الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول في أدلة الفقه
200 -
أَدِلَّةُ الْفِقْهِ عَلَى اتِّفَاقِ
…
بَيْنَ الْأَئِمَّةِ: الْكِتَابُ الْبَاقِي
201 -
وَالسُّنَّةُ، الْإجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ
…
وَذَا مِنَ الدِّينِ؛ لِأَمْرِ قَاسُوا
الشرح: أَيْ: الباب الأول مِن الأبواب الأربعة بعد الفراغ مِن المقدمة: بيان موضوع عِلم "أُصُول الفقه"، وهو أدلة الفقه، والمتفق عليه منها أربعة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس. والمراد اتفاق الأئمة، أَيْ: الأربعة ونحوهم، ولا اعتداد بخلاف مَن لا يُعَدُّ إمامًا، كالنَّظَّام في مخالفته في الإجماع -على اختلاف النقل عنه: هل مذهبه أنَّ الإجماع لا يُتَصور؟ أو يُتصور ولكن يتعذر نَقله على وَجْهه؟ أو لا يتعذر ولكن لا حُجَّة فيه؟
وهذا الثالث هو ما نقله عنه القاضي والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني والإمام الرازي وأتباعُه، والنقلان الأوَّلان نقلهما القافي عن بعض أصحابه عنه.
والنَّظَّام هذا هو أبو إسحاق إبراهيم بن [سَبَا]
(1)
البصري، شيخ المعتزلة، وإليه تُنْسَب "النظامية" إحدى فِرَق المعتزلة، تُنْسَبُ إليه عَظائم، كإنكار الإجماع والقياس والخبر المتواتر ونحو ذلك مما جُعِلَ به زنديقًا. قِيلَ له "النَّظَّام" لأنه كان ينظِمُ الخرَزَ في سُوق البصرة، ويزعُمُ بعضُ المعتزلة أنَّ ذلك لِكَوْنه ينظم الكلام يُقال: سقط وهو سكران، فمات سنة بِضع وعشرين ومائتين.
(1)
كذا في جميع النسخ، لكن المذكور في كتب التراجم: سيار.
ونُقل أيضًا منع حُجِّية الإجماع عن بعض الخوارج، والشيعة، وإنما يستدلون به إذا كان فيهم إمام معصوم، ونحو ذلك مخالفة الرافضة في القياس، وسنذكر في آخر الباب الخلاف في ذلك مبسوطًا.
وأما مخالفة الدهريَّة في الكتاب والسُّنة كما يحكيه عنهم بعض الأصوليين (كابن برهان أول "الوجيز" وغيرِه) فلا ينبغي أنْ يذكر، فإنهم كفارٌ لا يعْتَد بهم أصلًا، وكان شيخنا شيخ الأيلام البلقيني رحمه الله يعِيب على ابن الحاجب وغيره ذِكرَ خِلاف اليهود في النَّسْخ ونحو ذلك في أصول الفقه؛ فإنَّ موضوع أصول الفقه ما يتعلق بأحكام المسلمين، بخلاف التعرُّض لذلك في أُصول الدِّين، فإنَّ موضوعه الردُّ على المبْطلين في العقائد على أيِّ وَجْهٍ كان.
واحترزنا بذلك عن أدلة الفقه المختلَف فيها، كالاستصحاب والاستحسان وقول الصحابي ونحو ذلك، وسنذكرها في فَصْلٍ آخر الباب الثاني.
وقولي: (الكتاب الباقي) أبي الذي لا يرتفع ولا يُنْسَخ، بل هو مستمر {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] فخرجت الكتب المنسوخة والآيات المنسوخة.
وقولي: (وذَا مِن الدِّين) الإشارة إلى "القياس"، أَيْ: إنَّ القياس ليس ببدعَة، بل هو مِن الدِّين على الأصح مِن الأقوال الثلاثة، وممن حكاها أبو الحسين في "المعتمد"، فقال: (وأمَّا كَوْن القياس دِينَ الله فلا ريب فيه إذَا عُني أنه ليس ببدعةٍ، وإن أريد غير ذلك، فعند الشيخ أبي الهذيل لا يُطلق عليه ذلك؛ لأنَّ اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر، وأبو علي الجبائي يَصِف ما كان واجبًا منه بذلك وبأنه إيمان، دُون ما كان منه نَدْبًا، والقاضي عبد
الجبار يصف بذلك واجبَهُ ومندوبَهُ)
(1)
.
وكلام عبد الجبار أَرْجَح، قال الروياني في "البحر": القياس عندنا دِين الله وحُجَّته وشَرْعه.
وقال ابن السمعاني: (إنه دِينُ الله ودِين رسوله، بمعنى أنه دَلَّ عليه. نَعَم، لا يجوز أنْ يُقال: إنه قولُ الله تعالى)
(2)
. انتهى
فلذلك جريتُ عليه في النَّظم؛ لأنَّ أدلة القياس (نحو: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2]، وقوله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقول معاذٍ له صلى الله عليه وسلم:"أجتَهدُ رَأي"
(3)
، وأَقَرَّه، وما أَشْبَه ذلك) كُلها تُشْعِر بالأمر بالقياس، وكُل ما أُمِرنا به في الشرع فهو دِين الله؛ فلذلك قُلتُ:(لِأَمرٍ قاسُوا). أيْ: لم يَقِس العلماء إلا بأمر مِن الشارع، فكيف لا يَكون مِن الدِّين؟ !
وأمَّا قول شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع": (إنهم إنْ عَنوا حُكما مقصودًا في نَفْسه فليس القياس مِن الدِّين، وإنْ عَنوا ما تُعُبِّدْنَا به فهو دِينٌ)
(4)
فَفِيه نَظَر؛ لأنَّ كُل ما [طلبه]
(5)
الشرعُ سواء أكان لذاته أو للتوصل إلى آخَر [هو]
(6)
دِين؛ فإنَّ الدِّين ينقسم إلى
(1)
المعتمد (2/ 244).
(2)
قواطع الأدلة (2/ 336).
(3)
سنن أبي داود (رقم: 3592)، سنن الترمذي (رقم: 1327) وغيرهما. وقد أطال الشيخ الألباني في بيان ضَعفه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 881).
(4)
تشنيف المسامع (3/ 400).
(5)
كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ص، ض، ش): طلب.
(6)
كذا في (ز)، لكن في (ص، ت): فهو.
مقاصد ووسائل.
ومما يستفاد هنا: أنَّ الشافعي رضي الله عنه فيما اقتضاه نَقْلُ الربيع عنه في "اختلاف الحديث" ذكَر ما يقتضي أنَّ الكتاب والسُّنة مشتملان على جميع الفروع الملحقة بالقياس، أَيْ: إنَّ اشتمالهما على الأحكام إما ابتداء أو بالواسطة.
فقال الشافعي: (ولَمَّا قبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم تناهَت فرائضُه، فلا يُزاد فيها ولا يُنقَص)
(1)
.
نَعَم، روى أحمد أنَّ الشافعي قال:(القياس ضرورات). نقل العبادي ذلك في طبقاته، فقد يُقال: إنه يُبايِن الأول، إلَّا أنْ يؤَوَّل بأنه مضطرٌ إليه لِكَونه بواسطة، بخلاف مَتْن الكتاب والسُّنة؛ ولهذا قال ابنُ كج: جميع الأحكام بالنصِّ، لكن بعضها يُعْلَم بِظاهر، وبعضها باستنباط وهو القياس، ولولا ذلك لَبَطل أكثر الأحكام.
وعلى هذا أيضًا يحمل قول ابن حزم: (إنَّ النصوص محيطة بجميع الحوادث)؛ لأنه لا ينكر أصل القياس.
ومما ينقل مِن الخلاف في القياس أنه هل يُعَد مِن "أصول الفقه"؟ أَوْ لا؟ تَعَلُّقًا بأنه لا يفيد إلا الظن. والحقُّ مِن ذلك الأول، وأمَّا الثاني [فضعيف]
(2)
جدًّا، فإنَّ القياس قد يفيد القَطْع كما سيأتي. ولو قُلنا: لا يفيد إلا الظنَّ، فخبر الواحد ونحوه لا يفيد إلَّا الظن، بل أدلة الفقه كلها ظنية كما قررناه في غير هذا الموضع.
ومما يستفاد أيضًا: أنَّ القياس فرض كفاية عند تَعَدُّد المجتهدين، لكن إذا احتاج المجتهد إليه وكان واحدًا فقط مع ضيق الوقت، يَصِير فَرْض عَيْن. وأمَّا فيما يجوز حدوثُه ولم يحدُث
(1)
اختلاف الحديث (ص 541).
(2)
كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ش، ض، ص): ضعيف.