الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولَعَلَّ مَن يقول في تعريفه: (الكلام المنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بِسُورة منه) إنما يقصد مراعاة الاعتبار الأول، وأمَّا مَن يراعي الاعتبار الثاني فيقول:(ما أنزل للإعجاز). ولا حاجة أنْ يقول: (بسورة منه)، أو يقول ذلك ويريد أنَّ "مِنْ" فيه لابتداء الغاية، لا للتبعيض.
فَحَقِّق هذا الموضع كما قررتُه لك؛ فإنه من النفائس، وقد أَطَلْتُ فيه؛ لِمَحَلِّ الحاجة، والله تعالى أعلم.
وقولي: (وَ "
السُّنَّةُ
" الَّتِي إلَيْهَا قُصِدَا) تمامه قولي بَعْده:
ص:
205 -
قَوْلُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى
…
وَفِعْلُهُ، وِمنْهُ أَنْ يُقَرِّرَا
206 -
مُكَلَّفًا وَلَوْ يَكُونُ كَافِرًا
…
وَلَوْ مُنَافِقًا عَلَى فِعْلٍ يَرَى
207 -
فَذَاكَ جَائِزٌ لَهُ وَغَيْرِهِ
…
مَا لَمْ يَكُنْ دَاعٍ عَلَى تَقْرِيرهِ
الشرح: فلمَّا فرغتُ مِن تعريف أول الأدلة (وهو القرآن) شرعتُ في تعريف الثاني (وهو السنة).
فقولي: (والسُّنة) مبتدأ خبره "قول النبي المصطفى" إلى آخِره، والمراد هنا قول النبي الذي لم يأتِ به قرآنًا على ما سبق. و "الورى": الناس.
وقولي: (التي إليها قُصِدَا) إشارة إلى أنَّ لفظ "السُّنة" وإنْ كان معناه في اللغة "الطريقة" ومنه حديث: "مَن سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها"
(1)
إلى آخِره، وقال الخطابي: إذَا أُطلقت، فهي المحمودة، وإنْ أُرِيدَ غيرُها فمقيدة، كقوله: "ومَن سَن سُنة
(1)
صحيح مسلم (رقم: 1017) بلفظ: (من سَن في الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً
…
).
سيئة".
وأمَّا في الاصطلاح:
- فَتَارة تُطلق على ما يقابل "القرآن" كما هنا، ومنه أحاديث كثيرة، منها في "مسلم" حديث:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإنْ كانوا في القراءة سواء فأَعْلمهم بالسُّنة"
(1)
الحديث.
- وتارة على ما يقابل "الفَرْض" ونحوه مِن الأحكام كما سبق في بيان المندوب. وربما لا يُراد إلا مقابل "الفرض" فقط كفروض الوضوء وسُننه، أو الصلاة أو الصيام أو غير ذلك، فإنه لا يقابَل به الحرامُ والمكروهُ فيهما وإنْ كانت المقابلة لازمة له لكنها لم تقصد.
- وتارة يطلق على ما يقابل "البدعة"، فيقال: أهل السُّنة وأهل البدعة.
والمقصود بيانها بالإطلاق الأول، وهو معنى قولي:"التي إليها قُصِدَا". أَيْ: المقصودة في هذا الموضع. و "قصد" يتعدى تارة بِـ "إلى" كما استعملتُه في النَّظم، وتارة باللام، وتارة بنفسه.
قال النووي في "التحرير": (وقد اجتمعت الثلاث في "صحيح مسلم" في حديث واحد في أول سطر منه في "كتاب الإيمان")
(2)
.
وزاد في "التهذيب": (إنَّ ذلك في باب "مَن قتل رجُلًا مِن الكفار بعد أنْ قال: لا إله إلا الله"، والحديث عن جرير بن عبد الله البجلي: "إنَّ رجُلًا مِن المشركين كان إذا [شاء أنْ]
(3)
(1)
صحيح مسلم (رقم: 673).
(2)
تحرير ألفاظ التنبيه (ص 32).
(3)
كذا في (ق، ت، "صحيح مسلم"). لكن في (ص، ز، ض، ش): سار.
يقصد إلى رجُلٍ مِن المسلمين قصد له [فقتله]
(1)
، [وإنَّ]
(2)
رجُلًا من المسلمين قصد غفلته")
(3)
(4)
. انتهى
فَـ "السُّنة" محصورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفِعله. والقول وإنْ كان من الفعل لأنه عملٌ بجارحة اللسان، لكن الغالب استعماله في مقابلة [الفعل]
(5)
. نَعم، مِن الفعل عمل القلب والترك فإنه كَفُّ النفْس، وقد سبق أنه لا تكليف إلا بفعل، وأنَّ المكلَّف به في النهي وما في معناه هو الكف. فإذا نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد كذا، كان ذلك مِن السُّنة الفعلية، كحديث أنس رضي الله عنه:"أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى رهطٍ أو أناسٍ مِن العَجَم، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم، فاتخذ خاتمًا مِن فضة"
(6)
. رواه الشيخان في باب اللباس.
ومِثله حديث جابر: "أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يَنهى أنْ يُسَمُّى بِـ "يعلى" أو بِـ "بركةٍ" و "أفلح" و "يسار" و "نافع"، ونحو ذلك، ثُم رأيتُه سكت بَعْدُ عنه فلم يَقُل شيئًا، ثم قُبض ولم يَنْهَ عن ذلك"
(7)
. رواه مسلم في الأدب.
ومِئله حديث عائشة رضي الله عنها: "أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُنَحِّي مخاط أسامة، قالت عائشة: دعني
(1)
في (ز): يقتله.
(2)
كذا في (ق، ت، "صحيح مسلم"). لكن في (ص، ز، ض، ش): راى.
(3)
صحيح مسلم (رقم: 97).
(4)
تهذيب أسماء اللغات (4/ 93).
(5)
كذا في (ش). لكن في (ص، ز، ض، ق، ت): القول.
(6)
صحيح البخاري (رقم: 5534)، صحيح مسلم (رقم: 2592).
(7)
صحيح مسلم (رقم: 2138).
حتى أنا الذي أفعل، قال: يا عائشة [أَحِيِّيه]
(1)
؛ فإني أُحبه"
(2)
. رواه الترمذي في المناقب.
وحديث عبد الله بن زيد: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذان أشياء لم يصنع منها شيئًا"
(3)
. الحديث رواه أبو داود في الصلاة، إلى غير ذلك مِن هذا الباب.
وهذا في ما سيأتي مِن هَمه صلى الله عليه وسلم بالشيء، ويأتي الفرق بينهما.
وإذَا نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك كذا، كان أيضًا مِن السُّنة الفعلية كما سبق في حديث التسمية ونحو ذلك.
قال ابن السمعاني: (إذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا، وَجَبَ علينا متابعته، ألَا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا قُدِّم إليه الضبُّ فأمسك عنه وترك أَكْله أَمْسَك الصحابة و [تركوه]
(4)
حتى بيَّن لهم أنه حلال ولكنه يَعَافه؟ )
(5)
(6)
.
ولهذا لَمَّا صلَّى التراويح وتركها خشية أنْ تُفرض على الأُمة وزال هذا المعنى بموته، عادوا إلى الصلاة.
ونازع بعض العلماء في ذلك وعمل بالترك كما هو مُبيَّن في محله، ولكن [المفيد]
(7)
لهذا
(1)
في (ز): أحتيه.
(2)
سنن الترمذي (رقم: 3818)، صحيح ابن حبان (7058). قال الألباني في (صحيح سنن الترمذي: 3818): صحيح .. وقال في (التعليقات الحسان، 10/ 158): حسن.
(3)
سنن أنس داود (رقم: 512). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أنس داود: 512).
(4)
كذا في: (ز)، قواطع الأدلة (1/ 311). لكن في (ش): تركوا أكله. وفي (ص، ض، ق، ت): تركوا.
(5)
صحيح البخاري (رقم: 5085) ، صحيح مسلم (1946).
(6)
قواطع الأدلة (1/ 311).
(7)
كذا في (ز، ق، ش): المفيد. لكن في (ض): المقيد.
النوع حتى يُروى عنه إمَّا قوله: (إنه ترك كذا) أو قيام القرائن عند الراوي الذي يروي عنه أنه ترك كذا.
وقولي: (ومنه أنْ يُقَررَا) أَيْ: ومن الفعل تقريرُه صلى الله عليه وسلم مكلَّفًا على فِعل شيء - ولو كان ذلك الفعل قولًا أو نحوه - ولا ينكره عليه؛ فيدل على جواز ذلك الفعل له ولغيره، وذلك بأنْ يفعله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو في عَصْره ويَعلم به ولا ينكره، لكن بشروط:
أحدها: أنْ لا يَكون قد بَيَّن قُبحه قَبل ذلك، فإنْ بَيَّن قُبح الفعل ولكن قَرَّر فاعلَه لأمرٍ آخَر شرعي كَمُضِي مَن قَرَّره بالجزية مِن الكفار إلى الكنيسة للتعبد بها، فإنَّ ذلك لا دلالة له على جواز الفعل اتفاقًا.
الثاني: أنْ يَكون النبي صلى الله عليه وسلم قادرًا على إزالة ذلك المنكَر. كذا شَرَطه ابن الحاجب وغيره. ولكن قد يُقال: لا حاجة إليه؛ لأنَّ مِن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنَّ وجوب إنكاره المنكر لا يَسقط عنه بالخوف على نفسه وإنْ كان ذلك إنما هو لعدم تحقق خوفه بَعْد إخبار الله تعالى بعصمته مِن الناس بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقوله تعالى:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95].
الثالث: أنْ يعْلم أنَّ الإنكار يُفِيد، فإنْ كان الإنكار لا يزيد الفاعل إلا جُرْأةً وإغراء، فلا يدل على جواز الفعل. وهذا منقول عن المعتزلة.
وفي كلام إمام الحرمين ما يُفْهمه، حيث قال: (التقرير دالٌّ على رفع الحرج إلا في موضع واحد، وهو أنَّا لا نبعد أنْ يَرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبِيًّا عليه ممتنعًا عن القبول، لا سيما وقد أخبره الله تعالى أنه لا يُؤمِن بقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. فإذا رآه يَسجد لصنم بعد ما أنكَر عليه مرارًا وأَمْكَن حَمْل سكوته على يأسٍ مِن
القبول، فلا يدل على تقريرِ [شرعٍ])
(1)
. انتهى
كذا نقله عنه تلميذه أبو نصر بن القُشَيري، لكنه في "البرهان" مَثَّل بالكافر والمنافق.
فالمختار أنه لا يُشترط، فمِن أجْل ذلك اكتفيتُ عن ردِّ هذا الشرط ودَفْعه بقولي:(ولو كافرًا ومنافقًا).
نَعَم، خالفه المازري في التمثيل بالمنافق، قال:(فإنَّا نقيم عليه الحد؛ لجريان الأحكام على المنافقين ظاهرًا)
(2)
.
وحكى الغزالي في "المنخول " في تقرير المنافقين خلافًا، ومال إلْكِيَا الهراسي إلى ما قاله إمامه، قال:(لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين عِلمًا منه أنَّ العظة لا تنفعُ فيهم، وأنَّ كلمة العذاب حقت عليهم). انتهى
وهو مستمد مِن قوله في "النهاية" في باب التعزير فيمن علم أنَّ التأديب لا يحصُل إلا بالضرب المبرح: (إنه ليس له الضرب، لا المبرح؛ لأنه يهلك، ولا غيره؛ لعدم إفادته)
(3)
.
لكن قال الماوردي: إنَّ الحدود والتعازير لا ينبغي أنْ تُترك لمثل هذا.
وهو واضح، وقد رد الرافعي مقالة الإِمام، وقال: يشبه أنْ يُضرب ضربًا غير مبرح؛ إقامةً لصورة الواجب.
وقولي: (عَلَى فِعل يَرَى) أَيْ: يَعْلمه، لا الرؤية البصرية فقط؛ لِمَا قررناه مِن قَبْل. نَعَم، لو انتشر انتشارًا يَبْعُد أنْ لا يَبْلُغه، فقال الأستاذ أبو إسحاق في "شرح التقريب": (اختلف قول الشافعي في جَعْله سُنة، ولذلك جرى له قولان في إجزاء الأقط في الفطرة؛ لأنه ما عُلِم
(1)
في (ق): شرعي.
(2)
إيضاح المحصول (ص 368).
(3)
نهاية المطلب (17/ 347).
هل إخراجهم الفطرة في زمنه بَلَغَه؟ أوْ لا؟ ). انتهى
نعم، قد جاء التصريح به مرفوعًا؛ فلذلك كان الراجح الأجزاء.
وقولي: (فذاك جائز) أَيْ: مباح كما قرره ابن القشيري؛ لأنه أدنى درجات ما رفع فيه الحرج، وذهب القاضي إلى أنه يحتمل الإباحة والوجوب والندب؛ فيتوقف فيه.
ولم يقف الشيخ تقي الدين السبكي على النقل حين مسألة عن ذلك صدر الدين ابن الوكيل، فقال: غاية دلالة السكوت أنه لا حَرَج في الفعل، فمن أين إنشاء الإباحة؟
ثُم أجاب بأنَّ الأقدام على فِعل لا يُعْرف حرامٌ، فلو لم يكن هذا الفعل مباحًا لَحُرم الإقدام عليه، بخلاف السكوت عند السؤال، فإنه يحمل على عدم نزول الحكم
(1)
. انتهى
نعم، يشْكل تحريم الإقدام على فِعل لا يُعلم حُكمه؛ بِقولهم بالبراءة الأصلية.
ثُم إذا قُلنا في مسألتنا بالأباحة وهو المشهور على ما تَقدم، فاختلفوا في حُكم الاستباحة لما أُتِر على وجهين حكاهما إلْكِيَا والماوردي والروياني:
أحدهما: أنه مباح بالأصل المتقدم وهو براءة الذمة، أيْ فهو استصحاب الحال.
والثاني: مباح بالشرع حين التقرير عليه.
قال الماوردي: (وهُما الوجهان في الأصل قبل الشرع: هل هو على الإباحة حتى حظرها الشرع؟ أو الحظر حتى أباحها الشرع؟ )
(2)
.
وقول: (له وغيره) أيْ: ولغيره، فعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على
(1)
الإبهاج (2/ 182). والذي فيه أن تقي الدين السبكي سأل صدر الدين ولم يحصل على جواب، ثم ظهر الجواب للسبكي بعد ذلك.
(2)
الحاوي الكبير (16/ 102).
حد: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] بالخفض.
والمراد أنَّ التقرير إذا دَلَّ على الإباحة لا يَختص بمن قُرِّر، بل يعُم سائر المكلفين على الأظهر الذي اختاره إمامُ الحرمين والماوردي ونقله عن الجمهور؛ لأنَّ خطاب الواحد خطاب للجميع.
وذهب القاضي إلى أنه يختص؛ لأنَّ التقرير ليس له صيغة تَعُم.
وعلى القول الأول: إذَا تَقدم عمومُ تحريمٍ، كان التقريرُ ناسخًا ما لم يقم دليل على خصوصية المقَرَّر به أو [تعديه]
(1)
إلى مَن فيه ذلك المعنى، فيلحق به قياسًا، وإلَّا لم يلحق به؛ فيكون تخصيصًا للعام. وقد نَصَّ الشافعي رحمه الله على أنَّ تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة قِيامًا خَلْفه وهو جالسٌ - ناسخٌ لأمره السابق بالقعود كما أوضحت ذلك في "شرح العمدة" مبسوطًا.
وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ دَاعٍ عَلَى تَقْرِيرهِ) إشارة إلى ما سبق من الشروط.
ويُعْلم مِن إطلاق المسألة أنه لا فرق بين أنْ يكون تقريره مع استبشاره بذلك الفعل أوْ لا، إلا أنه مع الاستبشار أبْلغ؛ ولذلك تمسك الشافعي رحمه الله في قبول قول القائف في إلحاق النَّسَب يقول مُجَزِّز المدلجي وقد بدت له أقدام زيد وأسامة:"إنَّ هذه الأقدام بعضها مِن بعض"، فدخل على عائشة رضي الله عنها أسارير وَجْهه وقال:"ألَمْ تري إلى قول مجَزِّز؟ "
(2)
الحديث؛ لأنه لا يُسَر إلا بفعل حَسَن.
وقد سُئل في ذلك سؤال، وهو أنه يحتمل أنهم لَمَّا كانوا [معتقدين]
(3)
القيافة عاملين
(1)
كذا في (ز) وبه يستقيم المعنى، لكن في (ص، ض، ق، ت، ش): بعدمه.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 6388)، صحيح مسلم (رقم: 1459).
(3)
في (ش): يعتقدون.
[به]
(1)
ووقع منهم قَدْحٌ في نَسَب أسامة [مِن]
(2)
زيد لاختلاف لونيهما فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم في ردِّ قولهم ذلك بما يعتقدونه مِن القيافة بِقَوْل مجزز القائف، ولا يَلْزم أنْ يَكون ذلك شرعًا له، كَمَن يرُد على خصمه بما لا يعتقده مما يعتقده الخصم.
وجنح الغزالي في "المنخول" لتضعيف الدلالة إلى هذه الشبهة.
ورَدَّ عليه الطرطوشي بأنه لو رَدَّ عليهم بما لا يعتقده، لَدحضت حُجته عندهم وقالوا: كيف تحتج علينا بما لا تقول به؟ !
وقال إلْكِيا: إنَّ هذا السؤال أُورِد على الشافعي، وأنَّ الاستبشار كان لانقطاع مظاهر الكهان عن نَسب أسامة، فقال مجيبًا:(لو لم يكن للقيافة أصلٌ شرعًا لَمْ يستبشر؛ لِمَا فيه مِن إيهام أنه حق، وقد كان شديد الإنكار على الكهان والمنجمين ومَن لا يستند قوله إلى أصلٍ شرعي؛ فَثَبتَ أنَّ استبشاره لِكَون المستَبْشَر به أمرًا شرعيًّا). انتهى بمعناه، والله أعلم.
ص:
208 -
وَالْهَمُّ، نَحْوُ مَا في الِاسْتِسْقَاءِ
…
في الْقَلْبِ لَوْلَا ثِقَلُ الرِّدَاءِ
الشرح: هو معطوف على المصدر المؤول في قولي: (أنْ يُقَرِّرَ). أَيْ: ومن الفعلِ "الهَمُّ بالشيء"، فإذَا هَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعلٍ وعاقه عنه عائقٌ كان ذلك الفعل مطلوبًا شرعًا؛ لأنه لا يهمُّ إلا بحق محبوبٍ مطلوبٍ شرعًا؛ لأنه مبعوثٌ لبيان الشرعيات.
وذلك كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني فيما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم). وقال صاحب "الإلمام": (رجاله رجال
(1)
في (ش): بها.
(2)
في (ص): بن.
الصحيح): "استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصَةٌ سوداء، فأراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنْ يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قَلَبَها على عاتقه"
(1)
.
وإنما عَبَّرتُ في النَّظم بِـ "الرداء" لأنَّ أصل الحديث في الصحيحين: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَوَّل رداءه"
(2)
. فعُلِم مِن حديث الخميصة أنَّ ذلك الرداء كان خميصة، فالمراد: لولا ثقل الخميصة.
فاستحب الشافعي رحمه الله - لأجْل هذا الحديث - للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسه بجعل أعلاه أسفله.
و"الهمُّ" مَصْدر هَمَّ بالأمر يَهُمُّ به (بالضم): إذا عزمَ عليه.
فإنْ قُلتَ: ما الفرق بين هذا القِسم وبين ما سبق مِن إرادته صلى الله عليه وسلم؟
قلتُ: هذا أَخَص؛ لأنَّ "الهمُّ" عَزْمٌ على الشيء بتصميم وتأكيد
(3)
، والله أعلم.
ص:
209 -
وَمِنْهُ أَنْ يُشِيرَ، كَالَّذِي صَنَعْ
…
في ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ أَنْ كَعْبًا يَضَعْ
210 -
لِشَطْرِ دَيْنِهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلْ
…
إلْحَاقَهُ بِالْقَوْلِ، فَهْوَ قَدْ شَمِلْ
الشرح: أَيْ: ومن الفعل أيضًا إشارته صلى الله عليه وسلم بيده لفعل شيء، فيصير كأنه أمر به، كما في حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدردٍ دَيْنًا له عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
مسند أحمد (16520)، سنن أبي داود (رقم: 1164)، صحيح ابن حبان (2867)، مستدرك الحاكم (1221). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 1164).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 960)، صحيح مسلم (رقم: 894).
(3)
من بعد هذا الموضع ساقط من (ت) إلى قوله فيما يأتي: (بشدة غضبه).
فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حُجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال:"يا كعب". فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أنْ ضع الشطر مِن دَيْنك. فقال كعبٌ: قد فعلتُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُم فاقضِه"
(1)
. أخرجه البخاري ومسلم. و [اسم ابن]
(2)
أبي حدردِ عبدُ الله، واسم أبيه سلامة بن عمير.
ومثل هذا إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أنْ يتقدم في الصلاة، أخرجاه
(3)
.
و"طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بَعير، كُلما أتى على الركن أشار إليه"
(4)
.
وفي حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها[قالت]
(5)
: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فُتح مِن ردم يأجوج ومأجوج مِثل هذه، وعقد تسعين"
(6)
.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلمٌ قائم يُصَلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه". وقال بيده، ووضع أُنْمُلَتَه على بطن الوسطى والخنصر، قُلنا: يُزَهِّدُها)
(7)
.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 459)، صحيح مسلم (رقم: 1558).
(2)
كذا في (ق، ظ، ض). لكن في (ص): اسم. وفي (ز): ابن.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 649)، صحيح مسلم (رقم: 418).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 1534).
(5)
من (ش).
(6)
صحيح البخاري (رقم: 4987).
(7)
صحيح البخاري (رقم: 4988).
وفي الصحيحين: "أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، فقال: ألَا إنَّ الإيمان ها هنا"
(1)
الحديث.
وفي أبي داود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أنْ مكانكم، ثُم جاء ورأسه يقطر، فصَلَّى بهم، فلمَّا قضى الصلاة قال:"إنما أنا بَشَر، وإني كنتُ جُنُبًا"
(2)
.
وفي أبي داود عن أبي حميد الساعدي أنه صلى الله عليه وسلم وضع - يعني في حال التشهد - كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكَفَّه اليسرى على ركبته اليُسرى، وأشار بإصبعه
(3)
.
وفي حديث ابن عمر في "مسلم": "قبض أصابعه كُلها وأشار بالإصبع التي تلي الإبهام"
(4)
. وفي رواية: "عقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبّابة"
(5)
. وفي أبي داود عن ابن الزبير: "كان يشير بالسبابة ولا يحركها"
(6)
.
وفي حديث: "الشهر كذا وكذا وكذا. وأشار بأصابعه العشرة [مرة]
(7)
ثُم مرة وقبض
(1)
صحيح البخاري (رقم: 4997)، صحيح مسلم (رقم: 51)، واللفظ لمسلم.
(2)
مسند أحمد (20436)، سنن أبي داود (رقم: 233، 234) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 233).
(3)
صحيح ابن خزيمة (689)، سنن أبي داود (رقم: 734). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أنس داود: 734).
(4)
صحيح مسلم (رقم: 580).
(5)
صحيح مسلم (رقم: 580).
(6)
سنن أبي داود (رقم: 989)، سنن النسائي (1270) وغيرهما، بلفظ:(كان يُشِيرُ بِأصْبعِهِ إذا دَعَا، ولا يحُرِّكُهَا). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 989).
(7)
مِن (ق، ش).
في الثالثة الإبهام"
(1)
. إشارة إلى أنَّ الشهر يَكون ثلاثين ويَكون تسعة وعشرين.
إلى غير ذلك مِن الأحاديث الواردة في الإشارة والإيماء.
وفي القرآن العظيم مِن شواهد اعتبار الإشارة قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] الآية، وقوله تعالى:{ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. وغير ذلك.
وقولي: (أنْ كَعْبًا يَضَعْ) على حذف حرف الجر، أَيْ "بِأن"، وهو متعلق بِـ "صنع"؛ لأنه يعبر به عن الإشارة، سواء:
- جعلت "الذي" موصولا حرفيًّا على حد: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] على رأْي مَن يقول به، فيكون التقدير:(كَصُنْعِه صلى الله عليه وسلم في قضية ابن أبي حدرد). أَيْ: إشارته لِكَعبٍ بأنْ يضع شطر دَينه عليه.
- أو جعلت "الذي" موصولًا اسْميًّا، أَيْ:(كالذي صنع في ابن أبي حدرد مِن الإشارة لِكَعبٍ بأن يضع).
أمَّا "أنْ" فمُخففة مِن الثقيلة، و "كَعْبًا" اسمها وإنْ كان الوجه أنْ يحذف اسمها ويبقى خبرها، لكن جاء هنا لضرورة الشِّعر، كما في قوله:
بِأَنك ربيعٌ وغَيْثٌ مريع
…
وأنت هناك تكون الثمالا
وقولي: (وَهَذَا يَحْتَمِلْ إلْحَاقَهُ بِالْقَوْلِ) أَيْ: والإشارة وإنْ كانت فِعْلًا في الحس لكن يحتمل أنْ تَكون مِن قِسم الأقوال؛ لأنه مُنَزل مَنْزلة القول؛ ولهذا في رواية "مسلم" في حديث ابن أبي حدرد السابق: "فأشار بيده، كأنه يقول النصف"
(2)
.
(1)
صحيح مسلم (1080).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 1558).
ولذلك أَجْرَى النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة مِن الجارية في حديث الأوضاح مَجْرَى قولها إنَّ اليهودي قتلها
(1)
. ومن ذلك قال الفقهاء: إشارة الأخرس بمنزلة قوله في البيع والطلاق ونحو ذلك، لا في الشهادة ونحوها، ولا في إبطال الصلاة كما قُرِّر ذلك في الفقه، وكذا إشارة الناطق في الإقرار أو في إنشاء الطلاق [يُعتبر]
(2)
ويُعمل به كالقول.
وهو معنى قولي: (فَهْوَ قَدْ شَمل). أَيْ: شمل الإشارة حُكمًا كما بيَّناه.
تنبيه: زاد الأستاذ أبو منصور البغدادي في أقسام السُّنة قِسمين آخَرين:
أحدهما: الكتابة، أيْ الكُتب التي أرسلها إلى عُماله وغيرهم بما يريده، ولكن هذا قول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يكتب بيده، إنما يقول للكاتب:"اكتُب كذا وكذا"، فإذَنْ ما في الكُتب يُعْمل به؛ لِكَوْنه قوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: التنبيه على العِلة.
ورتب الأقسام: القول، ثُم الفعل، ثم الإشارة، ثم الكتابة، ثم التنبيه على العِلة. وزاد هذا أيضًا الحارث المحاسبي، ولكن هذا أيضًا لا ينبغي أنْ يُعَد زائدًا؛ لأنَّ الفروع التي في معنى الأصل المنصوص على علته ليست منسوبة لحكم عِلتها، وإنما هي منسوبة للقياس. نَعَم، عِلة القياس إمَّا منصوصة أو مستنبطة، والله أعلم.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 4989).
(2)
كذا في (ت، ش)، لكن في سائر النسخ: يعد.
ص:
211 -
وَكُلُّ هَدَا حُجَّةٌ، لِلْعِصْمَةِ
…
لَهُ كَذَاكَ الْأَنْبِيَا بِالْحُجَّةِ
212 -
مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لَهُمُ اعْتِصَامُ
…
عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
213 -
بَلْ لَيْسَ في أَفْعَالِهِمْ مَكْرُوهُ
…
إذ في [الْكَمَالِ]
(1)
لَهُمُ [التَّنْزِيهُ]
(2)
الشرح: أَيْ كُل ما سبق مِن أنواع السُّنة حُجة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم العصمة ثابتة له ولسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مِن كل ذنب، صغيرة كان أو كبيرة، عمدًا أو سهوًا، في الأحكام وغير الأحكام، فهُم معصومون مُبَرُّءون مِن جميع ذلك؛ لقيام الحجة على ذلك كلا تَقرر في محله في أصول الدين؛ ولأنَّا أمِرنا باتِّباعهم في أفعالهم وآثارهم وسِيَرهم على الإطلاق مِن غير التزام قرينة.
والأقوال في المسألة كثيرة منتشرة في الأصول والفقه، والتشاغل بها هنا غير لائق بكمال الأدب ووفور التعظيم، فلنقتصر على معتقدنا في المسألة وهو ما قدَّمناه وفاقًا لجمع مِن أهل السُّنة المحققين، وسواء في ذلك قَبْل النبوة وَبعْدها، فقد تعاضدت الأخبار بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ وُلِدوا ونشأتهم على كمال أوصافهم في توحيدهم وإيمانهم عقلًا أو شرعًا (على الخلاف في ذلك)، لا سيما بعد البعثة فيما ينافي المعجزة.
أمًا مِن جهة الاعتقاد فإنه لا خِلاف بين الأُمة في عصمتهم منه، وهذا يستحيل الكذب عليهم في التبليغ والخطأ فيه باتفاقٍ، وهذا في الأحكام والفتوى، والإجماع أيضًا على
(1)
كذا في (ص، ز، ن 2). لكن في (ض، ق، ش، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): كمال.
(2)
في (ن 2): تنزيه.
عصمتهم فيهما ولو في حال الغضب، بل يستدل
(1)
بشدة غضبه صلى الله عليه وسلم على تحريم ذلك الشيء، وكذا في سائر أفعالهم وسِيَرهم.
فقدْ قال بِعصمتهم مِن الصغائر والكبائر مُطلقَا الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، ووافقه إمام الحرمين في "الإرشاد" على منع تصوُّرها منهم وإنْ خالف في موضعٍ في تَصوُّر الصغائر مع أنها لم تقع.
وممن نَفَى ذلك كُله عنهم أيضًا القاضي عياض، وأبو بكر بن مجاهد وابن فورك كما نقله محنهما ابن حزم في "الملل والنحل" وقال إنه الذي يدين الله به، واختاره ابنُ بَرهان في "الأوسط"، ونقله في "الوجيز" عن اتفاق المحققين، وحكاه النووي في "زوائد الروضة" عن المحققين.
وقال القاضي حسين في أول الشهادات من تعليقه: إنه الصحيح مِن مذهب أصحابنا. وهو قول أبي الفتح الشهرستاني والقاضي أبي محمَّد بن عطية المفسر عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، وعبارته: (الذي أقول: إنهم معصومون مِن الجميع، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إني لأتُوب في اليوم وأستغفر سبعين مرَّة"
(2)
إنما هو رجوعه من حالةٍ إلى أرفع منها؛ لتزيد علومُه واطلاعُه على أمر الله، فهو يتوب مِن المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لُغويَّة)
(3)
. انتهى
قلتُ: فذكر ذلك للتشريع للأُمة وتعليمهم هضم أنفسهم واعتقادهم التقصير، وكُل ما وَرَد مِن لفظ "العصيان" ونحوه في حق أحدٍ منهم فإنه مؤوَّل بذلك وما شابهه، ولبس لنا أنْ
(1)
هنا ينتهي الجزء الساقط من (ت).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 5948) بلفظ: "أكثر من سبعين مرة".
(3)
المحرر الوجيز (1/ 211).
نتكلم به إلَّا في محله مِن قرآن وسُنة. هذا هو الذي أعتقده وأتقرب إلى الله تعالى به، وممن جرى على ذلك شيخنا شيخ الإِسلام أبو حفص البُلقيني - رحمه الله تعالى - وغيرُه مِن شيوخنا، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي وولده في "جمع الجوامع"، والحمد لله.
تنبيهات
أحدها: اختُلف في معنى "العصمة"، فقيل: أنْ لا يمكنه فِعل المعصية. وقيل: يمكن ولكن تُصرف دواعيهم عنها بما يلهمهم إياه مِن ترغيب وترهيب.
وقال التلمساني: "العصمة" عند الأشعرية تهيئة العبد للموافقة مُطلقًا، وذلك راجع إلى خلقه القُدرة على كل طاعة، فإذَنْ العصمة توفيقٌ عامٌّ.
وقالت المعتزلة: خلْق ألطاف تقرب إلى الطاعة. ولم يَرُدُّوها للقدرة؛ لأنَّ القدرة عندهم على الشيء صالحة لِضِده.
قال القاضي أبو بكر: لا تُطلق "العصمة" في غير الأنبياء والملائكة. أَيْ: إلَّا بقرينة إرادة معناها اللُّغوي وهو السلامة مِن الشيء، ولهذا قال الشافعي [رضي الله عنه]
(1)
في "الرسالة": (وأسأله العصمة). وجرى على ذلك كثير من العلماء.
والحاصل أنَّ السلامة أَعَم مِن وجوب السلامة، فقد توجد السلامة في غير النبي والملَك اتفاقًا، لا وجوبًا.
الثاني: مما يدخل في اعتقاد العصمة مطلقًا امتناع وقوع الذنب نسيانًا كما صرح به الأستاذ أبو إسحاق وكثير مِن الأئمة. وكذا حكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو
(1)
مِن (ش).
والنسيان في الأقوال البلاغية، وخصَّ الخلاف بالأفعال وأنَّ الأكثرين على الامتناع، وتأوَّلوا الأحاديث الواردة في سهو النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقصد به ذلك للتشريع، كما في حديث:"ولكن أُنسَّى؛ لأَسُنَّ"
(1)
.
ومنهم مَن يُعَبر في هذا بأنه تعمد ذلك ليقع النسيان [منه]
(2)
بالفعل، ولكنه خطأ لتصريحه عليه السلام بالنسيان في قوله:"إنما أنا بَشَرٌ أَنْسَى كما تنسون، فإذَا نسيتُ، فذكِّروني"
(3)
.
ولأنَّ الأفعال العمدية تُبْطل الصلاة، والبيان كافٍ بالقول، فلا ضرورة إلى الفعل.
وحيث قِيل بالجواز فالشرط - بالاتفاق - أنْ لا يُقَرُّ أحدُهم عليه فيما طريقُه البلاغ.
الثالث: يحوز الإغماء على الأنبياء؛ لأن مرض، ونقل القاضي الحسين في تعليقه في كتاب الصيام عن الداركي أنه يجوز ساعة وساعتين، لا شهرًا وشهرين؛ فإنه يصير كالجنون؛ فلا يجوز.
وقولي: (بَلْ لَيْسَ في أَفْعَالِهِم مَكْرُوهُ)، معناه أنَّ المكروه لا يقع أيضًا مِن الأنبياء عليهم السلام؛ لأنَّ التأسِّي بهم مطلوب، فيلزم أنْ يُتَأسَّى بهم فيه؛ فيكون جائزًا. وأيضًا فإنهم أَكْمل الخلْق ولهم أعْلَى الدرجات؛ فلا يلائم أنْ يقع منهم ما نهى الله عنه ولو نهي تنزيه، فإنَّ الشيء الحقير مِن الكبير أمرٌ عظيم.
ويُقَرر ذلك بأمر آخر، وهو أنه لا يُتصور أنْ يقع منهم ذلك مع كَوْنه مكروهًا، قال ابن
(1)
ذُكر في (موطأ مالك، رقم: 225) رواية يحيى الليثي بغير إسناد، بلفظ:"إِنَّي لأَنْسَى أو أُنسَّى؛ لأَسُنَّ". قال الألباني: باطل؛ لا أصل له. (السلسلة الضعيفة: 101).
(2)
كذا في (ش). لكن في (ص، ز، ض، ق، ت): فيه.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 392)، صحيح مسلم (رقم: 572).
الرفعة في الكلام على الجمع بين الأذان والإقامة: الشيء قد يكون مكروهًا ويَفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لبيان الجواز، ويَكون أفْضل في حقه.
وخِلَاف الأَوْلى كالمكروه وإنْ لم يتعرضوا له، وقد قال النووي في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرتين: قال العلماء: إنَّ ذلك كان أفضل في حقه مِن التثليث؛ لبيان التشريع.
قلتُ: وما قررتُه أَوْلى مِن هذا؛ لأنه لم يتعين بيان الجواز في الفعل، ففي القول ما يُغْني عنه، وفيه التزام أنْ يَكون للفعل جهتان: مِن جهة التشريع يَكون فاضلًا، ومن جهة أنه مَنهي عنه يَكون مكروهًا.
وهذا أيضًا أجْود مِن قول بعضهم: (إنَّ المكروه لا يقع منهم؛ لندرته؛ لأنَّ وقوعه مِن آحاد الناس نادر، فكيف مِن خواص الخلْق)؛ ففيه التزام أنه قد يقع.
فقولي: (إذْ في الْكَمَالِ لَهُمُ التنْزِيهُ) أَيْ: في ثبوت الكمال لهم - كما قررناه - التنزيه عن أنْ يقع منهم المكروه، والله أعلم.
ص:
214 -
فَفِعْلُهُ إنْ كانَ بِالْجِبِلَّهْ
…
أَوْ خَصَّهُ اللهُ بِهِ؛ أَجَلَّهْ
215 -
أَوْ عُلِمَتْ بِنَصٍّ أَوْ قَرِينَة
…
صِفَته وُجُوبًا اوْ قَرِينَهْ
216 -
كَذِي امْتِثَالٍ وَبَيَانٍ، تَبِعَا
…
أَصْلَهُمَا في الْحُكْمِ حَيْثُ وَقَعَا
217 -
[فَوَاضِحَاتٌ]
(1)
ذِي وَإِلَّا يَجِبُ
…
وَمثْلُهُ أُمَّتُهُ [تُرَتَّبُ]
(2)
(1)
كذا في (ز، ت، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص، ظ، ق): واضحان.
(2)
كذا في (ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5)، وهو الموافق لِمَا سيأتي في الشرح في (ظ، ق، ت). لكن هنا في النَّظْم في (ض، ظ، ق، ت، ش): مرتب.
218 -
لَا في الَّذِي خُصَّ وَلَا الْجِبِلِّي
…
فَأَصْلُ شَرْعِهِ عُمُومُ الْكُلِّ
الشرح: أيْ إذَا ثبت أنَّ فِعله صلى الله عليه وسلم غير محُرَّم (لِعِصْمته) وغير مكروه (لِمَا سبق)، فهو إمَّا واجب أو مندوب أو مباح، لكن على أيِّ شيء يُحْمَل؟ وما حُكم أُمته في التأسِّي بذلك؟ فيه التفصيل المذكور، وحاصلُه أنَّ فِعله صلى الله عليه وسلم أقسام:
أحدها: الفعل الجبلي، أَيْ: الواقع بجهة جبلَّة البشر مِن أكلٍ وشُرب وقيام وقعود ونحو ذلك. ومنه ما كان مِن تَصَرُّف الأعضاء وحركات الجسد. قال ابن السمعاني: لا يتعلق بذلك أمرٌ ولا نهي عن مخالِفِه، بل هو مباح، فالأمر فيه واضح؛ لأنه ليس مقصودًا به تشريع ولا تُعُبِّدنَا به، فهو كالواقع منه مِن غير قَصْد، ولذلك نُسِب للجبلة وهي الخلقة. قال الجوهري:(ومنه قوله تعالى: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184]. وقرأها الحسن بالضم، والجمع: جبلات)
(1)
. انتهى
وحينئذ فإنْ تأسَّى به مُتَأسٍّ في ذلك فلا بأس، فقد كان ابن عمر لَمَّا حج يجر خطام ناقته حتى يبركها حيث بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تبركًا بآثاره الشريفة. وإنْ ترَكه لا رغبة واستنكافًا فلا بأس.
نَعَم، نقل القاضي والغزالي في "المنخول" قولًا أنه يندَبُ التأسي به فيه، ونقل الأستاذ وجهين، أحدهما: هذا، وعزاه أكثر المحدثين. والثاني: لا يتبع فيه أصلًا.
فتصير الأقوال ثلاثة: مباح، مندوب، ممتنع.
ويحكى قول رابع بالوجوب في الجبلي وغيره. [قيل]
(2)
: وهو زلَل.
فإنِ احتمل الفعل أنْ يَكون جبليًّا وغيره مِن حيث إنه واظب عليه ففيه خلاف، مَنْشَؤه
(1)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (4/ 1651).
(2)
في (ص): قبله.
تَعارُضُ الأصل والظاهر، فإنَّ الأصل عدم التشريع، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، فيكونان قولين للشافعي، وقد جاء عنه أنه قال لبعض أصحابه: اسقني قائمًا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم شربَ قائمًا.
قيل: وحكاهما الأستاذ وجهين كما في أصل الجِبلي كما سبق. وحكى إلْكِيا قولًا ثالثًا بالوقف، قال: والذي عليه الأكثر أنه مباح؛ لإجماع الصحابة عليه. وكذا جزم به ابن القطان والماوردي والروياني في كتاب القضاء.
وفي "الصحيح" عن [عُبيد]
(1)
بن جريج، قلتُ لابن عمر:"رأيتك تصنع أربعًا". وفيها: "رأيتُك تلبس النعال السبتية". فقال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبَسُها"
(2)
.
وفي "البخاري" في باب "الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم " حديث ابن عمر: "اتخذ خاتمًا مِن ذهب، فاتخذ الناسُ خواتيم، فنبَذَه وقال: لا ألبسه أبدًا. فنبذ الناس خواتيمهم"
(3)
.
نَعم، رجَّحوا في الفقه - في مسائل- الندبَ، منها: قال الأكثرون في مسألة ذهابه العيد في طريق ورجوعه في أخرى: إنه يستحَب التأسي به في ذلك.
وفي "الحاوي" للماوردي: (هناك الخلاف على وَجْه آخَر، وهو أنَّا إذَا شكَكْنا في فِعل: هل يختص به صلى الله عليه وسلم؟ أو يشاركه فيه غيره؟ أنَّ المستحب أنْ يفعلوا ذلك. قال ابن أبي هريرة: لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد يَفعل الشيء لمعنى يختص به صلى الله عليه وسلم ثُم يصير ذلك سُنة لمن بَعْده، كالاضطباع والرَّمَل. قال: إلَّا أنَّ أبا إسحاق وأبا عَلِي اتفقا على أنَّ ذلك مستحب في وقتنا، وإنما اختلفَا
(1)
كذا في: (ز، ش)، صحيح البخاري (رقم: 164)، صحيح مسلم (رقم: 1187). لكن في (ص، ض، ت، ق): أبي عبيد. وفي (ظ): ابن عبيد.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 164)، صحيح مسلم (رقم: 1187).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 5529).
إذا عُلِم أنَّ ذلك لشيء يختص به: هل يكون مستحبًّا في وقتنا؟ أَوْ لَا؟ فعند أبي إسحاق لا يستحب، وعند أبي علي يستحب)
(1)
. انتهى
وفي "تجريد" أبي حاتم القزويني: اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة أنها مسنونة أَوْ لَا، والصحيحُ الأول.
ومنها: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم في الحج
(2)
، وتَطَيُّبه عند إحرامه وعند تَحَلله
(3)
، وكذا دخوله مكة من ثنية كداءٍ
(4)
وغسلُه بِذِي طوى
(5)
ونحو ذلك، والصحيح سُنة في الكل.
ومنها: الاضطجاع بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، سواء أكان له تهجد أَوْ لا، والصحيح سُنة، وغير ذلك.
وحاصل ما رجح في ذلك كُله أنه ليس مِن الجبلي، بل مِن الشرعي الذي يُتَأسَّى به فيه. ومَن يرى يحمل المحتمل للجبلي وغيره على أنه جِبِلي فهو داخل في هذا القِسم، فَعَلَى كُل مِن الطريقين ليس قِسمًا خارجًا عن الأمرين؛ فلذلك لم أفْرده في النَّظْم قِسمًا، بل حذفتُه مِن قول صاحب "جمع الجوامع":(وفيما تَرَدَّد بين الجِبِلِّي والشرعي - كالحج راكبًا - ترَدُّد)
(6)
.
أَيْ: في كَوْنه مِن هذا القِسم أو مِن الآخَر، ففي الحقيقة لم يخرج عن القِسمين، فاعْلَمه.
القسم الثاني من أفعاله صلى الله عليه وسلم: مما خَصه الله تعالى به عن الأُمة، إجلالًا له، وهو معنى
(1)
الحاوي الكبير (2/ 496).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 1218).
(3)
صحيح البخاري (1465)، صحيح مسلم (رقم: 1189).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 1501).
(5)
صحيح البخاري (رقم: 1498).
(6)
جمع الجوامع (2/ 129) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
قولي: (أَوْ خَصَّهُ اللهُ بِهِ؛ أَجَلَّهْ) فيحتمل جُملة "أَجَلَّه" أنْ يكون حالًا، أيْ: مُجِلًّا له بذلك، ويحتمل الدعاء، أيْ: أَجَلَّه الله، كما يقول: صلى الله عليه وسلم.
فإذَا دَلَّ دليلٌ على اختصاصه به، فلا سبيل إلى التأسِّي به فيه؛ لئلَّا يفوت معنى الخصوصية، وذلك كوجوب المشاورة في الأمر، وتخيير نسائه في مقامهن في عصمة نكاحه، وإباحة الوصال في الصوم، وصَفي المغنم، والزيادة في النكاح على أربع، ونحو ذلك مما بَسَطه الفقهاء في كتاب النكاح وغيره وقَسَّموه أقسامًا مشهورة.
نَعَم، لإمام الحرمين تَوقُّفٌ في هذا أنه هل يُشرع التأسي به فيه؟ أَوْ لَا؛ لعدم ورود تأسي الصحابة؟ وتابعه على ذلك أبو نصر بن القُشَيري، وأبو عبد الله المازري.
قال أبو شامة في [كتابه]
(1)
"المحقق مِن عِلم الأُصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ": (ليس لأحد التشبه به في المباح مِن خصائصه، كالزيادة على أربع، ويستحب التشبه به في الواجب عليه، كالضحى، والتنزه عن المحرَّم، كأكل ما له ريح كريه، وطلاق مَن تُكره صحبته).
وقال: (هذا [تفضيل]
(2)
حسن لا نزاع فيه لمن فهم الفقه وقواعده).
قال: (ولعل الإِمام ومَن وافقه عَنوا بكونه "لم يُنقل عن الصحابة أنهم فعلوه" أَيْ: لمجرد الاقتداء أو التأسي، بل لأدلة منفصلة)
(3)
.
قلتُ: ولا ينافي هذا كوْنه خصوصية؛ لأنَّ التشبه في أصل الفعل أو في التَّرْك ليس فيه تشبُّه به في وصْف الفعل والترك، فلم يقع مساواة، إلَّا أنْ يُعْتَقَد أنه مِثله في الوجوب
(1)
كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ظ، ض، ق، ت): كتاب.
(2)
كذا في (ص، ق، ت، ض، ش). لكن في (ز، ظ): التفصيل.
(3)
المحقق من علم الأصول (ص 204 - 211).
والتحريم، ولا اعتقاد لذلك؛ ولهذا قَسَّم الماوردي والروياني هذا النوع إلى:
- ما أُبيح له وحُظر علينا، كالمناكح.
- وإلى ما أُبيح له وكُرِهَ لنا، كالوصال.
- وإلى ما وجب عليه ونُدب لنا، كالسواك والوتر والضحى، أَيْ: حيث قُلنا بخصوصية ذلك، ولكنه مُتَعَقَّبٌ كما بيّن ذلك في محله مِن الفقه.
الثالث: أنْ يُعْلَم صفة فِعله صلى الله عليه وسلم مِن وجوب أو ندب أو إباحة، وهو معنى قولي:(وجوبًا أَوْ قرينهْ). أَيْ: مقارِنه في حَقِّه، وقد سبق انحصار فِعله في الثلاثة، وأنه لا يكون محُرَّمًا (للعصمة) ولا مكروهًا (لكماله أو لندرة المكروه). وأيضًا فالمكروه إذًا فَعَله، يَكون بيانًا لجواز فِعله، فهو ليس مكروهًا في حقه وإنْ كان مكروهًا لنا (على ما سبق مِن نَظَر فيه).
وعِلْمُ صفة فِعْله:
إمَّا بِنَصٍّ صريح، كأنْ يقول:"هذا الفعل واجبٌ عَلَيَّ"، أو:"مندوب"، أو:"مباح"، أو معنى ذلك بذكر خاصية مِن خواصه، أو نحو ذلك، أو يُسوي بَيْنه وبين فِعل آخَر معلوم الصفة، فيقول:"إنه مِثله"، أو:"مساوٍ له"، أو نحو ذلك.
وإمَّا بقرينة تُبَين صفةً مِن الثلاثة:
فأمَّا الوجوب: فكالأذان في الصلاة، فقدْ تَقَرر في الشرع أنَّ الأذان والإقامة مِن أمارات الوجوب؛ ولهذا لا يُطْلبان في صلاة عيد ولا كسوف ولا استسقاء ونحوها.
قِيل: أو يَكون ممنوعًا لو لم يجب، كالختان، كما نقلوه عن ابن سريج فيه، وقَطْع اليد في السرقة، وزيادة ركوعٍ وقيامٍ في كل مِن ركعتي الكسوف.
ونُقِض ذلك بسجود السهو والتلاوة في الصلاة، فإنهما سُنة مع أنهما مبطلان لو لم يشرعَا، وكذا رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد ونحوه، وكذا زيادة الركوع والقيام في
الخسوف على ما رجحه النووي في "شرح المهذب" مِن كَوْنها إذا صُلِّيت كسائر الصلوات، جاز.
فإنْ قيل: قد يجاب بأنَّ الدليل دلَّ على سُنية هذه الأمور، والكلام حيث لا دليل.
[قِيل]
(1)
: المقصود إنما هو إثبات القاعدة باستقراء الشرع حتى ينزل عليها ما لم يُعْرف، فإذا انتقضت بما دلَّ عليه الدليل، ارتفع ما أُثْبِتَ بالاستقراء.
ومن قرائن الوجوب أيضًا أنْ يَكون قضاء لِمَا عُلِم وجوبه، أو نحو ذلك.
وأمَّا الندب: فكقصد القُربة مجردًا عن دليل وجوبٍ وقرينته، والدالُّ على ذلك كثير.
وأمَّا الإباحة: فكالفعل الذي ظهر بالقرينة أنه لم يُقصد به القُربة.
وقولي: (كَذِي امْتِثَالٍ وَبَيَانٍ) إلى آخِره -[أَيْ]
(2)
: إنَّ مِن هذا القِسم (وهو ما عُلِمت صفته) أنْ يَكون الفعل امتثالًا لأمرٍ عُلم أنه أمْر إيجابٍ أو ندبٍ، فيكُون هذا الفعل تابعًا لأصله في حُكمه، كالصلاة بيانًا بَعْد قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 110] ، وكالقطع مِن الكوع بيانًا لآية السرقة، ونحو ذلك.
نَعم، في الوارد بيانًا بالفعل أمْر آخَر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يجب عليه بيان الشرع للأُمة بقوله أو فِعله، فإذَا أتَى بالفعل بيانًا، أَتَى بواجبٍ وإنْ كان الفعل بيانًا لأمْر ندبٍ أو إباحةٍ بالنسبة للأُمة، فللفعل حينئذ جهتان:
- جهة التشريع، وَصِفَتُه الوجوب.
- وجهة ما يتعلق بحكم الأُمة، تابعٌ لِأصله مِن ندبٍ أو إباحةٍ.
(1)
في (ش): قلت.
(2)
كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ص، ض، ظ): إلى. وفي (ش): إشارة إلى.
وقد دخل القِسمان في قولي: (تَبِعَا أَصْلَهُمَا). أَيْ سواء [أكان]
(1)
أصلًا واحدًا أو أصلين باعتبارين، فاعْلَم ذلك.
قولي: (فواضحاتٌ ذِي) أَيْ: هذه الأقسام السابقة كلها واضحات الحكم، أمَّا الجِبِلِّي فلمْ يُفْعل للتشريع، فهو على الإباحة. وأمَّا الخصائص فكذلك، وكذا ما عُلِمَت صِفتُه، وقد سبق إيضاحُها.
وقولي: (وإلَّا يَجِبُ) أَيْ: وإنْ لم يكن فِعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا مِن هذه الأقسام المذكورة، فالصحيح مِن المذاهب أنه محمولٌ على الوجوب. وبه قال ابن سريج والإصْطَخْري، وابن خيران، وابن أبي هريرة، وبعض الحنفية، وهو الصحيح عن مالك.
قال ابن السمعاني: (وهو الأَشبه بمذهب الشافعي)
(2)
. قال: (وهو الصحيح). إلَّا أنه لم يتكلم إلَّا فيما ظهر فيه قَصْد القُربة ولو مجردًا عن أمارة الوجوب.
وقِيل: محمول على الندب، وهو عن أكثر الحنفية والمعتزلة والصيرفي والقفال الكبير وإمام الحرمين، وعُزي أيضًا للشافعي، وبالغ أبو شامة في نُصرته.
وقيل: للإباحة، ونُقل عن مالك، واختاره إمام الحرمين في "البرهان".
وقِيل بالوقف، ونُقل عن جَمْع، ثُم قِيل: بَيْن الكُل. وقيل: بَيْن الوجوب والندب مطلقًا. وقِيل: بينهما إنْ [ظهر]
(3)
قَصْد القُربة.
وفَصَّل الآمدي وابن الحاجب بين ما ظهر فيه قَصْد القُربة فَنَدْب، وإلَّا فإباحة، واختاره أبو شامة.
(1)
كذا في (ض، ش). لكن في (ص، ق، ت، ظ): كان. وفي (ز): أكان ذلك.
(2)
قواطع الأدلة (1/ 304).
(3)
في (ز): ظهر فيه.
واستُشكِل بأنه كيف يجري قولٌ بالإباحة مع قَصْد القُربة؟ ! فبَيْن الترجيح واستواء الطرفين تنافٍ.
وقد يجاب بأنه بيَّن للأُمة جواز الإقدام عليه بالفعل، فقَصْده القُربة مع كَوْن الفعل مباحًا.
قلتُ: وفيه نَظَر؛ لأنَّ الكلام في قَصْد القُربة بالفعل مِن حيث هو، لا مِن حيث كَوْنه بيانًا للشرع.
وقولي: (ومِثْلُهُ أُمَّتُهُ [تُرَتَّبُ])
(1)
إلى آخِره - أَيْ: ما سبق في حُكم فِعله صلى الله عليه وسلم بالنسبة إليه، وأمَّا بالنسبة للأُمة فحُكمهم مُرَتَّبٌ على حُكمه إلَّا فيما يُستثنى.
فإنْ كان الفعل واجبًا عليه، فَهُم كذلك، أو مندوبًا أو مباحًا فكذلك؛ للآيات والأحاديث الواردة بإطلاق الأمر بالاتِّباع والتأسِّي عمومًا وخصوصًا (نحو:"صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي"
(2)
. أخرجه الشيخان، وقوله يوم النحر وهو على راحلته:"خُذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لَعَلِّي لا أَحج بَعْد حجَّتي هذه"
(3)
. رواه مسلم، وغير ذلك مما لا ينحصر)، ولمَا أَشَرْتُ إليه مِن المعنى (وهو عموم شَرْعِه لكل أحدٍ) بِقَولي:(فَأَصْلُ شَرْعِهِ عُمُومُ الْكُلِّ).
وقولي: (لَا في الَّذِي خُصَّ وَلَا الْجِبِلِّي) استثناءٌ مِن قولي: (ومثْلُهُ أُمَّته [تُرَتَّبُ])
(4)
. أَيْ: يُستثنى مِن اتِّباع أُمته له في أفعاله أمران: ما كان جِبِلِّيًّا، وما كان مِن خصائصه. وقد سبق
(1)
كذا في (ز، ظ، ت، ق). لكن في (ض، ش): مرتب.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 6819).
(3)
صحيح مسلم (رقم: 1297).
(4)
كذا في (ز، ص، ظ، ت، ق، ش).
بيان التأسِّي فيهما، والخلاف في ذلك واضحًا، فما سِوَى هذين أُمَّته مِثْله فيه.
ومن ذلك ما كان مِن أفعاله بيانًا، فإنه وإنْ وجب عليه مِن حيث التبيان فقدْ يكون مندوبًا أو مباحًا باعتبار أَصْله الذي هو مثال له. وأُمته مِثله مِن جهة ذلك الأصل، لا مِن جهة تشريعه كما سبق تقريره.
نَعَم، يجب على العلماء بيان شَرْعِه بأَيِّ طريقٍ كان، سواء بالقول أو بالفعل أو نحو ذلك، فربما كان في فِعل المُبَيِّن منهم الجهتان المذكورتان.
وفيما عُلِمَت صِفتُه مذاهب:
أصحُّها ما قُلناه: إنَّ أُمَّته مِثْله، إلَّا أنْ يدل دليلٌ على تخصيصه.
وثانيها: قول القاضي: إنه كالذي لا تُعْلم صفته في حقهم حتى يجري فيه قولٌ بالندب وقولٌ بالإباحة وقولٌ بالوقف.
وثالثها: أنهم مِثله فيه في العبادات، وهو قول أبي علي ابن خَلَّاد مِن المعتزلة.
ورابعها: الوقف، قاله الرازي.
قال أبو شامة: (الذي أقوله أنا: إذَا عَلِمنا أنَّ فِعله واجبٌ، فإنْ كان عليه وعلينا فلا حاجة للاستدلال بفعله على وجوبه على الأُمة؛ لوجود دليل العموم لنا. وإنْ كان خاصًّا به فهو القِسم [السابق]
(1)
في خصائصه. فإنْ شَككنا فلا دليل على الوجوب علينا إلَّا أدلة القائلين بالوجوب فيما لم تُعْلَم صفته، فلا حاجة لفرض هذا القِسم وهو ما عُلِمت صفته).
قال: (وإنْ عَلِمْنا أنه أَوْقَعه ندبًا فهو على اختيارنا الندب في مجهول الصفة، أو مباحًا فهو الذي لم يظهر فيه قَصْد القُربة)
(2)
. انتهى
(1)
في (ص): السابق وهو ما عُلمت صفته.
(2)
المحقق من علم الأصول (ص 225 - 226).
وفيما لم تُعْلم صفته المذاهب السابقة.
نَعم، حيث قُلنا بالوجوب، فَقِيل: مُدْركه العقل. وقيل: السمع. وهو ما أَوْرَده ابن السمعاني وإلْكِيا الطبري، لكنه قال: إنَّ القائل بالعقل يقول: دَلَّ معه السمع أيضًا.
ومِن أغرب المذاهب أنه على الحظر على معنى تحريم اتِّباع غَيْره له فيه إلَّا بدليل يدل على ذلك. ووهموا مَن حمل هذا المذهب على أنه في نفْسه حرام، وأنه بِناءٌ على جواز المعاصي على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كما نُقِل عن الغزالي والَامدي والهندي رَدُّ ذلك وجعلوا ذلك مِن سُوءِ فهمهم هذا المذهب، فقد صرح القاضي أبو الطيب وابن القشيري بأنَّ هذا المذهب يقول بتحريم اتِّباعه، وهو بناء على أصلهم في الأحكام قَبْل الشرع أنها على الحظر.
وقد ذكرتُ هذا المذهب لئلَّا يُغْترَّ به وإنْ كان الأدبُ تركه بالكُلية، والله أعلم.
ص:
219 -
وَبيْنَ فِعْلَيْنِ تَعَارُضٌ مُنِعْ
…
مَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ [تَكْرارٍ]
(1)
وُضِعْ
الشرح: إذا تَقرر انحصار السُّنة في القول والفعل، فاعْلَم أنه ربما تعارَض دليلان مِن ذلك، إما قولان أو فِعلان أو قَوْل وفعل.
فأما القولان فسيأتي حُكم تعارضهما في الباب الثالث وهو التعادل والتراجيح.
وأما تَعارُض الفعلين أو الفعل والقول فنذكره هنا؛ لتعلقه بأحكام الفعل المقصود بالأصل.
ومعنى التعارض بين الأمرين: تَقابُلهما على وجهٍ يمنع كل واحد منهما مُقْتضَى الآخَر. فالمشهور أنَّ الفعلين لا يقع بينهما تَعارُض حتى يكون أحدهما ناسخًا للآخَر أو مخصصًا؛
(1)
كذا في (ز، ص، ض، ظ، ش، ت، ق). لكن في (ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): تكرير.
لجواز أنْ يَكون حُكم أحد الفعلين في وقتٍ مغايرًا لحكمه في وقتِ الآخر؛ لأنه لا عموم في الفعل في ذاته ولا في وقته.
نَعَم، إذًا كان مع الفعل الأول قول يقتضي وجوب تَكرره، جاز أنْ يعارضه الفعل الثاني.
قال إلْكِيا: وعلى مثله بنَى الشافعي مذهبه في سجود السهو قَبل السلام وبعده، وقال: إنَّ آخر فِعليه قبل السلام.
قلتُ: والدليل الدال على تَكرر الأول - على ما قيل - هو ما ورد مِن الأمر بسجود السهو حيث وجد مقتضيه، لكن فيه نظر؛ فإنه لا بُدَّ أنْ يَكون في النص ما يدل على أنه بعد السلام، وليس فيه تَصْرِيح بشيء، وإنما ينبغي أنْ يُمَثَّل له بما سيأتي في صلاة الخوف، على أنَّ في أصل المسألة نظرًا أيضًا؛ لأنَّ التعارض في الحقيقة إنما هو بين الثاني وبين القول المقتضي لتكرار الأول، لا بين فعلين بالذات.
وهذه الطريقة هي طريقة الإِمام الرازي تبعًا للقاضي والغزالي، وعليها الجمهور.
وقال إمام الحرمين: (إنَّ الفعلين قد يتعارضان، والمتأخِّر منهما ناسِخ).
قال: (وفي كلام الشافعي صَغْوٌ إليه؛ فإنَّ هذا هو مُدْركه في تقديم رواية خَوَّات بن جُبير في صلاة ذات الرقاع على رواية ابن عمر رضي الله عنهما)
(1)
. انتهى.
ومراده ما بين الحديثين مِن التخالف المشهور في محله من الفقه والحديث، وقد أوضحته في "شرح العمدة".
وممن وافق الإِمام على ذلك ابن القشيري، وقال: إنَّ الشافعي [قَدَّر]
(2)
ما رواه ابن عمر في غزوة سابقة.
(1)
البرهان في أصول الفقه (1/ 148).
(2)
كذا في (ز، ش)، لكن في سائر النسخ: قرر.
قال: (وله مَسْلك آخَر، وهو تسليم كونهما في غزوة واحدة، ولكن رواية خَوَّاتٍ أقربهما للأصول بِقِلَّة الحركة وقُربها للخشوع). انتهى
والذي في "الرسالة" إنما هو تقديم رواية خوات؛ لأنه متقدم الصحبة والسن - بعد أنْ رجحها [قَبْل]
(1)
؛ لموافقة ظاهر القرآن، ولأنها أقوى في مكايدة العدو.
على أنَّ الذي قاله القاضي وقال إمام الحرمين: (إنه ظاهر كلام الأصوليين)، وقال إلْكِيا:(إنه الحق الذي لا يجوز غيره)، والغزالي:(إنَّ الفقهاء اتفقوا عليه) - صحة الفعلين، وإنما اختلفوا في الأفضل.
ولو سُلِّم أنَّ الخلاف في الجواز، فلقائل أنْ يقول: إنَّ الفعل الأول دل ظاهرُ القرآن على تكرره، وهو عموم قوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] الآية، فليس مِن تَعارُض مجرد الفعلين كما سبق تقريره.
قلتُ: لكن هذا على تقرير أنه موافق لحديث ابن عمر، أمَّا إذا جُعل موافقًا لحديث خوّات وجعلناه متأخرًا، فلا. على أنَّ تَعارض الفعلين قد حكى فيه ابن العربي المالكي في كتابه "المحصول" ثلاثة أقوال: التخييرَ، تقديمَ المتأخر، طلبَ الترجيح.
وقال القرطبي: مَن قال: "إنَّ الفعل محمول على الوجوب" قال: الناسخ متأخِّر إنْ علِم التاريخ، وإنْ جهِل فالترجيح، وإنْ قُلنا:"لا يدل على الوجوب"، فهُما متعارضان كالقولين.
والقول بأن المتأخر ناسخ نقله الغزالي في "المنخول" عن مجاهد.
وفصَّل ابن القشيري بين الفعل الوارد بيانًا وغيره، قال: فالتعارض في الوارد بيانًا
(1)
في جميع النُّسخ: (وقيل). والتصويب من "البحر المحيط، 3/ 263": (وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا، لمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ).
كالقولين، فينسخ آخِرُهما أولَهما؛ لأنَّ فِعل البيان كالقول.
والله أعلم.
ص:
220 -
والْفِعْلُ وَالْقَوْلُ إذَا تَعَارَضَا
…
وَلتَكَرُّرٍ دَلِيلٌ اقْتَضَى
221 -
فَإِنْ يَكُنْ خُصَّ بِقَوْلٍ، نَسَخَا
…
ثانِيهِمَا، وَالْجَهْلُ فِيمَا أُرِّخَا
222 -
وَقْفٌ، وَإِنْ خُصَّ بِنَا [فَيَسْلَمَا]
…
(1)
وَ [الثَّانِ]
(2)
نَاسِخٌ لنَا إِنْ لَزِمَا
223 -
فِيهِ تَأَسٍّ، وَلجَهْلٍ يُعْمَلُ
…
بِالْقَوْلِ، وَالْقَوْلُ إِذَا مَا يَشْمَلُ
224 -
كَمَا مَضَى في السَّبْقِ أَوْ أَنْ يُجْهَلَا
…
نَعَمْ، إذَا الظَّاهِرُ لَفْظًا شمِلَا
225 -
يُخَصُّ بِالْفِعْلِ عُمُومُهُ، وَذَا
…
يُغْنِي عَنِ الذّكْرِ [بِبَابِهِ]
(3)
، انْبِذَا
الشرح: هذا بيان حُكم تَعارض القول والفعل، وقيدتُ الفعل بكونه دَلَّ على تَكرره دليل، وإلَّا فلا تَعارض بينه وبين متأخِّر عنه، وإنْ أمكن معارضته لقولٍ سابقٍ فليس حينئذ قيدًا، لكن لَمَّا كان الغرض هو تقسيم شامل للمتقدم والمتأخر أخذتُ ذلك في مورد التقسيم؛ للاحتياج إليه في بعض الأقسام، والذي ليس يحتاج إليه فيه واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه فيه.
والحاصل أنَّ لذلك ثلاثة أحوال باعتبار أنَّ القول إما أنْ يكون خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو خاصا بالأُمة، أو عامًّا له صلى الله عليه وسلم ولهم.
(1)
كذا في (ص، ض، ت، ش، ظ، ق). لكن في سائر النُّسَخ: فَسَلِمَا.
(2)
كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ز، ض، ص، ظ): الثاني.
(3)
كذا في (ز، ش، ن 5) وهو الموافق للشرح. لكن في سائر النُّسَخ: بيانه.
فالأول: أنْ يَكون خاصًّا به صلى الله عليه وسلم:
فإنْ عُلم المتأخر مِن القول أو الفعل فهو ناسخ للمتقدم، كما لو قال:"صوم عاشوراء واجب عليَّ" ونُقل أنه أفطر فيه قَبْل تاريخ القول أو بعده، ولا تَعارض بينهما في حق الأُمة؛ لعدم تناول القول إياهم.
وإنْ جُهل المتأخر منهما، فأقوال:
أحدها: يُعمل بالقول؛ لقوته بالصيغة، وأنه حُجة بنفسه. وهذا قول الجمهور، وظاهر كلام ابن بَرهان أنه المذهب، وجزم به إلْكِيا والأستاذ أبو منصور، وصححه الشيخُ في "اللمع" والإمامُ في "المحصول" والآمديُّ في "الإحكام".
الثاق: تقديم الفعل؛ لعدم الاحتمال فيه. ونُقل عن اختيار القاضي أبي الطيب.
والثالث: أنهما سيَّان، لا يرجح أحدهما إلا بدليل. ونقله ابن القشيري عن القاضي أبي بكر ونصره، واختاره ابن السمعاني، إلَّا أنَّ الشيخ في "اللمع" وابن القشيري والغزالي جعلوا محل الخلاف في القول والفعل إذا كانا بيانًا لِمُجْمَل، لا مبتدأَيْن، وعكسه القرطبي.
الثاني: أن يكون القول خاصًّا بنا:
فهو صلى الله عليه وسلم سالم مِن المعارضة في حقه؛ لعدم تناول القول له، وأمَّا في حق الأُمة فإنْ دل دليل على وجوب التأسي به في ذلك الفعل، فالمتأخر أيضًا ناسخ للمتقدم قولًا كان أو فعلًا، كما لو قال في المثال المتقدم:"صوم يوم عاشوراء واجب عليكم دُوني". أمَّا إذا لم يدل دليل على وجوب التأسي، فلا تَعارض بالنسبة إلينا.
فإنْ جُهل التاريخ، جاءت الأقوال الثلاثة، لكن الأرجح ما صححه ابن الحاجب وغيره هنا: القول، وفيما إذا كان القول خاصًّا به: الوقف؛ لاحتياجنا في التعبد للقول أو الفعل، وأما في حقه فأمر انقضى، والقول أقوى كما سبق.
الثالث: أن يكون القول عامًّا لنا وله صلى الله عليه وسلم:
كما لو قال في المثال السابق: "صوم عاشوراء علَيَّ وعليكم" أو نحو ذلك، فهذا يُعْلم حُكمه مما سبق في القسمين قبْله.
فإنْ تَقدم القولُ، نَسخَه الفعلُ في حقنا وحقه؛ لأنَّ الفرض أنه دل دليل على وجوب التأسي.
وإنْ تَقدم الفعلُ، نَسخَه القولُ؛ لأن الفرض أنَّ الدليل دل على تكرر مُقتضَى الفعل.
وإنْ جُهل، جاءت الأقوال فيه وفينا، ورجحان القول بالوقف فيه وبالقول فينا.
ومما مُثِّل به هذا القِسم قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: "كُلْ مما يليك"
(1)
، والخطاب له ولغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم داخلٌ على قاعدة عموم حُكمه كما سيأتي في باب العموم. وصَحَّ أنه هو "كان يتبع الدباء في جوانب الصحفة"
(2)
ولا يُدْرَى أيهما السابق، ونحوه نهيه عن الشُّرب قائمًا وعن الاستلقاء ونحو ذلك مع ثبوت أنه فَعَله.
قلتُ: لكن سيأتي أنَّ محل ذلك حيث كان دخوله صلى الله عليه وسلم بالنص لا بظهور العموم فيه، وإلا فَيُخَص به مطلقًا تَقدم أو تَأخر أو جُهل، فليكن هذا منه.
وهو ما أشرفُ إليه في النَّظْم بقولي: (نَعَم، إذَا الظَّاهِرُ لَفْظًا شَمِلَا) إلى آخره، أي: إن ما سبق فيما إذا كان الحكم لنا وله مع كونه منصوصًا عليه فيه كما مَثَّلنا في "صوم عاشوراء علَيَّ وعليكم"، أمَّا إذا كان دخوله بطريق العموم كقوله:"صومه واجبٌ" أو قال: "على الناس" أو نحو ذلك وقُلنا: المتكلم داخل في عموم كلامه، فيكون الفعل مخصِّصًا له من العموم،
(1)
صحيح البخاري (رقم: 5061)، صحيح مسلم (رقم: 2022).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1986)، صحيح مسلم (رقم: 2041). واللفظ فيهما: (يَتَتبَعُ الدُّبَّاءَ من حَوَالي الصحْفَةِ).
ولا نَسْخ حينئذ، إلَّا أنْ يكون العام سابقًا، وقد دخل وقته ثُم جاء الفعل المخالف له كما سيأتي تقريره في باب العموم.
والقول بأنه في الظهور مخصص في غير ما ذكرنا يحكَى عن الشافعي رحمه الله، وأنه جعل منه قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن قرن حجًّا إلى عُمرة، فليطف لهما طوافًا واحدًا"
(1)
. وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه طاف طوافين"
(2)
.
وجعل بعضهم منه نهيَه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر
(3)
ثُم صلَّى الركعتين بعدها قضاءً لسُنة الظهر
(4)
ومداومته عليهما بعد ذلك، ونهيَه عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة
(5)
ثُم فعل ذلك في بيت حفصة
(6)
رضي الله عنها.
(1)
إنما وجدته في سنن الترمذي (947) وغيره من فِعله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الحجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا". قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 947).
(2)
سنن الدارقطني (رقم: 131) من طريق عيسى بن عبد الله، وقال الدارقطني فيه: وهو متروك الحديث.
(3)
صحيح البخاري (563)، صحيح مسلم (825). ولفظ البخاري: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس).
(4)
صحيح البخاري (1176)، صحيح مسلم (834)، ولفظ البخاري:(يا بنت أبي أمية، سألتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس مِن عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهُما هاتان).
(5)
صحيح البخاري (386)، صحيح مسلم (264) بلفظ:(إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا).
(6)
صحيح مسلم (266) عن ابن عمر قال: (رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القِبلة).
نَعم، اختلف في مثل ذلك:
هل يكون تخصيصًا بالفعل في مثل الحال التي فعل فيها فيكون عامًّا في الأُمة؛ مِن حيث إنَّ الفرض وجوب التأسي، فكل ما له سبب يُفْعل وقت الكراهة؛ لذلك، والاستقبال والاستدبار في البنيان كذلك؟
أو يكون مِن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكون الأُمة مِثله؟
فيه قولان: الأول قول الجمهور، والثاني نقله صاحب "المصادر" عن عبد الجبار، وربما نقل عن الشافعي أيضًا، وفي المسألة قول ثالث بالتوقف وطلب الترجيح.
واعْلَم أنَّ لتعارض القول مع الفعل أحوالًا كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ويؤخذ من طريقتَي الإِمام والآمدي وصولها إلى ستين قِسمًا، ففي "المحصول" أن المتأخر من القول أو الفعل إما أنْ يعقب الأول أو يتراخى عنه، فهي أربعة، كل منها إما مع كون القول خاصًّا به صلى الله عليه وسلم أو بنا، أو عامًّا لنا وله، صارت اثني عشر، ومع الجهل وخصوص القول أو عمومه ثلاثة، [تصير]
(1)
خمسة عشر.
وفي "إحكام" الآمدي انقسام الفعل إلى أربعة؛ باعتبار أنه إما أنْ يدل دليل على تكرره وتأَسِّي الأُمة، أوْ لا، أو يدل على التكرر دُون التأسي، أو عكسه
(2)
.
فإذا ضربت هذه الأربعة في الخمسة عشر، بلغت ستين.
وينجر إلى ذلك أنها إما في محل بيان مُجْمَل أو مبتدأ، وفيما إذا كان القول عامًّا إما بالنصوصية أو بالظهور، وأنه إما أنْ يمكن [الجمع بينهما بطريق آخَر]
(3)
، بأنْ يحمل الفعل
(1)
في (ز): فتصير.
(2)
الإحكام للآمدي (1/ 247).
(3)
كذا في (من). لكن في سائر النُّسخ: الجمع بطريق آخر بينهما.
على الندب والقول على الوجوب أو على الإباحة، أو نحو ذلك.
فإذا ضربت هذه الأحوال فيما سبق، بلغ ذلك كثيرًا، فاعْلَمه.
قولي: (وَالجهْلُ فِيمَا أُرِّخَا وَقْفٌ). أي؛ وحُكم الجهل وقف، ففيه حذف مضاف؛ لدلالة معنى الكلام عليه.
وقولي: (وَذَا يُغْنِي عَنِ الذِّكْرِ). أيْ: إنَّ بيان حُكم تَعارض الفعلين أو الفعل والقول هنا يُغْني عن إعادته في بابه، وهو باب التعادل والتراجيح، والله أعلم.
ص:
226 -
وَلَيْسَ في الْقُرْآنِ أَوْ في السُّنَّةِ
…
لَفْظٌ بِلَا مَعْنًى وَلَا ذُو خُفْيَةِ
227 -
بِلَا دَلِيلٍ، وَالَّذِي أُجْمِلَ مِنْ
…
مُكَلَّفٍ بِهِ بَيَانُهُ زُكِن
الشرح: لَمَّا انتهى الكلام في كل مِن الدليلين الأولين (وهُما الكتاب والسُّنة) ذكرتُ مسائل ثلاثةً تتعلق بهما معًا:
الأولى: لا يجوز أنْ يَرِد في القرآن العظيم ما ليس له معنى أصلًا، وكذا السُّنة كما قال في "المحصول"، إذْ عبارته:(لا يجوز أنْ يتكلم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بشيء ولا يَعْني به شيئًا، خِلَافًا للحشوية)
(1)
.
قال الأصفهاني في شرحه: (ولم يتعرض لذلك فيها غيره)
(2)
.
قلتُ: سيأتي مِن نَص الشافعي ما يدل عليه.
(1)
المحصول (1/ 385).
(2)
الكاشف عن المحصول (2/ 467).
والدليل على منع ذلك كيف كان أنه مهملٌ هذيان، ومِثله يُصان عنه كلام العقلاء، فكيف لا يُصان عنه كلام المعصوم؟ !
و"الحَشْوية" بسكون الشين؛ لأنه إما مِن الحشو؛ لأنهم يقولون بوجود الحشو الذي لا مَعْنى له في [الكلام]
(1)
المعصوم، أو لقولهم بالتجسيم ونحو ذلك.
ويقال أيضًا بالفتح؛ لِمَا يُروَى أنَّ الحسَن البصري لَمَّا تكلموا بالسقط عنده، قال: رُدُّوا هؤلاء إلى حَشَا الحلقة.
ويقال فيهم غير ذلك.
واعْلم أنَّ هنا مقاماتٍ أربعةً:
- أنْ يَكون اللفظ بلا معنى.
- أوله معنى لا يُفهِمه.
- أو يُفْهِمه ولكن أُريدَ غيُره.
- أو يذكر اللفظ ولو كان له معنى وُضع له، ولكن لم يُرد به معنى أصلًا، لا ما وُضع له، ولا غيْره.
فالأول: لا يُظَن بِعاقل أنْ يقوله.
أمَّا الثاني: فهو الخلاف المشهور في المتشابه في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]:
هل الوقفُ على {إِلَّا اللَّهُ} وأنه تعالى يختص بِعلمه، وأهل العِلم مأمورون بالإيمان به
(1)
في (ز): كلام.
على مُراد الله تعالى؟ أو أنَّ الراسخين في العلم أيضًا يَعلمونه، بخلاف غيرهم؟
وليس مِن شرط [المفيد]
(1)
في الخطاب فَهْم كل أحدٍ، فلذلك يخاطَب العقلاء بما لا يفهم الصبيان ولا العوام بالنسبة للعارفين، وقد قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
وسيأتي في الكلام على اللغة تفسير "المتشابه"، والفريقان متفقان على وقوعه، ومَثَّلوه بآيات الصفات، ومنهم مَن [أَوَّلها]
(2)
بالمعنى اللائق، ومنهم من لا يُؤَوِّل مع اعتقاد التنزيه عما لا يليق به.
ومنه الحروف المقطعة في أوائل السور، فمِن قائل: إنها استأثر الله تعالى بعلم معناها. ومن قائل: لها معنى. وفي تعيينه أقوال كثيرة تزيد على ثلاثين قولًا، منها أنها أسماء السور، أو أن الله ذكرها لجمع دواعي العرب إلى الاستماع؛ لأنَّ بمخالفة عاداتهم تستيقظ قلوبهم من الغفلة، فيحصل الإصغاء، أو أنها كناية عن سائر حروف المعجم.
أو أنَّ كل حرفٍ مِن اسْم، الكاف مِن "كافي"، والهاء من "هادي"، والعين مِن "عليم"، والصاد مِن "صادق".
أو أنها إبطال لحساب اليهود، فإنهم كانوا يحسبون هذه الأحرف بحساب الجُمل، ويقولون: إنَّ منتهى دولة الإِسلام كذا. فأنزلت هذه الأحرف، لتخبيط الحساب عليهم. أو ذُكرت جريًا على عادة العرب في ذكر [النسيب]
(3)
أوائل الخطب والقصائد، أو غير ذلك.
(1)
في (ص): القيد.
(2)
في (ز، من): يؤولها.
(3)
في (ظ): التهشيه.
والثالث: يمكن أنه أريد به "المتشابه"
(1)
، فيأتي فيه ما سبق.
الرابع: ما ظاهر كلام "المحصول" أنَّ خِلاف الحشوية فيه، إلا أنه استدل بما يقتضي أنَّ الخلاف في التكلم بما لا يفيد، وبينهما فَرْق؛ فإنه يمكن ألَّا يُعْنَى به شيء وهو مفيد في نفسه.
ونازعه أيضًا بعضهم بأنَّا لا نَعلم في الأُمة مَن يقول: إنَّ الله تعالى يتكلم بكلام لا يَعني به شيئًا. وإنما النزاع في أنه هل يُنزل ما لا يُفهم معناه؟ وهو الخلاف المشهور في آيات الصفات، ولا معنى لنقله عن الحشوية.
قلتُ: سبق الإمامَ إلى ذلك عبدُ الجبار وأبو الحسين في "المعتمد". ومُدْرَك المانع التحسينُ والتقبيحُ العقليان، وفي الأقوال السابقة في الحروف المقطعة ما يوافق عبارة الإِمام. وحكى ابن برهان الخلاف في الوجهين في أنَّ كلام الله تعالى هل يشتمل على ما لا يُفهم معناه؟ ثم قال: والحقُّ التفصيل بين الخطاب الذي تعلق به تكليف فلا يجوز أنْ يكون غير مفهوم المعنى، أوْ لا يتعلق به تكليف فيجوز.
تنبيه:
هل يجوز أنْ يقال: في القرآن أو السُّنة زائد؟ كالحروف الزائدة في نحو: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ} [آل عمران: 62]، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] ، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وأشباه ذلك، وربما عُدي للأسماء في نحو:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]، {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] على رأيٍ.
إنْ فُسِّر الزائد بأنه الذي لا معنى له أصلًا، فلا يجوز إطلاق ذلك، لِمَا سبق مِن صَوْنه
(1)
في (ز) وضع قبل هذه الكلمة علامة وكتب في الهامش: أحد. وكأن اللفظ هكذا: أحد المتشابه.
عن المهمل، وأيضًا فيفيد التأكيد، فلا ينبغي أنْ يُسمى زائدًا.
وإنْ أريد بالزائد ما لا يختل معنى الكلام بدونه، لا الذي لا فائدة له أصلًا، فالأكثرون على جواز إطلاقه؛ لأنه على لُغة العرب، ولُغة العرب يقال فيها ذلك، فلا منع، وأيضًا فإنما هي في مقابلة المحذوفات اختصارًا، فسميت زائدةً بهذا الاعتبار.
ومنع مِن ذلك ابن دَرَسْتَوَيْه وغيره، ولا شك أنَّ الأدب عدم إطلاق نحو هذا.
المسألة الثانية:
أنْ يُطلَق لفظٌ له معنيان: ظاهر وخفي، ويُراد الخفي مِن غير دليل يدل عليه، فلا يجوز ذلك، خِلافًا للمرجئة؛ لأنَّ اللفظ بالنسبة إلى غير الظاهر كالمهمل؛ فامتنع. وفرَّعها أبو الحسين على قاعدة التقبيح والتحسين العقليين.
نعم، محل الخلاف في آيات الوعيد وأحاديثه، لا في الأوامر والنواهي.
واحترز بِقَيْد "عدم الدليل" عن نحو ورود العام وتأخُّر المخَصِّص له.
وعبارة الشافعي في "الرسالة": (فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره)
(1)
.
و"المرجئة" بالهمز طائفة مِن القدرية؛ لأنهم يُرجئون الأعمال عن الإيمان، مِن "الإرجاء" وهو التأخير. وربما قيل:"المرجيّة" بتشديد الياء بلا همز.
الثالثة:
اختلف في بقاء اللفظ المجمَل في القرآن أو السُّنة بلا بيان إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:
المنع، لأن الله تعالى قد أكمل الدين، فلا يبقى شيء بلا بيان.
(1)
الرسالة (ص 341).