ومقابِلُهُ يُنقَل عن الحنفية، وربما نُقِل عن المعتزلة، لكن الأثبت في النقل عنهم - كما قال
(1)
في (ص، ق): فإنه.
(2)
كذا في (ز، ظ)، لكن في سائر النُّسخ: تكليف.
ابنُ التلمساني - أنه يمتنع التكليف بفعل المُكْرَه عليه؛ لاشتراطهم كَوْن المأمور به بحيث يُثاب عليه، وهو لا يُثاب هنا؛ لأنه يأتي به لِدَاعِي الإكراه، لا لِدَاعِي الشرع، ولا يمتنع التكليف بِتَرْكه؛ فإنه إذَا تَرَك، كان أَبْلَغ في إجابة داعِي الشرع.
وَرَدَّ عليهم القاضي بالإجماع على تحريم القتل المُكْرَه عليه.
قال إمامُ الحرمين: (وهذه هفوة مِنه؛ لأنَّ مَحَلَّ النزاع في التكليف بِعَيْن المُكْرَه عليه، وتحريمُ القتلِ تكليفٌ بِتَرْكه)
(1)
.
وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ القاضي إنما رَدَّ عليهم بذلك لأنَّ القدرة عندهم شَرْط في التكليف، ولا يتحقق إلَّا بِأنْ يَقْدر على الشيء وضِده عندهم أيضًا، فتحريمُ القتل الذي أُكْرِهَ عليه دليلٌ على أنه قادر؛ فلا وَجْه لِمَنْعِهم التكليف بِعَيْن المُكْرَه عليه مُطْلَقًا.
هذا كله معنى كلام ابن التلمساني.
ووقع في "جمع الجوامع" اختيار امتناع تكليف المُكْرَه، فاحتاج أنْ يجيب عما جاء في المُكْرَه على قَتْل مُكافِئه مِن الإثم (أَيْ: وفي معناه وجوبُ القصاص عليه) بِأنَّ ذلك لِإيثاره بقاء نَفْسه بِذهاب مهجة غَيْره، كمن يقتل غَيْرَه في المخمصة لِيأكله مع كَوْنه مُحترمًا.
وقرر ذلك بأنَّ مَحَلَّ الإكراه ليس هو محل التأثيم؛ لأنَّ محل التأثيم اختيارُ بقاء نَفْسه على بقاء نَفْس غَيْره مع عدم اختصاص نَفْسه في نَظَر الشرع. ومحل الإكراه (وهو أحد الاثنين منه ومن المقتول) لا تأثيم فيه.
قال: (وهو نظير ما في الكفارة المخيرة أنَّ محل التخيير لا وجوب فيه، ومحل الوجوب لا تخيير فيه. أيْ: كما سيأتي بيانه)
(2)
.
(1)
البرهان (1/ 91).
(2)
منع الموانع (ص 100 - 101).
قال: (وهو تحقيق حَسَن)
(1)
. انتهى
قلتُ: ويَشهد لِحُسْنه (على تقدير صحة ما فرّع عليه) أنَّ مَن أُكْرِه على طلاق إحدى امرأتيه فَطَلَّق مُعَيَّنة، يَقَع. وإنْ طَلَّق مُبْهَمة، لا يَقَع؛ لأنَّ طلاقه المُعَيَّنة ليس محل الإكراه، فهو اختيار. ولَمَّا كان هنا يَتَعَذَّر قَتْل أحدهما لا بِعَيْنه، لَمْ يتأت فيه صورة يظهر أثَرُ منع التكليف فيها.
وإلى ذلك أشَرْتُ بِقَوْلي: (فَالْجَائِي فِي القَتْلِ) إلى آخِره، فنفيتُ أنْ يَكون ما ثَبتَ مِن الإثم والقصاص لِأَجْل الإيثار مع انتفاء التكليف، وأنَّ محل الإكراه غَيْر محل الإثم والقصاص، ثُمَّ ذَكَرْتُ مُسْتَنَد رَدِّ هذا كُله بأنه قد صَرَّح الأصحاب بأنَّ المُكْرَه مُكَلَّف؛ فلا يَرِد السؤالُ مِن أَصْله؛ فإنَّ القصاص والإثم حينئذ إنما هو لِكَونه مُكَلَّفًا، فيصح عَوْدُ الضمير في قولي:(يَعُمُّهُ الْخِطَابُ) على أَصْل المُكْرَه، وقد بَيَّنْتُ مَن قال [به]
(2)
. ويصح أنْ يُعَاد إلى أَقْرَب مَذْكور وهو المُكْرَه على القتل بخصوصه، فَقَدْ سَبق عن [القاضي]
(3)
أنَّ عليه إجماع العلماء - على ما سبق مِن تفسيره وكلام إمام الحرمين وما فيه مِن النظَر.
وفي "تلخيص" إمام الحرمين ما نَصُّه: (أَجْمَع العلماء قاطبة على تَوَجُّه النهي على المُكْرَه على القتل).
قال: (وهذا عَيْن التكليف في حالِ الإكراه، وهو مما لا منجا منه)
(4)
. انتهى
وقال الشيخ في "شرح اللمع": (انعقد الإجماع على أنَّ المُكْرَه على القتل مأمورٌ
(1)
المرجع السابق.
(2)
في (ش): بهذا.
(3)
في (ت، هامش ق): القاضي عياض.
(4)
التلخيص في أصول الفقه (1/ 143).
باجتناب القتل ودَفْع المُكْرِه عن نَفْسه، وأنه آثِمٌ بِقَتْل مَن أُكْرِه على قَتْله)
(1)
.
وذلك يدل على أنه مُكَلَّفٌ حال الإكراه.
وكذلك صَرَّح به الغزالي وغَيْرُه، واقتضى كلامهم تخصيص الخلاف بما إذَا وافق داعيةَ الشرع كالإكراه على قَتْل الكافر وإكراهه على الإسلام، أمَّا ما خالف فيه داعِيةُ الإكراه داعِيةَ الشرع (كالإكراه على القتل) فلا خِلَاف في جواز التكليف به.
إذَا عَلِمْتَ ذلك، عَلِمْتَ سقوط السؤال مِن أصله والاستغناء عن الجواب.
نَعَم، هذا كُله كلام الأصوليين، أمَّا الفقهاء فاضطرب جوابهم في المُكْرَه في مسائل بِحَسب الأدلة.
فَمَرَّة قطعوا بما يناسب عدم تكليفه، كقَطْعهم بأنه لا يصح مِن المكرَه عَقْدٌ ولا حلٌّ في بيعٍ ولا طلاقٍ ولا عتقٍ، إلى غَيْر ذلك من المنجزات، وكذلك التلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالإيمان، وكذلك إباحة شرب الخمر والإفطار وإتلاف المال ونحو ذلك، لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولِمَا سبق مِن حديث:"وما استكرهوا عليه"، [وأنه]
(2)
يُغْنِي عنه قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
ومَرَّة قطعوا بما يوافق تكليفه، وذلك فيما إذَا كان الإكراه بِحَقٍّ، كإكراه الحَرْبي والمُرْتَد على الإسلام، وإكراه الإمامِ بَعْضَ المكلَّفين بِفَرْض الكفاية، وإكراه القاضي المَدْيون على الوفاء عند القدرة، ونحو ذلك.
ومَرَّة رَجَّحوا إسقاط أَثَر الإكراه على وَفْق منع تكليفه، كما لو أُكْرِه الصائم على أنْ
(1)
شرح اللمع (1/ 272).
(2)
كذا في (ز)، لكن في (ص): فإنه.
يَأكُل، والصائمة على أنْ تُمَكِّن مِن الوطء، فأصَح القولين: لا يفطران بذلك. وكما لو أُكْرِه مَن حَلف على دخول دارٍ ونحوه على فِعْل المحلوف عليه، فالأصح: لا يحنث لا في يمين ولا في طلاق ولا عتاق.
ومرة رجحوا عدم سقوط أثره؛ موافقة لِكَوْنه مُكَلَّفًا، كالمسألة السابقة وهي الإكراه على القتل، فيأثم ويجب القصاص - على المُرَجَّح.
نَعَم، لك أنْ تَعُدَّه مِن القِسم الأول على ما سبق من حكاية الإجماع على أنه مُكَلَّف، ويَكون منشأ الخلاف في القصاص إنما هو مِن حيث إنَّ الشُّبهة تُسْقِط القصاص، فهل هذا شُبْهة فَتُسْقِطه؟ أَوْ لَا؟
ومِن القِسم الرابع أيضًا ما لو أُكْرِه على الزنا (إذَا قُلنا: يُتَصَوَّر)، فإنه لا حَد (على الأصح)، والله أعلم.
ص:
104 -
وَفَاقِدُ الشَّرْطِ الَّذِي قَدْ شُرِعَا
…
مُخَاطَبٌ بِمَا لَهُ قَدْ وُضِعَا
105 -
وَفَرْضُهَا في كَافِرٍ قَدْ خُوطِبَا
…
بِمَا إلَى فُرُوعِ شَرْعٍ نُسِبَا
106 -
فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ بِالْأَمْرِ
…
وَالنَّهْيِ، بَلْ وَفي جِهَادٍ يَجْرِي
107 -
وَيَسْتَوِي الْمُرْتَدُّ وَالْأَصْلِيُّ
…
لَكِنَّ ذَا في فَائِتٍ مَرْعِيٌّ
108 -
بِنَفْيِ أَنْ يَقْضِيَهُ إنْ أَسْلَمَا
…
فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ مَا قَدَّمَا
الشرح: لَمَّا أَنْهَيْتُ الكلام على شروط المكلَّف (على المعتمَد) بِوِفاقٍ أو خِلَافٍ، ذَكَرْتُ بَعْده ما اشتُرِطَ فيه عَلَى رأيٍ ضعيف.
فَمِن ذلك: أنَّ حصول الشرط الشرعي هل يُشْتَرَط في تَعَلُّق الخطاب بالمشروط
(كالكافر يخاطَب بالصلاة حال كُفْره، والمُحْدِث حال حَدَثه)؟ أَوْ لَا؟
أمَّا الشرط العقلي فلا بُدَّ منه كما سبق في تكليف الغافل.
وهذه القاعدة وإنْ كانت كُلية لكنها مفروضة في تَعلُّق الخطاب بالكافر في فروع الإيمان، أَيْ: أفعال العباد المتوقِّفة على الإيمان. أَمَّا الإيمان فمكلَّفون به اتفاقًا، والمراد به العقائد الأوائل، أَيْ: التي لا تتوقف على سَبْق شَيء. ويلْحَق بها - كما قاله القاضي - تصديقُ الرُّسُل والكَفُّ عن أذاهم بِقَتْل أو قتال أو غير ذلك وإنْ كان ذلك مِن الفروع.
نَعَم، حكَى [المازري]
(1)
عن بعض المبتدعة أنَّ الكفار غَيْر مخاطَبين بهذه المعارف، فمنهم مَن قال: لأنها ضرورية. ومنهم مَن رآها كَسْبِيَّة بِطَريق العقل وَنَظَرِه
(2)
.
وتَرَدَّد بعضُ المتأخِّرين في كَلِمَتَي الشهادة: هل هي مِن الفروع؛ فَيَجْري فيها الخلاف الآتي؟ أَوْ لا، بل هُم مُكَلَّفون بها قَطْعًا؟
والذي ينبغي القَطْعُ بالثاني وإنْ كان الإيمان هو التصديق؛ لأنها شعاره وبها يُتَحَقَّق حصوله؛ فإذَن المراد بالفروع ما سِوَى ذلك مِن صلاة وزكاة وصوم وحج وغَيْر ذلك.
وقولي: (مُخَاطَبٌ بِمَا لَهُ قَدْ وُضِعَا) أَيْ: بالشروط، والتعبير بالخطاب أَصْوب مِن التعبير بالتكليف؛ لأنَّ الخطاب الوضعي مُتَعَلِّق بهم اتفاقًا كما سيأتي، وكذا "المباح" ونحوه مما لا يُعَد مِن التكليف؛ لأنه إلزام ما فيه كلفة، لا طَلبُه، خِلَافًا للقاضي كما سبق.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (إلَّا أنْ يُقال: إنَّ إقدامهم على المباح غَيْر مستندين فيه إلى الشرع الذي يجب عليهم اتِّبَاعه - حرامٌ؛ للإجماع على مَنعْ الإقدام على فِعْل حتى يَعْلَمُوا
(1)
كذا في (ص، ق)، وهو الصواب كما في (إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 77) للمازري. لكن في (ز، ش، ت، ض): الماوردي.
(2)
إيضاح المحصول من برهان الأصول (ص 77).
حُكْمه، فإنْ صَحَّ، فَهُم آثمون على جُملة أفعالهم، وهذا عامٌّ في الكِتَابِيِّين وغَيْرهم. وهو مما لَمْ أَرَهُ لِغَيْري، وفيه عندي تَوَقُّف)
(1)
. انتهى
وبالجُملة فَفِي المسألة مذاهب:
أَصَحُّها أنَّ الكفار مخاطَبون بِفروع الشرع مُطْلَقًا، وهو معنى قولي:(فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ)؛ وذلك لِوُرُود الآيات الشاملة لهم، نحو:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} [الحج: 1]، {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وغير ذلك مما لا ينحصر.
والكُفر غَيْر مانع؛ لإمكان إزالته، كالأمر بالكتابة والقَلَم حاضر يمكنه تناوله.
وأيضًا فَقَدْ وَرَد الوعيد على ذلك أو ما يتضمنه، نحو:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الآية، وذم قوم شعيب بِنقص المكيال، وقوم لوط بإتيان الذكور، وقوم هود بشدة البطش، مع ذَم الكل بالكُفر، وقد قال تعالى بَعْد ذِكْر قَتْل النفس والزنا:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].
وأَوضح مِن ذلك: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]، أَيْ: فوق عذاب الكُفر، وذلك إنما هو على بقية عبادات الشرع.
وهذا القول نَصَّ عليه الشافعي في مواضع مِن "الأُم"، فقال في باب "حَجِّ الصبي يَبْلُغ والمملوك يُعْتَق والذِّمِّي يُسْلِم" فيما إذَا أَهَلَّ كافرٌ بِحجٍّ
(2)
، ثُمَّ أَسْلَم قَبْل عرفة، فَجَدَّد
(1)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 186).
(2)
في هذا الموضع في (ص) كُتِب في هامشه: (ثم جامع). ولا ذِكْر لذلك في سائر النُّسخ. وعبارة الشافعي في "الأُم، 2/ 130": (وَلَوْ أَهَلَّ ذِمِّيٌّ أَوْ كَافِرٌ مَا كَانَ هَذَا بِحَجٍّ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ عَرَفَةَ =
إحرامًا وأراق دَمًا لِتَرْك الميقات: أَجْزَأَتْه عن حجة الإسلام؛ لأنه لا يَكون مُفْسِدًا في حال الشرك، لأنه كان مُحْرِمًا.
قال: (فإنْ قال قائل: فَإذَنْ [زَعَمْتَ أنه]
(1)
كان في إحرامه غَيْر مُحْرم أو كان الفَرْضُ عنه موضوعًا. قِيلَ: لا، بل كان عليه وعلى كُل واحدٍ أنْ يُؤمِن بالله عز وجل ويؤدي الفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى، غَيْر أنَّ السُّنة تدلُّ - وما لَمْ أَعْلَم اختلفوا فيه - أنَّ كل كافر أَسْلَم أثبت الفرائض مِن يوم أَسْلَم، ولَمْ يُؤمَر بإعادة ما فَرَّط فيه في الشِّرك منها، وأنَّ الإسلام يَهْدم ما قَبْله إذَا أَسْلَم ثم استقام)
(2)
. انتهى
وَجَرَى على ذلك أكثر أصحابه كما قاله القاضي أبو الطيب والماوردي وسليم الرازي والشيخ أبو إسحاق والحليمي، وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي.
وفي "المحصول" أنه قول أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة.
فما في "منهاج" البيضاوي من نِسْبَة مُقابِلِه للمعتزلة ليس بجيد
(3)
.
وقال القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي: إنه ظاهر مذهب مالك. وهو أصح الروايتين عن أحمد، وحُكي عن الكرخي والجصاص من الحنفية.
والقول الثاني: المنع مطلقًا. وهو قول جمهور الحنفية وعبد الجبار من المعتزلة، ووافقهم
= وَبَعْدَ الْجِمَاعِ فَجَدَّدَ إحْرَامًا
…
).
(1)
ليس في (ش).
(2)
الأم (2/ 142 - 143).
(3)
عبارة البيضاوي في "منهاج الوصول إلى عِلم الأصول، ص 143": (الكافر مُكَلَّف بالفروع، خِلَافًا للمعتزلة). الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية، الطبعة الأولى - 2013 م، بتحقيقي.
مِن أصحابنا أبو حامد الأَسفراييني، خِلافًا لما وقع في "المنتخب" أنه أبو إسحاق؛ فإنَّ الرافعي نقل عن أبي إسحاق الأَسفرايِيني أول كتاب الجراح أنهم مُكلَّفون، ثُم إنَّ الذي في "تعليقة" أبي حامد أنهم غير مكلَّفين، وحكاه قَوْلًا للشافعي. وقال ابن كجّ في كتابه في الأصول: إنه ظاهر كلام الشافعي وإنْ كان الصحيح مِن مذهبه الأول.
وقال الأَبْيَاري: (إنه ظاهر مذهب مالك)
(1)
.
وهو خلاف ما سبق نَقْلُه عنه. نَعَم، اختاره مِن أصحابه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خُويز منداد البصري، وقال في كتابه "الجامع":(إنه الذي يأتي عليه مسائل مالك أنه لا ينفذ طلاقُهم ولا أيمانهم، ولا يجري عليهم حُكم مِن الأحكام، وأنَّ قَطْعهم في السرقة وقَتْلهم في المحاربة مِن باب الدَّفْع، فهو تعزيرٌ لَا حَد). انتهى
قال ابن القشيري: والقائلون بأنهم غير مخاطبين انقسموا، فمنهم مَن قال: مستحيل عقلًا. ومنهم مَن قال: شرعًا. ومعنى ذلك أنَّ المكلَّف بما هو مشروط بِشَرْطٍ مع نَهْيه عن إيقاعه في حالة عدم الشرط - يصير مُكَلَّفًا بأنْ يَفعل وأنْ لا يَفعل، وهو مُحَال عقلًا. والقائل بالمنع الشرعي يقول: إنهم لَمَّا لَمْ يجبروا عليها وإذَا أسلموا فلا شيء عليهم فيما مَضَى، فلا تكليف شرعًا.
وجوابهما ظاهر:
أما الأول: فلأنه ما كُلِّف أنْ يَفعله بلا شَرط، بل يُوقع الشرط ثُم المشروط، وسيأتي فيه تحقيق مِن كلام إمام الحرمين وغَيْره.
وأما الثاني: فجوابه أنَّ عدم قضائهم تخفيف كما سيأتي.
(1)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 361).
الثالث
(1)
: أنهم مكلَّفون بالنواهي دُون الأوامر؛ لأن الكَف ممكِن حالة الكفر، بخلاف فِعل الطاعات. وأيضًا فإنهم معاقَبون على ترك الإيمان بالقتل والسبي وأخذ الجزية والحد في الزنا والقذف وقطع السرقة، ولا يؤمَر بقضاء شيء من العبادات.
ونقل صاحب "اللباب"(مِن الحنفية) هذا القول عن أبي حنيفة وعامة أصحابه، وحكاه المرتضى في كتاب "الذريعة" عن بعض أصحاب الشافعي؛ فصارت هذه الأقوال الثلاثة وُجُوهًا في مذهب الشافعي، وكذلك حكاها النووي في "التحقيق"، وقد سبق حكاية الأستاذ وابن كج القولين الأولين عن الشافعي. نَعَم، قطع بعضهم بأنهم مُكَلَّفون بِالمناهِي، وأنَّ الخلاف إنما هو في الأوامر، وجَرَى عليه الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني في أصوله، فقال: لا خِلَاف بين المسلمين أنَّ خطاب الزواجر من الزنا والقذف [مُتَوَجه]
(2)
عليهم كالمسلمين.
قال الشيخ تقي الدين: وهي طريقة جيدة.
قلتُ: وهي قضية بناء المسألة على الأصل السابق؛ لأنَّ اجتناب المناهِي لا يتوقف على الإيمان، فليس شرطًا فيه.
واعْلَم أنَّ ابن المرحل في كتاب "الأشباه والنظائر" قد انعكس عليه هذا المذهب؛ فَحَكَى أنهم مخاطَبون بالأوامر دون النواهي.
ويَرُدُّه حكاية الأستاذ الإجماع كما سبق.
الرابع: تَعَلُّق الخطاب بالمرتد دُون الأصلي. حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص"
(1)
هذا هو القول الثالث في المسألة.
(2)
في (ز): يتوجه. وفي (ش): موجه.
و [الطرْطُوشي]
(1)
في "العُمَد"، وربما يُفْهم هذا مِن [كلام]
(2)
الفقهاء كالشيخ [في "التنبيه"]
(3)
وغَيْره في كتاب الصلاة وغيرها: أنَّ الكافر إنْ كان أصليًّا، لَمْ تجب عليه، أو مرتدًّا فَلَا، إلَّا أنْ يُؤَوَّل ذلك بالإجبار على الفعل كما سيأتي.
نَعَم هو مُقْتَضَى ما في "المحصول" إلَّا أنَّه عَلَّلَه بأنَّ أحكام الإِسلام منسحبة على المرتد اتفاقًا؛ فاقتَضَى أنَّ ذلك تنقيحٌ لِمَحَل الخلاف، لا مذهبٌ مُفَصل. لكن الأوّل أَظْهَر؛ فَقَدْ نَقَل الأصحاب عن الحنفية أنَّ الرِّدَّة تُسقط الأعمال السابقة، و [تمنع]
(4)
الوجوب في الحال، حتى قالوا: إنَّ المرتد لا يقضي صلاته أيام رِدَّته، فكيف يسوغ حكاية الإجماع؟
الخامس: تكليفهم بما عدَا الجهاد، وهو ما لَوَّحْتُ به في النَّظْم قَبل التلويح بالذي قَبْله.
وقال القرافي: (إنَّ هذا المذهب مَرَّ بي في بعض الكتب التي لا أستحضرها الآن)
(5)
.
قِيل: قد صرح به إمام الحرمين في "النهاية"، فقال: والذِّمِّي ليس مخاطَبًا بقتال الكفار.
كذلك الرافعي في كتاب "السير" إذْ قال: (والذمي ليس مِن أَهْل فَرْض الجهاد؛ ولهذا إذا استأجره الإمام على الجهاد، لا يبلغ به سَهْم راجِل - على أحد الوجهين - كالصبي والمرأة)
(6)
.
نَعَم، يجوز للإمام استئجاره عَلَيْه - في الأصح، وهذا يدل على أنه غَيْر فَرْض عليه وإلَّا
(1)
كذا في (ز، ش، ض)، لكن في (ص، ت، ظ): الطرطوسي. وفي (ق): الطرسوسي.
(2)
في (ز، ظ): إطلاق كثير من.
(3)
ليس في (ص).
(4)
في (ش، ق): منع.
(5)
شرح تنقيح الفصول (ص 166).
(6)
العزيز شرح الوجيز (11/ 387).
لَمَا جاز كما لا يجوز استئجار المسلم.
فإنْ قِيل: يحتمل أنَّ صحة استئجار الذمي إنما هو لِكَوْنه لا يُجْبَر على العبادات في الدنيا، بل يعاقَب عليها في الآخرة.
قلتُ: لكنه إذَا وقع، لا يقع إلا عن نفسه؛ لِكَوْنه واجبًا عليه وإنْ لَمْ يُجْبَر عليه، كالمستأجر للحج تلك السَّنَة وعليه فرضُه، وكَمْ ممن لا يُجْبَر على الشيء وإذَا وَقَع لا يَقَع إلا واجبًا مُسْقِطًا لِفَرْضه، كَغَيْر المستطِيع في الحج إذا تَكَلَّف وحَجَّ، والأَعْمَى إذَا لم يجد قائدًا في الجمعة وتكلَّف وحَضَر.
[فإنْ قِيل: هذا في الذمي، والتعليل موافق له، والذي حكاه القرافي - مِن التفصيل - في مُطْلَق الكافر. قِيل: إذَا ثَبتَ في بَعْض الكفرة التفصيل، صَدق أنه فُصِل في كافرٍ بَيْن الجهاد وغَيْره وإنْ لَمْ يَكُن في الكل؛ فَقَدْ غَايَر بقية الأقوال على كل حال]
(1)
.
والسادس: الوقف؛ لِتَعَارُض الأدلة. حكاه سليم في ["التقريب"]
(2)
عن بعض الأشاعرة، وأبو حامد الأسفراييني عن الأشعري نفسه.
وفي "المدارك" لإمام الحرمين: يُعْزَى للشافعي ترديدُ القول في خطاب الكفار بالفروع، ونَصُّه في "الرسالة" أنهم مخاطَبون بها.
فيحتمل أنه أشار بالترديد إلى الوقف، ويحتمل أنه أشار إلى أنَّ له قولين، وقد سبق نقلهما عنه.
(1)
هذا ثابت في (ز) فقط.
(2)
في (ش): الغريب.
تنبيهات
الأول: ما سبق مِن تصدير المسألة بأنَّ حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في التكليف وأنه مفروض في خطاب الكفار بالفروع - مُشْكل مِن وجوه:
أحدها: إنْ كان فرضها في الكافر (حيث فُقدَ شَرْط الإيمان) لِأَمْر يخص هذا الشرط، فينبغي أنْ يُذكر وَجْه الخصوص فيه، ويُجْعَل محل النزاع، ولا يُطْلق الشرط الشرعي. وإنْ كان لِكَوْنه شرطًا شرعيًّا ليس إلَّا، فَلِمَ فُرِضَت في الكافر فقط؟ ولذلك جعل الآمدي مسألة الكافر مثالًا للقاعدة، لا فَرْضًا فيها كما فَعَل ابن الحاجب، واقتضى كلامُه أنَّ المُحْدِث متفق عليه، ولكن قد طرد أبو هاشم اعتبار حصول الشرط في المحدث، فالتزم أنَّه غير مخاطَب بالصلاة ولو في سائر دهره. ووافقه ابن خويز منداد وعزاه لمالك مِن حيث إنه قال في الحائض: إذا طهرت قَبْل الغروب، لا يَلْزَمُها صلاة العصر حتى يبقى مِن الوقت قَدْر ما تغتسل فيه، وتَفْرغ مِن الأمر اللازم، وتُدْرِك ركعتين. قال: فوقف تَعَلُّق الوجوب بها على حصول الطهارة.
قلت: وقد يُمنع ذلك، [فإنه]
(1)
لم يوقفه إلا على زمن إمكان الطهارة، لا على نفس الطهارة، وهو أحد الأقوال عند الشافعي.
وبالجملة فَمَن حَكَى الإجماع - كالصفي الهندي وغيره -[على تكليف المُحْدِث بالصلاة]
(2)
لم يَلْتفت إلى هذا الخلاف، أو أَوَّلَه كما أشار إليه إمام الحرمين في إزالة الإشكال
(1)
ثابتة في (ز) ققط. وكُتِب في هامش (ت) في هذا الموضع: (لعله مالك).
(2)
من (ز، ظ).
عن المسألة، حيث [قال]
(1)
: التحقيق أنَّ الكافر يستحيل أنْ يخاطَب بإنشاء فرع على الصحة وكذا كل ما يقع آخِرًا مِن العقائد في حق مَن لا يصح عَقْده في الأوائل، وكذا المحدِث يستحيل أنْ يخاطَب بإنشاء الصلاة الصحيحة مع بَقاء الحدَث، ولكن هؤلاء مخاطَبون بالتوصل إلى ما يقع آخِرًا، ولا يتنجز الأمرُ عليهم بإيقاع المشروط قبل وجود الشرط.
قال: ولكن إذا مضى من الزمان ما يَسَع الشرط والمشروط والأوائل والأواخر، فلا يمتَنَع أنْ يُعاقَب الممتَنِعُ على حُكم التكليف معاقبة مَن يخالف أَمْرًا تَوَجَّه عليه ناجِزًا. ومَن جَوَّز تنجيز الخطاب بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط، فَقَدْ [سَوَّغ]
(2)
تكليف ما لا يطاق.
ثم قال: (فإنْ أراد أبو هاشم ذلك، فَحَقٌّ لا خفاء به. وإنْ أراد أنه لا يعاقَب على تَرْك الصلاة مَثَلًا بِتَرْكه التوصل إليها، فَخَرْقٌ للإجماع)
(3)
. انتهى
وجَرَى على هذا التقرير إلْكِيَا الطبريُّ وابن بَرْهان، وبه يَزُول الإشكال عن ابن خويز منداد وغيره، وغايته أنَّ الأصحاب يقولون: المعاقَبة بِتَرْك الفعل. وهو يقول: بِتَرْك التوصل إليه. وهو خُلف لفظي. فإذا مَضَى الزمانُ الأول، يَعْصِي عند الإمام بالكُفر، وعندهم به وبالفروع؛ لأنه يقول: لو أَثِمَ بالفروع - والفرضُ أنها غير مُمْكِنة - كان تكليفًا بما لا يطاق.
وثانيها: أنَّ الحائض والنفساء فاقدتان للشرط الشرعي وهو الطهارة، ولا يكلَّفان بالصلاة اتفاقًا، حتى إنَّ بعضهم استثنى ذلك مِن القاعدة.
قلتُ: إنْ أُريدَ بالطهارة زوالُ الحيض والنفاس، فليس مقدورًا لهما، والكلام في الشرط
(1)
في (ز): قال في.
(2)
كذا في (ش، ت، ز). لكن في (ص، ض، ق): شرع.
(3)
البرهان في أصول الفقه (1/ 18).
المقدور. وإنْ أريد [التطهير]
(1)
بعد الانقطاع، فهي المسألة بعينها التي فيها كلام أبي هاشم والإمام.
وثالثها: مقتضَى تفريع المسألة على هذه القاعدة أنَّ خطاب الوضع لا خلاف في تَعَلُّقه بهم؛ لأنَّ الإِسلام ليس شرطًا فيه، وستأتي المسألة مبسوطة.
الثاني: إذَا جَرَيْنا على ما قاله الإمام: إنَّ المكلَّف به التوصلُ، استقام ما يتكرر في الفقه كما سبق أنَّ الكافر في الصلاة والصيام والزكاة والحج إنْ كان أصليًّا، لَمْ يجب عليه، أو مرتدًّا، وَجب.
قلتُ: لكن المرتد في هذا المعنى كالأصلي، فما وَجْه الفَرْق؟
نَعَم، هو ينفع في الجمع بين قولهم في الأُصُول:(إنه مكلَّف)، وفي الفقه:(إنه غير مكلَّف)، وهو أَحْسن مِن جَمْع الإمام الرازي والنووي وغيرهما بأنَّ مُرادَ الفقهاء عدمُ المطالبة بها في الدنيا، ومُرادَ الأصوليين العقابُ عليها في الآخرة، وهو يَقتضي أنْ لا فائدة على القول بتكليفهم إلا مضاعفة العذاب في الآخرة، وقد صرح بذلك الشيخ أبو حامد الأسفراييني، والشيخُ في "شرح اللمع"، وإمامُ الحرمين في كتاب السير من "النهاية"، ووالدُه في "الفروق"، والقاضي عبد الوهاب في "الملخص"، والإمامُ الرازي في "المحصول"، وغيرهم. ولكن قد ذكر له فوائد كثيرة:
منها: [تيسير]
(2)
الإِسلام؛ فإنَّه إذَا عَلِم أنَّه مخاطبٌ وهو مُنشرح النفس بفعل الخيرات، كان سببًا في تيسير إسلامه.
ومنها: إذَا غنم الكفار مال المسلم، لا يملكونه، خلافًا لأبي حنيفة.
(1)
كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التطهر.
(2)
كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): تيسر.
ومنها: إحباط العمل بالرِّدة.
ومنها: إذَا أَسْلم، هل يُصَلِّي على قبر مَن مات مِن المسلمين في كُفره
(1)
(إذَا قُلنا: لا يُصلِّي عليه إلا مَن كان مِن أَهْل الفَرْض)؟ قاله القاضي مُجَلِّي في "الذخائر"، قال: وكذا صحة نذر الكافر. لكن قضية قوله أنْ يصح نذره، ولكن الأصح المنع.
ومنها: إيجاب الضمان على الحربي كما قاله الأستاذ، وسيأتي.
ومنها: لو مَرَّ الكافر بالميقات وهو مريد للنسك فجاوزه ثمَّ أسلم وأَحْرم ولم يَعُد إليه، عليه دم. وقال أبو حنيفة والمزني: لا دم عليه.
ومنها تحريم نظر الذِّمِّيَّة إلى المسلمة (على الأصح). وغير ذلك مما يَطُول ذِكره [وإنْ كان في بعضه نَظَر]
(2)
.
الثالث: هذه المسألة مِن فروع الفقه، وإنما تُذكر في الأصول لتمهيد أصل، وهو أنَّ الإمكان في الفعل هل يشترط أنْ يكون ناجزًا مع الخطاب؟ أَوْ لَا؟
واختُلف أيضًا: هل هي مِن المسائل القطعية؟ أو الظنية؟ قال الإمامُ بالأول وإنْ كان القاضي أبو بكر قائلًا بالثاني.
وقولي: (لَكِنَّ ذَا في فَائِتٍ مَرْعِيُّ) الإشارة إلى الكافر الأصلي، أَيْ: إنه مخالف للمرتد برعايته إذا أسلم لا يقضي ما فات في زمن الكفر مِن صلاة وصيام وزكاة ونحوها؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وحديث:"الإِسلام يَجُبُّ ما قَبْله"
(3)
.
(1)
يعني: إذَا مات مُسْلم ثُم أَسْلَم أحد الكفار بَعْدَ مَوْته، فهل يُصَلِّي على قبر هذا الميت؟
(2)
من (ز، ظ).
(3)
مسند أحمد (رقم: 17812)، صحيح مسلم (121) بلفظ: يهدم.
وأيضًا فلو أُلْزِم بذلك، لَشَقَّ عليه ذلك وكان تنفيرًا له [عن]
(1)
الإسلام.
والله أعلم.
ص:
109 -
أَمَّا تَعَلُّقُ الْخِطَابِ الْوَضْعِي
…
بِكَافِرٍ فَبِاتِّفاقِ الْجَمْعِ
110 -
[إلَّا]
(2)
الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَنَا
…
فَإنَّهُ في الشَّرْعِ لَيْسَ ضامِنَا
111 -
لَكِنَّ مَا يَعُودُ لِلتَّكْلِيفِ
…
فَإنَّهُ بِالْخُلْفِ وَالتَّزْيِيفِ
112 -
كَحُرْمَةِ الَّتِي لَهَا قَدْ طَلَّقَا
…
فَإنَّهُ بِفِعْلِهِ تَعَلَّقَا
الشرح: لَمَّا أَطْلَقتُ فيما سبق أنَّ الكافر مخاطَب بالفروع وكان ذلك شاملًا لخطاب التكليف والوضع، بَيَّنْتُ هنا ما قاله الشيخ تقي الدين السبكي:(إن الوضعي باتفاق)
(3)
، [وأنَّ]
(4)
الخلاف الذي أومأنا إليه في النَّظْم وبسطناه في الشرح إنما هو في التكليفي.
فَمِنَ الوضعي: كَوْنُ إتلافهم سببًا في ضمانهم، وكذا جناياتهم، بل هُم أَوْلى مِن الصبي بذلك، واشتراطُ الشروط في معاملاتهم والموانع كذلك، والحكم بصحتها وفسادها وتَرَتُّب آثار كُلٍّ عليه مِن بيع ونكاح وطلاق وغيرها.
قال: والخلاف في مثل ذلك لا وَجْه له، ويَشهدُ له أنَّ أبا حنيفة قال بصحة أنكحتهم مع قوله بِعَدَم تكليفهم بالفروع.
(1)
في (ز، ظ): من.
(2)
كذا في (ص، ز، ق، ن 2). لكن في (ش، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): أي لا.
(3)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 179 - 180).
(4)
في (ت): فإن.
قال: ولا يخرج مِن هذا إلا ما كان مِن خطاب الوضع راجعًا إلى خطاب التكليف، كَكَوْن الطلاق تحرم به الزوجة عليه، فإنَّ مِثل هذا يجري فيه الخلاف السابق، ويكون التعلق أرجح، ومُقابِلُه مُزَيَّفٌ.
وهو معنى قولي: (بِالْخُلْفِ وَالتَّزْيِيفِ). والباء للمصاحبة، فإنه مُصاحب لجريان الخلاف فيه ولتزييف ما سِوى الراجح في خطاب التكليف. هذا معنى كلام الشيخ، ولكن مراده بالكافر هنا الملتزم لأحكام شَرْعنا، كالذمي ونحوه إذَا كان ذلك في ضمان ونحوه، لا في الصحة ونحوها، لا مَن لم يَلتزم، كالحربي؛ فلذلك بَيَّنْتُه في النَّظم باستثناء ذلك.
نَعَم، اعتُرض على الشيخ في دعوى الإجماع في نحو الإتلاف والجنايات:
1 -
بأنَّ الخلاف فيها موجود؛ فَقَدْ حكى الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق أنَّ الحربي إذَا قَتل مُسلمًا أو أَتْلَف عليه مالًا ثم أَسْلم، يجب الضمان إذَا قُلْنا: مخاطَبون بالفروع. وحكاه العباديُّ عنه في طبقاته فيما إذَا صار ذميًّا وإنْ كان الجمهور قائلين بعدم الضمان.
و[كذا]
(1)
نقلوا وجهين فيما لو دخل الكافر الحرم وقتل صيدًا، هل يضمنه؟ أصحهما نعم. قال صاحب "الوافي": وهما شبيهان بالوجهين في تمكينه من اللبث في المسجد إذا كان جُنبًا، أَيْ نظرًا لعقيدته.
بل قال إمام الحرمين في "الأساليب" في كتاب السِّيَر: إنَّ الكفار إذا استولوا على مال المسلمين، فلا حُكم لاستيلائهم، وأعيانُ الأموال لأربابها.
قال: وبَنى بعضهم المسألة على الخلاف في تكليفهم بالفروع وقال: وهُم مَنْهِيُّون عن استيلائهم.
2 -
وقول الشيخ: (إنَّ ثبوته في حقهم أَوْلى مِن ثبوته في حق الصبي) ممنوع؛ لانسحاب
(1)
كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): قد.
حُكم الإِسلام على الصبي، بِخِلَافِهم.
قُلتُ: لا يَرِد شيءٌ مِن ذلك على الشيخ؛ لأنَّ سقوط الضمان عند الجمهور في الصورة المذكورة في الحربي إنما هو لِكَوْنه غير مُلْتَزِم، وقد قررنا أنَّ مُرادَه المُلْتَزِمُ؛ إذْ لا يُظَن بالشيخ القول بتضمينه في حال الحرابة، [بل]
(1)
ولا موافقة الوجه الضعيف فيما إذَا أَسْلم أو عُقدت له ذِمَّة. فما ذُكر في غير الملتزم لا يطابق ما حكاه مِن الاتفاق، فلم يبق فيه إلا قول مَن قال:(يخرج على الخلاف في تكليفهم)، وليس فيه ما يَدْفع حكاية الإجماع على التعلُّق.
ومنازعته في أنهم أَوْلى مِن الصبي ممنوعة؛ لأنَّ انسحاب حُكم الإِسلام لا يقتضي الضمان مع رفع القلم إلا مِن حيث خطاب الوضع، وأيضًا فالصغير لا يختص بالمسلم، وكذا المجنون.
فَمِن أَجْل ذلك جَرَيْتُ عَلَى ما قاله الشيخ في النَّظْم؛ لِحُسْنه، وزدته بيانًا باستثناء غير الملتزم؛ لأنَّ عدم تضمينه إنما هو لِمانع، وهو عدم الالتزام، لا لِكَوْنه كافرًا.
وكذلك لا يَقدح في تَعلُّق الخطاب بهم تصحيحُ أنكحتهم مع عدم وقوعها على أوضاع الصحيح في الشرع؛ لأنَّ ذلك مِن باب التخفيف والعفو؛ حتى لا ينفروا من الإِسلام إذَا عَلِموا أنَّه يُفَرق بينهما بمقتضَى ذلك - كما أَوْضَحَه الماوردي وغيره، والله تعالى أعلم.
ص:
113 -
وَالِاقْتِضَاءُ إنْ يَكُنْ لِفِعْلِ
…
جَزْمًا، فَإيجَابٌ لَهُ بِالْأَصْلِ
114 -
وَدُونَ جَزْمٍ نَدْبُهُ، وَإنْ يَكُنْ
…
لِلتَّرْكِ جَزْمًا، فَهْوَ تَحْرِيمٌ، فَصُنْ
115 -
أَوْ دُونَهُ لَكِن بِنَهْيٍ يُقْصَدُ
…
فَهْوَ كَرَاهَةٌ، وَقَدْ يُقَيَّدُ
(1)
ليس في (ش).
116 -
بِنِسْبَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ يُطْلَقُ لَهْ
…
تَحَاشِيًا مِنْ لَفْظَةٍ مُسْتَثْقَلَهْ
117 -
وَإنْ يَكُنْ في ضِمْنِ أَمْرٍ يُولَى
…
فَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ خِلَافِ
(1)
الْأَوْلَى
118 -
وَمَا انْتَفَى اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا
…
فَهْوَ إبَاحَةٌ لِمَنْ قَدْ خُيِّرَا
الشرح: هذا راجع إلى تقسيم الخطاب (في تعريف الحكم) إلى اقتضاء وتخيير، فهو بيان لِمَا دخل تحت الاقتضاء والتخيير من الأقسام مُفَصَّلًا. والفاعل في الاقتضاء هو الحاكم، وهو الله تعالى، فهو أحسن من قول البيضاوي:(الخطاب إنِ اقتضى الفعل)
(2)
إلى آخِره؛ لأنَّ إسناد الاقتضاء إلى الخطاب مجازٌ؛ فإنَّ المُقْتَضِي للشيء (أَيْ: الطالب له حقيقة) إنما هو المُخاطِب، لا الخطاب، ولكنه مجاز شائع، وربما يقع في هذا النَّظْم استعمالُه أيضًا، كما في قولي في حد الحكم:(اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا)، وقولي هنا بعد ذلك:(وَمَا انْتَفَى اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا). على أنه قد سبق احتمال أنْ يُعاد الضمير إلى الله تعالى في قولي: (خِطَابُ اللهِ) وأنه الأحسن؛ فينبغي أنْ يَكون في قَوْلي: (اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا) كذلك.
فالاقتضاء إمَّا لِفِعل أو لِتَرْك:
- فإنْ كان لِفعل (والمرادُ به الوجودي، لِمقابَلَته بالترك، وإلا فَـ "التَّرْك" كَفُّ النفْس
(1)
كلمة "خِلَاف" جاءت مرفوعة هكذا في أكثر المخطوطات: "خلافُ"، وهذا خطأ؛ لأنها صِفَة لِـ "شَيءٍ"، فالصواب أنها في مَحَل جَر، فالمعنى:(إنه مَنْع مِن شيء، وهذا الشيء خِلَاف الأَوْلَى). وعبارته في "النبذة الزكية": (فإنْ كان بِنَهْي ضِمْني، فهو مَنْع مِن شيء خِلَاف الأَوْلَى). وسبب الخطأ هو أنَّ الذي رفعها تَوَهَّم أنها خَبَر مرفوع للمبتدأ: "المنع"، وكأنه تَوَهَّم أن معنى العبارة هكذا:(المنعُ خَلَافُ الأولى). ومَن يَتَأَمَّل كلام البرماوي في الشرح سيُدْرِك ذلك.
(2)
بل عبارة البيضاوي في (منهاج الوصول، ص 132) بتحقيقي: (الخطاب إنِ اقْتَضَى الوجودَ ومَنَعَ النَّقِيضَ، فَوُجُوب).
وهو فِعل كما سبق بيانه) فلا يَخْلُو إمَّا أنْ يَكُون مع الجَزْم (أَيْ ليس مُجَوزًا فيه مُخالِفُه
(1)
، أَيْ لَمْ تَقُم على [ذاك]
(2)
قرينةٌ) أَوْ لَا مع الجزم.
فالأول: "الإيجاب"، وهو مَصْدر أَوْجَب يُوجِب. ومعنى "الوجوب" لُغَةً: السقوط، (نحو:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36])، والثبوت (ومنه:"نسألك مُوجِبات رحمتك"
(3)
أَيْ: مُثْبِتات)؛ فَعُلِمَ أنَّ "الإيجاب" هو الطَّلَب القائم بالنفْس على الوجه المذكور. و"الواجب" هو مُتَعَلَّق الإيجاب مِن الفعل كما سيأتي، فإنَّه لَمَّا أَوْجَبَه، وَجَبَ وجوبًا؛ فهو واجب، فتسمية الحكم "وجوبًا" مجاز، وإنما هو إيجاب.
والثاني: "الندب" وهو لُغَةً: الطَّلَب، ومنه حديث:"انتدَب الله لمن يَخرج في سبيله"
(4)
. أَيْ: أجاب له طَلب مغفرة ذنوبه. يُقال: ندبتُه فانتدب. ويُطلق أيضًا على التأثير، ومنه حديث موسى عليه السلام:"وإنَّ بالحَجَر ندَبًا ستة أو سبعة مِن ضربه إياه"
(5)
. وهو بفتح الدال، وأَصْلُه أَثَرُ الجرح.
- وإنْ كان لِتَرك شيء (أَيْ: لإعدام حقيقته وكَفِّ النفْس عن إيجاده) فإمَّا أنْ يكون مع الجَزْم أَوْ لَا.
(1)
أو: مخالَفة.
(2)
في (ش): ذلك.
(3)
سنن الترمذي (رقم: 479)، سنن ابن ماجه (رقم: 1384) كلاهما بلفظ: (أسألك موجبات رحمتك). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (السلسلة الضعيفة: 2908)، وانظر:(السلسلة الصحيحة: 3228).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 36).
(5)
صحيح البخاري (274)، صحيح مسلم (339).
والأول "التحريم"، أَيْ لذلك الفعل الإيجادي، أَمَّا بالنَّظَر لِتَعلُّقه بالكَف عنه فإيجابٌ له وإنْ كان في تعبيرهم بأنَّ "ما يَقْتَضي التَّرْكَ تحريمٌ" إيهامٌ أنَّه تحريمٌ له مِن حيث اللفظ وإنْ كان المراد ظاهرًا. وأَصْلُه مِن "حَرمَه" أَيْ: مَنَعَه، ومنه:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، أَيْ: منعناه مِن رَضْعهن.
وقولي (وهْوَ تَحْرِيمٌ، فَصُنْ) أَيْ: فَصُنْ نفسك عن الوقوع في مُتَعَلَّقه.
والثاني (وهو غير الجازم) إمَّا أنْ يَكون:
- بِنَهي مقصود (أَيْ مُستقل): فَـ "كَرَاهَة"، وأَصلُها لُغةً خِلافُ الإرادة، فمعنى كراهة الشرع [لشيء]
(1)
: إمَّا عدم إرادته، أو إرادة ضِدِّه، كما في قوله تعالى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46].
- أو بنهي غير مقصود: فَـ "خِلَاف الأولَى" كما عَبَّر به كثيرٌ هنا، وذلك بأنْ يَكون النهي في ضِمْن الأمر بِضِدِّه، فسيأتي أنَّ الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عن ضِدِّه أو يَستلزمُه - عَلَى الخِلَاف. وقِيل: لَا [وَلَا]
(2)
. وهو اختيار إمام الحرمين والغزالي كما سيأتي، فَعَلَى هذا لا تأتي هذه التفرقة. وأَعْجَبُ مِن ذلك عَزْوُها لإمام الحرمين.
بل سيأتي أنَّ الخلاف إنما هو في الأمر النفسي، وأمَّا اللفظي فليس عَيْن النَّهي قَطْعًا ولا يَتَضَمَّنه (على الأصح). ومُرادُهم هنا إنما هو اللفظي، فأين الفَرْق؟
والتعبير هنا بِـ "خِلَاف الأَوْلَى" غيرُ صَوَاب وإنْ عَبَّر به صاحبُ "جمع الجوامع" وغيْره، والصواب ما عَبَّرتُ به في النَّظْم مِن قولي:(إنه مَنْعٌ مِن خِلَافِ الأَوْلى)
(3)
.
(1)
ليس في (ش).
(2)
ليس في (ش).
(3)
بل عبارته في النَّظْم هكذا: (فَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ خِلَافِ الْأَوْلَى). كأنه حَكى قوله بالمعنى.
ولا أريد بالمنع إلا منع التنزيه كما في "المكروه"؛ وذلك لأنَّ المنع هو الحُكْم، وأمَّا "خِلَاف الأَوْلى" فهو الفِعل الذي تَعَلَّق به المنع، وسيأتي الفَرْق بين الحكم ومُتَعَلَّقه مِن الأفعال.
واعْلَم أنَّ هذا القِسم قد أَهْمله كثيرٌ مِن الأصوليين، ولكنه موجود منتشر في الفقه، مُفَرَّق بينه وبين "المكروه" بما تضمنه الفَرْقُ السابق، كما في:
- صوم يوم عرفة للحاج، فالأصح أنَّه خِلاف الأَوْلى، وقِيل: مكروه، وقد يُرَجَّح هذا بحديث أبي هريرة:"نَهَى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة"
(1)
. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيه ضَعْفٌ وإنْ كان الحاكم صححه وقال:(على شرط البخاري).
- والحجامة للصائم خِلَافُ الأَوْلى عَلَى ما رَجَّحه النووي، وقال: لأنه لَمْ يَثْبُت فيه نَهْي مقصودٌ. وقِيل: مكروه.
- وكذا النفض والتنشيف في الوضوء فيهما خلافٌ.
وغَيْر ذلك، وهو كثير.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: أول مَن عَلِمْناه ذَكَر هذا القِسم إمام الحرمين.
ومرادُه: أَظْهَرَه ونَشَرَهُ، وإلَّا فَقَدْ نَقَلَه هو عن غَيره، فقال في كتاب الشهادات مِن "النهاية":(التعرُّض للفَصْل بين الكراهة وخِلَاف الأَوْلى مما أَحْدَثه المتأخِّرون). ثُم فَرَّق بما سبق. لكن كلام الرافعي في باب الزكاة في كراهة الصلاة على غير الأنبياء يَقتضي أنَّ الإمام أراد بالمقصودِ الخصوصَ، وبِغَير المقصودِ العمومَ؛ فيزول الإشكال السابق.
قلتُ: ويأتي في كلام الإمام ما يقتضي أنَّ "خِلَاف الأَوْلى" و"المكروه" بمعنًى واحد
(1)
سنن أبي داود (رقم: 2440)، سنن النسائي (رقم: 2825)، سنن الترمذي (رقم: 750). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 2440).
والجوابُ عنه. وقَوَّى بعضُهم ذلك، وأنَّ المراد أنَّ الكراهة لها مَرْتَبتان، أَدْوَنهما "خِلَاف الأَوْلى".
وإنْ لَمْ يَكُن في الخطاب اقتضاءٌ، بل فيه تخيير بين فِعل الشيء وتَركه فهو "الإباحة". مأخوذ مِن مادة الاتساع، ومنه: باحةُ الدار، أَيْ: ساحتها.
واعْلَم أنَّ الإباحة تُطْلق أيضًا على رَفْع الحَرَج، فيدخل في المباح ما كان مِن فِعل الله وفِعل غير المكلَّف، لكن لا [يَكون]
(1)
مِن الحُكم إلا ما فيه الإذن. ولِأَجْل هذا اختُلِف في أنَّ: الإباحة حُكمٌ شرعي؟ [أَمْ]
(2)
لا؟ فقال بعض المعتزلة بالثاني؛ لتفسيره بِنَفْي الحرج، فالخلاف إذًا لفظي.
واختُلف أيضًا في أنَّ الإباحة تكليف، والقول به منقول عن الأستاذ أبي إسحاق، لكن على معنى التكليف باعتقاد إباحته. ولا يَخْفَى ما فيه؛ فإنَّ الاعتقاد واجب، فهو غَيْر الإباحة.
واختُلف أيضًا في "المباح": هل هو مأمورٌ به (بناء على أنَّ الأمر حقيقة في الإذْن لا في الوجوب ولا في الندب)؟ وستأتي المسألة.
وقولي: (وَقَدْ يُقَيَّدُ) إلى آخِره - إشارة إلى أنَّ "الكراهة" تُطْلق على "التحريم" أيضًا إمَّا مع الإضافة إليه فَيُقال: "كراهة تحريم"، وإمَّا على الإطلاق كما في قوله تعالى:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]
ويقع هذا في كلام الشافعي ومالك والأقدمين كثيرًا، كقول الشافعي: (وأَكْره آنِيَةَ
(1)
في (ت، ض): يلزم.
(2)
كذا في (ز)، لكن في (ص): أو.
العاج). وقوله: (وأَكْره ممرَّ الحائض في المسجد)
(1)
إذَا حُمِل على حالة خوف التلويث. وقوله في باب السلم: (وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ)؛ لأنَّ الأعجف معيبٌ، وشرط المعيب مُفْسِدٌ. إلى غير ذلك.
وربما أُطْلق "المكروه" أيضًا على "خِلَاف الأَوْلى" إنْ جُعِل غيره، كقول إمام الحرمين في "النهاية" في باب الجمعة:(إنَّ تَرْك غسل الجمعة مكروه)
(2)
، مع أنه لا نهي فيه. قال:(وهذا عندي جارٍ في كل مَسْنونٍ صَحَّ الأمر به مقصودًا)
(3)
. انتهى
قيل: ويؤيده نَصُّ الشافعي في "الأُم" على أنَّ تَرك غسل الإحرام مكروه.
وقال الإمام في موضع آخر مِن "النهاية": (إنما يُقال: "تَرْك الأَوْلى مكروه" إذَا كان منضبطًا كالضحى وقيام الليل، وما لا تحديد له ولا ضابط مِن المندوبات لا يُسَمى تَرْكُه مكروهًا، وإلَّا لكان الإنسان في كل وقت مُلابِسًا للمكروهات الكثيرة مِن حيث إنه لَمْ يَقُم يُصَلي ركعتين، أو يَعُود مريضًا، ونحوه). انتهى
فإذَا حُمِل على أنه أراد أنه يُطْلَقُ عليه إطلاقًا وإنْ كانت حقيقتُهما متغايرة، استقامَ مع ما سبق نقلُه عنه، وإلَّا فظاهرُه التعارُض.
وقد يُطْلَق "المكروه" أيضًا على ما وقعت الشُّبهة في تحريمه، كلحم السبع، ويَسير النبيذ، ونحو ذلك مِن المسائل المختلَف في تحريمها كما هو مُصَرَّحٌ بذلك في الفقه.
وذكره الغزالي في "المستصفى"، واستشكله بأنَّ مُعْتَقِد التحريم يَحْرُم عليه، وغَيْره يَحِل له، فلا وَجْه للكراهة. وقد قال الأبياري في "شرح البرهان": ليس في الفقه مسألة
(1)
مختصر المزني (ص 19).
(2)
انظر: نهاية المطلب (2/ 528). وفي هذا النقل خلل.
(3)
نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 528).
أَصْعب مِن القول بالكراهة في ذلك؛ فإنه مخالِف للفريقين و [لدليليهما]
(1)
، فهو خَرْقٌ للإجماع.
قلت: قد يُجاب بأنَّ الخلاف أَوْرَثَ في القلب ريبةً؛ فَكُرِهَ، ككراهة أَكْل مال مَن في مالِه حرامٌ، وكراهة الماء المشمَّس، وغير ذلك مما ليس فيه دليل صريح بالكراهة.
واعْلَم أنَّ في إطلاق "الكراهة" على هذه الأمور الأربعة خلافًا في: أنَّه حقيقةٌ في [التنزيه]
(2)
مجازٌ في غيره؟ أو مشترك؟ وَجْهان لأصحابنا حكاهما ابن سراقة لكن في التنزيه والتحريم. وفي "المستصفى" إطلاق اشتراكه بين الأربعة ولكن نازعه العبدري في شرحه.
تنبيهان
أحدهما: ما سبق في أنَّ خِلَافَ الأَوْلَى بنهي غير مقصودٍ - فيه (غَيْر ما سبق) أمران آخَران:
أحدهما: أنَّ في كَوْنه مَنْهِيًّا عنه [خِلَافًا]
(3)
مِثل الخلاف في أنَّ "المندوب"[مأمورٌ به]
(4)
أَوْ لَا؛ لأنه بطريق التبعية له كما سبق.
ثانيهما: أنَّ أدلة الأحكام لا تتقيَّد استفادتها مِن صريح الأمر والنهي، بل يَكون بِنَصٍّ أو إجماع أو قياس. والنَّصُّ إمَّا أنْ يَكون أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبرًا [بمعناها]
(5)
، أو إخبارًا
(1)
كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: (لدليلهما).
(2)
في (ص): الندبية.
(3)
كذا في (ص، ز). لكن في (ش، ض، ت، ق): خلاف.
(4)
في (ش): ما قررته.
(5)
كذا في (ص)، لكن في (ز): بمعناهما.
بالحكم، نحو:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، "إنَّ الله ينهاكم أنْ تحلفوا بآبائكم"
(1)
، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96].
أو بِذكْر خاصَّةٍ [لأحدها]
(2)
، كَوَعِيدٍ على فِعل شيء أو على تَركه، وَوَعْدٍ على فِعْل أو تَرْك، أو نحو ذلك. فإذَا لم تتوقف "الكراهة" و"المنع مِن خِلَاف الأَوْلى" عَلَى صيغةٍ كغيرهما، فكيف يتأتَّى هذا الفَرْق؟ إلَّا أنْ يُقَال: إذَا ثَبت بدليل معنى الأمر به، [تضمَّن]
(3)
معنى النهي عن ضده بِأي صيغةٍ دَلَّت، فاعْلَمه.
الثاني: اختُلِف في أنَّه تكليفٌ أَوْ لَا - كما اختُلف في الندب، والخلاف مُفَرَّعٌ على أنَّ التكليفَ إلزامُ ما فيه كلفة أو طَلَبُه. وبالثاني قال القاضي، والله أعلم.
ص:
119 -
وَمَا بِهِ تُعَلَّقُ الْأَحْكامُ
…
يُصَاغُ [مِنْهَا]
(4)
اسْمٌ [بِهِ الْإعْلَامُ]
(5)
120 -
فَالْفِعْلُ ذُو الْإيجابِ "وَاجِبٌ" فُرِضْ
…
وَلَازِمٌ حَتْمٌ وَمَكْتُوبٌ وَمَضْ
121 -
وَرَسْمُهُ: مَا ذُمَّ فِيهِ التَّارِكُ
…
وَانْفِهْ بِذِي النَّدْبِ؛ فَلَا يُشَارِكُ
الشرح: لَمَّا كان كثيرٌ يتسامحون بإطلاق اسم نوع الحكم على مُتَعَلَّقه مِن الفعل وعكسه،
(1)
صحيح البخاري (رقم: 5757)، صحيح مسلم (رقم: 1646).
(2)
كذا في (ز)، لكن في (ص): لأحدهما.
(3)
كذا في (ز، ت، ش)، لكن في (ص): يُضمن. وفي (ظ): مضمن.
(4)
كذا في (ص، ز، ق، ن 2، ن 5) ويوافق الأصل والشرح. لكن في (ض، ت، ش، ن 1، ن 3، ن 4): منه.
(5)
كذا في (ز، ص، ق، ش، ن 2) ويوافق الشرح. لكن في (ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): له إعلام.
فيقولون مَثلًا: (الحكم إمَّا واجب أو مندوب) إلى آخِره، ويقولون في الفعل:(إنه إيجابٌ أو نَدْبٌ) إلى آخِره، تَعَرَّضتُ للفَرق بينهما بحسب الحقيقة، وأنَّ الواجب ما تَعَلَّق به الإيجابُ، والمندوبَ ما تَعَلَّق به الندبُ، إلى آخِره، فَيُصاغ لكل فِعل مِن الحكم الذي تَعَلَّق به اسمٌ يَحْصُل به الإعلام والتمييز عن بقية الأفعال، فبيَّنْتُ ذلك، وضممت لكل واحد ما يُسَمى به مِن الأسماء بِوفاقٍ وخِلاف. وتسْري هذه الأسماء إلى نفس الأحكام المتعلِّقة، فيُصاغ منها اسم لها، وذكرتُ [رَسْم]
(1)
كل نوع مِن هذه الأفعال؛ للإيضاح كما فعل البيضاوي وإنْ عُلِمَت حدودها مِن حدود الأحكام المتعلِّقة بها.
فالقِسم الأول: الفعل الذي تَعَلَّق به الإيجاب: "مُوجَبٌ" بالفتح اسم مفعوله، و"واجِبٌ"؛ لأنه مطاوِع "أَوجَبَ" كما سبقت الإشارة إليه. ويُسَمَّى بأسماء أُخَر، منها:
"الفَرْضُ" مِن "فَرضَ" بمعنى: قَدَّر. فإنْ أَطْلقته على "الإيجاب" كان حقيقة، أو على "الواجب" فهو مِن إطلاق المصدر على المفعول؛ لأنه مَفْرُوض.
وفي تَرادُف هذين الاسمين خِلافٌ بَعْد الاتفاق على أنَّ معناهما "اللازِمُ"، فالجمهور على الترادُف، وقالت الحنفية:"الفَرْض" ما ثَبت بدليل قَطْعي كالكتاب والسُّنة المتواترة، مِثل الصلوات الخمس وصوم رمضان، و"الواجِبُ" ما ثَبت بدليلٍ ظني، كالوتر وزكاة الفطر. وزعموا أنَّ ذلك مراعاة للمعنى اللُّغوي؛ لأنَّ "الفَرْض" لُغَةً: التقدير، فلا بُدَّ مِن عِلم أنَّ الله تعالى قَدَّره، و"الوجوب": السقوط، فَيُعْلَم أنَّه ساقط علينا، ولكن لا نَعْلم أنَّ الله قَدَّرَه.
ولنا: أنَّ الفَرْض المُقَدَّر أَعَم أنْ يَكون عِلْمًا أو ظنًّا، والواجب الساقط أَعَم منهما أيضًا؛ فلَم تظهر مناسبة. بل قال الشيخ أبو حامد وغيره مِن أصحابنا: لو عكسُوا الاصطلاح لكان
(1)
في (ت، ض): اسم.
أَوْلى؛ لأنَّ لفظ "الوجوب" لا يحتمل غيرَه، بخلاف "الفَرْض" فإنَّه يحتمل معنى التقدير. عَلَى أنهم قد خالفوا ذلك في نحو جعل القَعْدة في الصلاة فرضًا ومسح رُبع الرأس فرضًا، والوضوء مِن الفصد فرضًا، والصلاة - على مَن بَلغ في الوقت بَعْدما أدَّاها - فرضًا، والعُشر في الأقوات وفيما دون خمسة أوسق، وشِبْه ذلك، وليس في شيء منها قَطْع.
وربما فَرَّقُوا بينهما - كما قاله الشيخ أبو حامد وابن بَرهان - بأنَّ "الفَرْض" ما لا خِلافَ فيه، و"الواجب" ما اختُلف فيه.
وحَكَى القاضي في "التقريب" وابن القشيري تَفْرقة أخرى: أَنَّ "الفرض" بِنَصِّ القرآن، و"الواجب" ما ثَبت بِغَير وَحْيٍ مُصَرَّحٍ به. وأَلْزَمَهم القاضي بأنْ لا يَكون الثابت بالسُّنة فَرْضًا (كَنِيَّة الصلاة وَدِيَة الأصابع والعاقلة)، وأنْ يَكون الإشهاد عند التبايع ونحوه مِن المندوب الثابت [بالقرآن]
(1)
"فَرْضًا".
قلتُ: إلا أنْ يُراد ما ثَبت وجوبه؛ فلا يَرِد هذا الأخير.
أمَّا ما قاله أصحابنا في باب الحج: (إنَّ "الواجب" ما جُبر بِدَم، و"الركْن" ما لم يُجْبر) فتفرقة بين الركن والواجب، لا بين الفرض والواجب.
وكذلك ما حَكَى الرافعي عن العبَّادي فيمن قال: (الطلاق واجِبٌ عَلَيَّ) تطلق، أو:(فَرْضٌ عَلَيَّ) لا تطلق - ليس لعدم ترادفهما، بل لاقتضاء العُرف ذلك. ونقل عن البوشنجي أنَّ الجميع كنايات إلَّا:"لَازِمٌ لِي"؛ فإنه صريح عند الأكثر، فلا إشكال فيه حينئذ.
ومنها أيضًا: "اللازِم"[مِن اللزوم]
(2)
، وهو لُغَةً: عدم الانفكاك عن الشيء. فيقال
(1)
في جميع النُّسخ: (بالسنة). والتصويب من: التقريب والإرشاد (1/ 298) للقاضي الباقلاني.
(2)
كذا في (ص)، لكن في (ز): والملزوم.
للواجب: "لازِمٌ" و"ملزومٌ به"، ونحو ذلك، كما في حديث الصدقة:"ومَن لزمه بنت مخاض وليس عنده، أخذ منه ابن لبون"
(1)
. أَيْ: وَجَبَ عليه ذلك، وهو شائع كثير.
ومنها: "المحتوم"، مِن "حتمتُ الشيء أحتمه حَتْمًا" إذَا قضيته وأَحْكَمْته، وحتمته أيضًا: أَوْجَبْته. قاله الجوهري.
قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ: واجب الوقوع بِوعدِه الصادق وإلا فهو تعالى لا يجب عليه شيء، فيقال في الواجب: حتم ومحتوم ومحتم، ونحو ذلك.
ومنها: "المكتوب"، مِن:"كَتَب الشيء" إذَا حتمه وأَلْزَم به، وتُسَمَّى الصلوات المكتوبات لذلك، ومنه حديث:"خمس صلوات كتبهن الله"
(2)
، وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]. أمَّا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] الآية - فَقِيل: المراد وَجَب، وكانت الوصية فرضًا ونُسِخَت، وقِيل: يجب أنْ يُوصِي بما يحتاج للوصية مِن ذِكْر الدَّيْن والوديعة ونحو ذلك. وقِيل: المرادُ: كتب في اللوح المحفوظ، فلا يَكون مما نحن فيه.
وقولي: (وَمَضْ) أَيْ: لمع وظهر، مِن قولهم:(وَمَضَ البرقُ)، أَيْ: لمع. والمراد أنَّ الواجب ظهر بهذه الأسماء.
وأمَّا رَسْم الفعل "الواجب" فهو: ما يُذَمُّ تاركه.
فَـ "ما" جِنس يَشمل الأفعال كلها. و"يُذَم" خاصَّةٌ خرج بها "المباح"؛ فإنه لا ذَم في فِعله
(1)
صحيح البخاري (رقم: 1380) بلفظ: "وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ".
(2)
سنن النسائي (رقم: 461)، سنن أبي داود (رقم: 1420) وغيرهما.
ولا في ترَكه. و"تاركه" خاصَّةٌ أُخرى تُخْرِج "الحرام"؛ فإنه يُذَم فاعِلُه، وتُخْرِج "المندوب" و"المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى"؛ فإنه لا ذَم في تركها، بل يمدح في الأخيرين.
[والتعبير بِـ "ما يُذَم" أَوْلَى مِن تعبير القدماء بِـ "ما يعاقَب" أو بِـ "ما يُتَوَعَّد بالعقاب"]
(1)
؛ لجواز العفو، ولأنَّ المندوب قد يعاقَب فيه، مِثل القتال لتارك الجماعة أو الأذان (على رَأْي).
وقد يُجاب بأنَّ المراد: الذي مِن شأنه أنْ يُعاقَب على تركه؛ لِمَجِيء ما يَدُل على ذلك شرعًا، ولا يَلْزم في كل تاركٍ؛ لِجَوَاز العفو في البعض، فَلَمْ يَدخل فيه.
وهذا أَحسَنُ مِن:
- الجواب بأنَّ الخُلْف في الوعيد كَرمٌ؛ لأنَّ خُلف الوعيد مِن الله تعالى مُحَال.
- ومِن جواب ابن دقيق العيد بأنَّ المراد: يُعاقَب على جنسه ولو بَعْض التاركين؛ فإنه لا بُدَّ مِن عقاب بعض العصاة؛ لأنَّا نقول: "تاركه" عامٌّ بالإضافة، فَحَمْله على البعض مجازٌ.
- ومِن جواب العبدري في شرح "المستصفى" بأنه ليس في الشريعة توعُّد بالعقاب مُطْلق، بل مُقَيَّد بِشَرط أنْ لا يتوب المكلَّف وأنْ لا يُعْفَى عنه؛ لأنَّا نقول: هذا يحتاج إلى صحة استقراء وبيان في كل وعيد.
وهو أيضًا أَوْلى مِن التعبير بِـ "ما يُخَاف على تاركه"؛ فَقدْ زَيَّفَه إمام الحرمين بما يُظَن وجوبُه وليس بواجب.
واعْلَم أني لم أُقَيِّد ذلك كالبيضاوي
(2)
بِكَونه "شرعًا"؛ لِمَا سبق أنَّ العقل لا حُكم له،
(1)
في (ز): والتعبير بِـ "ما يُذَم" أو بِـ "ما يُتَوَعَّد بالعقاب" أَوْلَى مِن تعبير القدماء بِـ "ما يعاقَب".
(2)
عبارة البيضاوي في (منهاج الوصول، ص 132): (ويُرْسَمُ "الواجب" بأنّه الذي يُذَمُّ شَرْعًا تارِكُه قَصْدًا مُطْلَقًا).
بل للشرع. ولا بِكونه "قَصْدًا" لِيَخرج المتروك بلا قصد (كَتَرْك النائم والساهي والمُكْرَه)؛ لأنَّا نقول: لا نُسلِّم أنَّ هذا ترك؛ لأنَّ التارك مَن خطر بباله الشيء وكَفَّ عنه، فالموجود مِن هؤلاء انتفاء الفعل وهو أَعَم مِن التركِ، والذمُّ إنما هو للترك. فَمَن نام حتى خرج الوقت، يقال فيه:(لم يُصَلِّ)، ولا يُقال:(تَرَك)؛ ولذلك لم يتعرض القاضي ولا غيره لذلك.
ولم أُقَيِّده كالبيضاوي أيضًا بِـ "مُطْلقًا" استظهارًا
(1)
على دخول فرض الكفاية والمخَيَّر والموسَّع، وَتَرْك المريض والمسافر الصوم، فإنهم تركوه مع كَوْنه واجبًا عليهم إلا أنهم لم يتركوا مطلقًا، بل الترك في فرض الكفاية لِظن أنَّ الغير فَعَل، وفي المخَيَّر لِفِعل خصلةٍ أخرى، وفي الموسَّع للفعل في ثاني الحال، وفي المريض والمسافر لِفعلهما بعد زوال العذر حتى قال الإمام الرازي: إنَّ الواجب عليهما أَحَدُ الشهرين، وأما ترك الحائض فليس مِن هذا؛ لأنه لم يجب عليها، بل يُقطع بذلك، وسيأتي بيانُ ذلك كله.
لِأني أقول
(2)
: إنَّ مَن فَعَل، لا يُقال:(إنه تَرَك)، فلا يُحْتاج إلى "مُطْلَقًا"، وفَرْض الكفاية وإنْ لم يفعل أَصلًا فَلِتَبَيُّن أنَّ الوجوب قد سقط عنه.
وقولي: (وَانْفِهِ بِذِي النَّدْبِ فَلَا يُشَارِك) شُروعٌ في الفعل الذي تَعلَّق به الندب، وبدأتُ هنا بِرَسْمه، فذكرتُ أنَّه يُنْفَى [منه]
(3)
هذا القيد (وهو الذم لِتاركه)، ويُؤتَى معه بأنه يُمدح فاعِلُه، وذلك معنى قولي:
(1)
هذا تعليل لتقييد البيضاوي بِـ "مُطْلقًا".
(2)
هذا تعليل لقوله سابقًا: (ولم أُقَيِّده كالبيضاوي أيضًا بِـ "مُطْلقًا").
(3)
كذا في (ز، ظ)، لكن في (ص، ش، ق، ض): فيه.
ص:
122 -
بَلْ يُمْدَحُ الْفَاعِلُ فِيهِ، وَلْيُسَمْ
…
مَنْدُوبًا اوْلَى سُنَّةً بِهَا يُتَمْ
123 -
وَمُسْتَحَبًّا طَاعَةً وَقُرْبَهْ
…
مُرَغَّبًا نَفْلًا لِمَنْ أَحَبَّهْ
الشرح: فيقال: "المندوب": ما يُمْدَح فاعِله، ولا يُذَم تاركُه. فخرج بِقَيْد المدحِ "المباحُ"، وبإضافته للفاعلِ "الحرامُ" و"المكروه" و"خِلَافُ الأَوْلى"؛ فإنَّ المدح لتاركها. وبِنَفْي ذم تاركِه "الواجبُ"؛ فإنَّ المندوب لا يُشاركه في ذم التارك.
واعْلَم أنَّ المراد بِكَونه "يُمْدَح فاعِله، ولا يُذَم تاركُه" الذي مِن شَأْنه ذلك. وكذا لو غُيِّر لَفْظُ "يُمْدح" بِـ "يُثاب" وقُصِد ذلك، سواء في "الواجب" و"المندوب"؛ لأنهما قد لا يثاب فاعلهما؛ لِعارِض، كالصلاة في الدار المغصوبة، فإنَّ [المُرَجَّح]
(1)
أنها تصح ولا يُثابُ (فَرْضًا كانت أو [نَدْبًا])
(2)
خِلَافًا لِمَا بحثه صاحب "المَطْلَب" كما سيأتي في موضعه، وكَترْك الزنا وغيره مِن المحرَّمات مِن غَيْر استحضاره وكَفِّ النفْس عنه بالقصد؛ فإنه واجبٌ ولا ثواب فيه، وكذا ترْك المكروهات.
ولهذا قال القرافي: (ليس كل واجب يُثاب على فِعله، ولا كل محرَّم يثاب على تركه).
قال: (فالأول كنفقة الزوجة والقريب ورَدِّ المغصوب والوديعة، لا ثواب فيها حتى تستحضر ويقصد الامتثال، والثاني كترك الزنا وشرب الخمر)
(3)
. انتهى
قلتُ: وَوزانُ ذلك مِن المندوبات: إبراءُ المُعْسِر وإقراضُ المحتاج، ونحو ذلك.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ز): الراجح.
(2)
في (ش): نفلا.
(3)
شرح تنقيح الفصول (ص 71).
تنبيهان
أحدهما: يُؤخذ مِن كَوْن المندوب لا ذَمَّ في تركه أنه إذَا شَرع فيه وتركه، لا يُذم؛ فلا يَكون إتمامُه واجبًا، وأنه لا فَرْق في تركه بين أنْ يَكون ابتداءً أو بَعْد الشروع. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك، فأوجَبَا إتمامه بالشروع؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
ولنا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يَنْوي صوم التطوع ثم يفطر، أَخرجه [مسلم]
(1)
وغيره
(2)
؛ فيُحمل النهي في الآية على التنزيه؛ جَمعًا بين الدليلين، هذا إنْ لم يُفَسَّر {وَلَا تُبْطِلُوا} بأنكم [تحبطوها]
(3)
[بِالرِّدَّة، بدليل الآية التي قَبْلها، أو أنَّ المراد]
(4)
: ولا تُبْطلوها بالرياء. نقله ابن عبد البر عن أهل السُّنة، ونقل عن المعتزلة تفسيرها بمعنى: لا تبطلوها بالكبائر. لكن الظاهر تفسيره بما تَقدم.
واحتجَّ له أيضًا بحديث الأعرابي: "قال: هل عَلَيَّ غيرُها؟ قال له صلى الله عليه وسلم: لا، إلَّا أنْ تطوَّع"
(5)
. أَيْ: فَيلْزمك التطوع وإنْ كان تَطوعًا في أصله.
وعندنا: الاستثناءُ منقطع؛ بدليل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أَبْطَل تَطوعه كما سبق.
(1)
كذا في (ص، ت). لكن في (ز، ش، ق): النسائي.
(2)
صحيح مسلم (رقم: 1154)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 2631).
(3)
كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ش): تخلصوها. وفي (ص): تخلصوها ولا تبطلوها.
(4)
ليس في (ز).
(5)
صحيح البخاري (رقم: 46)، صحيح مسلم (رقم: 11).
وقال ابن المنير: [وقع لي في ذلك مأخذٌ]
(1)
لطيف، وهو أنَّ الصوم والصلاة ونحوهما عبادة لا تَقبل التجزئة، فَقَطْعُها تَجْزئة، أَيْ إيقاع بَعْضِ عبادة، وذلك حرام؛ لأنه تَعَبُّد فاسد. قال: ونَظِيرُه عتق البعض يَسْري للباقي مع اليسار، ومع الإعْسار لا يَسْرِي؛ لإمكان التجزئة. قال: أما التَّنَفل على الراحلة - وإنْ كان فيه تَرْك بعض الأركان - فللضرورة.
قلتُ: فقدْ اضطربت المناسبة التي أَبْداها لوجود التجزئة مرة مع الصحة ومرة مع البطلان، فلا يلتفت إليها. وأيضًا فَفَرق بين أنْ يقصد تجزئة العبادة ابتداءً وبين أنْ تبطل وتُجْعَل كأنْ لم تَكُن.
ومما استشكل على أبي حنيفة في ذلك: تجويزه للمتنفل بعد أنْ [يشرع]
(2)
أنْ يصلي قاعدًا؛ فلذلك خالفه صاحباه، فمنعَا القعود؛ طَرْدًا للقياس. على أنَّ أبا نصر العراقي نقل عن أبي حنيفة في كتاب الصداق أنَّ له الخروج مِن صوم التطوع، إلَّا أنه يجب عليه القضاء. نَعَم، أبو نصر أَوَّلَه كما نقل ذلك أبو علي السنجي (مِن أصحابنا) في "شرح الفروع".
فإنْ قِيل: ما وَجْه الوجوب في إتمام حج التطوع لمن شرع فيه عندكم؟
قلتُ: ذكر الماوردي جوابين:
أحدهما: لأنَّ نَفْلَه في غالب الأحكام كَفَرْضه؛ فإنهما متساويان في النية، فيقول في كل منهما: لبيك بالحج، مِن غير أنْ يُعَيِّن فَرْضًا أو نَفْلًا، أو يُحْرِم مُطْلقًا ثُم يصرفه لِمَا شاء، سواء ذلك في الفرض أو في التطوع. ولو لَبَّى بلا نية، لَمْ ينعقد، بخلاف العكس. ومتساويان أيضًا في الكفارة بإفساد أحدهما بجماع، وفي لزوم الفدية في الإتلافات والاستمتاعات؛ فَوَجَبَ أنْ يتساويَا في لزوم الإتمام.
(1)
كذا في (ز، ق). لكن في (ص، ت): وقع لي ذلك بمأخذٍ. وفي (ش): وقع في ذلك مأخذ.
(2)
كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ق، ت): شرع.
الثاني أجْوَدهما (وبه أجاب الشافعي في "الأُم"): أنه يجب المضيُّ في فاسد التطوع كواجِبه، فإتمامُ صحيحِ التطوعِ أَوْلَى.
عَلَى أنَّ هذا السؤال قد أُفْسِدَ مِن أَصْله بأنَّ الحج لا يمكن وقوعه تَطوعًا؛ فإنَّ [إقامة شعار البيت]
(1)
مِن فروض الكفايات، وهي تَلْزم بالشروع (على الأصح).
نَعَم، قال الرافعي:(ينبغي أنْ تَكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام كذلك، فإنَّ إحياء البقعة يحصُل به)
(2)
.
وإنْ كان في "الروضة" قد تَعَقَّبه بما لا يلاقيه، فليُتأمَّل.
والعمرة كالحج في كل ما تَقدم كما أشار إليه الرافعي فيما ذكره مما سبق.
نَعَم، قِيل: لنا مسائل يجب فيها إتمامُ التطوع عندنا غير الحج والعمرة، منها ما قال بعضهم: الأضحية سُنة وتلزم بالشروع. وذكره الساجي في نصوص الشافعي.
قلتُ: إنْ أُرِيدَ بِلزوم الإتمام وجوبُ التصدق بشيء منها (وهو الظاهر)، فهذا إنما هو خارجٌ مَخْرَج الشروط، لا تتميم حقيقة. ونظيره استقبال القِبلة والستر في صلاة التطوع.
ومنها في "شرح الفروع" لأبي على السنجي أنَّ أبا زيد المروزي وبعض الأصحاب أوجبوا إتمام الطواف المندوب على مَن شرع فيه، وغَلَّطهما. وحَمَله بعضُهم على الطواف الواجب في الحج والعمرة المتطوع بهما؛ فرجع ذلك إلى مسألة إتمام الحج والعمرة التطوعين.
التنبيه الثاني: يُؤخَذ مِن كَوْنه "يُمدح فاعلُه" أنَّ المدح لا ينفك بخوف اعتقاد العامة وجوبه فيترك - كما قاله مالك ونقله الدارمي في "استذكاره" عن أبي إسحاق المروزي مِن أنَّ السُّنة قد يَكون تَرْكُها أَفْضَل لذلك، كقراءة الجمعة يوم الجمعة، ونحو ذلك.
(1)
كذا في (ز)، لكن في (ص، ت): إقامته شعار البيت فهو.
(2)
العزيز شرح الوجيز (11/ 353).
ولا يخالف هذا ما سبق مِن كَوْنه قد لا يُثاب عليه لِعارِض؛ لِقيام الدليل هناك دُون هذا.
وقولي: (وَلْيُسَم) إلى آخِره - إشارة إلى أسماء الفعل "المندوب"، منها ذلك، مأخوذ من لفظ "الندب" المتعلق به، والأصل "مندوب إليه"، فَحُذفت الصلة؛ اختصارًا، لكن هذا إنما يحتاج إليه إذَا لم يسلط الندب (أَىْ: الطلب) على الفعل نفسه.
ومنها: "السُّنة" و"الأَوْلى" و"المستحب" و"الطاعة"، ونحوه كَـ "التطوع"، وفي الحديث:"قال: هل عَلَيَّ غيرُها؟ قال: لا، إلَّا أنْ تطوَّع"، و"القربة" وإنْ كانت قد تُطْلَق على الواجب أيضًا كما في حديث:"ولن يَتقرب إلَيَّ المتقربون بِمِثْل ما افترضت عليهم"
(1)
، و"الرغبة"، و"المُرَغَّبُ فِيه"، و"النَّفْل" مأخوذ مِن معنى الزيادة؛ لأنه زائدٌ على الفَرْض، وفُسِّر به قولُه تعالى:{نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] إنْ قُلنا: نُسِخ التهجُّد في حقه كما قاله النووي في "الخصائص" في النكاح، بل يَكون هذا دليلًا له، وقِيل: المراد: زيادة في الوجوب عليك على ما هو واجبٌ على الأُمَّة.
وقولي: (لِمَنْ أَحَبَّهْ) متعلق بِقَولي (يُتَم)، [أَيْ: يُتَم تعريفُه بهذه]
(2)
الأسماء ومَا بعدها لن أحب أنْ يتعرف أسماء هذا النوع.
واعْلَم أنَّ ما ذكرنا إنما هو على تقدير أنَّ معنى هذه الأسماء كلها واحد، وأنها مترادفة، وهو الأصح. وذهب بعض أصحابنا إلى التغاير في بعضها، فقال القاضي حسين والبغوي:"السُّنة" ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، و"المستحب" ما فعل مرةً أو مرتين، وأَلْحَقَ بذلك
(1)
مسند أحمد (26236) وغيره بلفظ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ"، وصحيح البخاري (6137) بنحوه.
(2)
في (ق): أي يتم هذه. وفي (ش): هذه الأربعة بهذه.
بعضُهم ما أمَر به ولَمْ يُنْقَل أنَّه فَعَلَه، و"التطوُّعُ" ما لم يَرِد فيه بخصوصه نَقْلٌ.
وردَّه القاضي أبو الطيب في "منهاجه" بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حج مرة، وفي أفعاله فيه ما هو سُنة، وكذا لم يُصَلِّ للاستسقاء ويخطب إلَّا مرةً، وهُما سُنة.
وقال الحليمي: "السُّنة" ما استُحِب فِعْلُه وكُره تركه، و"المستحبُّ" ما لم يُكره تركه.
وقِيل: "النفل" و"التطوع" واحد، وهو ما سِوَى "الفرض"، و"السُّنة" و"المستحب"[مِن أنواعهما]
(1)
.
وقِيل: "السُّنة" ما فَعَله النبي صلى الله عليه وسلم، و"المستحب" ما أمر به سواء فَعَله أَوْ لا، أو فَعَله ولم يُداوم عليه. نقله في "المَطْلَب" في باب الوضوء، كأنه لحظ في "السُّنة" معنى الدوام.
وقِيل: "السُّنة" ما ترتبت كالراتبةِ مع الفريضةِ، و"النفلُ" و"الندبُ" ما زاد على ذلك. حكاه الشيخ أبو إسحاق في "اللمع".
وللمالكية تفرقَةٌ أخرى: أنَّ ما أَمَر به الشرعُ وبالغ فيه "سُنَّةٌ"، وأولُ المراتب تطوعٌ ونافلة، وبينهما فضيلةٌ ومُرغبٌ فيه.
وربما سميت "السُّنة" هيئة، كما قاله أصحابنا في الصلاة [فيما]
(2)
لا يُجْبَر بسجود السهو، وكما قاله أبو حامد فيما يتهيَّأ به للوضوء، كالتسمية وغسل الكفين، لكن في الحقيقة ليست هذه التسمية له من حيث هو، بل في هذا المَحَل الخاص؛ لمناسبة تَخُصُّه.
وفي "زوائد الروضة" أول باب صلاة التطوع تسمية "السُّنة" حَسَنًا عند مَن يجعلها أسماء مترادفة، وإنما لم أذكره لما سيأتي أنَّ "الحسن" إنما سُمي به مِن حيث كونه مأذونًا شرعًا.
(1)
ليس في (ص).
(2)
كذا في (ت). لكن في (ز، ص، ض، ق، ش): ما.
فائدة: قال ابن العربي: أخبرنا الشيخ أبو تمام بمكة أنه سأل الشيخ أبا إسحاق ببغداد عن قول الفقهاء: "سُنة"، و:"فضيلة"، و:"نَفْل"، و:"هيئة". فقال: هذا عامته في الفقه، ولا يقال إلَّا فرض وسُنة، لا غير. [وأمَّا]
(1)
أنا فسألت أبا العباس الجرجاني بالبصرة، فقال: هذه ألقاب لا أصل لها، ولا نَعرفها في الشرع. والله أعلم.
ص:
124 -
وَمَا بِهِ قَدْ عُلِّقَ التَّحْريمُ
…
فَهْوَ الَّذِي فَاعِلُهُ مَذْمُومُ
125 -
وَهْوَ الْحَرَامُ الْحَظْرُ وَالْمَعْصِيَةُ
…
وَالْإثْمُ وَالْمَزْجُورُ وَالْفَاحِشَةُ
126 -
وَالذَّنْبُ وَالسَّيِّئَةُ الْقَبِيحُ
…
وَحَرَجٌ عُقُوبَةٌ تَجْرِيحُ
الشرح: أَيْ: ما تعلق به التحريم هو الذي يُذم فاعِلُه. فيخرج بِقَيْدِ "الذَّم": ما سوى الحرام والواجب، وبإضافة الذمِّ للفاعلِ: الواجبُ.
والمراد: الذي مِن شأنه أنْ يُذم فاعله وإنْ تَخَلَّف، كَمَن وَطئ أجنبية يظنها زوجته كما سيأتي.
ولم أُقيده بِكَونه "قَصْدًا" ولا بِـ "شَرْعًا"؛ لِمَا سبق في الواجب، ولا بِـ "مُطْلَقًا" وإنْ كان في التحريم ما هو مُخَيَّر كما سيأتي؛ لأن الفعل متى وُجِد في المخيَّر، كان مذمومًا حرامًا.
ولم أَقُل: (ويثاب تاركه)؛ لأنَّ "المكروهَ" يشاركه في ذلك و"خِلَافَ الأَوْلى"، وقد خَرجَا بِقَيْد ذم الفاعل، وأيضًا فَقدْ لا يثاب؛ لِعَدَم استحضاره كما سبق.
ويُسَمَّى:
- "مُحَرَّمًا": اسم مفعول مِن حَرَّمَه تحريمًا.
(1)
في (ز، ظ): قال وأما.
- و"حرامًا": وصف فاعل مِن حَرُم يَحْرُم؛ لأنه مطاوع "حَرَّم" المُضعَّف كما سبق تقرير نظيره في "الواجب".
- ويسمى "مَحْظُورًا": مِن الحظْر وهو المنع، فسُمِّي الفعل بالحكم المتعلق به.
- ويُسمى أيضًا "معصيةً"، و"إثمًا"، و"حَرَجًا"، و"مزجورًا"، و"زَجْرًا"، و"فاحشةً"، و"ذنبًا"، و"سيئةً"، و"قبيحًا"، و"عقوبة"، و"تجريحًا"، و"جَرْحًا"؛ لأنها تترتب على فِعله، فبهذا التقدير تصح تسميته بذلك، والله أعلم.
ص:
127 -
وَمَا لَهُ كَرَاهَةٌ "مَكْرُوهُ"
…
تَارِكُهُ يُمْدَحُ، لا يَعْرُوهُ
128 -
في الْفِعْلِ ذَمٌّ، وَ"خِلافُ الْأَوْلَى"
…
مِثْلٌ، وَلَكِنْ مَنْعُ كُرْه أَوْلَى
الشرح: أَيْ: ما يتعلق به الكراهة يُسمَّى "مكروهًا". ورَسْمُه: ما يُمْدَحُ تارِكُه، ولا يُذَمُّ فاعِلُه.
فخرج بـ "يُمْدَحُ": المباحُ، وتقييدِه بِالـ "تارك": الواجبُ والمندوبُ؛ فإنَّ المدح فيهما على الفعل. وخرج بِعَدَم ذَمِّ فاعله: الحرامُ؛ لأنه وإنْ شارك "المكروه" في مدح التارك لكن يفارقه في ذم الفاعل.
وأمَّا "خِلَاف الأَوْلَى" فَسُمِّي بذلك لأنه خِلَاف المندوب الذي مِن أسمائه "الأَوْلَى" كما سبق، وهو مشارِكٌ له في رَسْمه، إلَّا أنَّ هذا مُقَيَّد بكونه بِنَهْيٍ غير مقصود؛ ليخرج "المكروه"، وحينئذ فالمنع في "المكروه" أقوَى مِن المنع في "خلاف الأَولى"، وهو معنى قولي:(وَلَكِنْ مَنْعُ كُرْهٍ أَوْلَى)، أَيْ: أَقْوَى باعتبار كَوْنه بِنَهْيٍ مقصود، فإنَّ هذا يدل على الاعتناء بالمنع فيه، وقد يُطلق "المكروه" على "خلافِ الأولى" كما سبق، والله أعلم.
ص:
129 -
وَذُو الْإبَاحَةِ "مُبَاحٌ" جَائِزُ
…
مُوَسَّعٌ وَمُطْلَقٌ وَحَائِزُ
130 -
حِلًّا، خَلَا مِنْ مِدْحَةٍ وَذَمِّ
…
وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا لِغَيْرِ الْحِرْمِ
الشرح: المرادُ أنَّ مُتعلَّق الإباحة مِن الفعل يُسمَّى "مباحًا" اسم مفعول مِن "أباحه". ويُسمى "جائزا" و"مُوَسَّعًا" أَيْ: فِيه
(1)
، و"مُطْلَقًا" و"حَلَالًا"، وما في معناه مِن المُحَلِّ والمُحَلَّل بالفتح، وهو معنى قَولي:(وَحَائِزٌ حِلًّا).
وقولي: (خَلَا مِنْ مِدْحَةٍ وَذَمٍّ) هذا رَسْم "المباح"، وهو: ما خَلَا مِن مَدْح وذمٍّ، أَيْ: لا في فِعل ولا في تَرْك. وخروجُ بَقِية الأقسام كلها مِن ذلك واضحٌ؛ لأنَّ كُلًّا منها لا يخلو مِن مدح أو ذم إمَّا في الفعل أو في التَّرك، لكن لا بُدَّ فيه مِن الإذْن؛ لأنه مُتَعَلَّقُ الإباحة، وقد سبق تفسير الإباحة بذلك؛ فَيَخْرج حُكمُ الأشياء قَبْل ورود الشرع، وفِعْلُ غَيْر المكلَّف.
نَعَم، المراد بكونه لا مدح فيه ولا ذم: الذي شأنه ذلك، أو يُقال:(لِذَاتِه)؛ ليخرج ما لو تُرك به حرامٌ؛ فإنه يثاب عليه مِن تلك الجهة، ويَكون واجبًا - على رَأْي الكعبي كما سيأتي، فإنَّ ذلك لا يختص بالمباح، وما لو تُرك به واجبٌ فإنه يُذم أيضًا مِن تلك الجهة.
والمراد بالمدح والذم أنْ يَرِد ما يدل على ذلك بِطَريق مِن الطُّرق، كمدح الفاعل، أو ذَمِّه، أو وَعْده، أو وَعِيده، أو غير ذلك كما سبقت الإشارة إليه، وإن ابن عبد السلام بسط ذلك في كتاب "دلائل الأحكام".
وقولي: (وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا لِغَيْرِ الْحِرْمِ) معناه أنَّ البائع ربما أُطْلق على مُقَابِل "الحرام"، أَعَم مِن الواجب والمندوب والمكروه وخِلافِ الأولى والمُخَيَّر فيه على السواء، أَيْ بأسمائه،
(1)
يَعْني: مُوَسَّعًا فِيه.
فَيُقال: "الجائز" كذلك، و"الحلال" كذلك أيضًا، كما قال تعالى:{فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59].
و"الْحِرْم" بكسر الحاء هو الحرام، قال تعالى:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 95] على قراءة حمزة والكسائي، [أيْ: حرام]
(1)
وإنْ كان المراد هناك ليس الحرام الشرعي، بل المنع أو نحوه (على اختلاف المفسرين).
وسَلَك بعضُ العلماء ذلك في تقسيم الحُكم، فقال: هو قِسمان: تحريم، وإباحة.
ووقع في تعليقة الشيخ أبي حامد في كتاب النكاح أنها ثلاثة: إيجابٌ، وحَظْرٌ، وإباحةٌ. ولعله أراد بِـ "الإيجابِ" مُطْلَقَ الطَّلَب، وبِـ "الحظرِ" مُطْلَقَ المنع، والله أعلم.
(1)
من (ز، ظ).
ص:
131 -
وَكُلُّ مَأْذُونٍ بِشَرْعٍ فَـ "حَسَنْ"
…
فَذَاكَ "وَاجِبٌ" وَ"مَنْدُوبٌ" إِذَنْ
132 -
كَذَا "مُبَاحٌ"، وَالَّذِي تَعَلَّقَا
…
نَهْيٌ بِهِ "الْقَبِيحُ" فِيمَا أُطْلِقَا
133 -
وَذَلِكَ "الْحَرَامُ" وَ"الْمَكْرُوهُ"
…
"خِلَافُ الَاوْلَى" هُوْ بِهِ شَبِيهُ
134 -
وَالْأَرْجَحُ الَّذِي الْإمَامُ قَالَهْ:
…
ذُو الْكُرْهِ مِنْهُ لَا وَلَا مَحَالَهْ
135 -
قِيلَ: وَيَنْبَغِي يَكُونُ مِثْلَهُ
…
"خِلَافُ الَاوْلَى" هُوْ بِذَاكَ أَشْبَهُ
الشرح: أَيْ: مما عُلِم مِن حد الحكم السابق (مِن حيث الإضافة إلى الله تعالى والتقسيم إلى اقتضاء وتخيير) أنَّ وصف الفعل المتعلق به الخطاب بِحُسن أو قُبْح إنما هو باعتبار إذْن الشارع وعدم إذنه، لا بالعقل كما يدَّعيه المعتزلة؛ فالحسَن: ما أَذِن فيه الشرع، والقبيح: ما نهي عنه؛ فيدخل في المأذون حينئذ "الواجب" و"المندوب"، وكذا يدخل "المباح"؛ لارتفاع شأنه بالإذن فيه وإنْ لم يُطلب. ويدخل في المنهي عنه "الحرام" و"المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى"؛ لأنه شبيه بالمكروه في كَوْنه مَنْهِيًّا نَهْي تنزيه، وإنْ كان النهي غيرَ مقصود، وهو معنى قولي:(هُوْ بِهِ شَبِيهُ).
نَعَم، كَوْن "المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى" مِن القبيح فيه نظر، وإنْ كان في "جمع الجوامع" صرح بذلك في "المكروه"، لكن قال شيخُنا شارحُه الزركشي أنَّه لم يَرَه لِغَيْره، وكأنه أخذَه مِن إطلاق كثير أنَّ "القبيح" ما نُهِيَ عنه.
قال: (ويمكن أنْ يريدوا النهي المخصوص - أَيْ: نَهْي التحريم - بل هو الأقربُ لإطلاقهم، وكأنَّ المُوقِع له في ذلك قولُ الهندي: إنَّ القبيح عندنا ما يكون منهيًّا عنه،
ونَعْني به ما يَكون تَرْكه أَوْلَى، وهو القَدْر المشترك بين المُحَرَّم والمكروه)
(1)
. انتهى
فقولي: (وَالْأَرْجَحُ الَّذِي الْإمَامُ قَالَهْ) إشارة إلى النظر المذكور في "المكروه" و"خِلَاف الأَوْلَى"، وأنَّ الأرجح الذي قاله إمام الحرمين: إنَّ "المكروه" لا قبيح ولا حسن؛ لأن "القبيح" ما يُذم عليه، و"الحسَن" ما يُثْنَى عليه، وهو ليس كذلك فيهما.
ولذلك قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لَمْ نَرَ أَحَدًا نعتمده خالفَ الإمام في هذا إلَّا أناسًا أدركناهم تعلقوا بإطلاق نحو البيضاوي
(2)
النَّهْيَ، وليس هذا التعلق بِأَوْلى مِن امتناع إمام الحرمين مِن ذلك)
(3)
.
قلتُ: بل الغالب - كما سبق - في إطلاقِ النَّهْيِ التحريمُ؛ ولذلك حمل الأصفهاني كلام "المنهاج"[عليه]
(4)
. نَعَم، كلام إمام الحرمين إنما هو مُفَرَّعٌ على تفسير الحسن والقبيح بما يُمدح فاعله أو يُذم شرعًا، وغَيْره علَّق القُبح بالنهي لا بالذم.
قِيل: وينبغي على قول الإمام ذلك في "المكروه" أنَّ "خِلَاف الأَوْلَى" كذلك، بل هو أَوْلى بأنْ يُنْفَى القُبح عنه مِن حيث إنَّ النهي فيه غَيْر مقصود.
قلتُ: وينبغي أنْ يَكون "المباح" أَوْلى منهما بأنْ لا يَكون حَسنًا ولا قبيحًا؛ لانتفاء الاقتضاء فيه. نعم، تمسكوا في كَوْنه حسنًا بقوله تعالى:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]؛ لأنَّ أَفْعَل التفضيل يقتضي المشاركة. فإذَا جُوزوا على الأحسن وهو "الواجب" و"المندوب"، يبقى المباح حَسنًا، ولا جزاء فيه.
(1)
تشنيف المسامع (1/ 191)، الناشر: مكتبة قرطبة، الطبعة الثانية - 2006 م.
(2)
عبارة البيضاوي في "منهاج الوصول، ص 132": (ما نُهِيَ عنه شرعًا فَقَبيحٌ، وإلَّا فَحَسَنٌ).
(3)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 61 - 62).
(4)
ليس في (ش).
قلتُ: وَفِيه نظر؛ فإنَّ الظاهر أنَّ المراد بِـ "أحسن": بِـ "الحسَن"، لا معنى التفضيل؛ بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]، وذلك هو المطلوب، لا "المباح"؛ فإنه لا جزاء فيه، وأيضًا فيلزم أنْ يَدْخل في الحسن "الحرامُ" وغيره؛ لأنه مما قد يَعمله المكلَّف؛ فَيكون مِن المُفَضَّل عليه، وهو باطل.
أو يكون التفضيل باعتبار أنَّ الجزاء أفضل مِن العمل، فكأنه قيل: يَجزيهم أجرهم بالنوع الذي هو أفضل من أعمالهم. لكن يشكل بما قاله العلماء: إنَّ كل عمل فجزاؤه خير منه، إلا التوحيد؛ فإنه أفضل مِن جزائه، ولأن "أَفْعَل" التفضيل لا يُضاف إلا إلى جنسه.
تنبيهات
أحدها: لأصحابنا عبارات أُخرى في الحسن والقبح - لا طائل في بَسطها، وقد أَشَرْتُ إلى شيء منها فيما سبق. وأمَّا المعتزلة فإنهم لَمَّا أناطوا الحُسن والقبح بِحُكم العقل، عَبَّروا بعبارات:
منها أنَّ ما للقادرِ عليه العالِمِ بحاله أنْ يَفعله: "الحَسن". وخِلافُه: "القبيح"؛ فيدخل في "الحسنِ" الأحكامُ سوى الحرام، و"القبيح" الحرامُ فقط.
ومنها أنَّ "الحسَنَ": الواقعُ على صِفَة توجب المدح. و"القبيح": الواقعُ على صفة تُوجب الذم؛ فيدخل في "الحسَنِ" الواجبُ والمندوبُ، وفي "القَبيحِ" الحرامُ فَقَط، ويبقى المباح والمكروه لا حَسنًا ولا قبيحًا.
الثاني: أَطْلَق الأصوليون مقابلة الحسن بالقبيح، وفِيه نظر؛ لأنَّ مُقابِلَه إنما هو السَّيِّئ؛ قال تعالى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وَقَالَ تَعَالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34]، وأيضًا فالقبيح أَخَص مِن السَّيِّئ، كما
أنَّ الجميل أَخَص مِن الحسن؛ بدليل قولهم: (الحسن الجميل)؛ للترقي مِن الأدنى للأعلى، فينبغي مقابَلة الجميل بالقبيح، والحسن بالسَّيئ. نَبَّه على ذلك الشيخ جمال الدين [الأغْماتي]
(1)
في كتاب "المطالع".
الثالث: إناطة الحسَن بالإذن أَخَصُّ مِن إناطة البيضاوي له بعدم النهي حتى أَدْخل فيه فِعل غَيْر المكلَّف (كالصبي والساهي والبهيمة) استطرادًا؛ لأنه إنما يتكلم في الفعل المتعلِّق به الخطاب، وهو فِعل المكلَّف. وألزَمُوه أنْ يسْتَطرد إلى أنْ يُمثل أيضًا بِفِعْل الله تعالى.
الرابع: فيما يظهر فيه ثمرة الخلاف في هذه المسألة، وقد أشار إلى ذلك الرافعي بَعْد أنْ اقتضى كلامُه وصرح به غيرُه أنَّ أصحاب أبي حنيفة وافقوا المعتزلة على الإناطة فيهما بالعقل، فقال في باب الزنا:(لو مَكَّنت البالغة العاقلة مجنونًا أو صبيًّا فَعَليها الحد، خِلَافًا لأبي حنيفة، قال: لأنَّ فِعله - والحالة هذه - ليس بِزِنًا. قُلنا: لا نُسَلِّم أنَّه ليس بِزِنًا، بل زِنا ولكن لا يجب الحد)
(2)
. انتهى
ووَجْه التخريج أنَّ الزنا إنما يكون في العقل قبيحًا إذا صدَر مِن المكلَّف. فما يفعله الصبي إذا لم يكن زنًا، لا تُحَدُّ المُمَكَّنَة منه. وعلى قول الشافعي هو قبيح في نفسه؛ لأنه مَنْهِي عنه ولو سقط الحدُّ فيه عن الصبي لِعَدم تكليفه.
ولا يخفَى ما في هذا، وإنما ينبغي أنْ يَكون على العكس، أي: إنَّ مَن يقول: (إنه عقلي) يوجب الحدَّ على المُمَكِّنَة؛ لأنَّ العقل مدرك لِقُبْح هذا الفعل مِن حيث هو، ومَن يقول:(شرعي) لا يوجب الحد؛ لِعَدم تَعلُّق النهي بفعل الصبي. على أنَّ وجوب الحد بالتمكين إنما
(1)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ش، ض): الأعماني. وفي (ز): الأغماني. وهي نِسبة إلى مدينة "أَغْمَات" بالمغرب قُرب مراكش. (الأنساب للسمعاني 1/ 194، معجم البلدان 1/ 225).
(2)
العزيز شرح الوجيز (11/ 148 - 149).
هو لوقوع الفعل بينهما، فهي زانية، وهو ليس بِزانٍ، كَمَن ظن مَن على فراشه زوجته، أو بالعكس، أحدهما زانٍ دُون الآخَر.
ومما عُدَّ أيضًا مِن فوائد الخلاف: أنه إذا قطع يد الجاني قصاصًا فَمَات، فلا ضمان فيه عندنا؛ لقوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، و"المُحْسِن" مَن أَتَى بالحسن؛ فيندرج في الآية عند مَن قال: إنه حسن. وقال أبو حنيفة: يضمن. وهذا يأتي في كل موضع كُره فيه القصاص.
قلتُ: وفيه نظر أيضًا؛ فإنَّ "المحسِن" مِن "الإحسان"، لا مِن "الحسْن"، ولو دارت المادةُ على الحاء والسين والنون إلَّا أنَّ في استعمال اللغة التغايُر، لا سِيَّما وقد سمَّى الله تعالى القصاص "سيئة"؛ تنفيرًا منه، فقال:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وأيضًا فيلزم مِن ذلك أنَّ فاعل المباح له الجنة وزيادة؛ لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
نَعَم، مِن أَحْسَنِ ما خُرِّج على الخلاف ما ذكره قاضي القضاة شهاب الدين محمود الزنجاني الشافعي في كتابه "تخريج الفروع على الأصول" بعدَ أنْ نَصب الخلاف بين جماهير العلماء في تعليقهم التحسين والتقبيح بالأمر والنهي وبين المنتمين إلى أبي حنيفة مِن علماء الأصول بأنَّ العقل له مَدْخل وأنَّ الشرع كاشِفٌ بِأَمْره ونَهْيه عن الحسْن والقُبح:
(أنَّ إسلام الصبي المميِّز لا يصح عندنا؛ لِعَدم تعلُّق الأمر به، ويدل له أنَّ الإِسلامَ: الاستسلامُ، فيستدعي طلبًا. فإذا انتفَى، انتفَى. وهُم أناطوه بالعقل، والعقل يوجِب على الصبي ذلك كالبالغ، وهو عجيب؛ فإنهم قد ادَّعوا أنَّ الشرع لا يخالف العقل بل كاشف، فكيف خالفه هنا؟ !
- وأنَّ نَذْر صوم العيد والتشريق لا يصح عندنا؛ لعدم صحة الصوم فيهما، وعندهم يصح؛ لأنَّ الصوم عبادةٌ في نفْسه مأمورٌ بها، فكان حُسنه ثابتًا شرعًا وعقلًا، والنهي عنه في
العيد والتشريق لِأمرٍ خارج كَتَرك إجابة مَن دَعَاه لِيأكل عنده فيهما.
- وأنَّ شهادة أهل الذمة بعضهم لبعض لا تُقْبَل عندنا، وعندهم تُقبل؛ لأنَّ قُبح الكذب ثابت عقلًا، وكذلك حُسن الصدق، وكُل ذِي دِين فإنه يجتنب ما هو محظور في دِينه)
(1)
. انتهى
والله أعلم.
ص:
136 -
وَالْأَمْرُ لَا يَشْمَلُ مَا قَدْ كُرِهَا
…
مُحَرَّمًا يَكُونُ أَوْ مُنَزَّهَا
137 -
فَوَقْتُ نَهْيٍ الصَّلَاةُ تَبْطُلُ
…
بَلْ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ إذْ يُفَصَّلُ
138 -
بِجِهَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ فَتَصِحْ
…
فِي الْغَصْبِ لَكِنْ لَا ثَوَابَ يَتَّضِحْ
الشرح: هذا مِن تتمة الكلام في الأفعال التي تُعلَّق بها الأحكام؛ وذلك لأنه قد سبق أنَّ الفعل إما مطلوب الإيجاد أو التَّرك، فأمَّا أنْ يَكون مطلوبهما معًا فَفِيه تفصيل:
فإنْ كان مِن جهة واحدة، فممتنع؛ لأنه جمع بين الضِّدَّين؛ فلذلك صَدَّر ابنُ الحاجب كلامه في هذه المسألة بقوله:(يستحيل كَوْن الشيء واجبًا حرامًا مِن جهة واحدة إلَّا عند بعض مَن يُجَوِّز تكليفَ المُحَال) إلى آخِره.
وأمَّا ابن السمعاني فعبَّر عن ذلك بقوله: (الأمر المطلَق لا يتناول المكروه). قال: (وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يتناوله)
(2)
.
(1)
تخريج الفروع على الأصول (1/ 246 - 248)، الناشر: مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. محمَّد أديب صالح، الطبعة: الرابعة/ 1402 هـ - 1982 م.
(2)
قواطع الأدلة (1/ 132).
ثم ذكر ما سيأتي حكايته عنه بعد ذلك. واحترز بقوله: (المطلَق) عن المقَيَّد بما يخرج الصورة التي يكون الفعل فيها مكروهًا، فلا خلاف حينئذ في عدم تناوله. وإطلاقه "المكروه" شامل للمكروه تحريمًا والمكروه تنزيهًا؛ لأنَّ النَّهي اقتضَى ترْكه، فلو أنَّ الأمر يَشمله لَكان مُقْتَضِيًا لِفعله؛ فيكون مطلوبًا فِعله وترْكه في آنٍ واحد، وهو مُحَال. وسيأتي في الأمثلة إيضاحُ ذلك.
واعْلَم أنَّ موضوع هذه القاعدة أنَّ الواحد هل يكون مأمورًا مَنْهِيًّا كما ذكرناه؟
لكن الواحد إمَّا واحد بالجنس أو النوع وإمَّا واحد بالشخص.
فالأول هل يكون منهيًّا مأمورًا باعتبار أفراده بأنْ يَكون بعضها مَنهيًّا وبعضها مأمورًا؟
قال الجمهور: نعم، كَمُطْلَق السجود واجبٌ لله وحرام لِغَيره، قال تعالى:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37]. وخالف أبو هاشم فيه فيما حكاه عنه إمام الحرمين، فقال: إنَّ المحرَّم إنما هو القصد مِن السجود، لا نفس السجود
(1)
؛ بناءً على أصله أنَّ النوع لا يختلف بالحسْن والقبح. والقاعدة فاسدة، فالمحرَّم القصْد والسجود معًا.
وأمَّا في فَرْدٍ مِن النوع فلا، والمخالِفُ في هذا هُم الحنفية كما سبق في كلام ابن السمعاني، وهو أَعْرَفُ؛ لأنه كان حنفيًّا، ومَثَّل لذلك بالصلاة في الأوقات المكروهة، وصوم يوم العيد والتشريق، ونحو ذلك كما سيأتي إيضاحه.
والثاني (وهو الواحد بالشخص): إنْ لم يَكن له إلَّا جهة واحدة، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممتنع إلَّا عند مَن يُجَوِّز التكليف بالمُحَال لذاته. وإنْ كان له جهتان (كالصلاة في المغصوب)، فهو مأمور به مَنْهِيٌّ عنه باعتبارين (عَلَى المُرَجَّح).
فإنْ قُلتَ: ما الفَرق بين هذا وبين ما سبق في فَرْد مِن النوع حيث امتنع أنْ يَكون مأمورًا
(1)
البرهان في أصول الفقه (1/ 211).
مَنْهِيًّا خِلَافًا للحنفية؟
قلتُ: لأنَّ الجهتين متعذرتان في الواحد من النوع، كالصلاة في الوقت المنهي، فإنها إذَا أمر بها فإنما هو مِن حيث كَوْنها صلاةً، والنهي عنها إنما هو مِن حيث كَوْنها صلاةً في هذا الوقت، فَقَدْ تَواردَا مِن حيث نوع الصلاة، ونحو ذلك صوم يَوْمَي العيد والتشريق، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة مَثَلًا؛ فإنَّ النهي ليس مِن حيث كَوْنها صلاة، بل مِن حيث شغل المكان تَعَدِّيًا - أَعَم مِن أنْ يكون صلاة أو غيرها؛ فافترقَا.
إذَا تَقَرَّر ذلك، فاعْلَم أنَّ لهذه القاعدة أمثلة، منها: ما سبق مِن الصلاة في الوقت [المنهي]
(1)
، فهي غير صحيحة سواء قُلنا: النهي عنها تحريم، أو: تنزيه. أمَّا التحريم فواضح، وأمَّا التنزيه فَعَلَى وَجْه قَطَع به البندنيجي وهو الراجح، فَقَدْ صرح النوويّ في "دقائق الروضة" في الكلام على الماء المشمَّس ببطلان الصلاة أيضًا فيها ولو قُلنا: كراهة تنزيه؛ وكذا قال ابن الرفعة في "المطْلَب": (الحقُّ عندي أنها لا تنعقد جَزْمًا، وإن كانت غير مُحَرمة؛ لأنَّ الكلام في نَفْل لا سبب له، فالقصدُ به إنما هو الأجْر، وتحريمُها أو كراهتها يمنع حصوله، وما لا يترتب عليه مقصودُه - باطل كما تَقَرر في قواعد الشريعة). انتهى
وقد استشكل هذا الحكم مِن وجهين:
أحدهما: أنَّ الكراهة تنزيهًا تتضمن الجواز، فكيف يجتمع مع الفساد الذي تَعَاطِي المتصف به حرام؛ لِكَوْنه تلاعُبًا؟
الثاني: أنه منتقض بنحو صوم يوم الجمعة، فإنه مكروه، وظاهر كلامهم أنه لو صامه صَحّ.
وقد يجاب بأنَّ ما كان لِأمرٍ خارجي لا يَقدح في الانعقاد، والتلاعب إنما يتحقق فيما
(1)
في (ش): المنهي عنه.
يَكون النهي فيه لِذَات الشيء أو لِوَصفه اللازم كما سيأتي تقريره في باب الأوامر والنواهي. فالصلاة في الوقت المكروه لِمَعْنَى التشبُّه بمن يَسجد للشمس عند طلوعها أو غروبها أو ظهور سلطنتها بتمام ارتفاعها قَبل أنْ تنهبط، وهذا المعنى مُلازِم لنوع الصلاة التي لا سبب لها، فالفساد مِن هذه الجهة حصل، لا [في]
(1)
المكروه مِن حيث هو. ولزوم الجواز في المكروه إنما هو [حيث]
(2)
لم يَقْترن به ما يُوجِب فساده حتى يكون محرمًا مِن هذه الحيثية فقط وإنْ كان جائزا في أَصْله؛ بدليل حكاية خِلَاف في المباحات المُخِلَّة بالمروءة الرادَّة للشهادة: هل تَحْرُم؟ أوْ لا؟
وأمَّا كراهة صوم يوم الجمعة فإنما هو للضعف عن كثرة العبادة والذِّكر فيه، وليس ذلك بوصف لازِم حتى يفسد؛ فافترقا، فتأمَّله.
ومنها ما قاله ابن السمعاني عقب كلامه السابق، حيث قال:(والخلاف تظهر فائدته في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فعندنا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا منكوسًا، وعندهم يتناوله، فإنهم - وإنِ اعتقدوا كراهته - قالوا فيه: يُجْزِئ؛ لدخوله تحت الأمر. وعندنا لا يدخل؛ لأنه لا يجوز أصلًا، فلا طواف بدون شرطه - وهو الطهارة - ووقوعه على الهيئة المخصوصة).
قال: (وحُجَّتنا أنَّ الأمر للوجوب حقيقةً، وللندب والإباحة مجازًا، وليس المكروه واحدًا مِن الثلاثة)
(3)
. انتهى
ومنها ما قال إمام الحرمين: (إنَّ هذه المسألة مَثَّلها الأئمة بالترتيب في الوضوء، فَمَنْ لا
(1)
في (ت، ض): من.
(2)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ش): من حيث.
(3)
قواطع الأدلة (1/ 132 - 133).
يراه، يقول: التنكيس مكروه، فلا يدخل تحت الأمر)
(1)
.
نَعَم، قال إلْكِيا الطبري: إنَّ الكراهة في هذا إنما [هو]
(2)
لِمَعْنًى خارج، وهو مخالفة [عبادة]
(3)
السَّلَف، ومحل الخلاف إنما هو حيث لا يَكون لمعنى خارج. ثُم لا يصح التمثيل به إلا إذا كان التنكيس مكروهًا وإذا فَعله كان محُرَّما. وهذا عندهم، وأمَّا عندنا فواجب، فتركه يُخِل بهيئة الوضوء؛ فلا يُجْزِئ، فهو كما سبق في الطواف.
قلتُ: وليس هذا مخالِفًا لِما سبق مِن أنَّ المكروه تنزيهًا باطلٌ - على المُرَجَّح عند النووي وابن الرفعة؛ لِما بَيَّنَّا أنَّ ذلك إذا كان لِمَعْنًى مُلازِم للماهية بحيث يكون كالذاتي لها، لا لِخارج غير ملازم.
ومنها: إعادة صلاة الجنازة لا يصح على احتمال لإمام الحرمين قَوَّاه النوويّ؛ لأنها لا تستحب. وقِيل: تُكْره. فَعَلَى الكراهة [تُعَدُّ]
(4)
مِن هذه القاعدة، وكذا على أنه خِلاف المستحب؛ لأنه منهي ولو كان بنهي ضِمْني لا مستقل.
ومنها: لو نذر الإحرام مِن دويرة أهله وقُلنا: (إنه مِن الميقات أفضل) كما رجحه النووي، خِلافًا لترجيح الرافعي أنه مِن دويرة أهله أفضل، فإنه يصح نَذْره؛ لأنه مقصود وإنْ كان غيْره أفضل، كما في نَذْر الحج ماشيًا وإنْ قُلنا: الركوب أفضل.
قلتُ: ودخوله في القاعدة مِن حيث إنه - على ترجيح النووي - خِلَافُ الأَوْلى، فهو
(1)
البرهان (1/ 206).
(2)
كذا في (ص، ز، ض، ق، ش). لكن في (ت): هي.
(3)
كذا في (ش، ض، ق، ت). لكن في (ز، ص): عادة.
(4)
كذا في (ز). لكن في (ض، ق): يعد.
مَنْهي عنه نهيًا ضمنيًّا، والصحة فيه إنما هي [لِكَوْنه]
(1)
لِمَعْنًى خارجي كما سبق في نظيره، وكذا إذا قُلنا بالوجه الضعيف:(إنه من دويرة أهله مكروه). فَقَوْل بعض المتأخرين: (إنه ينبغي أنْ لا ينعقد - عَلَى القول بالكراهة؛ عملًا بهذه القاعدة) مردودٌ بما قررناه.
ومنها: الصوم يوم الشك [تَطَوُّعًا]
(2)
حرام وغير منعقد؛ للقاعدة. وفي انعقاد نذر صومه وجهان، الأصح المنع، كما لو نذر صوم يوم العيد.
وهذه الأمثلة كلها فيما إذا اجتمع الأمر والنهي في فَرْد مِن نوع غير شخصي.
أما مثال الواحد بالشخص إذا كان له جهتان فكما سبق مِن الصلاة في الدار المغصوبة مثلًا، فإنه يصح أنْ يدخل تحت الأمر مِن جهة، ويَكون مِن الجهة الأخرى مَنهيًّا عنه، وهو معنى قولي:(بَلْ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ إذْ يُفَصَّلُ بِجِهَتَيْنِ). أَيْ: إنَّ الأمر لا يتناول المكروه (تحريمًا كان أو تنزيهًا)، لكن إذا كان واحدًا بالشخص وله جهتان، فإنه يَكون متناولًا له، فهو منصوب عطفًا على مفعول "يَشْمَلُ" (وهو "مَا" الموصولة في قولي: مَا قَدْ كُرِهَا) بِـ "بَلْ".
وهذه المسألة طويلة الذيل، ويذكرها الأصوليون مستقلة، ولكنها فرعٌ عن القاعدة السابقة كما بينَّاه، فتُذْكر لتقرير القاعدة، وذِكرها في الفروع أَلْيَق.
والحاصل أنَّ الجمهور جَوَّزوا كَوْن الصلاة في هذه الصورة واجبةً حرامًا باعتبارين، فتكون صحيحة؛ لأنَّ متعلَّق الطلب ومتعلَّق النهي في ذلك متغايِران؛ فكانَا كاختلاف المحلين؛ لأنَّ كل واحدة مِن الجهتين منفكة عن الأخرى، واجتماعهما إنما هو باختيار المكلَّف، فليسا متلازمين، فلا تَناقُض.
وقال أبو علي وأبو هاشم الجُبَّائِيَّان وأبو شمر الحنفي والزيْديَّة والظاهرية: إنها غير
(1)
ليس في (ص).
(2)
ليس في (ص).
صحيحة. وحكاه المازري عن أصبغ المالكي، وبه قال أيضًا الإمامُ أحمد، واختاره القاضي أبو بكر، وابن العارض المعتزلي في "النكت"، وحكاه القاضي [حسين]
(1)
وابن الصباغ وجْهًا لأصحابنا، واختاره في "المحصول".
ثُم افترقوا فِرقتين، ففِرقة قالت: لا يَسقط بها الفرض. وهو المنقول عن أحمد. وفِرقة ذهبت إلى السقوط، لكن عندها، لا بها. قال في "المحصول": (لأنَّ السلف أجمعوا على أنَّ الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلاة المؤدَّاة في [الدور]
(2)
المغصوبة، ولا طريق إلى التوفيق بينهما إلا بما ذكرناه). قال:(وهو مذهب القاضي أبي بكر)
(3)
. انتهى
لكن قال الصفي الهندي: (الصحيح أنَّ القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأمَّا إذَا لم يثبت ذلك، فلا يقول بسقوط الطلب بها ولا عندها)
(4)
. انتهى
وقد علِمتَ أنَّ الإجماع لا يَثبت مع مخالفة أحمد و [مَن]
(5)
سبق ذِكره. وممن منع الإجماعَ إمامُ الحرمين وابنُ السمعاني وغيرُهما.
وقد حكى القاضي حسين في [تعليقته]
(6)
وَجْهين لأصحابنا أيضًا في ذلك:
أحدهما: لا يصح؛ للغصب.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ز، ت): الحسين.
(2)
كذا في (ز، ض، ش). لكن في (ص، ق، ت): الدار.
(3)
المحصول (2/ 485).
(4)
نهاية الوصول (2/ 605).
(5)
ليس في (ش).
(6)
كذا في (ص)، لكن في (ز، ت): تعليقه.
والثاني: يصح؛ لأن المعصية ليست في عَيْن الصلاة، بل للمُقام في أرض الغير. انتهى
وقولي: (لَكِنْ لَا ثَوَابَ يَتَّضِحْ) أَيْ: مع القول بأنها تصح: هل فيها ثواب؟ أو لا؟
نقل النووي في "شرح المهذب" عن القاضي أبي منصور (ابن أخي ابن الصباغ) أنَّ المحفوظ مِن كلام أصحابنا بالعراق أنها تصح ولا ثواب فيها. ونقل عن شيخه ابن الصباغ في "الكامل" أنه ينبغي حصول الثواب عند مَن صححها. قال القاضي: وهو القياس.
واعْلَم أنَّ ابن الرفعة في "المطلب" قال: عندي أنَّ محل الخلاف في الفرض؛ لأن فيها مقصودَيْن: الأداء والثواب، فإذَا انتفى الثواب، صَحَّت. وقد قال الشافعي: إنَّ الرِّدة تحبط أجر الأعمال الواقعة في الإِسلام، ولا تجب إعادتها لو أَسْلم، وكذا مَن أُخِذَت منه الزكاة قهرًا، لا يُثاب، ويسقط عنه الخطاب. أمَّا صلاة النفل فالمقصود فيها واحد وهو الثواب، فإذَا لم يَحصل، لا ينعقد.
قال: (وإطلاق مَن أَطْلَقَ محمولٌ على الفَرْض). انتهى
تنبيه
تفرع مِن هذه المسألة فرعان:
أحدهما: أنَّ الخارج مِن المغصوب مثلًا بِقَصْد التوبة والإقلاع - آتٍ بواجب وإنْ كان النهي منسحبًا عليه حتى يتم خروجه؛ فلذلك قال إمام الحرمين: إنه [مُرْتَبِكٌ]
(1)
في المعصية. أَيْ: مُشْتَبِكٌ فيها. قال: لكن مع انقطاع تكليف النهي. أَيْ: لأنَّ التكليف بِتَرْك الإقامة أَمْرٌ بتحصيل الحاصل، فالمعصية فيه استصحابية. فَـ (تضعيف الغزالي ذلك بأنَّ
(1)
كذا في (ص، ز، ض، ت). لكن في (ق، ش): مرتبط.
التكليف إذا انقطع فَلِمَاذا تستند المعصية؟ واستبعاد ابن الحاجب له لأجْل ذلك) فيه نَظَرٌ؛ فإنه لم يَقُل: (انقطع النهي)، بل:(التكليف به). أَيْ: انقطع إلزامُه بالكفِّ عن الإقامة، لا استصحاب ذلك النهي، ولذلك قال في "جمع الجوامع": إنَّ ما قاله الإمامُ دقيقٌ.
قِيل: ونظيره قول الفقهاء فيمن ارتد ثُم جُن ثم أفاق وأَسْلم: إنه يجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون؛ لانسحاب حُكم الرِّدة.
قلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ القضاء لا يتوقف على الأمر بالأداء؛ بدليل الحائض في الصوم، ونحو ذلك.
واعْلَم أنَّ الشيخ أبا محمد
(1)
نقل في "الفروق" في كتاب الصوم أنَّ الشافعي نَصَّ على تأثيم مَن دخل أرضًا غاصبًا، قال: (فإذا قصد الخروج منها، لم يكن [عاصيًا]
(2)
بخروجه؛ لأنه تارِك للغَصْب). انتهى
وما نقله موجود في "الأُم" في كتاب الحج في المُحْرِم إذَا تَطَيَّب، فقال:(ولو دخل دار رجُل بغير إذْنٍ، لم يَكن جائزًا له، وكان عليه الخروج منها، ولم أَزْعُم أنَّه يُحرَّجُ بالخروج وإنْ كان يمشي ما لم يُؤْذَن له؛ لأنَّ مَشْيَه للخروج مِن الذنْب، لا لزيادة منه، فهكذا هذا الباب)
(3)
. انتهى
وهو مِن النفائس. ومن مادة هذه المسألة لو قال: (إنْ وطئتُك فأنت طالق). فيجوز له الوطء (على المرجَّح، ونَصَّ عليه في "الإملاء")، ويُؤمَر بالنزع؛ لأنَّ الطلاق يقع بالتغييب، وحال النزع لا يُوصَف بأنه في حرام.
(1)
يقصد: أبا محمد الجويني.
(2)
كذا في (ز، ق، ت، ش) وهو الصواب. لكن في (ض): غاصبا.
(3)
الأم (2/ 168).
وخالف أبو هاشم في المسألة، فزعم أنَّ فِعله متصف بكونه حرامًا كَلُبثه. قال: لأنه قبيح لِعَيْنه وإنْ كان مأمورًا به مِن حيث إنه انفصال عن المكث، لكنه أَخَلَّ بِأَصْله الآخر وهو منْع التكليف بالمُحَال، فإنه قال: لو خرج عَصى، ولو مكث عصى؛ فهو تكليف بمحال.
الثاني: ما حقق به إمام الحرمين غرضه في المسألة السابقة، وهي أنَّ الساقط على جريح إنْ بقي عليه قَتَلَه، وإنْ تحوَّل عنه قتَلَ آخَر، وهُما متكافئان. وهي مسألة ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء.
قال إمام الحرمين: (لم أقف فيها مِن قول الفقهاء على ثبتٍ، والوجه القَطْع بسقوط التكليف عنه مع استمرار حُكم سخط الله وغضبه)
(1)
.
وقد سأله الغزالي عن هذا، فقال: كيف تقول: "لا حُكم" وأنت ترى أنه لا تخلو واقعة مِن حُكم؟ ! فقال: حكم الله أنْ لا حُكم.
قال الغزالي: فقلتُ له: لا أفهم هذا.
وهذا في غاية التأدُّب مع إمامه؛ ولهذا قال في "المنخول" في مَوْضِعٍ كَقَول الإمام: (لا حُكم فيه أصلًا، فلا يؤمَر بمكث ولا انتقال)
(2)
.
ونقله عن الإمام آخِر الكتاب، ثم قال:(ولم أفهمه بَعْدُ)
(3)
.
وجَوَّز معه - في غيْر هذا الكتاب - أنْ يُقَال: يتخيَّر.
قال بعض المحققين: لعلَّ الإمام أراد أنه لا حُكم متجددًا غيْر الحكم الأصلي الذي هو البراءة، فإنَّ ذلك لا تَخْلُو منه واقعة.
(1)
البرهان في أصول الفقه (1/ 210).
(2)
المنخول (ص 129).
(3)
المنخول (ص 488).
نَعَم، رجَّح ابن المنير أنه ينتقل عن الذي سقط عليه؛ لجواز أنْ يموت المنتقل إليه قَبْل أنْ يصير إليه؛ فَيَسْلم مِن المعصية؛ فإنَّ بقاءه على الأول معصية مُحَقَّقة، وإقلاعه عنها واجب، كالخروج مِن الدار المغصوبة.
ولا يخلو ما قاله مِن نظر، وتقييد المسألة بتكافؤهما مُخْرِج لِنَحْو ما لو كان [الذي]
(1)
يسقط عليه مُسْلِمًا والمُنْتَقل إليه كافرًا لكنه معصوم بِصِغَر أو أمان، فإنَّ ابن عبد السلام قال بعد فرضها في صغيرين: الأظهر عندي لزوم الانتقال؛ لأنه أَخَفُّ مفسدة. قال: لأنَّ قتل أولاد الكفار جائز عند التترس بهم حيث لا يجوز ذلك في أطفال المسلمين، أما الكافر غير المعصوم فينتقل إليه جَزْمًا. والله أعلم.
ص:
139 -
وَ"الْوَضْعُ": جَعْلُ سَبَبٍ لِحُكْمِ
…
أَوْ شَرْطٍ، اوْ مَانِعٍ، اوْ مَا [سُمِّي]
(2)
140 -
[لِوَفْقَهِ]
(3)
الشَّرْعَ "صَحِيحًا"، وَإذَا
…
خَالَفَ "فَاسِدًا"؛ لِذَاكَ نُبِذَا
الشرح:
قد سبق أنَّ الحكم الشرعي ضربان: ما فيه اقتضاء أو تخيير، وما ليس فيه اقتضاء ولا تخيير ولكنه وَضْعِي، أَيْ: مِن الوضع الشرعي. وسبق أنه خبر، لا إنشاء، بخلاف الأول (وهو التكليفي)، فَلَما انتهى الكلام فيه شرعْتُ في بيان الوضعي.
و"الوضع" الذي يُنْسَب إليه "الحكم الوضعي" هو:
(1)
ليس في (ش).
(2)
في (ن 3، ن 4): يسمي.
(3)
في (ن 3، ن 4): لوقفه.
- جَعْلُ [الشَّارع]
(1)
شيئًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، أو شرطًا له، أو مانعًا يمنع مِن اعتباره.
- أو: جَعْلُه (إذَا كان موافِقًا للشرع بوجود سببه وشَرْطه وانتفاء المانع فيه)"صحيحًا"، ويسمى بذلك تسمية شرعية.
وإذَا خالف ذلك باختلال شيء مِن الثلاثة، يَكون "فاسِدا"، ويُسمى بذلك شرعًا.
وقد سبق في هذا الضرب أنَّ منهم مَن يرده إلى الأول، وأنه يُدْخِله - بالتأويل - فيما فيه اقتضاء أو تخيير، وهو بعيد. وأنَّ منهم مَن لا يُسميه حُكمًا؛ لأنه ليس بإنشاء، بل خبر، وهو خِلاف لَفْظِي.
وفي ذلك قول ثالث في الصحة والفساد فقط: إنهما أَمْران عقليان، لا شرعيان. وإليه جنح ابن الحاجب وقرر ذلك في "المُنْتَهَى" بأنه يَبْعُد أنْ يكون الحكم بهما شرعيًّا؛ لأنَّ كَوْن الفعل موافِقًا للشرع أو غير مُوافق - مُدْرَك بالعقل.
ولكن رُدَّ بأنَّ الشرع إذا كان له في ذلك مدخل، فكيف يَكون عقليًّا؟ !
وبعض شُراحه زعم أنَّ ذلك إنما هو في العبادات فقط، وأمَّا تَرَتُّب آثار العقود عليها فَشَرْعي قَطْعًا.
ولكنه مردود بِعَدم الفَرْق؛ لأنَّ [الترَتُّب]
(2)
فيهما معًا مُدْرَك بالعقل، وإنما حُكِم - على القول الراجح - بأنه شرعي لِكَوْن الشرع له فيه مدْخَل كما سبق قَبْل؛ ولذلك يحكم القاضي في العقود بالصحة والفساد، وهو لا يحكم إلا بأمر شرعي، لا عقلي.
قُلتُ: لكن هذا يُقَوِّي التفرقة؛ لأنَّ ذلك إنما هو في غير العبادات، إلَّا أنْ يُقال: الحكم لأجْل التنازع، وليس مثله في العبادات. أو: يَكون في العبادات إذا علق بها طلاق أو عتق أو
(1)
في (ص): الشرع.
(2)
كذا في (ض، ق، ش، ت). لكن في (ز، ص): الترتيب.
نذر.
قال الشيخ صلاح الدين العلائي: إنَّ أنواع خطاب الوضع المشهورة: السبب، والشرط، والمانع. وزاد بعضهم: الصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة. وجَرَى عليه الآمدي.
وزاد القرافي نوعين آخرين: التقديرات الشرعية والحجاج.
فالأول:
- إعطاء الموجود حُكم المعدوم، كالماء الذي يخاف المريض مِن استعماله فواتَ عُضْوٍ ونَحْوه، فيتيمم مع وجوده حسًّا.
- وإعطاء المعدوم حُكم الموجود كالمقتول تورث عنه الدية، وإنما تجب بموته ولا تورث عنه إلا إذا دَخَلتْ في مِلْكه، فَيُقَدَّر دخولها قبيل موته.
والثاني (وهو الحجاج): ما يستند إليه القضاة في الأحكام مِن بَيِّنَة وإقرار ونحو ذلك مِن الحُجَج.
قال: (وهي في الحقيقة راجعة إلى السبب، فليست أقسامًا أخرى). انتهى بمعناه.
وقولي: (جَعْل) إشارة إلى أنَّ الحكم الوضعي هو كَوْن الشيء مجعولًا سببًا، أو شرطًا، [إلى آخِره]
(1)
، لا ذات السبب ولا ذات المُسَبَّب؛ فإنَّ الأول ليس حُكمًا قَطْعًا، والثاني حُكم قَطْعًا، وكذا تقرير الباقي.
وقولي: (اوْ مَا سُمِّي) عَطْف على ما أُضيف إليه "جَعْل"، أَيْ:[أو]
(2)
جَعْلُ المُسَمَّى
(1)
ليس في (ص).
(2)
ليس في (ض، ت).
صحيحًا؛ لموافقة ذلك للشرع.
والتقدير في الكُل: جَعْلُ سببِ الشيء سببًا، وشَرْطِه شرطًا، ومانعِه مانعًا، وجَعْلُ الصحيحِ صحيحًا، والفاسدِ فاسدًا. فمفعول "جَعْل" الثاني محذوف في الكل؛ لِلعِلم به، والله أعلم.
ص:
141 -
فَالسَّبَبُ الَّذِي يُضَافُ الْحُكْمُ لَهْ
…
في عَدَمٍ أَوْ في وُجُودٍ حَصَّلَهْ
142 -
مِثْلُ الزَّوَالِ وَالطَّلَاقِ، فَادْرِي
…
وَالشَّرْطُ إنْ يُرَدْ بِهِ مَا يَجْرِي
الشرح: هذا شروع في تعريف أقسام الحكم الوضعي الخمسة، وبيان معانيها.
الأول: السببُ:
وهو لُغَةً: ما يُتَوَصَّل به إلى الشيء، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] الآية.
وفي الاصطلاح: قد اشتهر في كثير مِن كُتب الأصول وغيرها أنه: ما يَلْزَم مِن وجودِه وجودُ شيء، ومن عدمِه عدمُه لذاته.
والتقييد بِكَوْن ذلك "لذاته" للاستظهار على:
- ما لو تخلَّف وجود المُسَبَّب مع وجدان السبب؛ لِفَقْد شرط أو لمانع، كالنِّصَاب قَبْل الحَول، ومَن فيه سبب الإرث ولكنه قاتِل أو رقيق أو نحوهما.
- وعلى ما لو وُجِد المُسَبَّب مع فقدان السبب، لكن لوجود سبب آخر، كالرِّدَّة المقتضية للقتل - إذَا فُقِدَت ووُجِد قَتْل يُوجِب القصاص، أو زِنا مُحصن.
فتخَلُّف هذا الترتيب عن السبب لا لذاته، بل لمعنى خارج.
نَعَم، كَوْنه يَلْزم مِن وجودِه الوجودُ وعَدَمِه العدمُ - حُكْمٌ له، وحُكم الشيء موقوفٌ على تَصَوُّره، فلو تَوقَّف عليه تَصَوُّره، لَزِمَ الدَّوْرُ.
وأيضًا فيوهم التعبير بِـ "اللزوم" أنَّ السبب مؤثِّر في وجود المُسَبَّب، وليس مذهب أهل السُّنة كما سيأتي.
وحينئذ فالأحسن ما في النَّظْم - تَبَعًا لبعض المحققين - أنَّ "السبب": ما يضاف إليه الحكم، أَيْ: ما يُنْسَب إليه وجودُ الحكم إذا وُجِد، وعدمُه إذا عُدِم، أَيْ: لذاته كما سبق.
وقد أخَّرْت هذا القيد في النَّظْم وجعلته قيدًا في تعريف الثلاثة (السبب والشرط والمانع)؛ اختصارًا.
ومعنى إضافة الحكم إلى السبب في ذلك:
- إمَّا لِكَوْنه متعلقًا به مِن حيث كَوْنه مُعَرِّفًا له وأمارة عليه كما يقوله أهل السُّنة؛ لأنَّ الدليل السمعي دَلَّ على ذلك.
- وإمَّا لأنَّ السبب مؤثِّر في وجود المسبَّب - عَلَى رَأْي المعتزلة. فقيل: بذاته. وقِيل: باشتماله على صفة توجِب ذلك. وقيل: بوجوه واعتبارات مُقْتَضِية لذلك، كالوطء؛ فإنه باعتبار جهة النكاح أو المِلْك حَسَنٌ يترتب عليه ما يترتب، وباعتبار جهة الزنا قبيحٌ يترتب عليه ما يترتب.
وهذه الآراء الثلاثة باطلة. لأنَّ الله تعالى هو مُوجِد [العالَم]
(1)
بإرادته، فهو المؤثِّر فيه، فلو نُسِبَ وجودُ شيء منه لتأثير سبب، لَزِمَ التشريك معه في مُوجديَّة العالم، وهو مُحَال. وأيضًا فلو كان السبب هنا مؤثِّرًا في الحكم (وهو قديم)، لَزِمَ تأثير الحادث في القديم، وهو مُحَال.
(1)
في (ص): افعاله.
لكن في الرد عليهم بهذا الأخير نَظَر؛ لأنهم لا يعتقدون قِدَم الحكم، ولا يُرَد على الخصم ويُلْزَم إلا بما يعتقده. وأيضًا فقدْ يقال: التأثير في تعلُّق الحكم، لا في ذات الحكم، والتعلق حادث كما سبق بيانُه والخلاف فيه.
وتَوسَّط الغزالي بِقَول ثالث: وهو أنَّ السبب مؤثِّر لا بذاته، بل بِجَعْل الباري إياه مؤثِّرًا.
وقد رَدَّه الإمام الرازي بأنَّ الصادِر بَعْد الجَعْل إنْ كان الحكمَ فالمؤثِّر الشارع، أو شيئًا ما يوجب الحكمَ فيكون المؤثِّر في الحكمِ وصفًا حقيقيًّا بذاته، وهذا عَيْن قول المعتزلة.
وزيَّف هذا سراج الدين الأرْمَوي بما لا يُجدِي له شيئًا، وسيأتي إيضاح ذلك في العلة في القياس إنْ شاء الله تعالى.
وقِيل: مؤثِّر فيه عُرْفًا، فإنْ أريد الدلالة مِن حيث العُرف، رجع للقول الحق. وإنْ أُريدَ تأثير الإيجاد، فباطل، ولا معنى لذكر العُرف فيه.
واعْلَم أنَّ السبب يُعْتَبَر فيه أنْ يَكون وصفًا وجوديًّا ظاهرًا منضبطًا؛ ليخرج ما كان عدميًّا أو خَفِيًّا أو مضطربًا لا ينضبط. وإنما لم أذكره في النَّظْم هنا استغناءً بِذِكره في القياس في أوصاف العلة؛ لأنَّ العلة مِن الأسباب، وبَسْط ذلك فيها، وبيانه أَلْيَق؛ لمسيس الحاجة إلى تحقيق ما يلحق به الفرع قياسًا، فالسبب أَعَمُّ مِن العِلة؛ لأنها يعتبر فيها المناسبة أو شبههَا؛ ولذلك قَسَّم الآمدي السبب إلى:
- معنوي: وهو ما اشتمل على حِكمة باعثة على شرع الحكم، كالزنا لوجوب الحد، والطلاق لتحريم الزوجة ونحو ذلك.
- وغَيْره: وهو بخلافه. أيْ:
إمَّا لِكَوْنه زمانًا مجرَّدًا، كَـ "الدلوك" لصلاة الظهر (إنْ قُلنا: إنه الزوال) وللمغرب (إنْ
قُلنا: الغروب، وهو ضعيف)، ووقع للآمدي أنه الطلوع، فيكون سببًا للضحى أو للعيد (أَيْ لِطَلَبها نَدْبًا)، وكاستهلال رمضان لوجوب الصوم.
أو زمانًا ووصفًا معنويًّا؛ فيكون مركَّبًا، كصلاة العصر في كراهة التنفل بعدها إذا صُلِّيت في وقتها.
وإمَّا لِكَونه مكانًا مع فِعْلٍ، كالمرور بالميقات مع إرادة النسُك، فإنه سبب لوجوب الإحرام.
وإما بأنْ يكون وصفًا غير مناسب، كالأعضاء الأربعة في الوضوء - سببًا لرفع الحدث، ونحوه.
وحينئذ فتقسيم ابن الحاجب السببية إلى وقتيَّة ومعنويَّة مدخول، ولا يَرِد مِثْله على تمثيلي في النَّظم الوقتي والمعنوي فقط؛ لأنَّ المثال لا يُخَصِّص، وسيأتي في باب القياس لذلك مزيد بيان.
وقولي في تفسير كَوْنه يضاف الحكم له: (في عَدَمٍ أو في وجودٍ حَصَّلَه) المرادُ تحصيلُه عِلْمًا (كقول أهل السُّنة)، أو: إيجادًا (كقول المعتزلة). فالمسبَّب موجود - على الأول - عند السبب، لا به، وينبغي أنْ يُحْمَل النَّظْم عليه؛ لأنها على الراجح مِن الخلاف.
نَعَم، هل يوجد معه؟ أو بَعْده؟ [فيه تفصيل]
(1)
، فَمِن المسبَّب: ما يُوجَد معه قَطْعًا، وما يوجَد معه (على المُرَجَّح)، وما يوجد قَبْله.
فالأول: كحيازة المباح مِن المال بالاستيلاء عليه بِصَيْدٍ وإحياء موات وغنيمة، ونحو ذلك.
(1)
كذا في (ش)، لكن في (ص، ز، ت): يفصل فيه.
والثاني: كوقوع العتق أو الطلاق المعَلَّق على شرط - على الأصح في المذهب كما قاله الرافعي وغيرُه، وهو اختيار الأشعري والمحققين كالإمام والغزالي وابن عبد السلام وغيرهم. واختار الشيخ أبو حامد وأتباعه الوقوعَ عقبه مِن غير تخلُّل زمانٍ.
والثالث: [كَمِلْك]
(1)
القتيل دِيَة نفسه حتى تورث عنه مع كَوْن السبب مَوْته وهو متأخِّر؛ لِأَمْرِه صلى الله عليه وسلم الضحاك بن قيس بأنْ يُورث امرأة أَشْيَم الضِّبابي مِن دِيَة زوجها
(2)
.
ومما يَقْرُب مِن ذلك في كَوْن المسَبَّب سابقًا على سببه: ركْعتا الإحرام، سبَبُها الإحرام وهو متأخِّر عنها، ولهذا لا تُصَلَّى في أوقات الكراهة؛ لأنها حينئذ لا سبب لها؛ لتأخره.
نَعَم، استشكل بأنَّ السبب إنما هو إرادة الإحرام، وهي متقدِّمة؛ ولذلك قال النووي في "شرح المهذب": إنَّ عدم الكراهة قَوِي.
والله أعلم.
وقولي: (وَالشَّرْطُ إنْ يُرَدْ بِهِ مَا يَجْرِي) تمامُه قولي بَعْده:
ص:
143 -
هُنَا، فَإنَّهُ الَّذِي يُوَقَّفُ
…
عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الَّذِي يُعَرَّفُ
144 -
بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهَذَا يُعْدَمُ
…
مَشْرُوطُهُ، أَيْ حَيْثُمَا يَنْعَدِمُ
الشرح: أيْ: وأمَّا الثاني مِن أقسام الحكم الوضعي - وهو الشرط - فتعريفه ما ذُكِر.
وقولي: (هُنا) للاحتراز عن الشرط المذكور في غير هذا المكان. وذلك أنَّ الشرط في
(1)
كذا في (ز، ص، ق، ت). لكن في (ش): كتملك. وفي (ض): تملك.
(2)
سنن أبي داود (رقم: 2927)، سنن الترمذي (1415، 2110). قال الألباني: صحيح. (صحيح سُنن الترمذي: 1415). وانظر كلامه في (إرواء الغليل: 2649).
اللغة مُخفَّفٌ مِن "الشَّرَط" بفتح الراء وهو العلامة، وجمعُه "أشراط". وجَمع "الشرْط" بالسكون "شروط". ويُقال له:"شريطة"، وجمعُه "شرائِط".
وأمَّا في العُرْف فَلَه ثلاثة إطلاقات:
الأول: ما يُذكر في الأصول هنا مُقابِلًا للسبب والمانع. وفي نحو قول المتكلمين: (شرط العِلم الحياة)، وقول الفقهاء:(شرط الصلاة الطهارة، شرط البيع كذا). وهذا هو الذي يذكر هنا تعريفه.
والثاني: الشرط اللغوي، والمراد به صِيَغ التعليق بـ "إنْ" ونحوها، وهو ما يُذكر في الأصول في المخَصِّصات للعموم، نحو:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، ومنه قولهم في الفقه:(العتق المعلَّق بِشَرط)، والطلاق كذلك، نحو:(إنْ دَخَلْت، فأنت حر)، أو:(فأنتِ طالق)، وقولهم:(لا يجوز تعليق البيع على شرط)، ونحو ذلك.
وهذا - كما قال القرافي وغيرُه - يرجع إلى كَوْنه سببًا يُوضَع للمُعَلَّق حتى يَلْزَم مِن وجوده الوجودُ ومِن عدمِه العَدَمُ - لذاته.
ووَهمَ مَن فسره هناك بتفسير "الشرط" المقابِل للسبب والمانع كما وقع لكثير مِن الأصوليين، وسيأتي بيانه هناك.
والثالث: جَعْل شيء قَيْدًا في شيء، كَشراء الدابة بِشَرْط كَوْنها حاملًا، وبيع العبد بشرط العتق، وهو المراد بحديث:"نهى عن بيع وشرط"
(1)
، و:"ما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ! "
(2)
، ونحو ذلك.
(1)
المعجم الأوسط للطبراني (4/ 335، رقم: 4361)، معرفة علوم الحديث (ص 128). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (السلسلة الضعيفة: 491).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 444)، صحيح مسلم (رقم: 1504).
وهذا الثالث يحتمل أنْ يُعَاد إلى الأول؛ بسبب مُواضَعَة المتعاقدين كأنهما قالَا: (جعلناه مُعْتَبَرًا في عَقْدنا، يُعْدَم بِعَدَمه). فإنْ ألغاه الشرع، لَغَا العقد. وإنِ اعْتبر، لا يلغى العقد، بل يثبت الخيار إنْ أخْلف كما فُصِّل في الفقه.
ويحتمل أنْ يُعَاد إلى الثاني، كأنهما قالا:(إنْ كان كذا فالعَقْد صحيح، وإنْ لَا فَلَا). وقد بسطت ذلك في "شرح العمدة" في باب "شروط البيع"، فَراجِعْه؛ فإنه نفيس.
إذَا تَقَرَّر ذلك، فالمقصود هو القِسم الأول، وقد اشتهر أيضًا تعريفه بأنه:"ما يَلْزَم مِن عَدَمِه العَدَمُ، ولا يَلْزَم مِن وجوده وجودٌ ولا عَدَمٌ - لِذَاته". وشرحُه يُعْلَم مما سبق في السبب.
والاحتراز هنا بكونه "لِذَاته":
- عن مقارنته للسبب، فَيَلْزَم الوجودُ بوجوده، لكن عنده، لا به.
- أو مقارنته لِمانع؛ فيقارِن العَدَمَ، لكن لِأَمْرٍ خارج، لا لذاته.
ولكن لَمَّا كان هذا حُكم الشرط (فلا ينبغي أنْ يُعَرَّف به؛ لِلدَّوْر كما سبق تقريره في السبب)، عَرَّفْتُه بأنه: الذي يتوقف عليه تعريف السبب الذي هو مُعَرِّف للحُكم (على قول أهل السُّنة)، لا مُؤَثِّر (كما تقول المعتزلة وغيرُهم كما سبق). ومَن قال بالتأثير يُعَبِّر بِـ "ما يتوقف عليه تأثير المؤثِّر". وهو ما عَبَّر به الإمام في "المحصول" وأتباعُه (كالبيضاوي) في المخَصِّصات المتصلة.
فقولي: (يُوَقَّف) مَبنيٌّ للمفعول مشدد القاف، والمراد أنَّ حصول المسبَّب عند وجود السبب متوقِّفٌ على حصول الشرط. فإنْ وُجِد، حصل المسبَّب، وإلا فلا، كما يقال في غروب الشمس: إنه سببٌ لوجوب صدقة الفطر بِشَرْط الإسلام، فلا يوجَد الوجوبُ حتى يوجَد الإسلامُ ولو كان السبب (وهو الغروب) موجودًا.
وقولي: (وهذا يُعْدَم) إلى آخِره - هو تقرير للتوقُّف، أَيْ: إنَّ معنى تَوَقُّف إعمال السبب في مُسَبَّبه أنه إذا عُدِمَ الشرطُ، يُعْدَم المشروط. بخلاف العكس، أَيْ لا يَلْزَم مِن وجودِه وجودُ المشروط؛ لأنَّ وجوده إنما هو مرتبط بوجود السبب، فإذَا وُجِد فإنما هو لوجود سَبَبِه، لا لوجود الشرط، كالطهارة في الصلاة: إنْ عُدِمَتْ حيث تُعْتَبَر، عُدِمَت الصلاةُ، ولا يَلْزَم مِن وجودها وجودُ الصلاة ولا عَدَمُها.
واعْلَم أنَّ هذا الشرط على ضربين، أحدهما: ما يُسمى "شَرْط السَّبَب"، والثاني:"شَرْط الحُكم".
فالأول: ما يَكون عدمُه مُخِلَّا بِحِكْمة السبب، كالقُدرة على التسليم؛ فإنها شرط البيع الصحيح الذي هو سبب ثبوت المِلْك المشتمل على مصلحة، وهي حاجة الانتفاع بالمبيع، وهي متوَقِّفة على القُدرة على التسليم، فكان عدمُه مُخِلًّا بحكمة المصلحة التي شُرع لها البيع.
والثاني: ما اشتمل عَدَمُه على [حُكم]
(1)
يقتضي نَقِيضَ حِكمة السبب، مع بقاء حِكمة السبب. كالطهارة في باب الصلاة، فإنَّ عدم الطهارة حال القُدرة عليها مع الإتيان بالصلاة يقتضي نقيضَ حِكمة الصلاة وهو العقاب؛ فإنه نقيض وصول الثواب.
تنبيه:
للسبب والشرط إطلاق آخَر في الفقه في باب الجنايات اصطلحوا عليه غير ما سبق، حيث قَسَّمُوا ما لَهُ مَدْخَل في الجناية إلى: مباشَرة، وسبب، وشرط. مُفَرِّقِين بِأنَّ ما أَثَّر في التلف وحَصَّله:"المباشَرةُ"، وما أثَّر ولَمْ يُحَصِّل:"السببُ"، وما لا ولَا:"الشرطُ"، مع كَوْن الكل فى الحقيقة أسبابًا، ومناسبة التسمية بذلك توضح رجوع الكل لذلك، ومحل
(1)
كذا في (ص، ض، ت، ق). لكن في (ز، ش): حكمة.
إيضاحه الفقه، والله أعلم.
ص:
145 -
كَالطُّهْرِ لِلصَّلَاةِ، أَمَّا المانِعُ
…
فَمَا بِتَعْرِيفِ النَّقِيضِ دَافِعُ
146 -
لِلْحُكْمِ، فَهْوَ مُنْتَفٍ إنْ وُجِدَا
…
مَعْ كَوْنِ مُقْتَضٍ لَهُ مَا فُقِدَا
147 -
مِثْلُ أَصَالَةٍ لِمَنْ تَعَمَّدَا
…
مَا يَقْتَضي الْقَصَاصَ لَوْ تَجَرَّدَا
الشرح: هذا المثال راجع إلى الشرط المشروح فيما قَبْله، وسبق بيانه. وما بعده تعريف للقِسم الثالث مِن خطاب الوضع وهو "المانع"، وأصله اسم فاعل مِن المنع.
ومعناه اصطلاحًا على المختار: وَصْفٌ دافِعٌ لِلحُكم مع وجود [مقتضيه]
(1)
؛ لاشتماله على التعريف بنقيضه. فَدَفْعُه للحكم بهذا المعنى، لا بمعنى التأثير كما قررنا مِثله في "السبب" و"الشرط". ولا بُدَّ أنْ يَكون وجوديًّا ظاهِرًا منضبطًا؛ ليخرج العدمي والخفي والمتفاوت المضطرب. وإنما لم أُقيِّده في النَّظم بذلك استغناءً بما سيأتي في باب القياس في مانع العلة؛ لأنَّ بَسْطه هناك أَلْيَق، كما في السبب على ما سبق تقريره.
فـ "الباء" في قولي: (بتعريف) للسببية، متعلقة بِـ "دافِع".
وقولي: (فهو مُنْتَفٍ) أَيْ: [فيرتَّب]
(2)
على كَوْنه دافعًا له أنه ينتفي بوجوده؛ لأنه حُكمه، وفيه إيماء إلى أنَّ تعريفه بأنه "ما يَلْزَم مِن وجودِه العَدَمُ، و [مِن]
(3)
عَدَمِه الوجودُ" مَدْخُول - على ما سبق بيانه.
(1)
في (ص، ق): يقتضيه.
(2)
كذا في (ز، ت). لكن في (ش): فترتب. وفي (ق): يترتب.
(3)
مِن (ت).
وعلى كل حال فالمراد بانتفائه عند وجود المانع كَوْنه لِذَاته؛ فيخرج بذلك مقارَنة
(1)
المانِع لوجود سبب آخَر، فإنَّ الحكم لم يَنْتَف مع وجود المانع، كالأب القاتل - في المثال الآتي - إذَا ارْتَدَّ زَمَن قَتْلِه وَلَده، فإنه يُقْتَل بِالرِّدَّة وإنْ لم يُقْتَل قصاصًا؛ لأنَّ المانع إنما هو لِأَحَد السببين
(2)
.
وقولي: (مَع كَوْنِ مُقْتَضٍ لَهُ مَا فُقِدَا) أَيْ: مع كَوْن المُقْتَضِي للحُكم - وهو سَبَبُه وتَوَفُّر شروطه - موجودٌ لم يُفْقَد.
مِثالُه: إذَا قَتَل الأصلُ الفَرْعَ أو جَنَى عليه دُون النفْس عَمْدًا مُوجِبًا للقصاص لو كان أجنبيًّا، فإنَّ الحكم (وهو القصاص) مُنْتَفٍ مع وجود مُقْتَضِيه (وهو الجناية المذكورة)، لكن لمانع الأصالة؛ لأنَّ الأصالة وَصْفٌ وجوديٌّ ظاهرٌ منضبطٌ مشتمل على حِكمة تُنافي الحُكم وهو القصاص، والحكمة هي كَوْن الأصل سببًا في وجود الفرع، فلا ينبغي أنْ يَكون الفرعُ سببًا في إعدامه، وهذا نوع مِن المانع؛ لأنَّ المانع نوعان: مانع الحكم، ومانع السبب.
فالأول: ما يَدْفَع الحكمَ [باشتماله]
(3)
على حِكمة تُناقِض الحُكم كما قررناه في المثال، وكثيرًا ما يُعبَّر فيه بالأُبوَّة، والمقصود بها الأصالة؛ ليدخل كل أصلٍ ذكرٍ أو أنثى بواسطة وغيرها، فهو أوْضح في العموم مِن الأُبوة.
والثاني: ما كان وجوده يُخِلُّ بحكمة السبب، كالدَّيْن في الزكاة مانع مع مِلْك النصاب عند مَن يقول بأنه يمنع الزكاة. ووَجْه ذلك أنَّ حِكمة وجوب الزكاة في النصاب (الذي هو السبب) كثرتُه كثرة تحتمل المواساة منه شكرًا على نعمة ذلك، لكن لَمَّا كان المَدِينُ مطالَبًا
(1)
يعني: مقارنة الحكم للمانع، أي: وجودهما مقترنين.
(2)
أَيْ: مانِع لِأَحَد سَبَبَيْ قَتْل الأب، فهو ليس مانعًا للسببين مَعًا.
(3)
في (ص): لاشتماله.
بِصَرْف الذي يملِكُه في الدَّيْن، صُيِّر كالعَدَم.
والنوعان داخلان في قولنا: (التعريف بالنقيض)، أَيْ إمَّا لكونه مشتملًا على حِكمة تُنافي الحكم، أو لكون وجوده منافِيًا للحِكمة التي اشتمل عليها سبب الحكم.
وسُمِّي الأولُ "مانعِ الحكم"؛ لأَّن سبَبه - مع بقاء حِكمته - لم يُؤثِّر، والثاني "مانع السبب"؛ لأنَّ حِكمته فُقِدَت مع وجود صورته فقط، والله أعلم.
ص:
148 -
وَكُلَّ مَا قِيلَ مِنَ اللُّزُومِ في
…
مَاضٍ فَذَا لِلذَّاتِ في [التَّوَقُّفِ]
(1)
الشرح: أَيْ إنَّ كل [ما]
(2)
في تعريف السبب والشرط والمانع مِن لزوم الوجود أو العدم فَكُله مَقيَّد بالذَّات، أي بِكَوْن ذلك لِذَات ذلك الوصف وإنْ تخلَّف لأمرٍ خارجي كما سبق تقريره فيها.
تنبيهات
أحدها: قد يلتبس السبب بالشرط مِن حيث إنَّ الحكم يتوقف وجوده على وجودهما وينتفي بانتفائهما، وإنْ كان السبب يَلْزَم مِن وجودِه وجودُه، بخلاف الشرط، فإذَا شك في وَصْف أَهُو سبب؟ أَمْ شرط؟ نَظَر: إنْ كانت كلها مناسِبة للحكم فالكل سبب، أو كُل منها مناسِب فَكُل واحد سبب. فالأول كالقتل العمد المحض العدوان، والثاني كأسباب الحدث.
وإنْ ناسب البعض في ذاته والبعض في غيره، فالأول سبب والثاني شرط، كالنصاب
(1)
كذا في (ص، ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ق، ت، ش): التولُّف.
(2)
في (ش): ما قيل.
والحول، فالنصاب مشتمِل على الغِنَى ونِعْمة الملْك في نفسه، فهو السبب، والحول مُكَمل لنعمة الملْك بالتمكن مِن التنمية في مُدَّته، فهو شرط.
قُلتُ: كذا فَرَّق القرافي، ولكن هذا لا يَكون إلا في السبب المعنوي الذي يكون عِلة، لا في السبب الزماني ونحوه.
فالصواب أنْ يُقال: إنْ كان الوصف هو المتوقِّف عليه الشيء في تعريفه أو تأثيره - على الخلاف - فالسبب، وإلَّا فالشرط كما فُهِم مِن حَدِّهما فيما سبق.
الثاني: الشرط وعدم المانع كلاهما يُعْتبَر في تَرَتُّب الحكم، فقد يلتبسان حتى إنَّ بعض الفقهاء جعله إياه، كما عَدَّ الفوراني والغزالي مِن أصحابنا مِن شروط الصلاة تَرْك المناهِي مِن الأفعال والكلام والأكل ونحوه، وتبعهما الرافعي في [شَرْحَي]
(1)
"الوجيز" وفي "المحرر"، والنوويُّ في "الروضة"، لكن في "شرح المهذب" الصواب أنها ليست شروطًا، وإنْ سميت بذلك فَمَجَاز، وإنما هي مُبْطِلات.
وقال في "التحقيق": (غَلَّطوا مَن يعدُّها شروطًا). انتهى
والفَرْق بينهما - على تقدير التغاير - أنَّ الشرط لا بُدَّ أنْ يَكون وصفًا وجودِيًّا، وأمَّا عدم المانع فَعَدَمِي. ويظهر أثَر ذلك في أنَ عدم المانع [يُكْتَفَى فيه بالأصل]
(2)
، والشرط لا بُدَّ مِن تَحَقُّقه. فإذا شك في شيء، يرْجع لهذا الأصل، ولذلك عُدَّت الطهارة شَرْطًا؛ لأنَّ الشك فيها مع تَيَقُّن ضِدِّها المستصحب يمنَعُ انعقاد الصلاة.
قالوا: ويلزم مَن ادَّعَى اتحادهما اجتماع النقيضين فيما لو شككنا في طريان المانع، لأنَّا حينئذ نَشُك في عدمه، والفَرْضُ أنَّ عَدَمَه شَرْطٌ.
(1)
كذا في (ز، ص، ش). لكن في (ض، ق، ت): شرح.
(2)
في (ص) كأنها: (ينتفي فيه الأصل)، أو:(يتبقى فيه الأصل).
فَمِنْ حيث إنه شَرْطٌ: لا يوجد المشروط.
ومِنْ حيث إنَّ الشك في طريان المانع لا أثَر له: فيوجد المشروط.
وهو تناقض.
الثالث: سَبَبُ السببِ ينزل مَنْزلة السبب؛ لأنَّ ما تَوقَّفَ عليه المتوقَّفُ عليه - مُتَوَقَّفٌ عليه، كالإعتاق في الكفارة سبب للسقوط عن الذمة، والإعتاق يتوقف على اللفظ المُحَصِّل له.
وللسبب والشرط والمانع تقسيمات أخرى [باعتبارات]
(1)
لا يسع هذا المختصر ذِكْرها، والله أعلم.
ص:
149 -
وَالرَّسْمُ في "الصِّحَّةِ": أنْ [يُوَافِقَا]
(2)
…
لِلشَّرْعِ ذُو وَجْهَيْنِ فِيمَا وَافَقَا
150 -
عِبَادَةً تَكُونُ أَوْ مُعَامَلَةْ
…
فَتَعْقُبُ الْآثَارُ فِيهِ نَازِلَةْ
151 -
فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ يَنْشَأُ
…
إسْقَاطُهَا تَعَبُّدًا؛ فَتُجْزِئُ
152 -
وَضِدُّهَا "الْفَسَادُ" لَا يُرَتَّبُ
…
عَلَيْهِ مِنْ آثَارِهَا مَا يَعْقُبُ
153 -
إلَّا لِأَمْرٍ خَارِجٍ، كَالْخُلْعِ
…
تَبِينُ في فَاسِدِهِ في الشَّرْعِ
154 -
وَهَكَذَا الْفَاسِدُ من كِتَابَةِ
…
يُعْتَقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ الثَّابِتِ
الشرح: هذان الرابع والخامس مِن أقسام الحكم الوضعي، وهُما الصحة والفساد.
(1)
ليس في (ش).
(2)
كذا في (ق، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ت): توافقا.
فَرَسْمُ "الصحة": موافقة ذي الوجهين الشرع، سواء كان ذلك الموافِق عبادةً أو معاملة.
فما ليس له وجهان - لا يُوصَف بِصِحة ولا فساد، كالمعرفة بالله تعالى، وكَرَدِّ الوديعة، فإنه إمَّا أنْ يَعْرف الله عز وجل أو لا يَعْرفه، وإمَّا أن يَرُد الوديعة أو لا يردها، بخلاف نحو الصلاة والصوم والبيع والإجارة؛ فإنَّ صُورته تقع على وجهين:
- ما اجتمع فيه الشروط وانتفت عنه الموانع؛ فيكُون صحيحًا.
- وما اختل فيه شيء مِن ذلك؛ فيكُون فاسدًا.
وإنما قلتُ: إنَّ صُورته كذلك؛ لأنَّ الإطلاق الشرعي على المختل بِرُكْن أو شرْط [مَنْفِيٌّ]
(1)
بالحقيقة؛ لأنَّ المركَّب ينتفي بانتفاء جُزئه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيء صلاته: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ"
(2)
، وهو أحسنُ ما حُمِل عليه نحو:"الأعمال بالنية"
(3)
، و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
(4)
، أَيْ: لا عمل شرعيًّا، ولا صلاة شرعية، فَنفْيُه نَفْي حقيقي حيث كان خاليًا مما ذُكِر حتى لا يحتاج لتقدير محذوف.
نَعَم، حكى الأصفهاني
(5)
في "شرح المحصول" في تناول الحقيقة الشرعية الفاسد مِن صلاة وبيع ونكاح ونحو ذلك - ثلاثة مذاهب، ثالثها: يشمل ما كان مِن أسماء الأفعال والأعيان مِن غسل ووطء، ولا يشمل ما كان مِن أسماء الأحكام كتسمية الغسل طهارة. انتهى
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ز): منتفي.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 724)، صحيح مسلم (رقم: 397).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 6311)، صحيح مسلم (رقم: 1907).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 723)، صحيح مسلم (رقم: 394).
(5)
الكاشف عن المحصول (2/ 219 - 220).
وقد حَكَى أصحابنا قولين في العقود، أصحهما: اختصاصه بالصحيح؛ ولهذا لو حلف لا يبيع، لا يحنث بالفاسد (على الأصح).
ووقع في الرافعي في "الأَيْمان" أنه سيأتي خِلاف في العبادة: هل تُحْمل على الصحيح كما لو حلف لا يصلي أو لا يصوم؟
واستُنكر ذلك عليه [بأنه]
(1)
لا خِلاف عندنا في [اختصاصها]
(2)
بالصحيح، وأنَّ الخلاف في العقود.
نَعَم، قالوا: لو حَلَفَ لا يحج، يحنث بالفاسد؛ لأنه مما يُفَرَّق فيه بين الفاسد والباطل كما سيأتي ذِكره.
وقولي: (فَتَعْقُبُ الآثَارُ فِيهِ نَازِلَهْ) أيْ: إنَّ "الصحيح"(وهو الموافق بأحدِ وجهيه للشرع، عبادة كانت أو غيرها) تَعْقُبُ الآثارُ فيه صحتَه، لا أنَّ تَعقبَ الآثار نفْس الصحة كما قال البيضاوي:(إنَّ الصحةَ استتباعُ الغاية). يريد تَرتُّب الآثار، بل بصحة العبادة يَترتب أثرُها، وهو سقوط التعبد أو سقوط القضاء (على الخلاف الآتي)، وبصحة العقد يترتب أثره من مِلْكٍ وجواز تَصَرُّفٍ وغير ذلك.
وقولي: (فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ يَنْشَأُ) إشارة إلى مسألتين:
إحداهما:
أنَّ أثَر العبادة إذَا صَحَّت، تَرَتَّب عليها سقوطُ التعبد. وهذا هو الصحيح، ويُنْقَل عن المتكلمين.
(1)
كذا في (ص، ز، ت، ض). لكن في (ق، ش): فإنه.
(2)
كذا في (ض، ق، ت، ش). لكن في (ز، ص): اختصاصهما.
والثاني: سقوط القضاء، ويُنْقَل عن الفقهاء.
وَرُدَّ بأنَّ وجوب القضاء إنما يتحقق بَعْد خروج الوقت، لا سِيَّمَا إذَا قُلنا بِأَمرٍ جديد، لا بالأمر الأول. وإذَا لَمْ يجب، فكيف يسقط؟ !
ثُم إنَّ هذَا قاصِر على مُؤَقَّت يَدْخله القضاءُ، والبحث في صحة العبادة مُطْلَقًا.
وبُنِيَ على الخلاف صلاةُ مَن ظن أنه مُتَطهر ثُم بَانَ حَدَثُه، فإنها صحيحة عند المتكلمين دُون الفقهاء. كأنَّ المتكلمين نظَروا لِظن المكلَّف، والفقهاء لِمَا في نفْس الأمر
(1)
، ولكن اللائق بقواعد الفريقين العكس.
وقال ابن دقيق العيد: (هذا البناء فيه نظر؛ لأنَّ مَن قال: "مُوافقة الأمر" إنْ أراد الأمر الأصلي، فَلَم يَسقط، أو الأمر بالعمل بالظن، فَقَدْ تبَيَّن فساد الظن؛ فَيَلْزَم أنْ لا يَكون صحيحًا مِن حيث عدم موافقة الأمر الأصلي، ولا الأمر بالعمل بالظن).
وما قاله ظاهر.
وأيضًا فالنقل عن الفقهاء فيه نظر، فقد صَرَّح أصحابنا في صلاة الجماعة بأنَّ الصلاة الصحيحة إما مُغْنِية عن القضاء أَوْ لا. وحكوا وَجْهَين في وصف صلاة فاقِد الطهورين بالصحة، أصحُّهما نَعَم، مع أنه يجب القضاء على الجديد. قالوا: ويجري الخلافُ في كل صلاة يجب قضاؤها.
وفائدة الخلاف في الأيمان وفي جواز الخروج منها.
وأيضًا كيف يُؤمَر بعبادة وهي فاسدة؟
فإمَّا أنْ يُقال: "صحيحة" أو "شبيهة"، كالإمساك في رمضان.
(1)
يعني: والفقهاء نَظَروا لِمَا في نفْس الأمر.
نَعَم، زعم الغزالي في "المستصفى" ثُم القرافي أنَّ الخلافَ المذكور في الغاية للصحة لَفْظِيٌّ؛ لاتفاق الفريقين على أنه إنْ لم يتبين الحدَث فَقَدْ أدَّى ما عليه ويُثاب، وإنْ لَا فيجب القضاء.
لكن دعوى الاتفاق في الحالة الثانية على القضاء مردودة؛ فقدْ حكى ابنُ الحاجب في "مختصره" في مسألة الإجزاء أنه لا قضاء، وكأنَّ المراد أنَّ المتكلمين إنما لم يُوجبُوا القضاء على تقدير استمرار الحال لو لم يَرِد نَصٌّ بِلزوم القضاء، لكنه وَرَدَ بأمر جديد كما حكاه في "المستصفى" عنهم.
وعندنا قَوْل مِثله - فيمَا إذَا صَلَّى بِنَجس لم يَعْلَمه أو مكشوف العورة ساهِيًا - أنها صحيحة ولا قضاء، نظرًا لموافقة الأمر حال التلبس.
وفي "التلخيص" لإمام الحرمين: (إنما صار الفقهاء إلى هذا في أَصْلٍ، وهو أنَّ الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مع كَوْنها على خِلَاف مُقْتَضَى الشرع - يدل على أنَّ "الصحيح": ما لَمْ يَجِبْ قضاؤه ولو خالف مُقْتَضى الشرع)
(1)
.
المسألة الثانية:
يترتب على صحة العبادة إجزاؤها، وقد اختُلِف في معناه: هل هو كَوْنها بحيث سقط فيها التعبد؟ أو كَوْنها بحيث سقط القضاء؟ على ما سبق تقريره في الغاية في الصحة؛ لأنه قريب من معنى الصحة.
ولكن الفرق بينهما مِن وجهين:
أحدهما: أنَّ محل الصحة أَعَم مِن محل الإجزاء؛ فإنَّ الصحةَ مَوْرِدُها العبادةُ وغَيْرُها،
(1)
التلخيص في أصول الفقه (1/ 482).
ومَوْرِد الإجزاءِ العبادةُ فقط. بل زعم قوم اختصاصه بالواجب وأنه لا يَجْري في كل مطلوب، حتى إنَّ مَن أَوْجَب الأضحية استدل بحديث:"أربع لا تجزئ في الأضاحي"
(1)
. فلو لم تكُن واجبة لَمَا عَبَّر بالإجزاء، وكذا قوله عليه السلام لأبي بُرْدَة:"ولن تُجزئ عن أحدٍ بَعْدك"
(2)
على أحد الوجهين في ضبطه وهو ضم التاء وبالهمز، لَا عَلَى فتح التاء بلا همز بمعنى: تقضي وتُغْني.
لكن يُمنع ذلك بأنَّ الدليل دَلَّ على أنها سُنة، ففي هذا الحديث دليل على استعمال الإجزاء في السُّنة، ونقله الشيخ تقي الدين السبكي عن الفقهاء.
و[اعترض]
(3)
بأنَّ أصحابنا قد استدلوا على وجوب قراءة الفاتحة برواية الدارَقُطْني: "لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بِأُم القرآن"
(4)
. وقالوا: إنه أَدَلُّ على الوجوب مِن رواية الصحيحين: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
(5)
.
واستدلوا أيضًا على وجوب الاستنجاء بحديث: "إذَا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه"
(6)
، و"الإجزاء" لا يقال إلَّا في الواجب.
(1)
سنن النسائي (4369)، سنن ابن ماجه (رقم: 3144) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1148).
(2)
صحيح البخاري (912)، صحيح مسلم (1961).
(3)
كذا في (ز، ص، ش، ق). لكن في (ض، ت): اعترضه.
(4)
سنن الدارقطني (كتاب الصلاة، 1/ 321) بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب". وقال الإمام الدارقطني: هذا إسناد صحيح.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سنن أبي داود (رقم: 40)، سنن النسائي (44) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 40). وقال أيضًا: صحيح. (إرواء الغليل: 44).
قُلتُ: قد يجاب بأنهم إنما أَوْرَدُوه ردًّا على مخالفهم؛ لاعتقاده أنَّ الإجزاء لا يُقال إلا في الواجب، والرد يقع بما يعتقده الخصم وإنْ لَمْ يعتقده الرادُّ.
ثانيهما: أنَّ معنى "الإجزاء" عَدَمِيٌّ، ومعنى "الصحة" وجودِيٌّ؛ وذلك لأنَّ العبادة المَأْتِي بها على الوجه المشروع لَازَمَها وَصْفان:
وجُودِيٌّ: وهو موافقة الشرع، وهذا هو "الصحة".
والآخَر عَدَمِيٌّ: وهو سقوط التعبد به أو سقوط القضاء (على الخلاف فيه)، وهذا هو "الإجزاء".
وهذان الأمران يُفْهَمان مِن:
- قولي: في النَّظْم: (فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ). أَيْ: لا في غيرها.
- وقولي: (إسْقَاطُهَا تَعَبُّدًا) مع وَصْفِي للعبادة بأنها صَحَّت، وتفسيري فيما سبق "الصحة" بأنها موافقة الشرع.
قلت: وفَرْق ثالث أنَّ الإجزاء مُرَتَّبٌ على الصحة، وهو معنى قولي:(فَتُجْزِئُ). أَيْ: فتكُون مُجْزِئة. فَـ "الإجزاء" حينئذ: كَوْن الفعل على وَجْهٍ يُسْقِط التعبد، لا نَفْس السقوط ولا الإسقاط كما يقع في عبارة كثير.
وقولي: (وَضِدُّهَا الفَسَادُ) أَيْ: ضد الصحةِ "الفسادُ"، فَيُعَرَّف بِضِد تعريفها.
فيقال: "الفساد" عَدَمُ موافقة الفعل ذِي الوجهين الشرع؛ وذلك إمَّا لانتفاء شرط أو لوجود مانع.
وحُكمه أيضًا في تَرتُّب الآثار ضِدُّ "الصحة"، فلا يترتب شيء مِن آثار ذلك الفعل عليه (سواء أكان عبادة أو غيرها) إلَّا أنْ يَكون مِن أَمْرٍ يَقْتَضِيه خارِجٍ عن حقيقة ذلك الفعل شَرْعًا؛ لِكَوْن الفاسد قد تَضَمَّن وجوده.
والغرض بذلك التنبيه على الرد على مَن اعترض بأنَّ الفاسد قد يترتب عليه آثار الصحيح كما أنَّ الصحيح قد يتخلف تَرتُّب آثاره عنه، سواء فَسَّرنا الصحة والفساد بالترتُّب (كالبيضاوي) أو بالموافقة ولكن يترتب كما بَيَّنَا أنه الصواب، وذلك كَفَاسِد الخلْع والكتابة، فإنهما يترتب عليهما البينونة والعتق مع أنهما مِن آثار "الصحيح".
فَيُقال: لَمْ يَحْصُلَا مِن حيث كَوْنهما خلعًا وكتابةً، بل مِن حيث تَضَمُّنهما لِتعليقٍ وُجِدَت الصِّفَة فيه مع كَوْنهما لم يُوقَعَا إلَّا بِعوَضٍ، [فَبِطَمَعِ]
(1)
الزوج والسيد في ذلك - حيث لم يجعلَا ذلك مجانًا - وَجَبَ العوَضُ وتَرَتب ما يترتب في "الصحيح" مِن البينونة والعتق؛ لانتظام المعنى الذي في "الصحيح" مِن حيث المقابَلة كما أَوْضَح الفقهاء ذلك في موضعه، وبَيَّنُوا ما بَيْنه وبَيْن "الصحيح" مِن المخالفة مِن أَجْل التعليق وغيْره؛ ولذلك لا يملك بِـ "الفاسد" منهما العوضُ المسَمَّى، بل يجب رَدُّه والرجوع للبدَل الشرعي، بخلاف "الصحيح"، ونحو ذلك [أيضًا]
(2)
مما يترتب على "الفاسد" فيما فُرِّق فيه بين الفاسد والباطل كما سيأتي.
وأمَّا عَكْس ذلك وهو تَخَلُّف الآثار عن "الصحيح" (كامتناع بيع المبيع قبل القبض
(3)
وفي زمن الخيار ونحو ذلك) فَيُمْنَع بِأنَّ الآثار مُتَرتِّبة بالقوة لا بالفعل؛ لأنه تخلف لِمَانِع، بدليل تَبَيُّن صحة كثير منها عند زوال المانع، كَمِلْك الزوائد ونحوها، وبدليل أنَّ بعض الآثار يوجد وإنْ امتنع الباقي، كعتق المبيع قَبْل القبض والاستيلاد والوقف ونحو ذلك.
(1)
كذا في (ت، ش). لكن في (ز، ق): فيطمع.
(2)
كذا في (ض، ت، ق، ش)، وليس في (ز، ص).
(3)
ما بعد ذلك إلى قوله: (كعتق المبيع قَبْل القبض) ساقط مِن (ض).
فلا يَرِدُ، [لا]
(1)
طَرْدًا ولا عَكْسًا، والله أعلم.
ص:
155 -
وَبَاطِلٌ كَفَاسِدٍ وَإنْ مُنِعْ
…
لِوَصْفِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَدْ شُرِعْ
156 -
نَعَمْ، لَنَا التَّفْرِيقُ في أَبْوابِ
…
كَالْحَجِّ وَالْخُلْعِ بِلَا ارْتيَابِ
157 -
وَهَكَذَا كتَابَةٌ عَارِيَّهْ
…
وَنَحْوُهَا بِأَوْجُهٍ فِقْهِيَّهْ
الشرح: لَمَّا بَيَّنْتُ أنَّ الفساد يقابل الصحة، بَيَّنْتُ أنَّ البطلان يقابلها أيضًا؛ فيكون مرادفًا للفساد.
بل قال أبو العباس بن تيمية: لم يقع في الكتاب والسُّنة إلَّا لفظة "الباطل" في مقابَلة الحقِّ، وأمَّا لفظ "الصحة" و"الفساد" فَمِن اصطلاح الفقهاء.
واسْتُدْرِك عليه بنحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، أَيْ: لَاخْتَل نظامهما، ولا شك أنَّ الفاسد المذكور معناه: المختل. وأيضًا ففي السُّنة تكرر لفظ "الإجزاء" كما سبق، وهو قريب من معنى "الصحة".
وخالف الحنفية، فَفرَّقوا بين "الفساد" و"البطلان"، فَسَمّوا ما لم يُشرع بأصله ولا وَصْفه "باطلًا"، كبيع الملاقيح (وهي ما في بطون الأمهات) وبيع المضامين (وهي ما في أصلاب الفحول)؛ لِمَا فيه مِن الجهل والغرر. وسَموا ما شُرع بِأَصْله دُون وَصْفه "فاسدًا"، [كبيوع]
(2)
الربا، فإنَّ كلًّا مِن العِوَضين التبايع فيه مشروع، لكن لَمَّا انضم إليه وَصْفُ الربا (وهو غير مشروع) فَسَد، فالفساد أَعَمُّ مِن البطلان مُطلقًا.
(1)
ليس في (ش).
(2)
كذا في (ز، ص، ق، ش). لكن في (ض، ت): كبيع.
ورَتَّبوا على هذا الفرق أنَّ "الفاسد" يملك فيه بالقبض ملكًا خبيثًا (أَيْ: ضعيفًا)، و"الباطل" لا يملك به شيء أَصْلًا.
وضُعِّف ذلك بأنَّ التفرقة إنْ كانت شرعية فأين دليلها؟ وأين مستند ما خالفوا بيْنه مِن المرتب عليهما؟ بل في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ما يُبْطِل التفرقة؛ لأنَّ التمانع فيه بَيْن وجود العالم منتظمًا حيث لا شريك وبَيْن عدمه أصلًا حيث قُدِّر الشريك، لا وجوده على هذا التقدير بنوع مِن الخلل، فَسَمَّى الله ما لا تَثْبُت حقيقته أَصْلًا "فاسدًا".
واعْلَم أنه قد نشأ لأصحابنا - باعتبار هذا الفَرْق بطريق التبعيَّة - تَفْرقةٌ في أحكام، كَمَن اشترى جارية بشرط فاسد أو بِعوَض فاسد مقصود ووَطِئ، يَكون وَطْؤه وَطْء شُبهةٍ يترتب عليه انتفاءُ الحدِّ والنسبُ والمهرُ ونحوُ ذلك. وإنْ كان مِن صغير أو بِعوَض فاسد غير مقصود ووطِئ، يَكون زِنًا يترتب عليه أحكامُه ولا يَثْبُت فيه شيءٌ مِن أحكام الشُّبهة؛ استنادًا في الأول إلى أنه مِن شبهة الطريق، أَيْ: طريق قال بها عالِم، بخلاف الثاني، وليس هذا مُوافَقَة في تفرقتهم، بل حُكْم مُرَتَّب على تفرقتهم.
نَعَم، لأصحابنا مواضع في الفقه فَرَّقوا فيها بين "الفاسد" و"الباطل" بمعنى آخَر، اشتهر منها أربعة: الحج، والعارِيَّة، والخلْع، والكتابة.
فالحج يبطل بالرِّدَّة، وقِيل: يَفْسد. حكاه أبو علي السنجي في شرح "الفروع"، ويَفْسد بالجماع. وحُكْم "الباطل" أنه لا يجب المُضِي فيه ولا قضاؤه، و"الفاسد" يجب إكمالُه وقضاؤه.
واختُلف فيما إذَا أَحْرَم مجامِعًا، فقيل: ينعقد صحيحًا. وقيل: فاسدًا، ورجحه الرافعي. وقيل: لا ينعقد أصلًا، فيَكون باطلًا، وصححه النووي.
ولو أفسد العمرة بالجماع ثم أَحْرَم بالحج، انعقد فاسدًا (على الأصح)، وقيل: صحيحًا. وقيل: لا ينعقد أصلًا.
وأما العارِيَّة: فقال الغزالي في "الوسيط" بَعْد حكاية الخلاف في إعارة الدراهم والدنانير: (فإنْ [أَبْطَلناهما]
(1)
، ففي طريقة العراق أنها مضمونة؛ لأنها إعارة فاسدة. وفي طريقة المراوزة أنها غير مضمونة؛ لأنها غير قابلة للإعارة؛ فهي باطلة)
(2)
. انتهى
نَعَم، كان ينبغي أنْ يقول:(فإنْ لَمْ نُصححها، ففي طريقة العراق) إلى آخِره؛ لأنَّ عدم الصحة هو المنقسم إلى فساد وبطلان، لا أنَّ البطلان هو المنقسم؛ لأنَّ الشيء لا ينقسم إلى نَفْسه وغيْره.
وللعارِيَّة مسألة أخرى، وهي إذا قال:(أَعَرْتُك داري بِشَرْط أنْ تعيرني فرسك) ونحو ذلك، ففيها وجهان، أصحُّهما: أنها إجارة فاسدة، والثاني: عارية باطلة. ويتخرج عليهما وجوب الأجرة والضمان وعدمهما.
وأمَّا الخلع والكتابة فالباطل فيهما:
- ما كان على عوض غير مقصود، كالدم. ووَهِمَ مَن مَثَّله بالميتة؛ لأنها تقصد للجوارح، فهي كالخمر.
- أو رجع لِخَلَلٍ في العاقِد، كَصِغَر وسَفَه.
و"الفاسد" خِلَافُه، كأنْ كانا على نحو خمر وخنزير ومجهول.
وحُكم "الباطل" أنْ لا يترتب عليه شيء، و"الفاسد" يترتب عليه البينونة والعتق، ويرجع الزوجُ بمهرِ المِثْلِ والسيدُ بقيمةِ العبدِ كما سبق.
قُلتُ: لكن إطلاق أنَّ الخلل في العاقِد مِن "الباطل" فيه نَظَر؛ فَقَدْ صَرَّحُوا:
(1)
في (ص): أبطلناها.
(2)
الوسيط في المذهب (3/ 368).
- بأنَّ خلْعَ السفيهة فاسد. نَعَم، يقع به الطلاق رَجْعِيًّا، لا بائنًا؛ لِتَعَذُّر العوَض.
- وبأنَّ خُلْعَ الأَمَة بعين مال سيدها بغير إذنه - يقع بائنًا بمهر المثل.
واعْلَم أنَّ وراء هذه المواضع الأربعة مواضع أخرى أشرتُ إليها في النَّظْم بقولي: (ونحوها).
منها: الإجارة، فَـ "الفاسد" منها ما كان لجهالة العوض ونحوه، فيجب فيه أجرة المثل. و"الباطل" ما كان لخلل في المستأجِر، كما لو استأجر صَبِيٌّ رَجُلًا يعمل عملًا، لَمْ يستحق شيئًا؛ لأنه الذي فَوَّت عَمَل نَفْسه. أو في المؤجر حيث كان صبيًّا أو سفيهًا وتَلفَت العين في يد المستأجر، فيجب الضمان. ولو كان فاسدًا، لَمْ يَجِب - كما صرحوا به، بخلاف من استأجر بشرط فاسد ونحوه فإنه لا يضمن ما تلف تحت يده؛ لأنَّ "فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه".
ومنها: الهبة تَصْدُر مِن الصبي أو السفيه وتتلف العين في يد المُتَّهَب
(1)
، فيجب الضمان، بخلاف الهبة بشرط فاسد أو نحو ذلك؛ للقاعدة.
قُلْتُ: وقد يُقال: إنَّ الضمان في الإجارة والهبة المذكورتين إنما هو مِن حيث أنه استولى على مال الغير بِغَيْر طريق شرعي؛ فكان غاصبًا؛ لأنَّ الباطل كالعَدَم، وإنما لم يضمن في صُورَتَي الفاسد منهما لِحصول الظن والأمل فيه، إلَّا أنْ يُقال: المستثنى كله إنما خرج لأمرٍ خارجي، فهذا في ذلك وغيره سواء.
ومنها: في البيع، قال الرافعي في المقبوض ببيع فاسد: يجب ضمانه. وقال فيما لو باع صبيًّا: إنه لا ضمان فيما يتسلمه الصبي فيه. فهو باطل، وإلا لكان يضمن.
ومنها: في البيع أيضًا إذَا فَرَّعْنا على تفرقة أبي حنيفة بين الفاسد والباطل كما سبق
(1)
المتهب: الموهوب له، يعني: الذي أخذ الهبة.
تقريره. فالمشتري إذَا وَطئ في "الباطل"، يُحَد؛ لأنه زِنًا لا شُبْهة فيه؛ فيترتب فيه أحكامه. وفي "الفاسد" لا يُحَد، ويترتب عليه أحكامُ وطء الشبهة؛ لأنَّ ذلك مِن شُبْهة الطريق التي قال بها عالِمٌ، بخلاف الذي قَبْله.
ومنها فيه أيضًا: ما لو قال: (بِعْتُك)، ولم يَذْكر ثَمَنًا، وسَلَّم، وتلفت العين في يد المشتري، هل عليه قيمتها؟ وَجْهان، أحدهما: نَعَم؛ لأنه بَيْعٌ فاسد. والثاني: لا؛ لأنه ليس بَيْعًا أَصْلًا؛ فيكون أمانة.
فتدخل هذه المسألة ونحوها في سلك: كُل عَقْد كان صحيحُه مضمونًا، فإنَّ فاسده يَكون أيضًا مضمونًا؛ للقاعدة. فما لا ضمان فيه مِن ذلك لِخَلَلٍ في العاقد (مَثَلًا) يَكون باطلًا.
ومنها: ما لو قال للمديون: (اعزِل قدر حَقِّي). فعزله ثُم قال: (قارضتك عليه)، لم يصح؛ لأنه لم يملكه بالعزل. فإذَا تصرف المأمور: فإنِ اشترى بالعين فهو ملك له، وإنِ اشترى في الذمة للقراض ونقدَهُ فيه، [فَوَجْهَان]
(1)
:
أحدهما: الشراء للقراض، ويكون قراضًا فاسدًا يستحق فيه أجرة المثل، لكن الربح لرب المال.
والثاني: يَكون قراضًا باطلًا، لا فاسدًا ولا صحيحًا.
ومنها: [ما]
(2)
لو نكح بلا ولي، فهو فاسد، يُوجِب مهر المثل لا الحد. ولو نكح السفيه بلا إذْن، فباطل، لا يترتب عليه شيء، إلَّا أنْ تكون الزوجة سفيهة - على ما في فتاوى النووي، وفيه كلام محله الفقه.
(1)
في (ض): وجهان.
(2)
ليس في (ز، ت، ش).
ومنها: الشركة، فقالوا: شركة الأبدان وشركة الوجوه باطلة، وفي شركة العنان التي هي في الأصل صحيحة لو شرط فيها شرط فاسد كشرط التفاوت في الربح مع استواء المالين أو عكسه، [فتَفْسُد]
(1)
الشركة وينفد تصرُّفهما، ولكل منهما أجرة عمله، وهو نظير ما سبق في القراض. وكل صورة في البابين نفذنا فيها التصرُّف مع الفساد كان الحكم كذلك ويقع الفرق.
قال العلائي: وقد حاول بعض شيوخنا الأئمة الفرق بين هذه الأبواب وغيرها. ثم أبدى في كثير مما سبق أمورًا لا تنافي وقوع الفرق ظاهرةً لمن تأمل.
وحكي عن الشيخ زين الدين الكتَّاني أربعة أخرى: الوكالة، والإجارة، والعتق، وعقد الجزية. وصَوَّرها بعضهم بأنَّ الوكالة تفسد بالتعليق، ويستفاد بها جواز التصرف، وتبطل بخلل العاقد، كتوكيل الصبي وتوكيل المرأة في النكاح.
قُلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ جواز التصرف إنما استفيد مِن عموم الإذن بعد أْن بطل خصوصُ الوكالة، كما لو أعتق مَعِيبًا عن كفارته، أو قال:(أَعْتِق مستولدتك عني على ألْفٍ). فيبطل الخصوص ويبقى عموم العتق.
وصُوَر هذه القاعدة كثيرة، فلو صحت التفرقة بذلك، لَقِيلَ في الكُل: إنها فاسدة؛ لِتَرتُّب بعضِ أثر الصحيح عليها.
وأمَّا الإجارة فسبَق تصويرها، والبحث الذي فيها وفي الهبة.
وأمَّا العتق: فكما لو قال: (أَعْتِق عبدك عني على خمر أو مغصوب)، ففعل، نفذ العتق عن المشتري ولزمَه قيمة العبد، بخلاف ما لو قال:(على دمٍ)، ونحوه. ويلتحق به الصُّلحُ عن الدم.
(1)
كذا في (ت)، لكن في (ز): فيفسد.
قُلتُ: الحكم عليه بأنه افتداء يكفي في الرد؛ لأنَّ الكلام في العقود.
وأمَّا الجزية: فأنْ تُعْقَد باختلال شرطٍ، والحُكم أنه يجبُ - بتمام سَنةٍ أو أكثر - لكل سَنة دينار، ولا يجب المسمَّى. بخلاف الباطلة (كعقدها مع بعض الآحاد)، فإنَّ أصح الوجهين أنه إذا أقام مُدَّة بذلك، لا يجب شيءٌ.
وبالجملة فهذه التفرقات كلها لمدارك فقهية كما عرفته، وإليه أشرتُ في النَّظم بقولي:(بِأَوْجُهٍ فِقْهِيَّهْ). والتسمية فيها تابعة للحُكم، بخلاف تفرقة أبي حنيفة، فإنَّ الأحكام عنده تابعة للتفرقة بَيْن حقيقتيهما، والله أعلم.
ص:
158 -
مَسَائِلٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا
…
قَدَّمْتُهُ، أُوضِحُهَا مُقَسِّمَا
159 -
أَوَّلُهَا: الْمَطْلُوبُ إنْ لَمْ يَكُنِ
…
مُعَيَّنًا، فَهْوَ مُخَيَّرٌ عُنِى
160 -
كَأَحَدِ الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَهْ
…
يُطْلَبُ لَا بِعَيْنِهِ في الْخِيَرَهْ
161 -
فَمَوْضِعُ التَّخْيِيرِ غَيْرُ الْمُطَّلَبْ
…
وَعَكْسُهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ يُطَّلَبْ
الشرح: وَجْهُ التعلق في هذه المسائل مُبَيَن في كل منها:
الأُولى: المطلوبُ شرعًا: إمَّا فِعل مُعَيَّن (كصلاة الظهر) أو مُبْهَم مِن أمور مُعَيَّنة (كإحدى خصال الكفارة المخيرة)، لا بِعَيْنه. والأول يُسمى "المُعَيَّن"، والثاني "المُخَيَّر"، أَعَمُّ أنْ يَكون في واجب أو مندوب؛ فلذلك عَبَّرت بِـ "المطلوب"؛ ليشمل القِسمين وإنْ كان المشهور التعبير بِـ "الواجب المُخَيَّر". وكذا فيما سيأتي مِن التعيين والإبهام في جانب الفاعل (وهو "فَرْض العَيْن" و"فرض الكفاية") وفي الوقت (وهو "المُضَيَّق" و"المُوَسَّع") ينبغي أن يُعَبَّر بِـ "المطلوب" أيضًا كما عَبَّرت في النظم؛ فإنَّ المسائل الثلاث أخوات، وكُل منها
شامل للمندوب كما سيأتي تقريرُه. وتصوير "المندوب" في المطلوب المُخَيَّر حيث تُستحب الكفارة مَثَلًا.
واعْلَم أنَّ المراد بِـ "المعَيَّن" هو الفعل المتميز بنوعه، أمَّا بشخصه فَلَا يَكون إلا بَعْد وقوع الفعل في الخارج، ولا يُطْلَب حينئذ.
وكذا قولنا في المخَيَّر: (إنَّ المطلوب أحد أمور مُعَيَّنة)، المراد: مُعَيَّنة بالنوع محصورة؛ لِيخرج المعَيَّنة بالشخص كما تَقَدم، ويخرج نحو الرقبة المأمور بعتقها؛ فإنَّ ما يصدق عليه اسم الرقبة هو المطلوب ولا حصر له.
وما أَوْهَمه كلام البيضاوي مِن كَوْنه يَكون غير محصور بتمثيله بِـ "نَصْب أَحَد المسْتَعِدِّين للإمامة" وابنُ الحاجب بتمثيله بِـ "إعتاق واحد مِن جنس الرقبة المأمور بعتقها" - فليس بجيد، وسيأتي تحقيق هذا البحث قريبًا.
وإنما يمثَّل المخيَّر بالكفارة المخَيَّرة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية، وجزاء الصيد في قوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية، ومثل الجبران في الزكاة في قوله صلى الله عليه وسلم:"شاتين أو عشرين درهمًا"
(1)
، ومِثل الواجب في المائتين مِن الإبل أربع حقاق أو خمس بنات لبون، والتخيير بين غسل الرجلين في الوضوء لِلَابس الخفِّ بالشروط أو المسح عليه، وأمثال ذلك.
والمسألة فيها مذاهب:
أَرْجَحُها: أنَّ الواجب أحَدُ المخَيَّر فيه، لا بِعَيْنه. ونقل القاضي إجماع سلف الأمة و [أئمة الفقه]
(2)
عليه، ونقله أبو حامد الأسفراييني عن مذهب الفقهاء كافَّة، وكذا قال في
(1)
صحيح البخاري (رقم: 1385).
(2)
كذا في (ت، ظ، ض)، لكن في (ص، ش): أئمة الفقهاء. وفي (ز): الفقهاء.
"المحصول": إنه قول الفقهاء. وفي "الإحكام" للآمدي أنه قولهم وقول الأشاعرة.
والثاني وبه قال المعتزلة وتَبعهم قومٌ مِن الفقهاء كما نقله القاضي: الكل واجب، لا على معنى أنه يجب الإتيانُ بكلٍّ، بل على معنى أنه لا يجوز الإخلال بالجميع، فَعَلَى هذا لا خِلَاف في المعنى، بل في العبارة. إنما مَأْخذ المعتزلة أنَّ الحكْم عندهم يَتبع الحسْن والقُبح العَقْلِيَّين، فلو كان أحد الخصال واجبًا، لَزِمَ خلوُّ الباقي عن الحُسن المقْتَضِي للإيجاب؛ فيرتفع المقتضِي في كل واحدٍ واحدٍ. كذا قَرر أنَّ الخلاف لَفْظِي القاضي والشيخُ أبو إسحاق وإمامُ الحرمين وابنُ القشيري وابنُ بَرهان وابنُ السمعاني وسليمُ الرازي، وأبو الحسين البصري والإمامُ الرازي وأتباعُه.
وقال القاضي أبو الطيب: بل الخلاف مَعْنوي؛ لأنا نخطئهم في إطلاق اسم الوجوب على الجميع؛ لإجماع المسلمين على أنَّ الواجب في الكفارة المخَيَّرة أحد الأمور.
وقال الأصفهاني: (الذي يَظهر مِن كلام الغزالي وابن فورك أنه معنوي. واختاره الآمديُّ وابنُ التلمساني وغيرُهم)
(1)
.
وقيل: تظهر فائدته فيما سيأتي في الثواب والعقاب إذَا فَعَل الجميع أو أَخَلَّ بالكل. وهو ضعيف.
والمذهب الثالث: أنَّ الواجب واحد مُعَيَّن عند الله، مُبْهَم عند المكَلَّف، لكن عَلِمَ اللهُ أنه لا يختار إلا فِعْلَ ما هو واجب عليه، فاختياره مُعَرِّفٌ أنه الواجب في حَقَّه، وحينئذ فيختلف الواجب بحسب الفاعلين.
قال في "المحصول": (إنَّ أصحابنا يَنْسبونه للمعتزلة، والمعتزلةَ إلى أصحابنا، واتفق
(1)
الكاشف عن المحصول (3/ 489).
الفريقان على فساده)
(1)
. ويُسَمَّى "قول التراجم" لذلك.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وعندي أنه لم يَقُل به أَحَد، وإنما نشأ مِن مبالغة المعتزلة في الرد علينا في إثبات تَعَلُّق الوجوب بالجميع، وأمَّا رواية أصحابنا له عن المعتزلة فلا وَجْه له؛ لمنافاته قواعدهم)
(2)
. انتهى
وفي ذلك كُله نَظَر؛ فإنَّ ابن القطان (مِن أصحابنا) قد حكاه عن بعض الأصوليين، فلا وَجْه لإنكاره بحثًا.
والربع: أنه مُعَيَّن عند الله، فإنْ فَعَل المكلَّفُ غيْره، كان نَفْلًا يَسْقط الواجب به.
وَرُدَّ بالاتفاق على أنه فَعَل الواجب لا بَدَلَه.
ومنهم مَن يقول: إذا اختار المكلَّفُ واحدًا، فَقَدْ عَيَّنه الله له. فيَكون قولًا خامسًا.
وَرُدَّ بأنَّ الوجوب ثابت قَبْل اختياره، وأيضًا يقتضي أنه إذا مات ولم يفعله لا هو ولا غيره أنْ لا وجوب.
ثُم على القول الأول الذي هو المرَجَّح: بماذا يتعين الواجب؟ أَبِاختيار المكلف؟ أَمْ بالفعل؟ قولان، حكى الأول ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"؛ فتصير الأقوال ستة. وحُكي قول سابع بالوقف.
وقولي: (فَمَوْضِعُ التَّخْيِيِر غَيْرُ الْمُطَّلَبْ وَعَكْسُهُ) إشارة إلى ما حرره ابن الحاجب مِن أنَّ محل الوجوب لا تخيير فيه، ومحل التخيير لا وجوب فيه، أَيْ: إنَّ متعلَّق الوجوب هو أحدها (الذي هو قَدْر مشترك بين الخصال) لا تخيير فيه؛ لأنه واحد، ومحل التخيير (وهو خصوصيات الخصال التى فيها التعدد) لا وجوب فيها.
(1)
المحصول (2/ 160).
(2)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 86).
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (كذا حرر بعض
(1)
المتأخرين معنى الإبهام، لكن عندي زيادة أخرى في التحرير، وهي أنَّ القدْر المشترك يقال على المتواطئ "كَـ: الرجُل" ولا إبهام فيه، فإنَّ حقيقته معلومة متميزة عن غيرها مِن الحقائق، وُيقال على المبْهَم مِن شيئين أو أشياء "كَـ: أَحَد الرجُلين". والفَرْق بينهما: أنَّ الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة، والثاني قصد [فيه]
(2)
ذلك مع أحد الشخصين بِعَيْنه، أَيْ لا باعتبار معنى مشترك بينهما وإنْ لم يُعَين؛ ولذلك سُمِّي "مُبْهَمًا"؛ لأنه أُبهم علينا أَمْرُه. فلا يقال في الأول الذي هو نحو "أعْتِق رقبة": إنه واجبٌ مخيَّر؛ لأنه لم يَقُل أحدٌ فيه بِتَعَلُّق الحكم بخصوصياته، بخلاف الثاني فإنهم أجمعوا على تسميته "مُخَيَّرًا". ومن الأول أكثر أوامر الشريعة)
(3)
.
فيتعَيَّن أنَّ القَدْر المشترك في الثاني أَخَصُّ مِن القدْر المشترك في الأول، وإليه يُرْشد قولهم:"مِن أمور مُعَيَّنة". والمعنَى أنَّ النظر إليها مِن حيث تَعَيُّنها وتميُّزها مع الإبهام؛ احترازًا مِن القسم الأول.
ويؤيد ذلك ما لو باعه قفيزًا مِن صبرة (أَيْ: مجهولة الصيعان)، فيصح وتغتفر جهالة العين؛ لتساوي الأجزاء، ويَكون مِن الأول كَـ "أعْتِق رقبة"، خِلَافًا لمن زعم أنه كبيع أحد الثوبين، أَيْ: فيَكون مِن القِسم الثاني، لكنه استثني للتساوي.
أمَّا لو كانت معلومة الصيعان فإنها تنزل على الإشاعة. فإنْ فرقت الصيعان، صار التعيين والتشخيص مقصودًا؛ فيبطل. وهذا الذي هو كبيع أحد الثوبين، وهو مِن القِسم الثاني قَطْعًا.
(1)
هنا آخِر الورقة (38) مِن نُسخة (ت)، وما بعدها إلى أول الورقة (39) ساقط، وسيأتي بيانه.
(2)
في (ص): به.
(3)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 84).
فقولي: (فَمَوْضِعُ التَّخْييِر غَيْرُ الْمُطَّلَبْ) هو ما حرره ابن الحاجب، إلا أنَّ التعبير بالطلب أحسن مِن الوجوب كما قررناه.
وقولي: (وَفِيهِ بَحْثٌ يُطَّلَبْ) إشارة إلى هذا الذي قاله الشيخ تقي الدين، ولا يخفى ما فيه مِن التحقيق.
تنبيه:
محل الخلاف في صيغةٍ وَرَدَت مُرادًا بها التخيير، أو ما في معنى ورود ذلك كما سبق التمثيل به. فأمَّا نحو تخيير المستنجي بين الماء والحجر والناسك بين الإفراد والتمتع والقران ونحو ذلك - فليس مِن الواجب المخيَّر؛ لأنه لم يرد تخيير باللفظ ولا بمعناه، كالحقاق وبنات اللبون في المائتين، والغسل والمسح على الخف في الوضوء، والغالب في أكثر هذه الترجيح، وقد يستحب الجمع، كالماء والحجر.
نَعَم، في "فروق" الجويني جعل التخيير بين الماء والحجر مِن مسألة المخيَّر. وفيه نَظَر؛ لِمَا ذكرناه.
وقولنا: ([مُرادًا]
(1)
به التخيير) احتراز مما إذَا كان المراد أحدهما وصُوَر التخيير فيه للتهديد أو غيره، نحو:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]. كذا قِيل، وقد يُقال: لا حاجة لذلك؛ لأنَّ التهديد ليس فيه طلب، بل هو مجرد إخبار كما سيأتي في باب الأمر، والله أعلم.
(1)
في (ص): يراد.
ص:
162 -
فإنْ يَكُنْ كُلًّا مَعًا قَدْ فَعَلَا
…
يُثَبْ عَلَى الْأَعْلَى، وَعَكْسٌ [فَاقْبَلَا]
(1)
الشرح: أَيْ إذَا أَتَى بواحد مِن المخَيَّر فَفِيه ما سبق، أمَّا إذَا أتى بالكُل أو ترك الكل، فما الذي يكون ثوابه فيها ثواب الواجب إذا كان الأمر فيها للوجوب؛ لأنَّ ذلك واحِدٌ والباقي تطوُّع كما قاله الشيخ أبو إسحاق؟ وما الذي يعاقَب عليه عند تَرْك الكُل؟ فيه مذاهب:
أحدها المختار: إنْ فَعل الكل مُرَتَّبًا، فلا يخفَى أنَّ الذي أسقط الوجوب ويثاب عليه ثواب الواجب هو الأولُ. وإنْ فَعل الكل مَعًا بأنْ [باشَر]
(2)
بَعْضًا ووَكَّل في بعض أو باشر الكل أو وَكَّل في الكل حيث يمكن، وهو معنى قولي:(مَعًا). أَيْ وإنْ يَكُن المكَفِّر فَعَل كُل الخصال معًا، فـ "كُلًّا" مفعول "فَعَل"، قُدِّم عليه وعلى الظرف.
وقولي: (يُثَبْ عَلَى الْأَعْلَى) جواب الشرط، أَيْ: الحكم في هذا أنَّ حصول ثواب الواجب لِأعلاها. وإنما لم أقيده بثواب الواجب لِظهوره؛ لأنَّ أصل الثواب ليس الكلام فيه. وإنما قُلنا: استحق ثواب أعلاها؛ لأنه لا ينقصه ما انضم إليه.
وأمَّا عكسه (وهو أنْ يترك الكُل) فالعقاب بالعكس، أَيْ يَكون على أدناها؛ لأنه يجزئه لو اقتصر عليه. وقد نقل الإمام الرازي هذا عن بعضهم كالمُضَعِّف له، لكنه أظهر مما سيأتي اختياره إياه، فقد قال ابن التلمساني: إنه الجواب الحقُّ. ونقله ابن السمعاني في "القواطع" عن أصحابنا، وجزم به ابنُ بَرْهان في "الأوسط". وأمَّا تضعيف بعضهم له بأنَّ: "اللائق باختيار الأصحاب في الأصل أنَّ الذي يثابُ عليه ثواب الواجب أو يعاقبُ إنما هو
(1)
في (ن 3، ن 4): اسفلا.
(2)
في (ص): فعل.
واحد لا بِعَيْنه" فغير واضح، ولا يُنافي كَوْن الواجب في الأصل [أحدها]
(1)
لا بِعَيْنه؛ لأنَّ توجيه الخطاب [بواحد]
(2)
ما بحيث يسقط به الواجب مُسَلم. وأمَّا بعد الفعل واستحقاق الثواب فالثواب على المبْهَم غير معقول، وعلى المُعَيَّن منها تَحَكُّم، وترجيح الأعلى لِكَوْن الزيادة فيه لا يليق بِكَرم الله تعالى تضييعها على الفاعل مع الإمكان وقصدها بالوجوب وإنْ اقترن به آخَر.
وأمَّا في تَرْك الكُل فيعاقَب على الأدنى؛ لأنَّ الوجوب يَسقط به.
وعبارة القاضي أبي الطيب: (يأثم بمقدار عقاب أدناها، لا أنه نفس عقاب أدناها). انتهى
وهذا نظير الصلاة المعادة أنَّ الفَرْض [أَكْمَلُهما]
(3)
، وقيل: أحدُهما لا بِعَيْنها، ويحتسب الله ما شاء، و [قِيل]
(4)
: كِلاهُما فَرْض. ولم يحكوا مثله هنا؛ لِئلَّا يوافقوا المعتزلة.
الثاني: أنه يثاب في فِعل الكل على مجموع أمور لا يجوز ترك كلها، ولا يجب فِعلها، أَيْ ثواب واجبات مخيَّرة، وهو أزيد مِن ثواب بعضها. وكذا العقاب: يعاقَب على ترك مجموع أمور كان المكلَّف مخيَّرًا بين ترك أيِّ واحدٍ منها شاء بِشَرْط فِعل الآخَر. واختار هذا الإمامُ وأتباعُه، ولا يخفَى ما فيه مِن الغموض والإبهام.
الثالث: قال القاضي: وهو قول [أصحابنا]
(5)
: إنه يثاب على واحدٍ مِن غير تعيين
(1)
في (ش): أحدهما.
(2)
كذا في (ز، ظ، ض)، لكن في (ص، ش): لواحد.
(3)
كذا في (ز، ص). لكن في (ض، ق، ش): أكملها.
(4)
مِن (ز).
(5)
في (ز): أكثر أصحابنا.
للأعلى.
والرابع: نقله القاضي أيضًا لكن في الكفارة: إنه يثاب ثواب الواجب على العتق؛ لأنه أنفع وأشق على النفس.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وهذا الخلافُ شبيه بالخلاف في مسح جميع الرأس وتطويل الركوع: هل الكُل يقع واجبًا؟ أو البعض؟ )
(1)
.
تنبيهات
أحدها: تظهر ثمرة هذا الخلاف في مسائل:
منها: مَن مات وعليه كفارة مخيَّرة ولم يُوص بإخراجها، يجوز للوارث أنْ يعدل عن الأعلى لِغيره؛ لأنه إذا فَعل، يُجْزِئ.
ومنها: لو أوصَى بخصلة معينة وكانت قيمتها تزيد على غيرها:
فأصح الوجهين: أنَّ الزائد مِن الثلث؛ لأنَّ الاقتصار على غيره يجزئ.
والثاني: مِن رأس المال؛ لأنه لا يقع إلا واجبًا. ولكن الأول مناسب للمعاقبة - عند ترك الكل - على الأدنى. وغير ذلك أيضًا.
الثاني: وقع في "المحصول" أنه يستحب جمع خصال الكفارة المخيَّرة ونحوها.
وَرُدَّ بأنه إنْ كان مِن حيث كَوْنه كفارة، فممنوع؛ لأنَّ المطلوب واحد. وإنْ كان مِن حيث كَوْن الزائد خيرًا في الجملة، فلا اختصاص لذلك.
وشُبِّه بالمسألة إعادةُ الصلاة - لِمَن صلَّاها - لأنها عبادة، لكن يَكون على الخلاف في:
(1)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 89).
أَيّها الواجب؟ كما سبق.
الثالث: مِن [لطائف]
(1)
هذه المسألة التخيير بين الشيء وبعضه، خِلافًا لبعض الفقهاء المتأخرين، فَقدْ قال ابن الرفعة ردًّا عليه: إنه ممنوع؛ بدليل أنَّ المسافر مُخَيَّر بين إتمام الصلاة وقصرها، ومَن لا جُمعة عليه مخيَّر بين صلاة الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعًا.
قلتُ: لا يَخفَى ضَعْفُ هذا؛ لأنَّ المقصورة ليست بعضًا مِن التامَّة، ولا الجمعة بعضًا مِن الظهر ولو قُلْنا: ظُهْرًا مقصورًا، بل كُلٌّ صلاةٌ على حيالها.
نَعَم، يَقْرُب مِن ذلك التخييرُ بين صلاة الوتر واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا إلى آخِره - على ما فيه مِن نَظَرٍ أيضًا، والله تعالى أعلم.
ص:
163 -
وَرُبَّمَا التَّحْرِيمُ جَا مُخَيَّرَا
…
في وَطْءِ أُخْتَيْنِ بِمِلْكٍ قَدْ يُرَى
الشرح: ما سبق في المخيَّر إنما هو في المأمور به، فهل يأتي نظيره في المنهي عنه (تحريمًا كان أو كراهة)؟ وإنْ كانت المسألة إنما نصبت واشتهرت في التحريم.
فقال أهل السُّنة: يجوز تحريم واحدٍ لا بِعَيْنه، ويَكون النهي عن واحدٍ على التخيير، حتى إنه يجوز له فِعل أحدهما دُون الآخَر - على معنى التخيير في تعيين المحرَّم منهما. وما دام لم يُعَيِّن [لا يجوز]
(2)
له الإقدام على شيءٍ منهما.
وبماذا يَكون التعيين؟ يأتي الكلام عليه.
وعلى هذا فيأتي الخلاف السابق في كَوْن المحرَّم: واحدًا لا بِعَيْنه، أو الكُل، أو مُعَيَّنًا عند
(1)
كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ض): نظائر.
(2)
في (ش): لم يجز.
الله، أو غير ذلك كما قاله الآمدي وابن الحاجب.
وقالت المعتزلة: لا يمكن ذلك في النهي، بل يجبُ اجتناب كل واحدٍ.
بَنوه على أصلهم أنَّ النهي عن قبيح، فإذَا نهي عن أحدهما لا بِعَيْنه، ثَبتَ القُبحُ لكل منهما؛ فيمتنعان جميعًا ولو وَرَدَ ذلك بصيغة التخيير، كما قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24].
وللمسألة أمثلة:
منها: لو ملك أُختين ووطئَهما، تحرم إحداهما لا بِعَيْنِها حتى تخرج الأُخْرى عن مِلْكه أو عن حلِّه؛ فتحل الأُخرى عَيْنًا.
ومنهم مَن يمثلها بتحريم الجمع بين الأختين أو بين الأم وبنتها في النكاح، أو نحو ذلك.
وليس بجيد؛ لأنَّ التحريم منتفٍ حتى ينكح إحداهما، بخلاف المثال السابق، فإنَّ التحريم وقع، فَتَأَمَّله.
نَعَم، نازع القرافي في إثبات الحرام المخيَّر، ووافق المعتزلة على المنع، لكن لا مِن حيث التقبيح العقلي، بل مِن حيث إنَّ تحريم أحدهما يَلْزَم منه تحريم الكُل، وفَرَّق بينه وبين الواجب المخيَّر بأنَّ الأمر بمفهوم أحدهما قَدْر مشترك، ومحل التخيير الخصوصيات كما سبق، فلا يَلْزَم مِن إيجابِ المشترك إيجابُ الخصوصيات، كما في إيجاب رَقبة مُطْلَقَة في العتق لا يَلْزَم منه إيجاب رقبة مُعَيَّنة.
قال: أمَّا النهي فَيَلْزَم مِن تحريمِ أحدهما (الذي هو قَدْر مشترك) تحريمُ الخصوصيات.
ثُم أجاب عن المثال السابق ونحوه بأنَّ التحريم إنما يتعلق بمجموع الوطئين بَعْد أنْ
وَطئهما، لا بالمشترك [بينهما]
(1)
، فالمقصود أنْ لا [يدْخل]
(2)
ماهيَّة مجموع الوطئين في الوجود، والماهية المركَّبة تنعدم بانعدام [جُزئها]
(3)
.
قال العلائي في قواعده: والظاهر أنَّ هذا هو مُراد أهل السُّنة بهذه المسألة، لا المعنى الذي رَدَّه القرافي، وهو الكُلي المشترك؛ لأنَّ مِن المحال عَقْلًا أنْ يوجد الجزئي ولا يوجد الكُلي فيه؛ لأنَّ الكلي يندرج في الجزئي بالضرورة.
قال: لكن يشْكل على هذا إلحاقهم المسألة بالأمر المخيَّر.
والله أعلم.
ص:
164 -
ثَانِيَةٌ: مَا فِيهِ قَصْدُ الْفَاعِلِ
…
عَيْنًا "مُعَيَّنٌ"، وَلِلْمُقَابِلِ
165 -
اسْمُ "الْكِفَايَةِ" الَّذِي يَعُمُّ
…
فَرْضًا وَسُنَّةً، فَقُلْ: مُهِمُّ
166 -
يُقْصَدُ بِالْإيجَادِ، لَيْسَ يُنْظَرُ
…
لِذَاتِ فَاعِلٍ لَهُ يُخْتَبَرُ
167 -
مِثْلُ الجهَادِ وَابْتِدَا التَّسْلِيمِ
…
وَهْوَ عَلَى الْكُلِّ عَلَى التَّعْمِيمِ
168 -
لَكِنَّهُ بِفِعْلِ بَعْضٍ يَسْقُطُ
…
عَمَّنْ سِوَاهُ حَيْثُ ذَاكَ يُضْبَطُ
169 -
مِن ثَمَّ كَانَ فِعْلُهُ أَهَمَّا
…
مِن فِعْلِ [عَيْنٍ]
(4)
نَفْعُهُ مَا عَمَّا
الشرح: القِسم الثاني: تقسيم الفعل بالنسبة إلى فاعله إلى عَيْنٍ وكفاية، ولا يتقيَّد
(1)
في (ص): منهما.
(2)
كذا في (ق، ش). لكن في (ز): تدخل.
(3)
في (ض): جزء منها.
(4)
في (ش): غير.
بالواجب كما سبق تقريره، بل يجري في السُّنة أيضًا.
فما قُصِد فيه الفاعلُ بالذَّات: "فَرْض عَيْن"، و"سُنة عَيْن"، سواء أكان عامًّا (كالصلوات الخمس وركعتي الفجر) أو خاصًّا (كتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بإيجاب التخيير لنسائه [عليه])
(1)
.
وما لم يُقْصَد إلا حصولُ الفعل فيه مِن غير نَظَر إلى ذات الفاعل فهو "كفاية"، فَرْضًا كان (كالجهاد) أو سُنَّةً (كابتداء السلام).
فإذَا أردت تعريف المطلوب على الكفاية فرضًا كان أو سُنةً، فَقُلْ: هو مُهِمٌّ يُقْصَدُ حصولُه مِن غَيْر نَظَر بِالذَّات إلى فاعِله.
فالقيد الأخير مُخرج للمطلوب على الأعيان. وأَصْل هذا التعريف للغزالي، إلَّا أنه قال:(كل مُهِم ديني يَقصد الشرع حصوله مِن غير نَظَرٍ إلى فاعله).
حكاه عنه الرافعي في كتاب السير، وقال:(أشار به إلى حقيقة "فرض الكفاية"، ومعناه أنَّ فروض الكفايات أمور كُلية يتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم الأمرُ إلا بحصولها، فَيَقصد الشارع حصُولها ولا يَقْصد تكليف الواحِد وامتحانه بها، بخلاف فروض الأعيان، فإنَّ الكُل مكلَّفون بها، مُمْتَحَنون بتحصيلها)
(2)
. انتهى
وقد عرفت أنَّ هذا التعريف يدخل فيه "سُنة الكفاية"؛ فإنه لم يَقُل: (يقصد الشرع حصوله لزومًا). فينبغي أنْ يُجْعَل تعريفًا للكفاية مِن حيث هو كما قررناه.
نَعَم، أَسْقَطتُ مِن لَفْظ الغزالي "كُل"؛ لأنها للأفراد، والتعريفُ للماهية. وأسقطتُ لفظة "ديني"؛ ليدخل نحو الحِرَف والصناعات وإنْ كان الغزالي لا يَرى أنها "فرض كفاية" كما
(1)
في (ز): عليه الصلاة والسلام.
(2)
العزيز شرح الوجيز (11/ 352).
قاله في "الوسيط" تبعًا لإمامه، لكن الأصح خِلَافُه.
ولا بُدَّ مِن زيادة "لذاته" في قوله: (مِن غَيْر نَظَرٍ إلى فاعله)؛ لأنَّ ما مِن فِعل يتعلق به الحكْم إلَّا ويُنْظر فيه للفاعل؛ حتى
(1)
يُثاب على واجبه ومندوبه ويُعاقَب على ترك الواجب، وإنما يفترقان في كَوْن المطلوب عينًا يُخْتَبر فيه الفاعلُ ويُمْتَحَن؛ لِيُثاب أو يعاقَب كما قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، والمطلوب كفاية يُقْصَد حصولُه قَصْدًا ذاتيًّا، وقَصْدُ الفاعل فيه تبعٌ، لا ذاتي.
وقولي: (وابْتِدَا التسْلِيم) قُصر للضرورة، وهو مثال لسُنة الكفاية.
واعْلَم أنَّ فروض الكفاية كثيرة، عَدَّ منها أصحابنا أول "كتاب السير" طائفة، وأمَّا سُنن الكفاية فزعم القاضي حسين والشاشي أنه ليس منها إلا ابتداء السلام مِن الجَمْع.
ورُدَّ ذلك بأنَّ منها تشميت العاطس بين جَمْع، والأضحية في حق أهل البيت، والأذان والإقامة في حق كل جماعة إذَا قلنا بالصحيح: إنهما سنتان، وتسمية الآكِلين جماعة، فإنه إذَا سمى واحدٌ منهم، أجزأ عن الباقين. نَصَّ عليه الشافعي كما نقله عنه النووي في "الطبقات" و"الأذكار".
وقولي: (وَهْوَ على الكُل) أَيْ: فرض الكفاية أو سُنتها يتعلق بكل المكلَّفين حيث خوطبوا به، لا على البعض، كنظيره في المخيرة؛ لِتَعَذُّر خِطاب المجهول، بخلاف خِطاب المعيَّن بالشيء المجهول.
هذا قول الأكثر، وهو منصوص الشافعي في "الأُم" حيث قال: (حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع عامَّتهم تركُه، وإذا قام به مَن فيه كفاية، أجزأ عنهم إنْ شاء الله تعالى، وهو كالجهاد، عليهم أنْ لا يَدَعُوهُ، وإذا انْتُدِبَ منهم مَن يكفي الناحية التي
(1)
هنا أول الورقة (38) مِن نُسخة (ت)، وما قبلها ساقط كما سبق بيانه.
يَكون فيها الجهاد، أجزأ عنهم، والفضل لأهل الولاية بذلك على أهل التخلف عنه)
(1)
.
وقال أيضًا في باب السلف فيمن حضر كتاب حق بين رجلين: (ولو ترك مَن حَضَر، خفتُ أنْ يأثموا، بل لا أراهم يخرجون مِن الإثم، وأَيُّهم قام به أجزأ عنهم)
(2)
.
وذكر نحوَهُ في الشهود إذَا دعُوا للأداء، وجرى عليه أصحابه في طرقهم ومِن الأصوليين الصيرفي والقاضي أبو بكر والشيخُ أبو إسحاق والغزاليُّ، واختاره ابنُ الحاجب، ونقله الآمدي عن أصحابنا.
وذهب الإمامُ الرازي وأتباعُه إلى أنه على البعض، واختاره صاحب "جمع الجوامع" مخالفًا لِوالده ولِلجمهور كما قال.
واحتج هؤلاء بظواهر، مِثل قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]، الآية، {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] الآية.
والأولون نظروا للمعنى، وحمل هذه الظواهر على مَن يسقط به، وهو محل وفاق أنه يسقط بفعل البعض.
قالوا: فليس كالمطلوب المخيَّر (كالكفارة)، إذْ لا يعقل تأثيم طائفة غير معيَّنة ولا إثابتُهم، ولا يمكن أنْ يقال: مُعَيَّنة. فوجب المصير إلى التعلق بالكُل.
فإنْ قِيل: فما الفرْق - على القول بتعلقه بِالكُل - بيْنه وبين المطلوب مُعَيَّنًا؟
قيل: ما سبق مِن ملاحظة ابتلاء الفاعل في المعيَّن، وملاحظة حصُول المطلوب في
(1)
الأم (1/ 313).
(2)
الأم (3/ 91 - 92).
الكفاية مِن غير نَظَر بالذات إلى فاعله، و [لذلك]
(1)
إذا فَعل البعض، سقط عَمَّن سواهم، بخلاف المعَيَّن. فهو مُبَاينٌ له تبايُن النوعين، خلافًا للمعتزلة في قولهم:(تبايُن الجنسين)؛ إذِ الواجب أو المندوب صادق على الأمرين بالتواطؤ مِن حيث إنَّ كُلًّا منهما لا بُدَّ مِن وقوعه أو وقوعه محصل لِمَا يترتب عليه مِن الثواب، فليس لفظ الفرض والسُّنة مشتركًا بينهما اشتراكًا لفظيًّا كما يزعمون.
فإنْ قِيل: إذَا كان على الكل، فكيف يسقط بفعل البعض؟
قيل: لأنَّ المقصود قد حصل، فطلبه بَعد ذلك طلب لتحصيل الحاصل. ومن هنا يُعْلَم أنه إنما يسقط بإتمام مَن فَعَل قَبْلهم، لا بالشروع فقط؛ لجواز أنْ ينقطع بالخروج منه.
قيل: ويحتمل أنْ يبنى على أنه يَلْزم إتمامُه بالشروع. وسيأتي الخلاف فيه.
وفيه نَظَر؛ لجواز انقطاعه بغير الاختيار؛ لموت أو جنون. نَعَم إنما يسقط الفرض عمن لم يفعل إذَا عَلم أو ظَنَّ أنَّ غيره قام به، وإلَّا فيأثم ولو كان في نفس الأمر قد فعله غيره، كما أنه لا يأثم إذَا عَلِم أو ظنَّ أنَّ غيره قام به والواقع أنَّ أحدًا لم يَفْعَله.
وهذا معنى قولي: (حيث ذاك يُضْبط). أَيْ: إنما يسقط حيث حصل الضبط أنَّ غيره فعل بِعِلْم أو ظَن.
واعلم أنه إنما يَسقط بِفعل مَن هو مكلَّف، لا كَرَدِّ صَبِي مِن الجماعة السلام، إلَّا أنْ يحصل المقصود بتمامه بفعله، كصلاته على الجنازة، أو حمل الميت ودفنه، ونحو ذلك.
قال في "شرح المهذب": (وكالصبي إذَا أَذَّن وقُلنا: الأذان فَرْض كفاية)
(2)
.
وهل يُعتبر فيمن سبق أنْ يَكون آدميًّا، لا مَلَكًا أو جِنيًّا؟
(1)
في (ص، ض): كذلك.
(2)
المجموع شرح المهذب (3/ 109).
لم يتعرض أحد [للثانية]
(1)
. قِيل: ويتخرج على أنَّ الجن هل هُم مكلَّفون بالأحكام؟ فإنْ قُلنا: (نعم) وهو الصحيح، اكتُفي بهم.
ولم يتعرض للأُولى إلَّا الشيخ أبو إسحاق في "تذكرة الخلاف" في مسألة تغسيل الشهيد الْجُنب أنَّ غسل الملائكة لا يُسْقِط ما تُعبِّد به الآدمي في حق الميت. قال: (وقياسُ سائر فروض الكفايات كذلك). انتهى
قلتُ: وهو يقتضي أنَّ الشهيد جُنبًا يغسل، لكن الأصح أنه لا يغسل؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يغسل حمزة، وروى الحاكم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أخبرني جبريل أنه قُتِلَ جُنبًا، فغسلته الملائكة"
(2)
. وقال: صحيح الإسناد.
إلَّا أنْ يُقال: إنَّ غَسْل الملائكة للشهيد الجنب خاص بحمزة، عَلِمْناه بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبر في حنظلة لَمَّا قُتل في أُحُد.
أو يُقال: إنَّ الشهادة أسقطت التغسيل، والإخبار بتغسيل الملائكة إكرامٌ وخصوصية لا يتعدى إلى غيرها.
(1)
كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): لبيانه.
(2)
المستدرك على الصحيحين (رقم: 4885) بلفظ: "قُتِلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جُنبًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: غَسَّلَتْهُ المَلائِكَةُ". قال الحافظ ابن الملقن في (تحفة المحتاج، 1/ 606): (فيه مُعَلَّى بن عبد الرحمن أحد الهلكى). وقال الحافظ ابن حجر في (إتحاف المهرة، 8/ 57): (مُعَلَّى ضعيف جدًّا). وانظر: (سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1993).
تنبيهات
أحدها: إذا قُلنا: إنه يتعلق بالجميع، فهل المعنى يتعلق بكل واحدٍ؟ أو بالجميع مِن حيث هو جميع؟
في "تلخيص" الإمام عن القاضي ما يقتضي الأول، وظاهر عبارة الأكثرين الثاني.
وذكر الشيخ تقي الدين السبكي في تحقيق كَوْنه على الكل ثلاثة معانٍ:
أحدها: أنْ يَكون معناه أنَّ كُل مكلَّف مخاطَبٌ به، فإذَا قام به بعضٌ، سقط عن غيرهم رخصةً وتخفيفًا؛ لحصول المقصود.
والثاني: أنَّ الجميع مخاطَبون بإيقاعه منهم مِن أَيِّ فاعلٍ فَعَلَهُ، ولا يَلْزَم على هذا أنْ يَكون الشخص مخاطَبًا بفعل غيره.
(قال: لأَنَّا نقول: كُلِّفُوا بما هو أَعَمُّ مِن فِعْلهم وفِعل غيرهم، وذلك مقدورٌ بتحصيله منهم؛ لأنَّ كُلًّا قادرٌ عليه ولو لم يفعله غيره. و"فرض العين" المقصود [منه]
(1)
امتحان كل واحدٍ بما خُوطِبَ به لحصول ذلك الفعل منه بنفسه، لا يقوم غيره مقامه، وقد يكون مِن فرائض الأعيان على جماعةٍ [ما يُشْتَرط]
(2)
في فِعْل كُلٍّ منهم فِعْل غيْره، كالجمعة لا تصح إلا مِن جماعة)
(3)
.
والثالث: أنَّ كل مكلَّف مخاطَبٌ ما لم يَقُم به غيرُه. فإنْ قام به غيرُه، تَبَيَّن أنه لم يخاطَب
(1)
في (ص): فيه.
(2)
في (ض): الشرط.
(3)
هذا جاء في (ز) هكذا: (لأن ذلك فيما هو أعم من فعله وفعل غيره، فهو مقدورٌ له بوجهٍ، بل بعض فروض الأعيان كذلك، فإن الجماعة شرط في الجمعة، فقد اشترط في فعل المكلف بها فِعْل غيْرِه).
به. انتهى
(1)
.
قلتُ: أمَّا الأول والثاني فهُما القولان السابقان في تَعَلُّقه بكل فرد أو بالجميع. وأمَّا الثالث فهو ما حكاه المتولي في مقابلة القول بتعلقه بالجميع، وحاصله قول بأنه تعلق ببعضٍ مُبْهَم يتعين بفعله. ونظيره في مسألة المخيَّر أنَّ الواجب يتعين بفعله كما سبق.
وحُكى هنا أيضًا قولٌ بأنه يتعلق ببعضٍ مُعَيَّن عند الله كما قِيل بنظيره أيضًا في المخَيَّرة.
وحكى ابن السمعاني قولًا يَكون خامسًا، وهو التفصيل بيْن أنْ يَغْلب على ظن المكلَّف أنَّ غيْره قام به فلا يتعلق به، أو لا يَغْلب فيتعلق بكل واحد. واستحسنه.
الثاني: قال ابن السمعاني: الخلاف في المسألة لفظي.
ونُوقِشَ بأنَّ فائدته تظهر فيمن فَعَله بَعْد فِعل غيره، هل يقع فَرْضًا؟ وفي أنه هل يَلْزَم بالشروع؟ وسيأتيان.
الثالث: وهو مما سبق الوعدُ به: هل يَلْزَم فَرْضُ الكفاية بالشروع؟
قال ابن الرفعة في "المطلب" في كتاب الوديعة: إنه لا يَلزم. وقال في باب اللقيط: إنَّ مُقَابِلَه إنما هو بحث للإمام.
ولم يرجح الرافعي والنووي شيئًا على الإطلاق، بل هو عندهما مِن القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح؛ لاختلاف المرجح في فروعها، كما في الإبراء: هل هو إسقاط؟ أو تمليك؟ والنذر: هل يسلك به مسلك الواجب؟ أو الجائز؟ ونحو ذلك.
ففي الجهاد يَلزم بحضور الصف، وفي صلاة الجنازة وما يتعلق بها يجب إتمامه. وصحَّحَا في المتعلم إذا آنَسَ مِن نفْسه النجابة أنه يجوز له التَّرْكُ بَعْد أنْ نقلَا عن القاضي
(1)
انتهى النقل عن السبكي، وكلامه في الإبهاج (1/ 100).
الحُسَين أنه يحرم.
قالا: لأنَّ الشروع لا يغير حُكم المشروع فيه.
وكذا قال القفال وغيره، قالوا: ولذلك لا يلزم التطوع بالشروع فيه.
وقد سبق - في إتمام الحج والعمرة تطوَّعًا - كلامٌ في مباحث المندوب ينبغي أنْ يُراجَعَ.
وجعل بعضهم ذلك قاعدة كُلِّية [مستثنى]
(1)
منها، فقال البارزي في "التمييز":(لا يَلْزَمُ فَرْضُ الكفاية بالشُّروع - في الأصح - إلَّا في الجهاد وصلاة الجنازة). انتهى
وخروج هذين لِمَا في الأول مِن تخذيل المسلمين وكَسْر القلوب، ولمَا في الثاني مِن هتْك حرمة الميت.
نَعَم، هذا كُله إذَا شرع مِن غير أنْ يسبق فِعْل غيره، فإنْ كان كذلك فَمَحَل نَظَر.
وفي "البحر": (لو شرع في صلاة [جنازة]
(2)
بَعْد ما صُلِّي عليها، هل له الخروج؟ يحتمل وجهين ينبنيان على أصل، وهو أنَّ الصلاة الثانية تقع فرضًا؟ وفيه جوابان، القياسُ عندي لا؛ لأنَّ الفرض ما لا يجوز تركه على الإطلاق)
(3)
. انتهى
وينبغي جريانه في سائر فروض الكفايات. نَعَم، جزم الرافعي والنووي في هذه الصورة بوقوع الثانية فرضًا.
فرع: هل يلتحق تعيين الإمام بالشروع في لزومه؟ فيه خِلَاف صَنَّف فيه ابنُ التلمساني.
وقال الصيدلاني: لو أمر الإمام شخصًا بتجهيز ميت، تَعَيَّن عليه، وليس له استنابة غيره
(1)
في (ش): يستثنى.
(2)
في (ت): الجنازة.
(3)
بحر المذهب (3/ 356).
ولا أجرة له.
قلتُ: وصرحوا أيضًا - في تعيين الإمام طائفة للجهاد - بالوجوب.
وفي "الكفاية" عن ابن الصباغ والبندنيجي أنهما حكيَا وجهين فيما لو عَيَّن الإمامُ شخصًا للقضاء: هل يتعين عليه؟ ولكن هذا إنما هو لتنفيذ أقضيته وخوف وقوع الفتنة بمخالفته، بل لو أَمَر بِسُنة كان كذلك كما قاله النووي في فتاويه في أمره بالصوم في الاستسقاء: إنه يصير واجبًا.
الرابع: إذَا أتى جَمْعٌ بِفَرض الكفاية دفْعَةً بحيث لو انفرد كُلٌّ لأسقطه، كان كلٌّ منهم آتِيًا بواجب وإلَّا لَزم التَّحَكُّم.
حكاه إمام الحرمين في "باب الجنائز" عن الأئمة، ثُم قال:(ويحتمل أنْ يجعل كمسح الرأس في الوضوء دفعة: هل الفرض الكُل؟ أو ما يقع عليه الاسم؟ وقد يقول الفطِنُ: رُتبة الفرضيَّة فوق السُّنية، وكُل مُصَلٍّ مِن الْجَمْع ينبغي أنْ لا يُحْرَم الفرضية وقد قام بما أُمِر به، وهذا لطيفٌ لا يصح مِثْله في المسح)
(1)
. انتهى
ومن هنا قال الشيخ في "شرح الإلمام": إذَا باشَر "فَرْضَ الكفاية" أكثر [مِمَّن]
(2)
يَحْصُل به تَأَدِّي الفَرْض، هل يُوصَف فِعْل الجميع بالفرضية؟ [أمْ]
(3)
لَا؟
ثُم قال: ونحن إذَا قُلنا: يستحب الشروع والابتداء، لم نُرِد به أنه يقع مستحبًّا في حقه إذَا شرع فيه مع غيره.
فإنْ أتوا بِـ "فرض الكفاية" على التعاقب، فالثاني فَرْضٌ كما قاله النووي في باب الأذان
(1)
نهاية المطلب (3/ 67).
(2)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ض، ش): من.
(3)
كذا في (ز)، لكن في (ص): أو.
من "تحرير التنبيه". وسبق نقل جزم الرافعي والنووي في صلاة الجنازة به، ولكن الروياني حكى فيه وجهين. وفصل ابن عبد السلام بين أنْ يَكون الأول حَصَّل تمام المصلحة فلا يَكون الثاني فَرْضًا، أوْ لا فيكون، كأنْ يخرج للعدو مَن يستقل بذبِّهم، ثم يلحق آخرون قبل [الانقضاء]
(1)
، فالكل في فرضٍ وإنْ تَفاوتَت رُتبَهم في الثواب. وكتحرُّم مُصَلٍّ على الجنازة بَعْد تحرُّم غيره قَبْل أنْ يُسَلِّم، بل وكذا إنْ سَلَّم - مِن حيث إنَّ صلاة الجنازة لا تقع نَفْلًا. قاله القاضي والإمام والغزالي، وقال النووي: لا خلاف فيه.
وفيه نَظَر؛ فقد سبق أنَّ في "البحر" فيه في أصل فرض الكفاية وجهين.
وكَرَدِّ السلام [بَعْدَ رَدِّ غيْره]
(2)
، ونحو ذلك.
وقولي: (مِن ثَمَّ كَانَ فِعْلُهُ أَهَمَّا) أَيْ: مِن أَجْل ما سبق مِن تَعَدِّي نَفْع [القائم]
(3)
بفرض الكفاية [كان]
(4)
الاهتمام به أهم
(5)
.
قال النووي في "الروضة" في كتاب السير مِن زوائده: (قال إمام الحرمين في كتابه "الغياثي": الذي أراه أنَّ القيام بِـ "فَرْض الكفاية" أفضل مِن "فرض العين"؛ لأنَّ فاعله ساعٍ في صيانة الأُمة كُلها عن المأثم، ولا شك في رجحان مَن حَلَّ مَحَل المسلمين أجمعين في القيام بمهم مِن مهمَّات الدِّين)
(6)
. انتهى
(1)
في (ز): الانقضاض.
(2)
كذا في (ز، ت). لكن في (ص، ض، ق، ش): بعذر وغيره.
(3)
كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ش): العام.
(4)
كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ش): لأن.
(5)
من قوله: (أي من أجل) إلى: (به أهم) ساقط من (ص، ض).
(6)
روضة الطالبين (10/ 266).
وفيه قصور عن المنقول؛ فَقَدْ قاله والدُ الإمام في كتابه "المحيط"، والأستاذُ أبو إسحاق في "شرح كتاب الترتيب"، ونقله عنهما ابنُ الصلاح في "فوائد الرحلة"، ونقله أبو علي السنجي أول "شرح التلخيص" عن أهل التحقيق، فقال ما نَصُّه:(إنَّ فرض الكفاية أهم مِن فرض الأعيان، والاشتغال به أفْضل مِن الاشتغال بأداء فرض العين).
هذا صوابُ النقل، فَمَن زَعَم على هؤلاء أنهم قالوا:(إنَّ "فرض الكفاية" أفْضل "مِن فرض العين")، فَقَدْ وَهِمَ.
نَعَم، قد يُقال: إنَّ في كلام الشافعي والأصحاب ما يخالف ذلك، فَفِي "الأُم":(إنَّ قَطْعَ الطواف المفروض لِصلاة الجنازة أو الراتبة مكروهٌ؛ إذْ لا يَحْسُن تَرْك "فَرْض العين" لِـ "فرض الكفاية"). وجَرَى عليه الأصحابُ كالرافعي في بابه.
وقال في "الإحياء" فيمن يترك الصلاة و [يتجر]
(1)
في تحصيل الثياب ونَسْجها قَصْدًا لِستْر العورات يزعم أنَّ ذلك حَقٌّ: (إنه كذاب)
(2)
.
وقد يجاب بأنَّ الأهمية ليست في كل موضع، بل الحكْم يختلف باختلاف الأحوال، ففي مَن ينقذ غريقًا وهو صائم لا يتمكن منه إلا بالإفطار: يفطر؛ لِئلَّا يُفَوِّت مصلحة "فرض الكفاية"، وهو مما لا يُسْتَدْرَك. وفي مَن تَعَارَضَ معه مكتوبة وجنازة: يُقَدِّم المكتوبة؛ لأنَّ صلاة الجنازة تُسْتَدْرَك. بل قد تُقَدَّم السُّنة على الفرض حيث يخشى فواتها دُون فواته، ككسُوف مع مكتوبة مُتسعة الوقت ويخشى الانجلاء.
والفقيه يتأمل المواطن، ويُنزل كلام العلماء على ما يليق به.
واعْلَم أنه يأتي في سُنة الكفاية ما سبق فيمن أتى بها بَعْد أنْ فُعِلَتْ أو دفْعَة، وفي كَوْن
(1)
كذا في جميع النُّسَخ، والذي في إحياء علوم الدِّين (1/ 43): يتجرد.
(2)
إحياء علوم الدِّين (1/ 43).
الاشتغال بها أَهَم مِن سُنة العين، ونحو ذلك. والله أعلم.
ص:
170 -
ثَالِثَةٌ: خُيِّرَ في الْمُوَسَّعِ
…
بِأَنْ [يَفُوقَ]
(1)
الْوَقْتُ فِعْلَ الْمُوقَعِ
171 -
كَالظُّهْرِ وَالْعِيدِ، فَهَذَا يُطْلَبُ
…
بِأَوَّلِ الْوَقْتِ إلى مَا يَذْهَبُ
172 -
أنْ يَشرَعَ الْفَاعِلُ حَيْثُ شَاءَهْ
…
مَا لَمْ يَصِرْ زَمَانُهُ زُهَاءَهْ
173 -
أَوْ يَضِقِ الْوَقْتُ بِظَنِّ قَطْعِهِ
…
بِمَوْتٍ اوْ بِحَيْضٍ اوْ بِمَنْعِهِ
الشرح: المسألة الثالثة: في التخيير في زمان الفعل المطلوب والتعيين.
فالفعلُ المطلوبُ بإيجاب أو نَدْب لا بُدَّ له مِن زمان يُوقَعُ فيه بالضرورة، فذلك الزمان إنْ كان مقصودًا بِأَنْ عَيَّن [الشارع]
(2)
ابتداءَه وانتهاءَه، فيُسمَّى "المؤقَّت"، وإلَّا فَـ "المُطْلَق".
وهذا "المطْلَق" هل هو على الفور؟ أو التراخي؟ يأتي بيان الخلاف فيه في فصل "الأمر".
والأول إمَّا أنْ يساوي فيه الوقتُ الفعلَ أو ينقص عنه أو يزيد عليه. فالثالث هو المقصود هنا، وهو المسمَّى بِـ "المُوَسَّع"، وهو المراد بِقولي: (بِأَنْ [يَفُوقَ]
(3)
الْوَقْتُ فِعْلَ الْمُوقَعِ). أَيْ: يَزيد عليه، ولهذا سُمِّي "مُوَسَّعًا"؛ لِكَوْن الوقت فيه أوسع مِن الفعل.
وهو مجازٌ؛ لأنَّ الموسَّع في الحقيقة الوقت، لا الفعل.
ومَثَّلْتُه بمثالين فَرْض وسُنة، فالفرض: كالظهر فيما بين الزوال ومصير ظل الشيء مِثله،
(1)
كذا في (ص، ز، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ش، ق، ن 2): يفوت.
(2)
كذا في (ض، ق، ت، ش). لكن في (ز، ص): الشرع.
(3)
كذا في (ص، ز، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ش، ق، ن 2): يفوت.
والسُّنة: كصلاة العيد فيما بين طلوع الشمس والزوال.
والحكْم في هذا القِسم أنَّ الطلب يتعلق بالفعل أول الوقت [ليفعله]
(1)
في أَيِّ وقتٍ شاء مِن أوله إلى آخِره.
ووجْه ذلك في الظهر مَثلًا أنه تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. أَيْ: في ابتداء زوالها وميلها إلى جهة الغروب، مع ما ورد في حديث إمامة جبريل:"الوقتُ ما بَيْن هذين"
(2)
؛ فاقتضَى ما ذكرناه.
وهذا ما لم يَضِق الوقتُ بأنْ يَمُر حتى لا يبقى منه إلا قَدْر الفعل سواء، فإنَّ التخيير يرتفع، أو يتضيَّق على المكلَّف بِظَنه انقطاع الوقت بموتٍ، كأنْ قُدِّمَ للقتل، أو بحيضٍ كما صَوَّر به الإمامُ في "النهاية" بأنِ اعتادت مجيء الحيض ذلك الوقت، أو طرآن جنون متقطع اعْتِيدَ ذلك الوقت.
وهو معنى قولي: (مَا لَمْ يَصِرْ زَمَانُهُ زُهَاءَهْ)، أَيْ: قَدْرَه، وهو بِضَم الزاي والمدِّ كما اقتضاه كلام الأخفش، وعليه اقتصر صاحب "المشارق"، لكنه في "الصحاح" أَوْرَدَه في المعتل. ويقال فيه أيضًا:(لُهَاء). باللام بَدَل الزاي.
وقولي: (أَوْ يَضقِ) عطفًا على (بَصِر) المجزوم بِـ "لم"، وكُسِر لالتقاء الساكنين.
وقولي: (أَوْ بِمَنْعِهِ) أَيْ: أو بحالة تمنع وقوع الفعل، كالجنون المتقطع كما سبق.
وللعلماء في إثبات الموسَّع طريقان:
أحدهما: الاعتراف به، وبه قال الجمهور مِن الفقهاء والمتكلمين والأشاعرة وغيرهم،
(1)
في (ص): ليعلفه.
(2)
سنن أبي داود (رقم: 393)، سنن الترمذي (149) وغيرهما. وانظر: صحيح مسلم (614). وقال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 249).
واختاره الإمامُ وأتباعُه، ونُقِل عن جَمعٍ مِن الحنفية، فقال الأستاذ أبو منصور بعد أنْ نقلَهُ عن أصحابنا: إنه ذهب إليه مِن أهل الرأْي محمد بن شجاع البلخي
(1)
. ونقله ابن بَرهان في "الأوسط" عن أبي زيد منهم.
الثاني: إنكاره؛ استنادًا إلى أنه لو وَجَبَ، لَمْ يَجُز تأخيره؛ إذِ التأخيرُ تَرْكٌ، والواجب لا يُترك كما سبق نظيرُه في خصال الكفارة.
ويُجاب عن هذا كما هناك أنَ كُل فرد مِن المخيَّر وكُل جزءٍ مِن الوقت له جهة عموم وهو كَوْنه أحد أشياء، وَجِهَة خصُوص وهو الشخص الذي يتميز به عن غيره، ومتعلَّقُ الوجوبِ جهةُ العموم، ولا تخيير فيه، ولا يجوز تركه، أَيْ بأنْ يُخْلي جميع الوقت منه أو يترك جميع الخصال، ومحلُّ التخييِر جهةُ الخصوص، وبتركه لا يكون تاركًا للواجب، وقد سبق تقريره في [المخيَّر]
(2)
مبسوطًا.
وفي تقرير طريق المنكِرين للموسَّع مذاهب:
أحدها: أنَّ الوجوب أو الندب في المندوب يختص بأول الوقت، فإنْ أخَّره عنه فقضاء؛ لحديث:"الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخِره عفو الله"
(3)
. وليس المقتضي للعفو هنا إلَّا العصيان بخروج الصلاة عن وقتها. وهذا حكاه أبو الحسين في "المعتمد" عن بعض الناس، وحكاه صاحب "المصادر" عن بعض الشافعية، وكذا الإمامُ في "المعالم"، والبيضاوي في "المنهاج" حيث قال:(ومِنَّا مَن قال كذا)، إنْ أراد مِن الشافعية، أما إنْ أراد مِن
(1)
كذا في جميع النسخ، ويقال: الثلجي.
(2)
في (ش): المخيرة.
(3)
سنن الترمذي (رقم: 172)، السنن الكبرى للبيهقي (1890). قال الألباني: موضوع. (إرواء الغليل: 259). وانظر كلام الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 3/ 206).
الأصوليين فقريب كما وقع في "المحصول" و"المنتخب" إذْ قال: (ومن أصحابنا)؛ لأنَّ هذا القول لا يُعْرف عن الشافعية.
قال [المَسِيلي]
(1)
: سألت ابن الرفعة وهو أوحد الشافعية في زمانه، فقال: لم أترك مِن الكتب المشهورة في المذهب شيئًا إلَّا وقد طلبت هذا القول منه، فلم أجده.
وقال ابن التلمساني: (لا نعرفه في مذهب الشافعي، ولَعَلَّ مَن عزاه التبس عليه بوجه الإصطخري المشهور: إنَّ ما يفْعل فيما زاد على صلاة جبريل في الصبح والعصر يَكون قضاء). انتهى
وهو فاسد؛ لأنَّ الوقت عنده لم يخرج بذلك عن أنْ يَكون مُوَسَّعًا.
ومنهم مَن أخذه مِن تضييق وقت المغرب (على الجديد). وهو فاسد؛ لأنَّ ذاك مِن الضَيَّق كما سيأتي.
ومنهم مَن [قال]
(2)
: أخذه مِن قولهم: إنَّ الصلاة تجب بأول الوقت. فظنَّ أنَّ الوقت للصلاة. وليس كذلك، إنما هو للإيجاب.
وقيل: أخذه مِن قول الشافعي: رضوان الله أحبُّ إلينا مِن عفوه.
وقيل: مِن نَقْله في "الأُم" في كتاب الحج أنَّ قومًا مِن أهل الكلام وغيرهم ممن يفتى ممن يقول: "إنَّ وجوب الحج على الفور" يقولون: إنَّ وجوب الصلاة يختص بأول الوقت، حتى لو أخَّره عن أول وقت الإمكان عَصَى بالتأخير. انتهى
وكأنه ظن أنَّ الشافعي وافقه على قوله، وهو وَهْمٌ واضح. وأيضًا فقائله لم يَقُل:"إنَّ الوقت يخرج ويصير قضاء بَعْد أوله" كما هو صريح نقل الإمام الرازي في "المعالم"، بل إنه
(1)
كذا في (ز، ص، ت). وفي (ش): السبكي. وفي (ض، ق) كأنها: السيلي.
(2)
ليس في (ش).
يَعْصِي بالتأخير، ولا يَلْزَم مِن العصيانِ خروجُ الوقت.
نَعَم، هو قادح في حكاية القاضي أبي بكر -وجَرَى عليه ابنُ الحاجب- الإجماعَ على عدم تأثيم مَن أَخَّر عن أول الوقت، حتى إنَّ بعضهم عَبَّر عن هذا القول بأنه آخِر الوقت قضاء يَسُد مَسد الأداء.
وما نقله الشافعي رحمه الله أَثْبَت وأَوْلَى، ومَن حَفِظَ حُجَّةٌ على مَن لم يحفظ.
نَعَم، في "تقريب" القاضي وكذا في "الأصول" لابن القشيري أنَّ القائلين بأنه "يجب بأول الوقت، وهو قضاء في الثاني" يُجَوِّزون التأخير. قال: (ونُقل عن مالك قريبٌ مِن ذلك في الحج وغيره مِن العبادات المتعلقة بالعُمر، ورأى [نقل]
(1)
ذلك في الصلاة). انتهى
الثاني: أنَّ الوجوب يختص بآخِر الوقت، وأنَّ أوله سببٌ للجواز، فالمأْتي به في الأول تعجيل، كإخراج الزكاة قَبْل الحول. وظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان" اختياره، ورَدَّه ابن التلمساني بأنَّ التقديم لا يصح فيه بِنِيَّة التعجيل إجماعًا. نَعَم، هو منقول عن الحنفية أو أكثرهم كما نقله أبو بكر الرازي، وكذلك شمسُ الأئمة السرخسي نقل عن [البلخي]
(2)
وأكثر مشايخهم العراقيين ذلك، ولكن الدبوسي قال في "تقويم الأدلة" بالوجوب الموسَّع، وأَبْطَل القول [بتعليقه]
(3)
بالأخير.
الثالث: مِثْلُه، إلَّا أنه يقول: إنَّ التقديم نَفْلٌ يُسْقِطُ الفرضَ. ونقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عن الحنفية، ولكن بعض شارحي "الهداية" قال: (إنه قولٌ ضعيف لبعض
(1)
كذا في (ص، ض، ق، ش). لكن في (ز): مثل. وفي متن (ت): (نقل)، وصححت في هامش (ت):(مثل).
(2)
كذا في جميع النُّسَخ.
(3)
كذا في (ص، ظ، ت)، لكن في (ص): بتعلقه.
أصحابنا، وليس منقولًا عن أبي حنيفة، والصحيح عندنا أنه يجب بأول الوقت وجوبًا مُوَسَّعًا). انتهى
وضُعِّف بأنَّ النفل لا يَقُوم مقام الفرض أبدًا، حتى لو صلى ألف ركعة بَدَلًا عن ركَعَتَي الصبح ما سقطت. فإنْ أُرِيدَ أنَّ النَّفْلِية فيه باعتبار المبادرة إلى الطاعة قَبْل استحقاقها، رجع للذي قَبْله. على أنَّ لنا صُوَرًا يسقط الفَرْضُ فيها بفعل النفل، لكن لا مِن حيث كَوْنه نَفْلًا، كغسل اللمعة في الكرَّة الثانية أو الثالثة إذَا تُركت في الأُولى، أو عند نسيان أنه توضأ فيُعيد الوضوء وتنغسِلُ اللمعة المتروكة أوَّلًا، وكقيام جلسة الاستراحة مقام الجلوس بين السجدتين حيث نسي السجدة الثانية فسجدها، وكصلاة الصبي على الجنازة مع وجود البالغين، وكالصبي إذَا صَلَّى ثم بَلغَ في الوقت بَعْد الفراغ أو في أثنائها.
الرابع: أنَّ الوجوب يتعلق بِآخِر الوقت إذَا بقي منه قَدْر تكبيرة.
الخامس: ويُنقل عن الكرخي مِن الحنفية، أنَّ الآتي بالعبادة أول الوقت إنْ بَقِي بِصِفَة الوجوب إلى آخِر الوقت (أي: بصفة تقتضي تَعَلُّق الوجوب به، أَيْ: ويقاس عليه في الندب أنْ يبقى بِصِفَة تقتضي تعلُّق الندب به)، فيَكُون ما فَعَله حينئذٍ واجبًا في الوجوب وسُنة في الندب. وإنْ طرأ ما يمنع (كموت وجنون وحيض)، تَبَيَّن أنَّ فِعْله في الواجب نَفْل.
ومنهم مَن ينقل عنه أنه قال: إنْ كان آخِر الوقت بصفة الوجوب.
ومُقْتَضَى ذلك أنها إذَا زالت وعادت، يَكون كما لو بقيت إلى آخِر الوقت.
قلتُ: وقد يُقال: إنَّ مُرادَه بِـ "الآخِر" ما بَعْد وقت الفعل (الذي فَعَله) إلى أنْ ينقضي الوقت، لا "الآخِر" المتَخَلِّل بَيْنه وبَيْن الأول وسط؛ لأنَّ مُدْرك الكرخي أنَّ الوقت متى زال التكليف فيه، لم يتبين تعلق الأمر فيه، وإلَّا فقد وُجِد أولُ الوقت بصفة التكليف، فزوال صفة التكليف وعودها آخِر الوقت -لا مَعْنى له. وعلى هذا التقدير يتحد النَّقْلان ويصيران قولًا واحدًا.
السادس: أنَّ الوجوب أو الندب يتعلق بالفعل أَيّ وقتٍ يشرع فيه، إلى أنْ يضيق الوقت؛ فيتعيَّن التعلُّق حينئذ وإنْ لَمْ يَفْعل. ويُنقل ذلك عن الكرخي أيضًا، وادَّعَى الصفي الهندي أنه المشهور عن الحنفية. ونُقِل عن الكرخي قولٌ آخَر: إنَّ الوجوب يتعلق بالفعل أَيّ وقتٍ كان.
فيخرج مِن هذه النقول ومما سبق أقوال كثيرة عن الحنفية.
تنبيهات
الأول: قِيل: إنَّ هذا الخلاف لَفْظي؛ لأنَّ القائلين بالأخير يُجَوِّزون فِعْلَه أولًا، وإنما الخلاف في تسميته "واجبًا".
ولكن قال القاضي أبو الطيب: إنه معنويٌ، وفائدته: هل يُشترَط في جواز تأخيره العَزْمُ؟ وسيأتي بيانه. وفي أنَّ الفعل إذَا مَضَى مِن الوقت مقدار فِعْله وطرأ حيضٌ أو جنون أو غيرُه حتى فات الوقت، يجب قضاؤه على قولنا، ولا يجب على قولهم.
الثاني: مِن العلماء مَن جعل مِن "الموسَّع" ما كان وقته العُمر (كالحج)، حتى يجري فيه ما سبق، والمختار خِلَافُه كما سيأتي.
الثالث: هل [يستقِر]
(1)
(على القول بِـ "الموسَّع") الوجوبُ بمجرد دخول الوقت؟ أو بإمكان الأداء؟ قال الروياني في "البحر": الأصح عند أصحابنا الثاني، ويحكى عن أبي حنيفة. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهبنا. وحكى الأول عن أبي يحيى البلخي مِن أصحابنا، وهو أصح الروايتين عند الحنابلة أيضًا.
(1)
كذا في (ز، ت، ق). لكن في (ص، ش، ض): يستفيد.
وعندنا وَجْه ثالث: أنه لا يستقر حتى يدرك مع الوقت أداء جزء، وهو قول ابن سُرَيج. قال: وإلَّا لَمَا جاز أنْ يَقْصُرها إذا سافر آخِر وقتها؛ لاستقرار فرضها.
وَرُدَّ بأنَّ القَصْر مِن صفات الأداء. قالوا: وهذا مِن ابن سُرَيج رجوع إلى قول الحنفية بوجوبها آخِر الوقت.
والله أعلم.
ص:
174 -
فَإنْ يَبِنْ خِلَافُ مَا قَدْ ظَنَّا
…
فَفِعْلُهُ بَعْدُ أَدَاءٌ هَنَّا
(1)
الشرح: أَيْ: إذَا ظَن المكلَّفُ ضِيقَ الوقت بتوقع موتٍ أو حيض أو جنون وقُلنا: يتضيق عليه، فلا يجوز تأخيره. ومَتَى أَخَّر، عَصَى اتفاقًا.
لكن لو زال ذلك بِأنْ عُفِي عمن قُدِّمَ للقتل، أو لم يَأْتِ مُعْتَادَ الحيضِ أو نوبةِ الجنون [ذلك]
(2)
ثُم أَتَى بتلك العبادة في الوقت حيث يقع في غير هذه الصُّوَر أداء: فهل يكون في هذه الصُّوَر أداءً؛ نَظَرًا إلى ما في نفس الأمر مِن بقاء الوقت؟ أو قضاءً؛ نَظَرًا إلى أنه بَعْد وقته بمقتضَى ظنه؟
قال القاضي أبو بكر في "التقريب" بالثاني، لأنه لَمَّا تضيق ثُم فَعَله، صار كأنه خارج الوقت، وحكى ذلك عن القاضي الحسين مِن أصحابنا. قِيل: ولا يُعْرف عنه إلا أنْ يَكون أَخَذ ذلك مِن مسألة إفساد الصلاة ثم فِعْلها في الوقت، فإنه مِن القائلين بأنها قضاء كما سيأتي.
(1)
المراد به الإشارة للزمان، والقصد به تقييد الفعل بأنه في الوقت قبل خروجه.
(2)
في (ش): ذلك الوقت.
وقال الجمهور - كالغزالي وغيره- بالأول؛ لبقاء الوقت، ولا عبرة بالظن الذي تَبَين خطؤه.
ومحل الخلاف إذَا مَضَى مِن وقت الظن إلى حين الفعل زمنٌ يَسَعُ الفرضَ؛ حتى يتجه القول بالقضاء. أما إذَا لم يمض ذلك وبقي بقية مِن ذلك المقدار فشرع فيها، فليكن على الخلاف فيما إذَا أَوْقَع بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجَه. والأصح (كما سيأتي): إنْ أَوْقَع في الوقت ركعةً، فالكل أداءٌ، وإلا فقضاء.
ومما رُدَّ به رأْي القاضي أنَّ ظن المكلَّف إنما يؤثِّر في "الأحكام التكليفية"، وقد أثَّر هنا في تأثيمه بالتأخير، وأمَّا في "الوضعية" كَكَوْن الوقت باقيًا فَلَا؛ لأنَّ الثواب والإثم يتبع الاعتقادات ولا يقلب حقائق المقَدَّرات.
ويظهر أثَرُ الخلاف فى المسألة في:
- نية الأداء والقضاء.
- وفي أنه لو فُرض ذلك في الجمعة، لا تُقْضَى جمعةً، بل ظُهْرًا.
- وما لو كان في السفر وقُلنا: فائت السفر لا يُقْصَر ولو صُلِّي في السفر، وإنْ كان الراجح خِلَافَه.
قولي: (فَفِعْلُه) مبتدأ، خبرُه "أداءٌ"، فُصِل بينهما بالظرف المبني على الضم؛ لِقَطْعه عن الإضافة، أَيْ: بَعْد التَّبَيُّن. والجُملة جوابُ الشرط.
وقولي: (هَنَّا) بفتح الهاء وتشديد النون -المراد به الإشارة للزمان وإنْ كان في الأصل للمكان، والقصد به تقييد الفعل بأنه في الوقت قبل خروجه، ومِن وروده إشارة للزمان قول الشاعر: حَنَّتْ نوارُ ولاتَ هَنَّا حنَّت.
ويمكن أنْ يُجعَل إشارة للمكان على بابِه، والمرادُ: في مكان هذا التصوير يُنشأُ الحكم،
كما يقول: من هناك قيل بكذا وكذا. فالظرفيَّة فيه مجازية.
تنبيه:
مما يناسِبُ هذه القاعدة مِن الفروع: باعَ مال مُوَرثه يَظُنُّ حياتَه، فبانَ مَيتًا، قولان: أَرْجحهما الصحة. ويجريان أيضًا فيما لو زوج أَمة أبيه على أنه حي فبانَ ميتًا وهو وارثه، أو باع العبد على أنه آبق أو مكاتب فبانَ راجعًا أو فاسخًا للكتابة، ولو وطئ أَمَة نفسه جاهلًا ذلك فولدت، ثبت الاستيلاد على أصح الوجهين، وغير ذلك مما لا ينحصر، وكُله راجع إلى تغيير الأمر الوضعي بالظن أَوْ لا. فإنْ غلبَ فيه التعبُّد، أثَّر الظنُّ فيه، كَمَن صَلَّى خلف مَن ظنَّه امرأة أو خنثى فبانَ ذَكرًا، فإنه باطل؛ لِمَا ذكَرْناه.
وأنت إذَا تتبعت الفروع، لم تجدها تخرج عن ذلك، والله أعلم.
ص:
175 -
وَالشَّرْطُ في تَأْخِيرِهِ لِلثَّاني
…
عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ لَهُ يُدَانِي
الشرح: أَيْ: يتفرع على القول الراجح في الموسَّع (وهو تَعَلُّق الأمر في أول الوقت لِيُوقعه متى شاء مِن الوقت) أنَّ تَرْك الفعل أول الوقت هل يُشْتَرط فيه أنْ يعْزم على الإتيان به في الثاني وهكذا إلى أنْ يتضيق؟ أَوْ لا؟ طريقتان مرجحتان، وممن حكاهما وجهين لأصحابنا القاضيان الطبري والماوردي والشيخُ في "اللمع"، المختار منهما: الاشتراط، فقد قال الإمامُ: إنه قول أصحابنا وأكثر المعتزلة. ونصره القاضي، ونقله عن المحققين، وجزم به الغزالي في "المستصفى"، وينقل عن جمهور المتكلمين، وإليه أيضًا صار ابن فُورك، ونقله القاضي عبد الوهاب المالكي عن أكثر الشافعية. وقال النووي في "شرح المهذب ": إنه الصحيح مِن الوجهين؛ ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير، ونظيره أنَّ مَن عليه دَيْن،
يجب عليه العَزْم على أدائه عند المطالبة. ويدُل له [أيضًا]
(1)
اتفاق أصحابنا في الأمر المطْلَق على وجوب العَزْم عند ورود الأمر.
وزعم صاحب "جمع الجوامع" أنَّ وجوب العزم لا يُعْرف إلا عن القاضي ومَن تبعه كالآمدي، وبالغ في التشنيع على هذا القول، فقال: إنه مِن هفوات القاضي، ومن العظائم في الدِّين، وإنه إيجابٌ بلا دليل.
قال: (وليس في نصوص الشافعي ومُتَقدِّمي أصحابه هذه المقالة).
قال: (وإنما موضع النظر أنَّ مَن نَوَى الترك هل يَعْصي بالنية؟ والحكم فيه أنه إنْ لم يفعل، عَمىَ بهما جميعا؛ لحديث:"ما لم تتكلم أو تعمل "
(2)
، وإلَّا فهل عَمىَ بالنية التي كذبها الفعل؛ فيه نظر واحتمال، وحديث:"الفَرْجُ يُصدِّق ذلك أو يُكذبُه"
(3)
دليل على عدم التعصِية). انتهى
ولا يخفى ما فيه، لِمَا سبق، ولمَا سنذكره. نَعَم، قد سبقه إلى هذا الإنكار إلْكِمِا الهرَّاسي، وكذا القاضي أبو الطيب إذْ قال: لم يذكره أصحابنا المتقدمون، ولا يحفظ عن الشافعي. ورجَّحَا الطريقة التي لا توجب العزم، وهي تُعْزَى لأكثر الفقهاء.
وممن أنكر "العَزْمَ" على القاضي إمامُ الحرمين، قِيل: لِتَخَيُّله أنه أخذه مِن دلالة صيغة الأمر عليه، وأنه جُعل العزمُ بَدَلًا مِن نفس الفعل. ولكن القاضي إنما أخذه مِن دليل العقل الذي هو أَقْوَى مِن دليل الصيغة مِن حيث إنَّ ما لا يُتَوَصَّل إلَّا به فهو واجبٌ، والعَزْمُ عنده بَدَل مِن تقديم الفعل، لا مِن الفعل نفسه كما زعمه الجبَّائي، واقتصر عليه الشيخ في
(1)
من (ز، ت، ق).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 4968)، صحيح مسلم (رقم: 127).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 5889)، صحيح مسلم (رقم: 2657).
"اللمع"؛ لأنَّ الواجب لا يجوز تركُه.
وقِيل: إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره. واختاره القاضي أبو الطيب.
فهذه ثلاثة أقوال في مُدْركه. ومما ضُعِّفَ به القول بوجوب العزم أنه يَلْزَمُ تَعَدُّدُ البَدَلِ والمُبدَلُ واحد.
وجوابُه: مَنع التعدُّد؛ ولذلك قال إمام الحرمين: إنَّ الذين قالوا بذلك لا أراهم يوجبون تجديد العزم في جزءٍ بَعْد جزءٍ، بل يحكمون بأنَّ العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة، كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها. وكذا قال أبو نصر القشيري أيضا: إنه محمول على ذلك.
واختار الغزالي تفصيلًا بين الغافل عن الفعل والترك فلا يجب عليه العزم، وبين مَن خطر ذلك بباله فيجب، فإنه إذا لم يعزم على الفعل، فَقَدْ عزم على الترك ضرورةً. واستحسنه القرافي في "القواعد"، ولكنه [في الحقيقة]
(1)
راجع إلى الوجوب مطلقًا، إذْ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة؛ لأنه مُحَالٌ.
وذكر [الماوردي]
(2)
أنه دار بينه وبين أبي الحسن [اللخْمي]
(3)
البحث في ذلك، فكان يُنكرُ العزمَ ويستبعِدُه، فَلَمْ يَكُن إلا قليل حتى قرأ القارئ في البخاري:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما"
(4)
الحديث، وفيه تعليل النبي صلى الله عليه وسلم[كَوْن]
(5)
المقتول في النار بِكَوْنه كان حريصًا،
(1)
ليس في (ص).
(2)
كذا في (ص، ز، ض، ق، ش). لكن في (ت): المازري.
(3)
في (ش): البلخي.
(4)
صححِح البخاري (رقم: 31)، صحيح مسلم (رقم: 2888).
(5)
في (ش): بكون.
فَقُلْتُ له: هذا يدل للقاضي. فلم يُحِب أنْ يبطل استبعاده.
قولي: (له يُداني) جملة حاليَّة أو صفة؛ لوقوعها بَعْدَ مُعَرَّفٍ بِـ "ال" الجنسية، ومعناه أنه [يقاربه]
(1)
ويتصل به، والله أعلم.
ص:
176 -
وَإنْ يَكُنْ وَقْتٌ [يُسَاوِي]
(2)
الْفِعْلَا
…
كَالصَّوْمِ، ذَا "مُضَيَّقٌ"، لَا يُخْلَى
177 -
وَإنْ يَكُنْ أقلَّ، فَالتَّعَلُّقُ
…
لِقَصْدِ تَكْمِيلٍ إذَا يُحَقَّقُ
178 -
أَوِ الْقَضَا، كَزَائِلِ الْعُذْرِ إذَا
…
بَقِيَ [تَكْبِيرٌ]
(3)
مِنَ الْوَقْتِ إذَا
الشرح: هذا إشارة إلى القِسمين الباقيَين مِن التقسيم السابق، وهُما المقابِلان للوقت الموَسَع:
أحدهما: أنْ يَكون الوقت مساويًا للفعل، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، كالصوم، فإنه مِن الفجر إلى الغروب، وكصلاة المغرب على الجديد مِن مذهبنا، وكما لو استأجره يومًا للعمل فيه، ونحو ذلك ما سبق فيما إذا لم يَبْق من الوقت إلا قَدْر الصلاة، وإنْ كان في غالب ذلك بالتقريب، لا بالتحديد، فيُسَمَّى الوقت في ذلك كله "مُضَيَّقًا"؛ لأنه لا يخلو جزءٌ مِن الوقت مِن الفعل، وهو معنى قولي:(لا يُخْلَى) بالبناء للمفعول، أَيْ: لا يُخْلِيه الفاعل مِن الفعل لو فعل.
وقَسَّم الحنفية المساوِي إلى ما يَكون الوقت سببًا لوجوبه (كصوم رمضان)، وإلى ما لا
(1)
في (ز): يقارنه.
(2)
في (ق): تساوي.
(3)
في (ش): تكبيرة.
يَكون كذلك (كقضائه).
الثاني: أنْ يَكون الوقت أنْقَص مِن الفعل. وفيه اعتباران:
أحدهما: أنْ يُقْصَد أنْ يُوقع جميع الفعل في ذلك الوقت الذي لا يَسَعُه، وهو مُحَالٌ، فيمنعه مَن يَمْنَع التكليف بالمُحَال.
وثانيهما: أنْ يُقْصَدَ بِأَمْره بذلك أنْ يبتدئ الفعل في الوقت ويُتمه بَعْدَهُ، فيجوز قَطْعًا. وهذا موجود فِيمَن أَخَّر حتى ضاق الوقت عَمْدًا أو غيره، وفيمن زال عُذْرُه وهو بحيث يمكنه أنْ يَشْرع في الصلاة، كزوال الصِّبَا مع وجود الشروط.
أو القَصْد أنْ يَتعلق الفعل بِذِمَّته حتى يأتي به قَضَاء خارج الوقت حيث تَعَذَّر الشروع فيه قَبْل خروج الوقت، كوجوب الصلاة على مَن زال عُذْره مِن جنون أو صِبًا ليس موجودًا فيه شرطُ الشروع، أو حيضٍ أو نفاسٍ أو كُفرٍ، وإنْ تَسامَح الفقهاء في إطلاق العُذْر على الكُفر؛ لأنه ليس بِعُذْرٍ حقيقةً.
لكن شَرْط هذا القِسم كُله أنْ يَبْقَى مِن الوقت قَدْرُ تكبيرة (على المُرَجَّح)، [وفي قَوْلٍ: ركعةٍ]
(1)
، وفي قَوْلٍ بزيادة طُهْرٍ. وإنْ كانت الصلاة تُجْمع مع ما قَبْلها، [فَفِيهَا]
(2)
خِلَافٌ آخَر وتفصيلٌ مشهورٌ في الفقه.
وشَرْطه أيضًا الخلوُّ مِن الموانع بَعْدَ الوقت بمقدار ما يسع العبادة واحتياجها كما هو موضح في الفقه أيضًا.
وقولي: (بَقى [تَكْبِيرٌ]
(3)
مِنَ الْوَقْتِ إذَا) أصله "إذَنْ" لكنها يُوقف عليها بالألِف، والله
(1)
ليس في (ق).
(2)
كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ص، ض، ش): فقبلها.
(3)
في (ش): تكبيرة.
أعلم.
ص:
179 -
وَلَيْسَ مِنْ مُوَسَّعٍ مَا وَقْتُهُ
…
عُمْرٌ، كحَجٍّ، فَمَجَازٌ ذِكْرُهُ
الشرح: هذا تنبيه على قِسْمٍ أَدْخَلُوه في "الموسَّع"، وليس عند التحقيق منه؛ لأنه ليس منصوصًا على وقته، وأيضًا "الموسع" هو الذي يَعْلَم المكَلَّف سِعَتَه بحيث يسوغ له تأخيره عن أول الوقت إلى ثانيه، وما كان آخِره آخِر العُمْر لا يتحقق فيه ذلك، كالحج إذَا قُلنا بالمرَجَّح أنه على التراخي لا الفور، وكقضاء العبادة التي فاتت بِعُذْر من صلاة أو صيام، فهذا ليس مِن "الموسَّع" وإن ذكره منه كثير مِن الأصوليين والفقهاء.
ولهذا قال البيضاوي في "منهاجه": (فَرْع: الموسَّع قد يسعه العُمر)
(1)
إلى آخِره، وذكر فيه مسألة مَن أَخَّر ظانًّا بقاء الوقت ومات، أنه يَعْصِي، فاقتضَى كلامُه أنَّ كل ما كان على التراخي يُسَمَّى مُوَسَّعًا، وليس كذلك كما سبق تقريره.
وممن صرح بذلك الشيخ تقي الدين السبكي، قال: لأنَّ المكلَّف إذا لم يَعْلم آخِر الوقت، كيف يحكُم بأنه مُوَسَّع أو مُضَيَّق ولا تكليف إلا بِعِلم؟ !
قال: فتسميتهم ذلك "مُوَسَّعًا" مجاز؛ لمشابهته "الموسَّع".
قلتُ: ولأجْل ذلك أَثْبَتَ الحنفية ذلك قِسْمًا آخَر مُقَابِلًا للأقسام الثلاثة السابقة (التي هي "الموسع" و"المضيق" و"الناقص وقته عنه") عَبَّروا عنه بِـ "ما لا يُعْلَم زيادته ولا مُسَاواته"، كالحج، وسموه "الواجب المشكل"؛ لأنه أخذ شبَهًا مِن الصلاة باعتبار أنه لا يستغرق الوقت، ومن الصوم باعتبار أنَّ السَّنَة الواحدة لا يقع فيها إلا حجة واحدة، وأيضًا
(1)
منهاج الوصول (ص 137) بتحقيقي.
فإنه لا يُدْرَى: أينقضي العُمر بَعْد الفعل؟ أو فيه؟
واعْلَم أنَّ هذا يفارق "الموسَّع" أيضًا في عصيانه إذا أخَّر مع ظن السلامة كما سبق عن البيضاوي الإشارة للمسألة. والحاصل أنه هنا إذا مات قَبْل الفعل، مات عاصيًا (على المرجَّح)؛ لأنه لَمَّا لَمْ يَعْلَم الآخِر، كان جواز التأخير له مشروطًا بسلامة العاقبة، بخلاف "الموسَّع" وهو المعلوم الطرفين.
وثالثها: الفرق بَيْن الشيخ فَيَعْصِي والشاب فَلَا، وهو اختيار الغزالي.
وفَرَّقُوا - على الأول الراجح - بَيْنه وبَيْن "الموسَّع" أيضًا بأنَّ بِالْمَوْت في الحج خَرَج وقته، وبِالْمَوْت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها. ونظير الحج أنْ يموت آخِر وقت الصلاة - أَيْ: أو قَبْله- بما لا يَسَعُها، فإنه يَعْمِي حينئذ، والله أعلم.
ص:
180 -
رَابِعَةٌ: ذَاتُ انْقِسَامٍ بَيِّنِ
…
إنْ وَقَعَتْ في وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ
181 -
شَرْعًا عِبَادَةٌ، فَذِي "أَدَاءُ"
…
أَوْ بَعْدَهُ، فَهْيَ إذَنْ "قَضَاءُ"
182 -
وَرُبَّمَا أَجْرَوا كَكُلٍّ بَعْضَا
…
[كرَكْعَةٍ]
(1)
آخِرَ وَقْتٍ تُمْضَى
183 -
وإنْ تَكُنْ قَدْ سُبِقَتْ بِمِثْلِ
…
فَهْيَ "إعَادَةٌ" وَلَوْ بِالشَّكْلِ
184 -
وَلَوْ بِوَقْتٍ، فَالَّذِي قَدْ أَفْسَدَا
…
فِيهِ صَلَاةً مَا يُعِيدُهُ أَدَا
الشرح: المسألة الرابعة مِن المسائل المتعلقة [بما سبق]
(2)
يذكر فيها انقسام العبادة إلى أداءٍ وقضاءٍ، وإلى ابتداءٍ وإعادةٍ.
(1)
في (ن): في ركعة.
(2)
ليس في (ش).
وذلك أنَّ العبادة إنْ لم تَكُن مؤقتة بوقت محدودِ الطرفين، فلا تُوصَف بأداءٍ ولا قضاء، سواء أكان لها سبب (كتحية المسجد وسجود التلاوة) أَوْ لَا (كالنوافل المطْلَقة). وقد تُوصَف بالإعادة، كَمَن أتى بذات السبب -مَثَلًا - مُخْتَلَّة، فَتَدَارَكَها حيث يمكن التدارك.
وإنْ كانت مؤقتة (سواء أكانت فَرْضًا أو نَفْلًا)، وُصِفَت بالأمور الثلاثة، خِلافًا لمن زَعَم أنها لا يُوصَف بها إلا الواجب.
فإنْ وقعَت في وقتها المعَيَّن لها شَرْعًا فأداءٌ (كالصلوات الخمس وتوابعها وصوم رمضان ونحو ذلك)، أو بَعْد خروج الوقت فَقَضَاء، سواء خُوطِبَ بالأداء [أَوْ]
(1)
لا، وسواء مَن لم يخاطَب به أَمْكَنه فِعْله (كصوم المسافر والمريض) أو امتنع منه عَقْلًا (كقضاء النائم الصلاة) أو شَرْعًا (كقضاء الحائض الصوم).
فالمدارُ -في تسميتها "قضاء" بَعْد الوقت- على انعقاد سبب الوجوب في حَقِّه وإنْ تَخَلَّف الوجوبُ لِمَانِع، وكذا انعقاد سبب الندب وإنْ تَخَلَّف لمانع.
نَعَم، في تسمية قضاء الحائض خِلافٌ في كَوْنه حقيقة أو مجازًا، وسبق عن الغزالي أنَّ ذلك مجاز في قول عائشة رضي الله عنهما:"كُنا نؤمر بقضاء الصوم"
(2)
. قال: للإجماع على عدم الوجوب عليها، ولكن إذا كان المعتبر انعقاد السبب، فلا امتناع من إطلاق "القضاء" حقيقة.
نَعَم، إذَا لم ينعقد سبب الأمر له، لم يَكن فِعلُه بعد انقضاء الوقت قضاءً إجماعًا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما لو صَلَّى الصبي الصلوات الفائتة في حالة الصِّبَا؛ لأنَّ المأمور بِأمْر الصبي بالصلاة هو الولي، وليس الصبي مأمورًا بذلك شرعًا حتى يَقْضِي، فثوابُ الصبي على عباداته مِن خطاب الوضع.
(1)
في (ش): ام.
(2)
صحيح مسلم (رقم: 335).
نَعَم، حكى الجيلي وجهين عن فتاوى الروياني في أنَّ الولي يأمره بقضاء ما فاته مِن الصلاة، وعلى القول بأمره مدْرَكُه أنه كالأداء؛ ليتمرَّن على العبادة وإن حُكِيَ خِلَافٌ في أنَّ سبيلَه سبيلُ النَّفْلِ؟ أو الفَرْضِ حتى لا يصلي قاعدًا؟ فحكى ابن الرفعة في "الكفاية" في ذلك وجهين، لكن الظاهر هو الأول، فلذلك رجح النووي في "التحقيق" و "شرح المهذب " أنَّ الصبي لا ينوي الفرضية.
قُلتُ: لكنه لا يُصلي قاعدًا مع القُدرة، ولا يجمع فرضين بتيمم (على المرَجَّح)، فليس جاريًا على سَنن واحد. نَعَم، سقوط الصلاة في الحائض عزيمة؛ لِعَدم انعقاد سبب الأمر في حَقِّها، حتى لو أرادت بَعْد الطهر أنْ تقضي صلوات زمن الحيض وقالت:(أنا أتبرعُ بذلك)، كان ذلك حرامًا عليها كما نقله ابن الصلاح في "طبقاته" في ترجمة أبي بكر البيضاوي أنه ذكره في كتاب "تعليل مسائل التبصرة"؛ لأن عائشة رضي الله عنها نهت المرأة عن ذلك وقالت:"أحرورية أنت؟ "
(1)
.
نَعَم، في "شرح الوسيط" للعجلي الكراهة، وكذا في "البحر" للروياني.
ولكونه عزيمة أيضًا: لو ارتدت ثم حاضت، لا تقضي صلاة زمن الرِّدَّة، بخلاف مَن جُنَّ ثُم ارْتَد، فإنه يقضي زمن الردة في الجنون. وكذا لا تثاب الحائض على الصلوات التي تركتها زمن الحيض، بخلاف المريض والمسافر، حيث يُكتب لكل منهما مِثل نوافل الصلوات التي كان يَفعلها في صحته أو حَضَرِه لِمَحَلِّ العُذْر كما قاله النووي في "شرح مسلم" في حديث ابن عمر في نَقْص عَقْلِهن ودِينهن
(2)
.
فإنْ قِيل: هذا التعريف لِـ "الأداء" غير مطَّرد، ولِـ "القضاء" غير منعكس، فإنَّ فِعل ما
(1)
صحيح البخاري (رقم: 315)، صحيح مسلم (رقم: 335).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 298)، صحيح مسلم (رقم: 79).
فات مِن رمضان بِعُذْر -لا يجوز تأخيره إلى ما بَعْد رمضان الثاني، فهو مؤقَّت وقد فَعَله في وقته مع كَوْنه قضاء، فينبغي أنْ يُزاد: " [المُعَيَّن]
(1)
أَوَّلًا"، لِيخرج ذلك مِن تعريف "الأداء" ويدخل في تعريف "القضاء".
وكذا في رمي الجمار لمن فاته ذلك أول التشريق وتَداركَه في بقية الأيام، فإنه أداء على الأظهر مع أنه بَعْد وقته، وقيل: قضاء. أمَّا بَعْد أيام التشريق فقضاء قَطْعًا، لكن لا بنفس الرمي، بل بالدم، كما في قضاء الجمعة ظُهْرًا.
فالجواب عن الأول: مَنعْ أنْ يكون هذا توقيتًا للعبادة بوقت مقصود، بل توسيع مِن الشرع في القضاء أنْ لا يكون على الفَوْر، لكن توسيع إلى غاية، بدليل أنه لو صامه بَعْد ذلك لا يُقال فيه:(إنه قضاء القضاء)، وإنما هو قضاء للأصل.
وعن الثاني: بأنَّ أيام التشريق كلها وقت لكل الرمي، وإنْ شُرِط فيه أنْ يقع ابتداؤه في وقت مُعَيَّن (على الراجح)، فيكُون له وقت اختيار ووقت جواز كما في الصلاة كما [قُرِّر]
(2)
في موضعه في الفقه.
قولي: (وربما أَجْروا) إلى آخِره -إشارة إلى أنه قد يُجرى في بعض العبادات (وهو الصلاة) فِعلُ البعض في الوقت بمنزلة كُله حتى يكون أداءً، وأَجْرَوا ما فُعِل بعضُه خارج الوقت بمنزلة فِعل الجميع خارجه حتى يكون قضاء.
وقد مَثَّلْتُ للأول، فَيُعْلَم منه مثال الثاني، وذلك أنهم قالوا فيمن صَلَّى بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجه: إنْ كان الواقع في الوقت ركعة، كان الكل أداءً، وإلَّا كان الكل قضاءً - على الأصح.
(1)
في (ت): المغيى.
(2)
في (ص): فرق.
وقيل: الكل أداء مطلقًا.
وقيل: الكل قضاء مطلقًا.
وقيل: ما في الوقت أداء وخارجه قضاء.
وقيل: إنْ أخّر لِغَير عُذْر، فالكل قضاء، وإلَّا فأداء.
فَعَلَى الأصح يحتاج إلى دخول ما فيه ركعة في الأداء، وإخراج ما فيه دونها عنه وإدخاله في القضاء. وكذا على بعض الأقوال السابقة أيضًا، فهذا معنى قولي:(أَجْروا كَكُلٍّ بَعْضَا).
لكن على المرجَّح:
- إنْ كان ما في الوقت ركعة، فأَجْروا البعض كالكل في كَوْنه أداء.
- أو دُونها، فأَجْروا البعض كالكل في كَوْنه قضاء.
وقولي: (كركعة آخِر وقتٍ تمُضَي) أَيْ: [تُفْعل]
(1)
، فالضمير للركعة تصريح بالحالة الأُولى، وتؤخذ الحالة [السابقة]
(2)
مِن مفهوم ذلك كما سبق.
ولو أَطْلَقْتُ إجراء البعض [كالكل]
(3)
لَكَان يشمل الصورتين لكن لا يُعْرَف الفَرْق بينهما، فَزِدت قولى:(كركعة) إلى آخِره؛ لبيان الفَرْق على [الرأي]
(4)
الراجح في المسألة. وهذا التعبير على ما قررته هو الصواب.
وأمَّا استظهار صاحب "جمع الجوامع" على دخول الحالة الأُولى في "الأداء" بقوله: (فِعلُ
(1)
في (ش): يفعل.
(2)
في (ز): الثانية.
(3)
في (ص): كالكل في كونه قضاء.
(4)
ليس في (ص).
بعضٍ، وقيل: كل)
(1)
وعلى خروجها مِن تعريف "القضاء" بقوله: (والقضاء فِعلُ كلٍّ، وقيل: بعض)
(2)
- ففيه خلل مِن وجوه:
منها: أنه لا يدخل في حَدِّ "الأداء"، لا أداء الصوم ولا الحج، ولا الأداء في الصلاة إذا فُعلت كلها في الوقت بالتصريح، بل بفحوى الخطاب، وإنما يتوجه التعريف لفرد واحد من أفراد الحقيقة، ولا يخفى فسادُه.
ومنها: شمول الـ "بعض" ما كان دُون الركعة.
ومنها: حكاية خِلاف في تعريف "الأداء"، وإنما هو خِلاف في بعض الصُّوَر.
ومنها: أنَّ التعريف لا ينصب في فصوله الخلاف؛ لأنَّ الحد إنْ كان بالذاتي فَمُحَال فيه التعدد، أو بالخاصَّة فيعود إلى كَوْنه خاصَّة، أوْ لا، فليس الخلاف في كَوْنه تعريفًا أَوْ لا.
ومنها: أنه يدخل فيه ما لو فُعل بعضٌ قَبْل الوقت وبعضٌ فيه، وهو فاسدٌ مع التعمد، ومع عَدَمِه ينقلبُ الفرضُ نَفْلًا.
ومنها: أنَّ هذا مِن فروع الفقه، لا عُلقة له بِكُليَّات الأُصول.
ومنها: أنَّ قوله في "القضاء" يأتي فيه ما قُلناه في "الأداء" مما هو بالعكس حسب ما يمكن إيراده، فَتَأَمَّله.
نَعَم، هو أراد أن يحقق (بِقَوْله في تعريفهما: فِعْل) أنَّ "الأداء" أو "القضاء" إنما هو الفعل، لا المفعول كما وقع ذلك في عبارة "المختصر" و"المنهاج " وغيرهما من كتب الأصول، وأوضح ذلك بقوله مِن بَعْد:(والمؤدَّى ما فُعِل، والمَقْضِيُّ المفعول).
(1)
جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 148).
(2)
جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 150).
ولكنه تحقيق لا طائل تحته، فإنَّ "الأداء" و"القضاء" في عبارة الأصوليين والفقهاء يُراد بها المفعول، مِن إطلاق المَصدَر على المفعول، واشتهر ذلك في استعمالهم حتى صار حقيقة عُرْفية.
وأيضًا فالعبادة قبل إيقاعها ليس لها وجود خارجي يقع الفعل عليه حتى يَكون مفعولًا حقيقة ويقع الفَرْق فيه بين الفعل والمفعول، فحينئذ إيقاع العبادة ووقوعها وفِعلها و [ذاتها]
(1)
كُله واحد، فَصَحَّ وَصْفُ العبادة بالأداء وبالمؤداة وبالقضاء والمقضِية، فاعْلَم ذلك.
فإنْ قيل: إذا كانوا قد أَجْرَوا فِعلَ البعض في هذه الصورة بمنزلة الكُل حتى صارت أداء، فَقَدْ خرجت عن التعريف الذي [ذكرته]
(2)
للأداء، فلا يكون منعكسًا، وفي دون الركعة في الوقت خرج أيضًا مِن تعريف "القضاء"؛ فلا يكون منعكسًا.
فالجواب: أنه في الأول لَمَّا جَعَله الشارعُ مُدْركًا بالركعة، صار ما بَعْد الوقت إلى آخِر الصلاة داخلًا في الوقت في حَقّه، فَلَم يفعل الكل إلا في الوقت؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال:"مَن أَدرك ركعة مِن العصر قَبْل أنْ تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومَن أَدرك ركعة مِن الصبح قَبْل أنْ تطلع الشمس فقد أدرك الصبح "
(3)
وقِيسَ ما سواهما عليهما في ذلك؛ إذْ لا فارق، وَجَبَ أنْ يُقْضَى شرعًا بما ذكرناه، وفي القضاء مقابلة؛ لأنَّ بعض الركعة نزل منزلة العدم، فكأنه فعل الكل خارج الوقت. كذا قرره الشيخ تقي الدين السبكي بَعْد أنْ قال: إنَّ المتبادر مِن كلامهم تسميته "أداء" مع الحكم بخروج الوقت وأنَّ ما بقي مفعولٌ خارج
(1)
كذا في (ز، ص، ق، ت، ش). لكن في (ض): ادائها.
(2)
في (ش): ذكره.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 554)، صحيح مسلم (رقم: 608) بذكر الصبح أولًا.
الوقت.
لكن في كلام الشافعي ما يدلُّ للأول، فإنه قال في "المختصر":(فإذَا طلعت الشمس قَبْل أنْ يُصَلِّي منها ركعة، فقدْ خرج وقتُها).
فمفهومه أنه إذَا صلَّى ركعة، لا يخرج وقتُها، وأنَّ الوقت لا يخرج إلا بالنسبة إلى مَن لَمْ يُصَلِّ ركعة، ويشهد لذلك ما إذا جمع بين الصلاتين جَمع تأخير، فإنَّ المؤخَّر يَكون أداءً (على الصحيح) مع أنَّ وقتها الأصلي خرج؛ تنزيلًا لوقت الثانية منزلة وقت الأُولى، وهذا واضح.
فإنْ قِيل:
- مَن أفسد صلاة ثُم أعادها، تَكون قضاءً على طريقةٍ، [فَيَرِد]
(1)
على تعريف "الأداء" طردًا، وعلى تعريف "القضاء" عكسًا.
- وأيضًا فلو شهد برؤية الهلال مِن شوال ولم يكمل إلا بَعْد الغروب، كأنْ وقعت التزكية بَعْده فيصلى العيد مِن الغد أداءً مع أنه خارج الوقت.
- وأيضًا فصدقة الفطر إذا أُخرِجت في رمضان، كانت أداءً مع كَوْنها مؤقَّتة بما بين غروب ليلة العيد وغروب يومه.
فالجواب:
أمَّا الأول: فسيأتي ترجيح أنه أداء، [وبتقدير القول الآخر فَيُدَّعَى أنَّ الوقت خرج بالنسبة إلى هذا دُون غيره كما سبق نظيره]
(2)
.
امَّا الثاني: فإنَّ الشهادة ألغيت بالنسبة إلى الصلاة وإنْ قُبِلَت في غيرها؛ للمدرك
(1)
في (ز، ت): فترد.
(2)
ليس في (ص).
الموضح في الفقه، فكأنَّ الوقت لم يَدخل؛ فلَمْ يُصَلِّ خارج الوقت، بل فيه، والشهادة قد تتوزع كما في العدل في هلال رمضان، وإذَا وقع التوزيع في الأحكام بالدليل، فلا تناقض حينئذ.
وأمَّا الثالث: فإنه مما سامح الشرع فيه بالتعجيل قَبْل وقته، كتعجيل الزكاة قَبْل الحول، فهو مُسْقِطٌ للواجب، لا أداء حقيقة.
تنبيه:
قد تَقدم أنَّ الحج ليس وقته مُوَسَّعًا، وأنه مِن باب التراخي، فعَلَى هذا إذا لم يَكُن مؤقتًا معلوم الطرفين؛ لجهالة الطرف الآخَر، فلا يُوصَفُ بأداءٍ ولا قضاء، فتسمية الفقهاء إياه بذلك على سبيل التَّجَوُّز، أو تفريعٌ على كَوْنه مِن الموَسَّع. ومَن مات وحُجَّ عنه، يُسَمى ذلك أيضا "قضاء" مع كَوْن الفاعل غير مَن خُوطِبَ به، وكُله مجازٌ، أو أنَّ المراد القضاء اللُّغَوِي، كقضاء الدَّيْن ونحوه؛ لا القضاء الاصطلاحي.
وقولي: (وإنْ تَكُنْ قَدْ سُبِقَتْ بِمِثْلِ) بيان للإعادة، وهي تَكون فيما ليس مؤقتًا (كما [سبق ويأتي]
(1)
[و]
(2)
في المؤقت في أدائه وقضائه، فلذلك عممت العِبارة خِلافًا لِمَا أَوْهَمه كلامُ البيضاوي تَوَهُمًا من عبارة "المحصول" مِن قصره على الأداء.
فالعبادة إنْ سُبقت بمثلها، سُميت "إعادة" مع كَوْنها تُسَمَّى في الوقت "أداء" وفيما بَعْده "قضاء"، غايته أنَّ لها في كل حالة اسْمَين.
وبيْن "الإعادة" وكُل مِن "الأداء" و" القضاء" عمومًا وخصوصًا مِن وَجْهٍ.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ز): سيأتي.
(2)
ليس في (ش).
وممن صرح بأنه لا يعتبر الوقت في "الإعادة" سليم الرازي في "التقريب"، فقال: (الإعادة اسم للعبادة يبتدئ بها ثُم لا يتم فِعلها، إمَّا بأنْ لا [يعقدها]
(1)
صحيحة، وإمَّا بأنْ يطرأ الفسادُ عليها، وقد يعيدها في الوقت فتكون أداءً، وبعد الوقت فتكون قضاءً). انتهى
ثُم السابقة إنْ كانت مختلَّة بركْنٍ أو شرط، فإعادة كما هو ظاهر كلامهم، مع كَوْن الثانية إنما هي مِثْل الأُولى في الصورة والشكل، لا مِن جميع الوجوه، وإلَّا لَكانت الأُخرى فاسدة، وأيضًا فالمختلَّة كالمعدومة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم صلاته:"ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ"
(2)
. وقد تَكون الثانية مِثل الأُولى في الشكل والصورة والأُولى مختلَّة بِشَرط أو ركن لكنها صحيحة مِن حيث ترخيص الشارع فيها، كصلاة فاقِد الطهورين. وكذا كل عبادة وَجَبَت مع العُذر في فسادها وكانت إعادتها بدون الخلل واجبة، كصلاة المُتيمم في الحضَر الذي يغلب فيه الماء ولشدة البرد، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله من الفقه.
وربما وجبت الإعادة مع عدم تَحَقُّق السلامة مِن الاختلال في الأُولى [أو]
(3)
الثانية، بل مجموعهما تتحقق السلامة منه، كإعادة المتحيّرة الصلاة (على الراجح مِن القولين).
وإنْ كانت غير مختلة لكن أُعِيدت لمقصد شرعي، كَكَوْن الثانية أكمل أو نحو ذلك، كإعادة مَن صلَّى منفردًا صلاته في جماعة، أو في جماعة ثُم يعيدها في جماعة أَفضل مِن الأُولى؛ لكثرة ونحوها، وكذا مع التساوي (على المرَجَّح)؛ لأنه لا يَعلم المقبول منهما، ومن ذلك صلاة الراجي للماء آخِر الوقت ثُم يعيد بَعد وجود الماء بالوضوء، ونحو ذلك، وهو كثير، فإطلاق الفقهاء يقتضي أنَّ ذلك كُله يُسَمى "إعادة" خِلافًا لِمَا يقتضيه كلام الأصوليين، بل
(1)
كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ص، ض، ش): يعيدها.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في (ش): و.
هذا أَحَق مِن الأول بِاسْم "الإعادة"؛ لأنَّ ذلك إنما هو بحسب الصورة، وهذا مثله في عدم الخلل، فالإعادة فيه حقيقة.
نَعَم، لا يجري مِثل هذا في الحج بِأنْ يحج صحيحًا ثُم يحج بَعْده مِن سَنة أخرى، وكذا الصوم؛ لأنَّ الثاني غير الأول. أمَّا مَن حَجَّ فاسدًا ثُم حج صحيحًا فلا يمتنع أنْ يُسَمى "إعادة" وإن لم يُسَم "أداء" كما قررناه.
فَتَلَخَّصَ أنَّ "الإعادة" لا تتوقف على كَوْن ما سبقها صحيحًا ولا فاسدًا، ولا كونه أداءً أو قضاءً، ولا مؤقتًا أو مُطْلَقًا.
نَعم، مِن العبادات ما يوصَف بالأداء دُون القضاء، كالجمعة؛ لأنها لَمَّا توقفت على أمور يَعْسُر اجتماعها كل وقتٍ، امتنع فيها القضاء.
ولا يُسْتشْكَلُ هذا بأنها لم توصَف بالقضاء فكيف توصف بالأداء ولا يوصف بالشيء إلا ما يوصف بضده؟
وقد يجاب بالمنع، أو بأنَّ ما أَمْكَن، يُعْمَل فيه، وما تَعَذَّر فَلَا، أو أنه لَمَّا أَمْكَن قضاؤها بالظهر إذا فاتت، نزلت منزلة قضائها جمعة.
وقولي: (ولو بوقت) إلى آخِره -راجع إلى قولي: (ولو بالشكل)، أَيْ: ولو كان الذي أُعِيدَ على صورة الأول -الذي حُكِم بفساده- فُعِل في الوقت فإنه لا يخرج عن كَوْنه إعادةً وأداءً.
والقصد بذلك مسألة ذكرها أصحابنا، وهي أنَّ مَن أفسد صلاةً في الوقت ثُم أعادها والوقت باقٍ، فقال القاضي حسين في "تعليقه وتبعه في "التتمة" و"البحر" كُلهم في باب صفة الصلاة: إنَّ ذلك قضاء باعتبار أنَّ الوقت تضيق بالإحرام بالصلاة؛ لامتناع الخروج منها، فلم يَبْقَ لها وقت شروع، بل وقت استدامة، فالإحرام بها بعد ذلك خارج عن وقتها
بالنسبة إلى ذلك، كالمغرب إذا قُلنا بالجديد، فإنه إذَا أخَّر الإحرام عن وقته وهو أول الوقت المفروض [إلى انتهاء قَدْر طهارة وستر عورة وخمس ركعات أو سبع- على ما فُصِّل في الفقه]
(1)
، صارت قضاء، كالذي يفسد الحج ولو كان نفلًا، يَلْزَمه القضاء؛ لامتناع الخروج منه.
قال ابن الرفعة: إنَّ في نَص "الأُم" إشارة إليه حيث منع الخروج مِن الفرض بَعد التلبُّس به. ثم قال: (فإنْ خرج منها بلا عُذْر، كان مُفْسدًا آثمًا). انتهى
قلتُ: وكأنَّ وَجْه الإشارة أنَّ إخراج العبادة عن وقتها حرام، فلولا أنَّ [إفسادَها]
(2)
يُصَيِّرها قضاءً لَمَا مَنَع مِن الخروج. لكن فيه نَظَر، لأنَّ ذلك إنما هو لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فإبطالُ الفرض لا يجوز.
فإنْ قُلتَ: قد نقل في "الشامل" عن نَص الشافعي رضي الله عنه أنه لو أَحْرم مسافرٌ بالصلاة وهو يجهل أنَّ له قَصْرها ثُم سَلَّم مِن ركعتين، وَجَبَ عليه قضاؤها؛ لأنه عقدها أربعًا، فإذَا سَلَّم مِن ركعتين منها فَقَدْ قَصَدَ إفسادها. فجعلها قضاء.
قلتُ: مُرادُه وجوب الإعادة على كل حال، لا القضاء بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه مَسُوقٌ لبيان لغو الأُولى؛ ولذلك كان إطلاق أكثر الأصوليين والفقهاء وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" وشَرْحِها أنها أداءٌ، وهو اللائق بالقواعد؛ لأنَّ الوقت باقٍ، وبإفساده الصلاة زال التضييق؛ لأنَّ فِعْلَه كَلَا فِعْل؛ بدليل:"ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ".
وإنما يظهر التضييق أنْ لو استمرت صحيحة؛ فلذلك جريتُ على هذا في النَّظْم بِقولي:
(1)
كذا في (ت، ش، ض)، وكلمة "عورة" ليست في (ش، ض). والعبارة كلها ليست في (ص، ز، ق).
(2)
كذا في (ز، ظ، ض)، لكن في (ص، ت): فسادها.
(ومَا [يُعِيدُهُ]
(1)
أَدَا) أَيْ: مع كَوْنه يُسمى "إعادة" لا يخرج عن كونه أداءً، فَقَوْل شيخنا بدر الدين الزركشي في شرح "جمع الجوامع": ([التحقيق]
(2)
أنه لا أداء ولا قضاء، بل إعادة)
(3)
ليس بجيد؛ لأنَّ "الإعادة" لا تُنافي "الأداء" كما قررناه، وقد قرره هو في موضعه على الصواب.
وكذا قال الشيخ أبو إسحاق ما نَصُّه: (أمَّا إذَا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطًا مِن شروطها فأعادها والوقت باقٍ، سُمي "إعادة" و"أداء")
(4)
. انتهى
وظهر مِن كلام الشيخ أنَّ الصورة لا تختص بالإفساد بل على كَوْن الإحرام ليس تعديًا، بل إمَّا صحيحًا في نفس الأمر والاعتقاد، أو في الاعتقاد فقط. ويخرجُ عنه الإحرامُ المتعدي به؛ لاعتقاد خلله، سواء في نفس الأمر كذلك أَوْ لا.
وأمَّا استناد القاضي ومَن تبعه لِشَبَهِه بالمغرب ففيه نَظَر، فالفَرق بينهما أنَّ التحديد هناك مِن فِعله، وفي المغرب مِن تقدير الشارع، وقد قُلنا في فِعله: إنه إذَا [أَفْسَده]
(5)
، كان كأنْ لا فِعْل، فالأمر باقٍ على الأصل في بقاء الوقت.
بل ذهب الإمامُ والغزالي إلى أنه يجوز الخروج مِن الفريضة في الوقت الموسَّع إذَا أمكن تَدَارُكها في الوقت وإنْ كان المرَجَّحُ خِلافَه. لكن يؤخَذ منه ما قاله الشيخ أبو إسحاق واقتضاه كلام غيره كما بَيَّناه؛ لأنهما لا يمكن أنْ يُجوِّزا تفويت الصلاة في الوقت والإتيان بها
(1)
في (ش، ق): بضده.
(2)
ليس في (ص).
(3)
تشنيف المسامع بجمع الجوامع (1/ 155 - 156).
(4)
اللمع (ص 17)، شرح اللمع (1/ 253).
(5)
في (ش): افسد.
بَعْده.
وأمَّا الحج فسبق أنَّ المختار أنه ليس مِن الموسَّع، ولا يُسمى "قضاء" إلا مجازًا، فتسمية ما يُفْعل عوَضًا عما أُفْسِد منه "قضاء" في بعض الصُّوَر -مجَازٌ.
ومما استشكل به قول مَن قال: (قضاء الجمعة إذا أفسدت). فإنْ قال: (تُعاد جمعةً) وهو الذي يظهر، لَزِمَ منه أنَّ الجمعة تُقْضَى، ولا قائلَ به. وإنْ قال:(يعيدها ظُهرًا)، فَبَعِيدٌ؛ لبقاء وقت الجمعة؛ فَتَعَيَّن أنْ يُعِيدها جمعة حيث أَمْكَن، ويكون "أداءً"، وهو المدَّعَى.
ويجرى نحوُه في الصلاة المقصورة لو أُفْسدت [وأراد]
(1)
أنْ يعيدها في الوقت في السفر مقصورة ومنعنا القصر في القضاء إنْ كانت الأُولى في الحضر، أو في السفر ولكنه ائتم في الأُولى بِمُقِيم ثُم أَفْسَدها، أو في السفر ولم يَكن ثَم ما يُوجب الإتمام فأفسدها ثُم أعادها [بالإتمام]
(2)
في هذه الصورة على رأيٍ قد يشهد للقاضي ومَن تبعه، بل هم ادعوا تفريعه على دعواهم [أنه]
(3)
قضاء. لكن الأرجح في فائتة السفر أنْ تُصَلَّى قَصرًا، فالجاري على القواعد أنَّ يقصر فيما لو أفسدت، وأمَّا ما كان في الحضر أو ائتم فيه بِمُتِمٍّ ثُم أَفسده فَقَدْ تَرَتَب في ذِمته [التام]
(4)
؛ فلا يأتي به إلا تامًّا، لا مِن حيث كونه قضاء، كما يجب عليه الإتمامُ في مسائل مِن الأداء المتفق على كونه أداءً كما هو مبسوط في الفقه.
ولهذا قال الشيخ في "شرح اللمع": إنَّ الخلاف لَفْظِيٌ. وهو حق، لِمَا بَيَّنا مِن عدم فائدة تظهر له، إلَّا أنْ يُقال: إنَ نية القضاء تُفْسِد الأداء -وبالعكس- إذَا كان عَمْدًا؛ لِكَوْنه
(1)
كذا في (ص، ز، ق، ش). لكن في (ض، ت): فأراد.
(2)
كذا في (ص، ز، ض، ش). لكن في (ق، ت): فالاتمام.
(3)
كذا في (ز، ت، ض، ظ، ق)، لكن في (ش): أنها.
(4)
في (ز): التمام.
تلاعُبًا كما ذكره النووي مِن "زوائد الروضة" وحمل كلامهم على مَن ظن ذلك وظهر الأمر بخلاف ما نَوَى.
وعليه ينبغي أنْ يُحمل قولُ ابن بَرهان قي "الأوسط": إنَّ الأداء والقضاء راجع إلى التلقيب والاصطلاح. [قال]
(1)
: (وإلا فعندنا لا فَرْقَ بين أنْ يُسَمى القضاء أداءً، والأداء قضاءً، ولهذا يجوز أنْ يعقد القضاء بِنِيَّة الأداء، فإذَنْ لا فَرْق بيْنهما في الحقيقة). انتهى
واعْلَم أنَّ القاضي الحسين قال بَعْد ذلك بنحو ورقة: إنَّ مُقْتَضَى قول أصحابنا أنه في هذه المسألة يَنْوي القضاء إتمامًا لما التزمَهُ في الذِّمَّة بشروعِه كالمسافر ينوي التمام ثم يفسد الصلاة، يقضيها تامة، لا مقصورة؛ لالتزامه الإتمام بالإحرام.
قال: وعَلَى قول [الفقهاء]
(2)
يتخيَّر بين نية الأداء والقضاء.
وجَرَى على كَوْنه ينوي القضاء أيضًا صاحب "التتمة"، فيحتمل كلام القاضي أنَّ مقتضَى كلام الأصحاب ما ادَّعاه مِن كَوْنها قضاء؛ فلا يَكون هذا مِن تَفَقُّهه، بل يَكون مِن منقول الأصحاب، فلا ينبغي أنْ يُعْزَى ذلك له ولمن تَبعَه فقط. ويحتمل أنَّ مراده أنَّ الأصحاب لو قالوا بما قُلْتُه لكان مُقْتَضَى قولهم ذلك بشهادة قواعدهم.
وبالجملة فقد تَبيَّن أنَّ القول بالأداء هو الأرجَح، والله أعلم.
(1)
ليس في (ش).
(2)
في (ز): القفال.
ص:
185 -
خَامِسَةٌ: أَلْحُكْمُ إنْ تَغَيَّرَا
…
لِذِي سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ قُدِّرَا
186 -
مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْأَصليِّ
…
فَـ "رُخْصَةً" يُسْمَى، وَفي الْمَرْضِيِّ
187 -
أَقْسَامُهَا وَاجِبَةٌ، كالْمَيْتَةِ
…
عِنْدَ اضطرارٍ، أَوْ تُرَى في السُّنَّةِ
188 -
كَالْقَصْرِ في الصَّلَاةِ، أَوْ مُبَاحَهْ
…
مِثْلُ الْعَرَايَا الشَّرْعُ قَدْ أَبَاحَهْ
189 -
وَرُبَّمَا كلانَتْ خِلَافَ الْأَوْلَى
…
كَالْفِطْرِ في مُسَافِرٍ لَا يُولَى
190 -
مَشَقَّةَ الصوْمِ، فَمَا فِيهِ انْتَفَى
…
قَيْدٌ فَذَا "عَزِيمَةٌ" قَدْ عُرِّفَا
الشرح: المسألة الخامسة في بيان الرخصة والعزيمة، وأصل "الرخصة": فُعلة، مِن رَخُصَ الشيء (كالسعر ونحوه) رُخْصًا ورُخصةً: إذَا سَهُل. والترخيص: التسهيل، فهي لِلْمَرَّة مِن الرُّخْص.
وحُكي ضم الخاء فيها أيضًا باتِّباع العين للفاء
(1)
، وجَوَّز بعضهم أن تكون المضمومة الخاء
(2)
أصلًا و [الساكنها]
(3)
تخفيفًا منها، وأنْ يَكون كُلٌّ أَصْلًا برأسها. وحكى الفارابي فيها أيضًا:"خُرْصة" بتقديم الخاء، ولَعَلَّه مِن القَلْب.
وأمَّا ما اشتهر على الألسنة من "رُخَصة" بفتح الخاء بمعنى المسكَّن فلا أصل له، وإنما الـ "فُعَلة" تكون مبالغةً في الفاعل كَـ "هُمَزة" و"لُمَزة" و"ضُحَكَة" للمُكْثِر مِن ذلك، فقياسه
(1)
يعني: العين والفاء مِن "فُعُلة".
(2)
سقط مِن (ت) ما بَعْد هذا الموضع إلى قوله: (ولا يَخْفَى ما في هذه العقود كلها مِن).
(3)
كذا في (ص، ش، ق، ظ، ض)، وفي (ز): الساكنتها.
هنا المُكثر مِن [الترخُّص]
(1)
، وإنْ كان القياس إنما هو مِن الثلاثي كما في "هُمَزة" ونحوه، و [الترخُّص]
(2)
زائدٌ على الثلاثة؛ فيحتاج لِسماعٍ.
[نَعَم]
(3)
، يكون " فُعَلة" أيضًا للمفعول كَـ "لُقَطَة" بمعنى "الملقُوط"، فيكون "رخصه" بمعنى المرخَّص فيه وإنْ كان مِن غير الثلاثي أيضًا.
وأما "العزيمة": فَـ "فَعِيلة" مِن العَزْم، وهو القصْد المؤكَّد، ومنه {أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وعزمتُ عليك ألَّا ما فعلت كذا، وعَزَمتُ على الشيء: جزمتُ به وصمَّمتُ عليه "عَزْمًا"، و"عُزْمًا"(بِضَم أوله أيضًا) وعزيما، وعزيمة، قال تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أَيْ: جزمًا.
وأمَّا معناهما في اصطلاح الشرع:
- فيحتمل أنْ يكونَا وَصْفَيْن للحُكم، وهو قضية [عبارة]
(4)
الغزالي، وتَبِعَهُ جمعٌ كالبيضاوي، وعليه جريتُ في النَّظْم حيث قَسَّمتُ الحكْم إليهما. فتكون "الرخصة" بمعنى الترخيص، و"العزيمة" بمعنى التأكيد في طلب الشيء، ومنه:"فاقبلُوا رُخْصَةَ الله"
(5)
، وقول أم عطية:"نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا"
(6)
، وعَلَى هذا فتكُون مِن الأحكام الوضعيَّة
(1)
في (ش): الرخص.
(2)
في (ش): الترخيص.
(3)
ليس في (ص).
(4)
في (ش): كلام.
(5)
صحيح البخاري (رقم: 4338) بلفظ: (قَبلتُ رخصة الله)، صحيح مسلم (رقم: 1115) بلفظ: (عَلَيكمْ بِرُخْصَةِ الله).
(6)
صحيح البخاري (رقم: 1219)، صحيح مسلم (رقم: 938).
(كما قاله الآمدي، وسبق في تقرير الحكم الوضعي شيء مِن ذلك) أو مِن التكليفية (لِمَا فيها مِن معنى الاقتضاء أو التخيير)، ولذلك قَسَّموها إلى واجبة ومندوبة ونحو ذلك كما سيأتي، ولكن سيأتي أنَّ ذلك أمر خارجي عن [أصل]
(1)
الترخيص.
- ويحتمل أنْ يَكونَا وصفين للفعل المرَخَّص فيه أو المعزوم ولو كان تركًا، أَيْ: المطلوب بالعزم والتأكيد، وهو ما جَرَى عليه الإمام وابن الحاجب، وعليه حديث:"إن الله يحب أن تؤتى رُخَصُه كما يحب أنْ تؤتى عزائمُه"
(2)
، فإنَّ المأتي هو الفعل.
وبالجملة فالاعتباران واضحان، والمقصود لا يختلف.
فإذَا تَغَيَّر الحكم الشرعي بما هو أسهل، لِعُذْر مع قيام السبب المقتفِي له دالًّا في غير محل الترخيص، فذلك الحكم - المغيَّر إليه أو الفعل المتعلق به (على الرأيين) هو "الرخصة"، وما سوى ذلك هو "العزيمة" كما سيأتي.
فَعُلم مِن ذلك احتياج "الرخصة" لدليل على خِلَاف الدليل السابق، فيخرج بذلك ما سقط بسقوط محله، كالعضو الساقط يَسقط غسلُه، ونحو ذلك، وخرج ما لم يَكُن مع قيام دليل سابق:
- إمَّا بأنْ لا يَكون دليل أصلًا، كالأكل والشرب على خِلاف الأصل السابق على الشرع (إذا قُلنا: إنه المنع)، فإنه ليس بِرُخصة.
- وما كان فيه دليل لكن رُفِع، كمصابرة العشرة للمائة رُفِع بمصابرتهم عشرين.
وتقييده في "جمع الجوامع" الحكم بِـ "الشرعي" لا فائدة له، فإنَّ الكلام في الشرعي.
(1)
في (ص): حكم.
(2)
صحيح ابن حبان (رقم: 354)، المعجم الكبير للطبراني (11/ 323، رقم: 11880)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 1/ 379).
وخرج بقولنا: (إلى أَسْهَل) ما يُغَير إلى غَيْر أَسْهَل، كأنْ تغَيَّر إلى أشد، كالحدود والتعازير ونحوها مع قيام الدليل على تكريم الآدمي المقتضِي للمنع منها، وهو معنى قولي:(لِذِي سهولة). وهو أَحْسَن مِن تعبير "جمع الجوامع" بِـ "إلى سهولة"؛ لأنَّ "السهولة" مَصْدر ولا يُطْلَق على الحكم أو الفعل (على الرأيين) إلا مجازًا بتأويل.
قيل: ويخرج به أيضًا ما كان على مَن قَبلنا مِن الآصار ورُفِعَت في شريعتنا تيسيرًا وتسهيلًا. لكن هذا إنما يتفرع على أنَّ شَرْع مَن قَبلنا شرعٌ لنا وإلَّا فلا تغيير للحُكم أصلًا.
وخرج بقولنا: (لِعُذر) التخصيص أو التقييد المؤدِّي إلى أسهل حيث لا يَكون عُذر. نَعَم، إنْ ظَهَر عُذْر في المُخْرَج [بالتخصيص]
(1)
أو التقييد، فلا يمتنع أنْ يُسَمى "رخصة"، بل الرُّخَص كلها كذلك.
ومنهم مَن يُخرج بِقَيْد "العُذْر" ما ثبت بدليل راجح على خِلاف دليلٍ آخَر مُعَارِضٍ له، وعن التكاليف، لأنَّ الأصلَ بَعْد ورود الشرع عَدَمُها، كما أطال فيه القرافي في كُتبه.
ولكن كلٌّ منهما ممنوع؛ لأنَّ الدليل المرجوح ليس بدليل حتى يُقال: إنها على خِلاف الدليل.
وأمَّا التكاليف فإنما يَكون "الأصلُ عَدَمها" دليلًا إذَا لم يكن لذلك الأصل مُعارِض، فأمَّا إذَا عارضته أدلة التكاليف فلا يصير دليلًا؛ ولذلك لم يُجعل رفعُه بالتكاليف مِن باب النَّسْخ كما سيأتي بيانه في موضعه.
وقولي: (مع قيام السبب الأصلي) أَصْوَب مِن قول ابن الحاجب: (مع قيام المُحَرِّم)؛ لأنه لا يدخل فيه قيام طلب الندب، كترك الجماعة لمطرٍ أو وحلٍ، ونحو ذلك.
فإنْ قِيل: هذا التعريف غير مطَّرد؛ لأنَّ ترك صلاة الحائض عزيمة لا رُخصة مع أنَّ
(1)
كذا في (ز)، لكن في (ص): في التخصيص.
الحكم قد تَغير إلى أَسْهل؛ لِعُذْر وهو الحيض -مع قيام المقتضِي للصلاة لولا الحيض.
قِيل: إنْ كان المراد أنَّ تركها الصلاة زمن الحيض ليس يَصْدُق حَدُّ الرخصة عليه مِن حيث إنَّ الممنوع مِن الشيء مضيَّق عليه فيه بخلاف مَن سُومِح له في فِعله وتركه، فصحيح؛ فإنَّ التغيير ليس لِأَسهل. وإنْ كان المراد سقوط القضاء عنها فيما تتركه، فلا نُسَلم أنه لا يُسَمى "رُخصة".
فإنْ قِيل: لو كان رخصة لم يسقط في مَن ارتدت ثم حاضت، فقدْ صَرَّحوا -في الفَرق بينها وبين مَن ارْتَدَّ ثُم جُنَّ حيث يجب قضاؤه زَمَن الرِّدَّة- بأنه رخصةٌ في المجنون فلا يجامِعُ المعصية التي هي الردة، وعزيمةٌ في الحائض فلا قضاء.
قلتُ: إنما ذلك لِكَوْن المكلَّف الممنوع مِن الشيء وهو ممتثل له لا يجامعُه القضاء، بخلاف المجنون؛ فإنه نزل حال رِدَّته منزلة العاقل المستديم للردَّة، فَتقْضِي؛ لِكَوْنه مُكَلَّفًا.
قولي: (وفي المَرْضِي) إلى آخِره -أَيْ: المرتَضَى المختار تقسيم الرخصة إلى: واجبة، ومندوبة، إلى آخِره، خِلافًا لِمَن منع مجامعَة الرخصة لذلك، فالرخصة إمَّا واجبة أو مندوبة وهو معنى قولي:(تُرَى في السُّنَّةِ)، أو مباحة، أو خلاف الأَوْلى.
فالواجبة: كأكل الميتة للمضطر، فإنه واجبٌ على الأصح (وقيل: جائزٌ، لا واجب)، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غصَّ؛ لأنَّ النَفْس أمانة عند المكلَّف؛ فيجب عليه حِفْظُها؛ ليستوفي الله حَقهُ منها بالتكاليف.
والمندوبة: كالقصر للمسافر إذا بلغ ثلاث مراحل.
والمباحة: كبيع العرايا كما صرح به في الحديث في قوله: "وأرخص في بيع العرايا"
(1)
.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2078) بلفظ: (رخص)، صحيح مسلم (رقم: 1541).
ولذلك اخترت ذِكره مثالًا؛ لأنه على خلاف دليل تحريم المزابنة، وهو بيع الرطب بالتمر
(1)
. ومثله جواز [القراض]
(2)
والمساقاة والإجارة؛ لأنها عقود على معدوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تَبع ما ليس عندك"
(3)
. وفيها غَرَر، وقد نُهي عنه، وكذا السَّلَم؛ فإنه بَيْعُ مَعْدُوم، وفي بعض الروايات:"نَهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، وأَرْخَصَ في السَّلَم"
(4)
. ولا يَخْفَى ما في هذه العقود كلها مِن
(5)
العُذر ومحل الاحتياج إليها.
نَعَم، تَردَّد الغزالي في "المستصفى" في كَوْن السَّلَم رُخصة؛ لاحتمال أنه داخل في "لا تَبع ما ليس عندك"، واحتمال أنَّ المراد به العين، والسلَم بيع دَيْن؛ فلم يدخل.
قال: (فاشتراكهما في [الشرط]
(6)
لا يوجب إلحاق أحدهما بالرخص، وعلى هذا يَكون قول الراوي:"وأَرْخص في السَّلَم" مجازًا؛ [لمشابهته]
(7)
الرخص)
(8)
.
ويَقْرُب مِن هذين الاحتمالين وجهان حكاهما الماوردي في باب السلَم: هل هو أصل
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2591)، صحيح مسلم (رقم: 1536).
(2)
كذا في (ص)، لكن في (ز): القرض.
(3)
سنن أبي داود (3503)، سنن الترمذي (1232) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1292). وانظر: البدر المنير (6/ 448).
(4)
قال الحافظ ابن حجر في كتابه (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 159): (لم أجده هكذا. نعم، هُما حديثان، أحدهما: "لا تَبع ما ليس عندك " .. ، ثانيهما: الرخصة في السلم. ولم أَرَه بهذا اللفظ، إلَّا أن القرطبي في "شرح مسلم" ذكره أيضًا). انتهى
(5)
هنا انتهى الجزء الساقط مِن (ت).
(6)
في (ص): اللفظ.
(7)
كذا في (ش)، لكن في (ص، ز): لمشابهة.
(8)
المستصفى (ص 79).
بنفسه؟ أو عقد غرر جُوِّز للحاجة كالإجارة؟
وقول مَن قال: (قد يندب السلَم بأنْ يحتاج إليه في مال الصبي) ضعيف؛ لِكَون ذلك لِأَمر عارضٍ؛ لِكونه مصلحة، لا لخصوص كَوْنه سلَمًا.
وقد تُمَثَّل الرخصة المباحة بما ليس مِن المعاملات، كتعجيل الزكاة، ففي الحديث الترخيص للعباس رضي الله عنه في ذلك، رواه أبو داود
(1)
، ولم يَقُل أَحَد مِن الأصحاب باستحبابها، بل اختلفوا في الجواز، والصحيح: نعم.
ومنهم مَن يُمَثله بالفطر في السَّفَر، وليس بجيد؛ لأنه يستحب لمن يشق عليه الصوم، ويُكْره لِغَيره، فأين استواء الطرفين؟
وقال بعضهم: لم أجد له مثالًا بعد البحث الكثير إلا التيمم عند وجدان الماء بأكثر مِن ثَمن المِثْل، فإنه يُباح له التيمم والوضوء مستويًا، لكن هذا تفريع على كَوْن التيمم رخصة، وفيه أَوْجُه، ثالثها: عند فَقْد الماء عزيمة، وللجراحة رُخصة.
وما سبق مِن الأمثلة كافٍ، ويجري في غير المعاملات والعبادات أيضًا، ففي "البسيط": شَعْر المأكول إذا جُزَّ في حياته رُخصة؛ لمسيس الحاجة إليه في الملابس.
وفي "النهاية": (لبن المأكول طاهر، وذلك عندي في حُكم الرخص؛ فإنَّ الحاجة ماسة إليه، وقد امتنَّ الله تعالى بإحلاله)
(2)
.
وأمَّا الرخصة التي هي خِلاف الأَوْلى (ولم يتعرض لها أكثر الأصوليين) فكالإفطار في السفر عند عدم التَّضرُّر بالصوم، وهو معنى قولي:(لا يُولَي مشقة الصوم) أَيْ: لا يلحقه
(1)
سنن أبي داود (رقم: 1624)، سنن الترمذي (678)، وغيرهما. وقال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 857).
(2)
نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 307 - 308).
ذلك. ومِثْله الاقتصار في الاستنجاء على الحجر مع وجود الماء.
تنبيهات
أحدها: قد استُشْكل مجامعَةُ الرخصة الوجوب؛ لأنَّ الرخصة تقتضي التسهيل؛ ولهذا قال الإمام في "النهاية" في باب "صلاة المسافر": (يجوز أنْ يُقال: أَكْل الميتة ليس برخصة، فإنه واجب. ويجوز أنْ يجاب عنه بالتيمم، فإنه واجبٌ على فاقِد الماء، وهو معدود من الرخص)
(1)
.
فانظر كيف ترَدَّد في مجامعتها للوجوب.
وفي "أحكام القرآن" للْكِيا الطبري: (الصحيح عندنا أنَّ أَكْل الميتة للمضطر عزيمة، لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان ونحوه)
(2)
.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: لا مانع مِن أنْ يُطْلَق عليه "رخصة" مِن وَجْهٍ و"عزيمة" مِن وجهٍ.
فيحتمل أنَّ ما قاله رأْيٌ له ثالث، ويحتمل أنْ يَكون تنقيحًا للخلاف، وهو الأَقْرَب.
وكذلك استشكل مجامعة الرخصة للإباحة، فَفِي فتاوى القاضي الحسين لَمَّا تكلم على الإكراه على النقب والإخراج مِن الحرز أنه شُبهة في سقوط القطع، قال: (قال الشيخ العبادي: لا أقول: أبيح للمُكرَه النقب والإخراج. بل أقول: رُخِّص له فيه. وفَرْق بين الإباحة والرخصة، فإنه لو حلف لا يأكل الحرام فأَكَل الميتة للضرورة، حنث في يمينه؛ لأنه
(1)
نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 461).
(2)
أحكام القرآن (1/ 42)، ط: المكتبة العلمية، الطبعة: الأولى / 1403 هـ-1983 م.
حرام، إلَّا أنه رُخِّص له فيه). انتهى
وفيه نَظَر؛ لأنَّ الأعيان لا توصَف بِحِلٍّ ولا حُرْمَة عندنا، خِلافًا للحنفية، فيبقي التناوُل وهو واجب، فكيف يَكون حرامًا وهو ليس ذا وَجْهَين؟ !
وحكى الإمامُ عبد العزيز (شارِحُ البَزْدَوِي) خلافًا عن العلماء في حُكم الميتة ونحوها في حالة الضرورة: هل هي مباحةٌ؟ أو تبقى على التحريم ويرتفع الإثم كما في الإكراه على الكفر؟ وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولَي الشافعي. قال: وذهب أكثر أصحابنا إلى ارتفاع الحرمة، وذكر للخلاف فائدتين:
إحداهما: أنه إذا جاع حتى مات، لا يَكون آثمًا على الأول، بخلافه على الآخَر.
الثانية: إذا حلف لا يأكل حرامًا فتناوله في حالة الضرورة، يحنث على الأول، ولا يحنث على الثاني.
الثاني: ظاهر إطلاق كثير أنَّ الرخصة لا تكون حرامًا ولا مكروهًا؛ لحديث: "إنَّ الله يحب أنْ تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أنْ تؤتَى عزائمه"
(1)
. وهذا داخل في إشارة قولي: (والمَرْضِي كذا وكذا). أَيْ: لا غَيْره.
نَعَم، قد يُتوهم مِن كلام الأصحاب في مواضع خِلافُ ذلك:
أمَّا التحريم: فكالاستنجاء بالذهب والفضة، فإنه حرام مع كَوْن الاستنجاء بغير الماء رخصة، وقول "الروضة" تبعًا للشرح:(ويجوز بِقِطْعَة ذهب وفضة) إنما المراد به صحة الاستنجاء بذلك والاكتفاء به كما صرح به في "التحقيق" إذْ قال: (والأصح إجزاؤه بذهب وفضة). فَاعْلَمه.
(1)
سبق تخريجه.
وأما الكراهة: فكالقصر في أَقَل مِن ثلاث مراحل، فإنه مكروه كما قاله الماوردي في باب الرضاع، وكذلك اتِّبَاع النساء الجنائز، فإنه مكروه -على الأصح في "الروضة" إذا لم يُؤدِّ إلى فِعل حرام، وقد قالت أم عطية رضي الله عنهما:"نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعْزَم علينا"
(1)
. وقيل: بل حرام.
الثالث: الحاصل مِن تقرير مجامعة الرخصة الوجوب ونحوه أنَّ الرخصة في الحقيقة إحلال الشيء؛ لأنها التيسير والتسهيل، ثم قد يَعْرض له وَصْفٌ آخَر مِن الأحكام غَيْر الحل؛ لِدليلٍ، كَحِلِّ أَكْل الميتة نشأ وجوبه مِن وجوب حِفظ النفْس كما سبق؛ فلذلك انقسمت الرخصة إلى الأقسام السابقة، بل لها أقسام أخرى باعتبار ما يتولد مِن الانتقال مِن نوع مِن الأحكام إلى نوع أَسْهَل منه مِن حيث ما هو أشد منه فيه ولو كان في المُنْتَقَل إليه تشديد باعتبار آخر.
بيان ذلك أنَّ المُنْتَقَل عنه ستة: الإيجاب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة، والمنع مِن شيء خِلَاف الأَوْلَى. والمُنْتَقَل إليه ستة مِثْل ذلك، فيحصل مِن ضَرْب ستة في سِتَّةٍ ستةٌ وثلاثون، يسقط منها الانتقال مِن كُلٍّ إلى نَفْسه؛ يَبْقَى ثلاثون، يَسقط منها ما فيه انتقال مِن أَخَف إلى أثقل، كالانتقال مِن المباح إلى الخمسة الأخرى؛ لأنه لا شيء أَخَف مِن المباح، تبقى خمسةٌ وعشرون، وكذا الانتقال مِن مستحبٍّ إلى واجب، ومن مكروه وخِلاف الأَوْلى إلى حرام، ومن خِلَاف الأَوْلى إلى مكروه، فهذه أربعةٌ أُخرى ساقطة، يبقى أحد وعشرون، وهي:
(1)
ما رُخِّصَ فيه مِن تحريم إلى واجب. (2) إلى مندوب. (3) إلى مباح. (4) إلى مكروه. (5) إلى خِلَاف الأَوْلَى.
(1)
سبق تخريجه.
(6)
مِن إيجاب إلى مندوب. (7) إلى مباح. (8) إلى حرام. (9) إلى مكروه. (10) إلى خِلَاف الأَوْلى.
وَوَجْه الترخيص في الثلاثة الأخيرة أنه لَمَّا كان واجبَ الفعل كان الإثمُ في تركه، فصار تركه لا إثم فيه، بل قد يَكون الإثم في فِعله، أو في تركه أَجْر. والجمع بين كَوْنه رخصة وحرامًا كالجمع في الصلاة في المغصوب بين الوجوب والتحريم باعتبارين، وكذا في نهي التنزيه.
(11)
وما رُخِّصَ فيه مِن الندب إلى مباح. (12) إلى حرام. (13) إلى مكروه. (14) إلى خِلَاف الأَوْلى.
وَوَجْه الترخيص نحو ما سبق؛ لأنه كان مطلوبًا فصار غير مطلوب، أو مطلوب الترك.
(15)
وما رُخِّصَ فيه مِن الكراهة إلى واجب. (16) إلى مندوب. (17) إلى مباح. (18) إلى خِلاف الأَوْلى.
لأنه أيضًا رخص فيه باعتبار أنه كان منهيًّا عن تركه فَصَارَ غير مطلوب الترك، بل مطلوب الفعل حَتْمًا أو نَدْبًا أو مأذونًا فيه فقط، أو نُهي عنه لا نهيًا مؤكدًا كالنهي الأول.
(19)
وما رُخِّص فيه مِن مَنعْ خِلَاف الأَوْلى إلى واجب. (20) إلى مندوب. (21) إلى مباح.
والقول في وَجْه الترخيص كما سبق، فما وُجِد مِن أمثلتها غَيْر ما سبق يَكُون فائدة يستخرجها الفقيه الماهر.
وقولي: (فما فيه انتفى) إلى آخِره -يتضمن تعريف العزيمة بِـ "ما انتفى فيه قَيْدٌ مِن قيود
الرخصة"، كانتفاء تَغَيُّر الحكم أو كَوْن التغير إلى أسهل، أو لأسهل لكن [لا]
(1)
لِعُذْر، سواء أكان ذلك في واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه أو حرام أو خلاف الأَوْلى على معنى الترك في الثلاثة، فيعود المعنى في ترك الحرام مثلًا إلى الوجوب، وهذا ما جرى عليه البيضاوي وغيره.
وقِيل: تختص بالواجب والمندوب فقط. قاله القرافي؛ لأنها طَلَب مؤكَّد؛ فلا يجيء في المباح.
وقال قوم: لا تكون العزيمة إلا في الواجب فقط. وفَسَّروها بما لزم العباد بإلزامِ الله تعالى، أَيْ: بإيجابه -على ما صرح به الغزالي وتبعه الآمدي وابن الحاجب في "مختصره" الكبير، ولم يصرح في الصغير بشيء، وكأنهم احترزوا بالقيد الأخير عن [الندب]
(2)
، والله أعلم.
ص:
191 -
سَادِسَةٌ: مَا لَا يَتِمُّ مَا انْوَجَبْ
…
شَرْعًا بِمُطْلَقٍ بِدُونِهِ وَجَبْ
192 -
إنْ يَكُ مَقْدُورًا، سَوَاءٌ وَقَفَا
…
وُجُودُهُ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يُعْرَفَا
193 -
شَرْعِيًّا اوْ عَقْلِيًّا اوْ عَادِيَّا
…
شَرْطًا يُرَى، أَوْ سَبَبًا مَرْعِيَّا
194 -
كصِيغَةِ الْعِتْقِ، وَللْعِلْمِ النَّظَرْ
…
وَالسَّيْرِ لِلْحَجِّ، وَطُهْرٍ مُعْتَبَرْ
195 -
في كصَلَاةٍ، وَكتَرْكِ الضِّدّ
…
في الْأَمْرِ، وَالْغَسْلِ لِفَوْقِ الْحَدِّ
(1)
ليس في (ص).
(2)
كذا في (ت، ظ، ق) وهو الصواب، لكن في (ص، ز، ض): (النذر). فإنْ كان المؤلف قال ذلك فلأنَّ في النذر يُلْزِم العبد نَفْسَه، فليس بإلزام الله تعالى.
الشرح: هذه المسألة هي المعَبَّر عنها في الأصول والفقه بِـ "ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب"، وربما قِيل: ما لا يتم المأمور إلَّا به يكون مأمورًا به، وهو أَجْوَد مِن حيث إنَّ الأمر قد يَكون للندب فتكون مقدمته مندوبة، وربما كانت واجبة كالشروط في صلاة التطوع إلَّا أنه لَمَّا وَجَب الكف عن فاسِد الصلاة عند إرادة التلَبُّس بالصلاة مَثَلًا، وَجَب ما لا يتم الكَفُّ مع التلبُّس إلَّا به؛ فَلَمْ يخرج عن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
وإذا اتضح الأمر في مُقَدِّمة الواجب [أنها واجبة]
(1)
، عُدِّي إلى المندوب بما يليق به من الأمرين كما قررناه؛ فلذلك عَبَّرت في النَّظم بِـ "الواجب".
والحاصل: أنَّ ما يتوقف عليه الفعلُ الواجبُ إمَّا أنْ يَكون جُزءًا للواجب، وإمَّا خارجًا عنه كالشرط والسبب.
فالأول واجبٌ اتفاقًا؛ لأنَّ الأمر بالماهيَّة المركبة أمرٌ بكل واحد مِن أجزائها ضِمنًا، فالأمر بالصلاة -مَثَلًا- أمر بما فيها مِن [ركوع وسجود]
(2)
وغير ذلك.
والثاني هو محل الخلاف، وأصحُّ الأقوال فيه الوجوب مطلقًا، لكن بشرطين:
أحدهما: أنْ يَكون دليل وجوبه مُطْلَقًا، لا مقيَّدًا بحالة وجود المتَوَقَّف عليه، كالحج، فإنه مشروط بالاستطاعة، وكالزكاة، فإنها مشروطة بِمِلْك النصاب وبالحول، وكالجمعة، فإنَّ صحتها مشروطة بالجماعة والوطن ونحو ذلك.
قلتُ: التمثيل بالجمعة ظاهر؛ لأنَّ صحة فِعلها متوقف على ذلك، أمَّا الزكاة والحج فإنَّ المتوقِّفَ على ما ذُكِر فيهما إيجابُ الفعل، لا [صحة]
(3)
الفعل، والكلام إنما هو فيما
(1)
ليس في (ص).
(2)
في (ش): الركوع والسجود.
(3)
مِن (ض، ق، ت).
[تَوَقَّف]
(1)
عليه صحةُ الفعل لا إيجابه، وإلا فالإيجاب متوقف على شرطه وهو البلوغ والعقل وغيرهما مما سبق مِن شروط التكليف.
نَعَم، هذا الشرط مِن أصله ينبغي اختصاصه بمقدمة الواجب إذَا كانت شرطًا لا سببًا؛ فإنَّ السبب يَلْزَم مِن وجودِه الوجودُ، فَبَعْد وجوده لو أُمر بِمُسَبَّبِه لَكَان أمرًا بتحصيل الحاصل، إلَّا أنْ يُفْرَض ذلك في سبب عادي كالسير للحج كما سيأتي، فإنه لا يَلْزَمُ مِن وجودِه وجودُ الحج، إلَّا أنْ يُقَال: إنما هو سبب لِلتمكُّن مِن الحج، لا سبب لِنَفْس الحج، لكن التمكن مِن الحج لَمَّا كان شرطًا فيه، جُعِل السيرُ سببًا للحج.
الشرط الثاني: أنْ يَكون المتوقَّف عليه مقدورًا لِلمكلَّف بِالمتوقِّف؛ لأنَّ غَيْر المقدور لا يتحقق [معه]
(2)
وجوبُ الفعل، وذلك كإرادة الله تعالى وقوعه، وكالداعية التي يخلقها الله تعالى للعبد على الفعل وهي العزم المصمم، وقُدرة العبد عليه، فإنها مخلوقة لله تعالى، وإلَّا لتوقفت على مِثْلها، وذلك عَلَى آخَر، ويَلْزَم التسلسُل، ولا يجب ذلك اتفاقًا.
لكن هذا الشرط إنما يعتبره مَن لَمْ يُجَوِّز تكليفَ ما لا يُطاق -كما قاله الهندى، وأمَّا مَن يُجوزه فلا.
نَعَم، تقريره عند المانع مِن تكليف ما لا يُطاق مُشْكِل أيضًا؛ لأنَّ القُدرة مثلًا إذا لم تكن مقدورة فالأصل غَيْر مقدور؛ ضرورة كَوْنه مُقَدمته، والعجز عنها عَجْزٌ عنه، فالمتوقف حينئذ الوجوب لا الواجب، فهو كالبلوغ وسلامة الأعضاء التي بها الفعل، وقد تَقدم أنه ليس محل النزاع.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (رأيت جماعة خَبَّطوا في ذلك، ولم أَرَ له مثالًا صحيحًا
(1)
في (ص): يتوقف.
(2)
كذا في (ص، ز، ش)، لكن في (ت، ض، ظ، ق): بعد.
يجتمع معه الوجوب إلا القدرة والداعية، وتقديره أنَّ الإيجاب لا يتوقف على القدرة والداعية ولو قيل بِمَنع تكليف ما لا يُطاق وكأنَّ ذلك لانتفاء السر في تكليف ما لا يُطاق، وهو الاختبار والامتحان فيه دُون المقدمة، فَتَنبَه لذلك؛ فإنه مِن المهِمَّات)
(1)
. انتهى.
وحاصله منع أنَّ "المقدمة إذا لم تكن مقدورة، لا [يُكَلَّف]
(2)
بالأصل الذي هو غَيْر مقدور"، لافتراقهما في المعنى المذكور.
تنبيه:
قد سبق أنَّ الأمرَ بالماهية أمرٌ بكل جزء منها بلا خلاف، وحينئذ فيشترط أنْ يكون مقدورًا له قطعًا؛ لحديث:"إذَا أمرتكم بأمر، فَأْتوا منه ما استطعتم"
(3)
.
نَعَم، إذا سقط وجوب البعض المعجوز، هل يبقى وجوب الباقي المقدور؟ قاعدة الشافعي في الأصل البقاء؛ للحديث الموافق لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويُعَبَّر عن القاعدة بأنَّ "الميسُور لا يسقط بالمعسُور"، كوجوب القيام على مَن عجز عن الركوع والسجود لِعِلَّة في ظَهْره مَثَلًا، وواجِد بعض ما يكفيه لطهارته وبعض ما يجب من الفطرة، وغير ذلك، إمَّا بالقطع أو على الراجح، وإنْ خرج عن القاعدة فروع سقط فيها وجوب الباقي إما قَطْعًا أو على الراجح فإنَّ ذلك لِمَدارك فقهية مَحَلُّها الفقه، لكن سنذكرها ونذكر طَرَفًا مِن الفروع في أواخر الكتاب في الكلام على القواعد المَبْنِي عليها فقه الشافعي رضي الله عنه.
وقولي: (سواء وَقَفَا) إلى آخِره -بيان لجهة التوقف على المقدمة، وذلك إمَّا أنْ يتوقف
(1)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 103).
(2)
كذا في (ص)، لكن في (ز): تكليف.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 6858)، صحيح مسلم (رقم: 1337)، واللفظ للبخاري.
عليها وجوده شرعًا أو عَقْلًا أو عادة كما سيأتي بيانه في تقسيم المتوقَّف عليه، وإمَّا أنْ يتوقف عليها العِلم بوجود الواجب لالتباسه بِغَيْره حادثًا أو أصلًا، لا نَفْس وجوده، كَمَن نسي صلاةً مِن خَمسٍ، لا يتحقق العِلم بأنه صَلَّى ما عليه حتى يُصَلِّي الخمس، وكَستْر شيء مِن الركبة مع أنها ليست بِعَوْرة (على الأصح)؛ لأجل ستر الفخذ الذي هو عورة (على الأصح في الرجُل، وأمَّا المرأة فَقَطْعًا).
ومن أمثلة ذلك: ما لو اختلطت المنكوحة بالأجنبية، فإنه يجب الكَفُّ عنهما، وكذا لو طَلَّق إحداهما لا بِعَيْنها، أو بِعَيْنها ولكن نَسى.
نَعَم، وقع اضطراب في فروع لهذا المدرك كمسح الزائد -في الرأس- على ما ينطلق عليه الاسم مِن المسح على قول الشافعي:(إنَّ الواجب مسح بعض الرأس)، فهل يكون الزائد واجبًا لكونه لا يتميز؟ أو يمكن التميز فيكون الزائد سُنة؟
وكذا الزائد في البعير في الزكاة المخرج عَمَّا دُون خمس وعشرين مِن الإبل التي واجبها في كل خَمسٍ شاة حتى لو أخرجه عن خمس يكون أربعة أخماسه سُنَّة. وكذا الزائد في البدنة المذبوحة عن الشاة أو الثنتين إلى ستة إذا وجبت الشاة مثلًا في تمتُّعٍ أو أُضحيةٍ أو نَذْرٍ. وكذا الواقع في الحلق الواجب في النسك، والزائد في تطويل أركان الصلاة على القَدْر المُجْزِئ في قيام أو ركوع أو سجود أو نحو ذلك مما ليس بعضه بالوجوب أَوْلَى مِن بَعْض مما هو مبسوط في الفقه.
ولَكَ أنْ تقول: هذا القِسم أيضًا يتوقف عليه [الوجود]
(1)
، فيتحد مع ما قَبْله؛ لأنَّ الماهية تنتفي بانتفاء شرطها، والعِلم بوجود المأمور به شرطٌ فيه؛ فتنتفي الماهية بانتفائه، فَقَدْ توقف الوجود على ذلك لكن بواسطة توقُّف الواجبُ على العِلم، والعِلم على فِعل يُتَيَقَّن به
(1)
في (ص): الوجوب.
وجودُ الواجب؛ فينبغي أنْ يُقَال في التقسيم: إمَّا أنْ يتوقف عليه وجودُ الواجبِ بواسطةٍ أو بِغَيْر واسطة.
وقولي: (شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عَادِيًّا) بيانٌ لأقسام المقدمة المتوقَّف عليها، وقد سبق أنَّ محل النزاع في وجوب المقدمة محصور في السبب والشرط، وكُل منهما إمَّا شرعي أو عقلي أو عادي، فهذه ستة أقسام.
مثال السبب الشرعي: صيغة العتق في الواجب مِن كفارة أو نذر، وكذا صيغة الطلاق حيث وجب، كأمر والدِ الزوج به (على المعتمد في الفتوى).
ومثال السبب العقلي: النظر الموصل للعِلم.
ومثال السبب العادي: السَّيْر للحج على ما سبق في تقريره.
ومثال الشرط الشرعي: الطهارة للصلاة.
ومثال الشرط العقلي: ترك أضداد المأمور به.
ومثال الشرط العادي: غسل الزائد على حَدِّ الوجه في غسل الوجه، لِيتحقق غسْلُ جميعُه، وهو معنى قولي:(وَالْغسْلِ لِفَوْقِ الْحَدِّ).
وفي البيت الذي بَعْده: (للوجه) فاللام الأُولى زائدة لتقوية العامل؛ لِكونه فرعًا في العمل " لأنَّ المصدر فرعٌ عن الفعل في ذلك، واللام الثانية للعِلة، أَيْ: لِأَجْل الوجه، أَيْ: لأجل تَحقُّق غسل الوجه.
وهذا القول بوجوب هذه الأقسام الستة هو المرجَّح عند الأصوليين، وهو قول الإمامِ وأتباعِه والآمدي، وبه جزم سليم في "التقريب".
لكن اختُلِف في كَوْن وجوب المقدمة مُتَلَقًّى مِن نَفْس صيغة الأمر بالأصل، أو مِن دلالة الصيغة: قولان، الثاني منهما قول الجمهور. قال ابن بَرهان: لأنَّ المتلقَّى مِن الصيغة ما
كان مسموعًا منها. وينحل ذلك إلى أنَّ الدلالة عليه بالتضمن؟ أو بالالتزام؟ وقد صرح بالأول إمامُ الحرمين في "البرهان" و"التلخيص"، وتقريره: أنه إذَا تَقَرَّر التوقفُ ثُم جاء الأمرُ، كان كأنه مُصَرحٌ بوجوب المجموع.
والقول الثاني في أصل المسألة: أنه لا يجب مُطْلَقًا. وهو قول المعتزلة، وحكاه ابن الحاجب في "مختصره الكبير" وإنْ كان كلامه في "الصغير" في أئناء الاستدلال يقتضي أنَّ إيجاب السبب مجمَعٌ عليه، وحكاه ابن السمعاني في "القواطع" عن أصحابنا.
والثالث: يجب في السبب بأقسامه دُون الشرط بأقسامه، ويُعْزَى للشريف المرتضى، وهو اختيار صاحب "المصادر" مِن المعتزلة.
والرابع: ما ارتضاه إمامُ الحرمين واختاره ابنُ الحاجب في "مختصره الصغير": وجوبُ السبب مُطلقًا، والشرط الشرعي دُون الشرط العقلي والعادي، فإنهما لا يَجِبان، بل زعم الأبياري أنه لا خِلَاف في وجوب أالشرطِ الشرعي، وزعم تلميذه ابن الحاجب أنه لا خلاف في وجوب السبب، وُيرَدُّ عليهما]
(1)
بحكاية غيرهما الخلاف.
واعْلَم أنَّ هذا الخلاف هل هو في الكلام النفسي؟ أَمْ في اللساني؟ فيه طريقان يظهران مِن الاستدلالات في المسألة. وإذا قُلنا بالإيجاب، فهل هو شرعي؟ أو عقلي؟ فيه خلافٌ، ولعل مَأْخَذه ما سبق مِن كَوْنه مأخوذًا مِن الأمر أو مِن دلالة الأمر، وهل هو بالتضمن؟ أو بالالتزام؛ وقد أوضحناه، والله أعلم.
(1)
في (ص): السبب ويرد عليه.
ص:
196 -
لِلْوَجْهِ، فَالْمُبَاحُ في التَّوَسُّل
…
لِتَرْكِ حَظْرٍ وَاجِبٌ، وَذَا جَلِي
197 -
في الْكُلِّ، فَالْكَعْبِيُّ إنْ أَرَادَا
…
بِنَفْيِهِ الْمُبَاحَ ذَا، أَجَادَا
198 -
فَالشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ
…
كَشَغْلِ غَصْبٍ بِصَلَاةٍ دَيْنِ
199 -
وَإنْ أَرَادَ النَّفْيَ مُطْلَقًا، فَذَا
…
مِنْ أَفْسَدِ الرَّأْيِ، فَإيَّاهُ انْبِذَا
الشرح:
قولي: (للوجه) متعلق بما قبله، وسبق شرحه.
وقولي: (فالمباح) إلى آخِره -هو تفريع مسألة أصولية على القاعدة السابقة، وهي أنَّ المباح إذَا كان وسيلة لترك حرام، كان واجبًا؛ لأنَّ ترْكَ الحرام واجبٌ، وما تَوَقَّف عليه الواجبُ واجبٌ. نَعَم، لا يَلزم مِن ذلك انتفاء المباح مِن الشرع بالكُلية وإنْ كان الكعبي قد تَعلَّق في نفي المباح بهذه القاعدة.
والكعبي هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعتزلي، تلميذ أبي الحسين الخياط، توفي سنة تسع عشرة وثلثمائة، وأتباعه طائفة يُسمون البلخية، فوافقوه على إنكار المباح، وحكاه ابن الصباغ عن أبي بكر الدقاق وهو معتزلي أيضًا، ونقله القاضي عبد الوهاب عن معتزلة بغداد، ونقله الباجي عن أبي الفرج مِن المالكية.
فإنْ كانت هذه المقالة إنكار الأصل المباح كما هو ظاهر نَقْل إمام الحرمين في "البرهان" عن الكعبي وكذا هو ظاهر نَقْل ابن برهان في "الوجيز" و"الأوسط" وإلْكِيا الهراسي والآمدي وغيرهم عنه، فهو ظاهر الفساد، مخالفٌ لإجماع عصابة المسلمين المنعقد قَبْل المخالفين أنَّ مِن أحكام الله عز وجل قِسم المباح.
وإنْ كانوا لا ينفونه أصلًا وإنما يقولون: لا يقع إلا وسيلة لترك الحرام، فيكون واجبًا، حتى إنَّ القاضي في "مختصر التقريب" نقل عن الكعبي أنَّ المباح مأمور به دُون أمر الندب، والندب دُون أمر الإيجاب، وقال: إنه وإنْ أَطْلَق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا ولا الإباحة إيجابًا. وتبعه على ذلك الغزالي في "المستصفى" وابن القشيري في أصوله.
وبالجملة فقد أقاموا على هذه الدعوى دليلا قويًّا، فقالوا: فِعل المباح يُترك به الحرام، وكُل ما تُرك به الحرام واجبٌ، فَفِعل المباح واجب.
بيان الصغْرَى: أنَّ فاعل المباح لا يَكون فاعلًا للحرام في آنٍ واحد؛ لِئلَّا يجتمع الضدان، فهو تارِكٌ له.
وبيان الكبرى مِن قاعدتين، إحداهما: مقدمة الواجب واجبة، والثانية: أنَّ تحريم الشيء إيجابٌ لأحد أضداده كما سيأتي بيانها.
وقد أُجِيبَ عن هذا الدليل بمنع الصغرى؛ لأنَّ تَرْك الحرام لا ينحصر في كَوْنه ضمن المباح عينًا، بل بواحدٍ مِن نوعه أو بواحدٍ مِن نوع المندوب أو مِن نوع الواجب أو نوع المكروه، بل وبواحدٍ مِن نوع الحرام غيره يحصل به ترْكُه.
وهو معنى قولي: (وَذَا جلي في الْكُلِّ). أَيْ: في كل الأحكام، حتى في الحرام باعتبار فِعل حرام آخَر، ولا يضر ذلك لِكَوْنه مِن جهتين كما ستعرفه.
وضعَّف الآمدي وابن برهان وابن الحاجب وغيرهم هذا الجواب بأنه لم يخرج عن كَوْنه واجبًا، غايته أنه ليس واجبا عينًا، بل على التخيير؛ والواجب المخَيَّر بفعله يتعين للوجوب قطعًا كما سبق، فلا يتصور وقوع مباح إلا واجبًا، سواء قُلنا في المخير:(الكل واجب) أو (واحد لا بِعَيْنه)، ولو قُلنا: إنَّ محل الوجوب لا تخيير فيه، ومحل التخيير لا وجوب فيه؛ لأنَّه بَعْد الفعل ينطلق عليه اسم "الواجب"، فلا يُتصور حينئذ وقوع مباح إلا واجبًا، وهو مُدَّعَى الخصم.
قالوا: ولا مخلص مما قاله الكعبي إلَّا بمنع إيجاب المقدمة وهي إحدى القاعدتين السابقتين، أَيْ: أو بمنع الأخرى وإنْ لم يتعرضوا لذلك؛ إمَّا لِكَوْن منع الأُولى يَلزم منه منعُ الأخرى، أو لكونها ممنوعة في نفسها كما قال إمام الحرمين: إنَّ مَن مَنَع أنَّ النهي عن الشيء أَمرٌ بأحد أضداده يقول: لو قُلتُ بذلك، لَزِمَني القول بمسألة الكعبي.
أمَّا إذا قُلنا بالقاعدتين، فلا سبيل إلى مخالفة الكعبي، غايته أنْ يَكون للشيء جهتان، ولا يمتنع ذلك، كالصلاة في المغصوب، وإنما يبقى الاعتراض عليهم في تعيين المباح، وبأنه يلزم أنْ يكون الحرامُ المفروض به ترك حرام آخر واجبًا، وهو ممتنع.
ولكن لهم أنْ يجيبوا عن الأول: بأنهم لم يحصروا، بل فرضوا ذلك مثالًا؛ لِكوْنه أوضح؛ لأنه ليس داخلًا في الاقتضاء أصلًا.
وعن الثاني: بأنَّ ذلك مِن جهتين، ولا يمتنع، كالصلاة في الدار المغصوبة، ونحو ذلك.
وقال الآمدي بَعْد زَعْمه أنَّ كلام الكعبي صحيح على ما سبق: (عَسَى أنْ يَكون عند غَيْري حَل هذا الإشكال)
(1)
.
وحاول بعض المتأخرين الجواب بأمور أخرى:
منها: أنَّ الذي يُفرض له جهتان إنما هو في العقل دُون الخارج؛ إذِ الفعل الواحد في الخارج لا يكون واجبًا مباحًا ولا واجبًا حرامًا؛ إذِ الماهية لا تتقوم بفصلين أو فصول [متعاندة]
(2)
.
ومنها: أنَّ الفعل كما يَلزم أنْ يَكون تركًا للحرام يَلزم أنْ يَكون تركًا للواجب وتركًا للمندوب، ونحو ذلك، واللوازم إذا تعارضت، تساقطت؛ فيبقى أصل المباح.
(1)
الإحكام للآمدي (1/ 169).
(2)
كذا في (ص، ض، ق، ت، ش). لكن في (ز): متغايرة.
ومنها: لو فرضنا جميع الأفعال دائرةً، والأفعال المباحة خُمْسُها، فإذَا حصل الفعل المتلبس به فهو [مركز]
(1)
الدائرة، وإذا كان مباحًا بالذات الذي أقر الكعبي به، حصل للفعل المذكور نسبَةٌ إلى كل خُمسٍ مِن أجزاء الدائرة، والفرضُ أنه مباحٌ؛ فتساقطت النِّسَبُ [الخمسة]
(2)
، وبقيت الإباحة الذاتية، وهو قريب مما قَبْله.
قُلتُ: ويمكن التخلص بغير ذلك كُله، وهو منع مقدمته الصغرى باستناد لأمرٍ آخَر، وهو أنَّ الكَفَّ عن الحرام الذي هو مناط التكليف في النَّهي -على الأرجح كما سبق- فِعلٌ مغاير لسائر الأفعال الوجودية التي هي ضد الحرام، فهو أخص مِن عَدَم فِعل الحرام؛ لاحتياج الكف لِقَصْد، فإذا لم يوجد، فلا يكون آتيًا بواجب، ولهذا لا يُثاب؛ لانتفاء الفعل الذي هو الكف.
وإذا تَقَرر ذلك، فاجتماع الترك وما يُفْرَض مِن فِعل مباح أو مندوب أو غيرهما اجتماع اتفاقي لا على وَجْه اللزوم؛ لأنَّ كُلًّا مِن فِعل المباح وغيره يفرض ولا تَرْكَ موجود على الوجه الذي قررناه أنه أخص مِن انتفاء الحرام، فالكف هو الموصوفُ بالوجوب، لا ما يقارنه مِن الفعل المباح أو غيره. فإنْ لم يستحضر الحرام ولا كف، فهذا ليس مكلفًا بشيء مِن أضداد الحرام، بل يُكْتَفَى فيه بالانتفاء الأصلي، وهذا أَحْسَن ما يُحَقَّق به هذا الموضع مِن فتح الله عز وجل، فلله الحمد والمنة.
وقولي: (كَشَغْلِ غَصْبٍ بِصَلَاةٍ دَيْنٍ) أَيْ: بالصلاة التي هي عليه دَيْن واجب [عليه]
(3)
، أَيْ: حتى يجتمع فيها الوجوب والتحريم، وحينئذ فيُقرأ بتنوين "صلاة"،
(1)
في (ق): من مركز.
(2)
كذا في (ص، ز، ض، ش). لكن في (ق، ت): الخمس.
(3)
ليس في (ش).
و "دَيْن" صفة له. ولو قُرئ بلا تنوين على إضافة الموصوف للصفة كَـ "صلاة الأولى" لم يمتنِع، ويأتي فيه المذهبان المشهوران للكوفيين والبصريين، والله أعلم.
الباب الأول
في
"أدلة الفقه"