الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَعْدُ فيكون مندوبًا كما في غيره مِن الأدلة الشرعية يُستدَل بها ويُستنبَط منها ما لم يحدُث ويجوزُ أنْ يحدث.
وإنما قَدَّمتُ هذه المسألة هنا (وإنْ كنتُ أَخَّرت الكلام في كَوْن القياس هل هو دليل يُحتج به؟ أَوْ لا؟ وهل ذلك على العموم؟ أو في بعض الصُّوَر؟ (3)؛ لأنَّ تعدادَه مِن أدلة الفقه يدل على أنه مِن الدِّين، و [قررنا هناك]
(1)
هل هو حُجَّة مطلقًا؟ أو في بعض الأشياء؟ [فناسب]
(2)
تأخيره إلى موضع تعريفه؛ لِتَعلُّقه بالتعريف، والله أعلم.
ص:
202 -
أَوَّلُهَا: "
الْقُرْآنُ
" قَوْلٌ مُنْزَلُ
…
عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الْأَفْضَلُ
203 -
مِنَ الصَّلَاةِ وَالسُّلَامِ، مُعْجزُ
…
بَلْ سُورَةٌ، بَلْ آيَةٌ إذْ تُعْجِزُ
204 -
إنْ بِتِلَاوَةٍ لَهُ تُعُبِّدَا
…
وَ "السُّنَّةُ" الَّتِي إلَيْهَا قُصِدَا
الشرح: أَيْ: الأول مِن أدلة الفقه: القرآن، وهو الكتاب أيضًا؛ لقوله تعالى:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] بَعْد قوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29]، وفي الآية الأخرى {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]. وهو [أصلُ الأدلة]
(3)
كُلها، قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، ففيه البيان لجميع الأحكام.
قال الشافعي في "الرسالة": (وليس ينزل بأحَدٍ في الدنيا نازلة إلَّا وفي كتاب الله تعالى
(1)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ش): وورا هذا.
(2)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ض، ش): يناسب.
(3)
كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ض، ق، ت): أصل للأدلة.
الدليل على سبيل الهدى فيها)
(1)
.
فأَوْرَدَ بعضهم ما ثبت ابتداءً بالسُّنة أو غَيْرها، فأجاب ابنُ السمعاني بأنه مأخوذٌ مِن كتاب الله في الحقيقة؛ لأنه أَوْجَب علينا فيه اتِّباع الرسول، وحذرنا مِن مخالفته، قال الشافعي رحمه الله:(فَمَن قَبِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَنِ الله قَبِل)
(2)
. انتهى
والقرآن مأخوذ مِن "قرأ" إذا جمع، سُمي به المقروء كما [سُمي]
(3)
المكتوب كتابًا.
قال أبو عبيد: سُمي بذلك لأنه يجمع السُّوَر ويضمُّها.
قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب "التذكار في أفضل الأذكار": (اختُلِف في القرآن هل هو مشتق؟ أوْ لا؟ فقال الشافعي: سَمى الله تعالى كتابه "قرَآنًا" بمثابة اسم عَلَم لا يسوغ إجراؤه على موجب اشتقاق. قال: ويجوز أنْ يقال: سُمي "قُرآنًا" مِن حيث إنه يُتلَى وُيقرأ بأصوات تنتظم وتتوالى وتتعاقب).
ثُم قال القرطبي: (والصحيح أنه مشتق مِن "قرأتُ الشيء": جمعته)
(4)
. وذكر وُجوهًا في الجمع.
قلتُ: كلام الشافعي محمول على أنه صار عَلَمًا ولو كان في الأصل مشتقًّا، لَا نَفْي الاشتقاق أصلًا.
واعْلَم أنَّ القرآن يُطْلَق مَرة على [المعنى]
(5)
القديم القائم بذاته سبحانه وتعالى، ومَرة
(1)
الرسالة (ص 19).
(2)
الرسالة (ص 22).
(3)
في (ز): سمي به.
(4)
التذكار في أفضل الأذكار (ص 24 - 25).
(5)
في (ق، ت): الكلام.
باعتبار المُنزل الدال على القديم الذي هو: مقروءٌ بالألسنة، محفوظٌ في الصدور، مسموعٌ بالآذان، مكتوبٌ في المصاحف، المَعْنِي بقوله تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 77 - 78] ، وقوله تعالى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106] ، وقوله تعالى {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] وقوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، إلى غير ذلك مِن الآيات، وكذا الأحاديث.
فالأول هو محل نَظَر المتكلمين؛ لأنه صفة مِن صفاته عز وجل.
الثاني هو مَحَل نَظَر الفقهاء والأصوليين وسائر خدمَة الألفاظ مِن المفسرين والنُّحاة والتصريفيين واللُّغَويين والبيانيين ونحوهم، وهو المرادُ هنا بالتعريف المذكور، وهو أنه: قولٌ مُنزلٌ على سيدنا محمَّد عليه الأفضل من الصلاة والسلام، مُعْجِزٌ، مُتَعَبَّدٌ بتلاوته.
فَـ "قَوْلٌ" جنس، وهو أحسن مِن التعبير بِـ "لفظ"؛ لأنَّ القول أَخَص، فهو جنس قريب، ولم أَقُل فيه:"القول"؛ لأنَّ الحقيقة لا يؤتى فيها بِدَالٍّ على كمية كما سبق تقريرُه مراتٍ.
وما بَعْده فهو الفصل المخرِجُ لِغَيره، فخرج بِقَيدِ كَوْنه مُنزلًا الكلامُ النفساني، وكذلك ألفاظ الناس وغيرهم مما لم ينزل.
فإنْ قِيل: ما معنى إنزال القول مع كَوْنه لا يوصَف بحركة ولا نزول لِكَوْنه عَرضًا والنزول للأجسام؛ لأنه إمَّا بمعنى التحرك مِن عُلو إلى سفل [كنزول]
(1)
المطر، وإمَّا بمعنى الحلول في الشيء [كنزول]
(2)
الجيش البلد؟
قِيل: هو مؤوَّل على أنَّ المَلَك لَمَّا تَلَقَّى مِن الله سبحانه وتعالى ما يدل على كلامه
(1)
كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ض، ق، ت): كنزل.
(2)
كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ض، ق، ت): كنزل.
القديم [بأنْ]
(1)
[تَلَقَّفَه تلقُّفًا]
(2)
روحانيًّا على الوجه المعلوم عند الله تعالى، أو تَلقَّاه مِن اللوح المحفوظ على ما قاله بعضُهم، ونزل فتلقَّاه منه الأنبياء على الوجه المفصَّل في الوحي وبيان أنواعه، جُعِل كأنَّ القول أُنْزِل كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 192 - 193]. وهذا القَدْر كافٍ في تقرير هذه المسألة وإنْ كانت طويلةَ الذيلِ، مبسوطةً في محلها مِن أصول الدِّين.
وخرج يكون الإنزال على محمَّد صلى الله عليه وسلم: ما أُنزل على غيره، كتوراة موسى، وإنجيل عيسَى، وزبور داود، وصحف شيث وإبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام. وفي حديث أبي ذر فيما رواه ابن حبان وغيره:"إنَّ الله تعالى أنزل مائةً وأربعةَ كتب"
(3)
.
وخرج بكونه أُنزل للإعجاز: السُّنةُ، فإنها وإنْ كانت مُنزلة وربما كانت معجزة أيضًا لكن لم يُقصَد بإنزالها الإعجاز.
وإنما قُلنا: إنَّ السُّنة مُنزلةٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 2 - 3]، كما قرر ذلك الشافعي في "الرسالة" في غير ما موضع. وقال في باب "ما أبان الله مِن فرضه لخلقه" وفي باب "ما فرض اللهُ في كتابه من اتِّباع سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم " أنَّ المرادَ بالحكمة في قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] ونحو ذلك - السُّنةُ.
(1)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ض، ز، ش): ان.
(2)
في (ش): تلقيه تلقيا.
(3)
صحيح ابن حبان (رقم: 361). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (التعليقات الحسان، 1/ 387).
فقال ما نَصُّه: (فذكر اللهُ الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعتُ مَن أرْضَى مِن أهل العِلم بالقرآن يقول: الحكمة سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يُشبه ما قال، لأنَّ القرآن ذُكر وأتبعه الحكمة، وذكر الله مِنَّته على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فَلَمْ يَجُز -والله أعلم- أنَّ الحكمة ها هنا إلَّا سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله)
(1)
إلى آخِره. انتهى
والحديث المروي مِن طريق ثوبان بعرض الأحاديث على القرآن - قال الشافعي: ما رواه أحدٌ يثبت حديثُه في شيء صغير ولا كبير. وقال ابن معين: إنه موضوعٌ، وضعته الزنادقة.
وكذا حكى ابن عبد البر في كتاب "جامع العِلم" عن ابن مهدي أنُّ الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم مني فاعرضوه على كتاب الله، فإنْ وافق فأنا قُلتُه، وإنْ خالف فلم أقُلْه"
(2)
.
قال الشيخ: (وقد عرضناه على الكتاب فلم نجد فيه ذلك؛ إذْ ليس فيه: "لا تَقبلوا مِن الحديث إلَّا ما وافق الكتاب"، بل وجدنا الأمرَ بطاعته، وتحريمَ المخالفة عن أمره)
(3)
.
نَعَم، نَقَل الشافعيُّ في "الرسالة" قولًا:(إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسُنّ سُنة قَط إلَّا ولها أصلٌ في الكتاب)
(4)
.
واعتنى ابن برجان في كتابه "الإرشاد" بتتبع ذلك، قال: وقد نبَّهنا صلى الله عليه وسلم على ذلك في كثير،
(1)
الرسالة (ص 78).
(2)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 191).
(3)
المرجع السابق.
(4)
الرسالة (ص 92).
مثل: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت" إلى قوله: "اقرءوا إنْ شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] "
(1)
.
وساق مِن ذلك كثيرًا.
وأمَّا كَوْنها قد تَكون معجزة فلأنَّ وجُوه إعجاز القرآن مِن البلاغة التي لا يَقدِر أحدٌ على مِثلها، والإخبار عن المغيبات وغير ذلك - يوجد في كثيرِ من السُّنة.
ومما يخرج بهذا القيد: ما في السُّنة أيضًا مِن حكايته أقوال الله تعالى، فإنه ليس بِقُرآن أيضًا؛ لأنه لم ينزل للأعجاز. والمراد بالإعجاز أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يتحدَّاهم بما جاء به، فيقول: هل تَقْدرون أنْ تأتوا بمثل ما قُلتُه؟ فيعجزون عن ذلك، فقدْ أعْجَزَهُم ذلك القول؛ فهو مُعجز.
فالسُّنة معجزة بالقوة؛ لكونه لم يطلب منهم أنْ يأتوا بمثلها. والقرآن مُعجز بالفعل، لكونه تحدَّاهم أنْ يأتوا بمثله بِأَمْر الله له بالتحدي به، ولم يأمره أنْ يتحدى بالسُّنة، فهذا الفَرْق بين الإعجازين.
ومن هنا لم أحْتَج في النَّظم أنْ أقول: (المنزل للإعجاز) لتخرج السُّنة؛ اكتفاءً بِقَولي: (معجز)، أيْ: بالفعل؛ لأنه الحقيقة، وما بالقوة مجاز، فلم تدخل السُّنة؛ لأنُّ الحقيقة هي المرادَة عند الإطلاق.
وقولي: (بَلْ سُورَةٌ، بَلْ آيَةٌ إذْ يُعْجِزُ) إشارة إلى أنَّ الإعجاز قد وقع بالتحدي بالقرآن كُله في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [السجدة: 88]. أيْ: فأْتوا بمثله إنِ ادَّعيتم القدرة، فلَمَّا عجزوا، تحدَّاهم بعَشر سُوَر بقوله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] ، فلَمَّا عجزوا،
(1)
صحيح البخاري (رقم: 3072)، صحيح مسلم (رقم: 2824).
تحداهم بسورةٍ بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أَيْ: مِن مِثل القرآن، أو مِن مِثل النبي صلى الله عليه وسلم. فلمَّا عجزوا، تحدَّاهم بِدُون ذلك وهو قوله تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [الطور: 34].
واكتفيتُ بقولي: (بل سُورة) عن عَشر سُوَر؛ لأنَّ مَن لا يَقْدر على سُورة، أَوْلى أنْ لا يَقْدر على أكثر منها.
وأَتيتُ بِقَولي: (بل آية) لإفادة أنَّ التحدي وقع بِدون السورة، خِلافًا لمن خالف في ذلك كما سأبينه، فلذلك لم أَكْتَفِ به عن السورة؛ لأنَّ ذاك مُصَرَّحٌ به في قولي:(بل سورة).
وأما قوله عز وجل: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [فيحتمل]
(1)
تنزيله على المنصوص بالتعيين وهو القرآن، أو عشر سُوَر، أو سُورة.
نَعَم، اختُلف في الإعجاز بالسورة، فقال الآمدي في "الأبكار":(التزم القاضي في أحد جوابيه الإعجاز في سورة الكوثر وأمثالها؛ تَعلُّقا بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}. والأصح ما ارتضاه في الجواب الآخَر، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحابنا أنَّ التحدي إنما وقع بسورة تبلغ في الطول مَبْلغًا تبين فيه رُتَب قوي البلاغة؛ فإنه قد يَصْدر مِن غَيْر البليغ أو ممن هو أدنى في البلاغة من الكلام البليغ ما يماثل بعض الكلام البليغ المصادر عَمَّن هو أَبْلَغ منه، وربما زاد عليه)
(2)
.
قال: (فيتعين تقييد الإطلاق في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}؛ لأنَّ تقييد المطلق بالدليل واجبٌ)
(3)
. انتهى
(1)
في (ت، ق): فيحمل.
(2)
أبكار الأفكار (4/ 131).
(3)
أبكار الأفكار (4/ 132).
والإضراب بِـ "بل" بَعْد قولي: (معجز) إشارة إلى أنَّ مرادي معجز كُله، وإلَّا فقولي:(قول) صادقٌ على الكل وعلى عشر سُوَرٍ وعلى سورة وعلى آية، فالتفصيل للإيضاح وإنْ كان قد يُفهم مِن الإجمال في قولي:(قول معجز). فأقَل ما وقع التحدي به آية، لكنها إنما يُتَحدَّى بها حيث تكون مشتملة على ما به التعجيز، لا في نحو:{ثُمَّ نَظَرَ (21)} [المدثر: 21] فيكون المعنى في {بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أَيْ: مِثله في الاشتمال على ما به يقع الإعجاز، لا مُطْلَق الكلام أو القول؛ فلذلك قلتُ:(إذْ يعجز). أَيْ: لا مُطْلَقًا، ويُعاد على سورة أيضًا إنْ جريْنا على ما سبق نقْله عن الآمدي. نَعَم، هو بعض المعجز قَطْعًا، فله دخول في الإعجاز منضمًّا إلى غيره، لا منفردًا، فالقرآن كُله معجزٌ لكن منه ما لو أُفْرِدَ لكان معجزًا بذاته، ومنه ما إعجازه مع الانضمام؛ ولذلك لم أَقُل في النَّظْم كما قال غيري:(للإعجاز بسورة منه). بل أَطْلقتُ الإعجاز ثم فصَّلته بالإضراب الانتقالي لا الإبطالي.
وما قررتُه في الآية الواحدة هو ظاهر كلام إمام الحرمين في "الشامل"، إذْ قال في بيان أقَل ما وقع به الإعجاز:(لا ينبغي أنْ يحمل على أنَّ التحدي وقع بكل آيةٍ آيةٍ ولو قَصُرَت نحو: {ثُمَّ نَظَرَ (21)} [المدثر: 21]؛ لأنَّ مِثل هذا لا يَعجز أحدٌ عن النُّطق به؛ فيُعْلَم بالضرورة أنه ما تحداهم بمثله، كما أنَّا نَعْلم أنه لم يتحداهم بكلمة أو كلمتين منه ما لم ينته إلى آية). انتهى
وقال أيضًا في "النهاية" في العاجز عن قراءة الفاتحة في الصلاة وقَدَرَ على آيات متفرقة: يلزم لكن بشرط أنْ تكون كل آية مفهمة.
قال النووي في "شرح المهذب": المختار ما أَطْلَقه الأصحاب: أَيُّ آيةٍ مِن القرآن ولو كان على حدته غير مفهم.
فانظر كيف أَدْخَل في المُعجز ما هو مفهم وما ليس بمفهم، وزعَم أنَّ غير المفهم لا يجزئ، فقال النووي: إنَّ إطلاق الأصحاب يقتضي إجزاءه؛ لأنه لم يخرج عن القرآن.
وفي معنى ذلك قولهم في كتاب الصداق فيما لو أَصْدقها تعليم سُورة فلَقَّنها بعضَ آيةٍ ثُم
نسيته: لا يحسَبُ له شيء؛ لأنَّ ذلك البعض لا يُسمَّى قرَآنًا؛ لعدم الإعجاز. والمراد: لعدم إعجازه منفردًا، على أنَّ هذا الحكم هو قول ابن الصبَّاغ، وقضيَّتُه أنه لا يحرُمُ مِثل ذلك على الجُنُب، لكن صرَّح الفوراني وغيره بالمنع.
ومما يتنبه له أنَّ قولي في النَّظْم: (معجز) أَحْسَن مِن قول غيري: (للإعجاز)؛ لأنه يقتضي انحصار عِلة الإنزال في الإعجاز، والفَرْضُ أنه نزل لبيان الأحكام والمواعظ، ولكنه مع ذلك مقصود به الإعجاز أيضًا.
وخرج بقيد التعبد بتلاوته: الآيات المنسوخ لفظها، سواء بقي الحكم أَوْ لا، فإنها بَعْد النَّسخ صارت غير قرآن؛ لسقوط التعبد بتلاوتها، ولذلك لا تعطَى حُكم القرآن في مَسِّ المُحْدِث وقراءة الجنُب وقراءتها في الصلاة ونحو ذلك.
فإنْ قيل: يَلزم مِن تعريف القرآن بالقول أو باللفظ أنه لا يُسمى في حال كَوْنه مكتوبًا "قرآنًا"، وكذا حال كَوْنه محفوظًا ولم يُنْطق به، ولا خِلاف أنه قرآنٌ وإن جرت له أحكام بخلاف موجَب ذلك، كإمرار الحائض والجنُب القرآن على القلب مِن غير تَلَفُّظ، فإنه ليس بحرام، وكإحراق الخشب المكتوب فيه القرآن، ونحو ذلك، فإنَّ ذلك كله خرج بدليل.
فالجواب: أنه لفظٌ وقولٌ بالقوة، وذلك وإنْ كان مجازًا إلَّا أنَّ المجاز يقع في التعريف إذا دَلَّت على إرادته قرينة كما قرره الغزالى في "المستصفى"، ولا شك أنَّ القرائن هنا متوفرة على إرادة ذلك.
فإنْ قيل: هذا التعريف إمَّا أنْ يَكون لمجموع القرآن أو للأعم مِن ذلك ومن بعضه، فإنْ كان الأول فيقتضي أنَّ البعض لا يُسَمَّى قرآنًا، وأنْ لا يحنث إذَا حلف لا يقرأ قرَآنًا فقرأ شيئًا منه، ولا قائل بذلك. وإنْ كان الثاني فكل كلمةِ -بل كل حرفٍ- مِن القرآن قرآنٌ، وانقسامُه حينئذ إلى هذه الأفراد انقسام الكُلي إلى جزئياته، لا الكل إلى أجزائه، فالحدُّ حينئذ للماهية مِن حيث هي، فيصير قيدُ الإعجاز لَغوًا، لأنَّ الكلمة أو الحرف ليس فيه إعجاز
قَطعًا.
فالجواب: التزامُ الأول، واللام في "القرآن" حينئذ للعهد في جملته، فالبعضُ حينئذ وإنْ كان قرآنًا لكنه لم يُطلق عليه "القرآنُ" باللام العهدية كما قررناه، وكما يشهد لذلك نَصُّ الشافعي رحمه الله فيما حكاه عنه الرافعي في أبواب العتق أنه لو قال لعبده:"إنْ قرأتَ القرآن فأنت حرٌّ"، أنه لا يعتق إلا بقراءة الجميع.
فإنَّ ظاهره يقتضي أنه لو قال: (إنْ قرأتَ قرَآنًا) يعتق بالبعض؛ لِمَا قررناه.
وأمَّا قول الإمام الرازي وأتْباعه (كالبيضاوي) في أثناء الاستدلال على إثبات الحقيقة الشرعية: (لو حلف لا يقرأ القرآن، حنث ببعضه)
(1)
، فمحمولٌ على أنَّ اللام للجنس حتى يَكون بمثابة قرَآنًا بالتنكير.
فإنْ قيل: فالشافعي أطْلَق في المعَرَّف بِـ "ال" ولم يُقيده بِالعَهد جملة ولا بِقَصْد جِنْس.
قلتُ: لأنَّ العرف صار في مِثله يحمل اللام على عَهْد الجملة والكل المشتمل على هذه الأجزاء، ومَبْنَى الأَيْمان على العُرْف.
والحاصل أنَّ النظر إلى لفظ "القرآن" باعتبارين:
- باعتبار جملته وهيئاته وترتيبه، فاللام فيه حينئذ للعهد.
- والثاني: اعتبار حقيقته مِن حيث هي، لا بالنظر إلى [لازم]
(2)
كمية وترتيب ونحو ذلك، فاللام فيه حينئذ للجنس. فإنْ قُصِدَ معها استغراق، كان كل حَرفِ وكلمةِ وجملةٍ وآيةٍ وسورةٍ جزئيات، لا أجزاء، بخلاف الاعتبار الأول فإنها فيه أجزاء، لا جزئيات.
(1)
المحصول (1/ 301).
(2)
كذا في (ز)، لكن في (ص): لوازم.