المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والجواز؛ لأن الإجمال قد يُقصد لحكمةٍ. وثالثها: تفصيل إمام الحرمين وابن - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ١

[شمس الدين البرماوي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدمة المُحَقِّق

- ‌المبحث الأول: بيان حِرص كثير مِن علماء الأصول على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته

- ‌المبحث الثاني: ترجمة شمس الدين البرماوي، وتوثيق نسبة الكتاب له

- ‌المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نَظْم الألفية وأَصْلِها وشَرْحِها

- ‌المبحث الرابع: تَقَدُّم البرماوي في عِلْم الحديث وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة

- ‌المبحث الخامس: تَقَدُّم البرماوي في الفقه وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة

- ‌الجهة الأُولى: اجتهاده في الابتعاد عن تَناوُل ما لا يفيد من المباحث والمسائل

- ‌الجهة الثانية: اجتهاده في ذِكر الكثير مِن الفروع والتطبيقات الفقهية:

- ‌المبحث السادس: مَذْهَب الإمام البرماوي وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة

- ‌المبحث السابع: عقيدة البرماوي وأَثَرها في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة

- ‌المبحث الثامن: اشتمال شرح البرماوي على فوائد لم يذكرها الزركشي في "البحر المحيط

- ‌المبحث التاسع: بيان دَرَجة دِقَّة الشمس البرماوي في نَقْل كلام غَيْره

- ‌القسم الأول: نَقْل يطابِق النص الأصلي في اللفظ

- ‌القسم الثاني: نقل يكاد يطابق النص الأصلي في اللفظ والمعنى على الرغم مِن طُوله:

- ‌القسم الثالث: نقل يقارب النص الأصلي في اللفظ (مع تَصَرُّف يسير واختصار) ويطابقه في المعنى:

- ‌القسم الرابع: نَقْل نَسَبَ البرماويُّ فيه كلامًا إلى غَيْر قائله:

- ‌المبحث العاشر: بيان حرص البرماوي على أنْ يَقرأ على شيوخه ما كَتَبه أو نَسَخه مِن كُتُبهم ومقابلته على أَصْلهم، وكذلك كان يُقرأ عليه ما كُتِبَ أو نُسِخ مِن كُتُبه

- ‌المبحث الحادي عشر: وصف نُسَخ مخطوطات أَلْفِيَّة البرماوي وأَصْلها وشَرْحِها

- ‌المبحث الثاني عشر: ملاحظاتي حول نُسَخ المخطوطات

- ‌أولًا: فيما يختص بالنصف الأول من الكتاب:

- ‌ثانيًا: فيما يختص بالنصف الثاني من الكتاب:

- ‌المبحث الثالث عشر: الجهود السابقة لتحقيق هذه الألفية وشَرْحها

- ‌ملاحظاتي على التحقيق الأول

- ‌القسم الأول: تحريفات وتصحيفات في مئات الكلمات:

- ‌القسم الثاني: نقصان كلمات أو جُمَل على الرغم مِنْ وجودها في جميع المخطوطات:

- ‌القسم الثالث: زيادة كلمات (أو أَحْرُف) ليست في جميع المخطوطات:

- ‌القسم الرابع: الأخطاء في كتابة وضبط كلمات النَّظْم، مما أدَّى إلى كسر الوزن:

- ‌القسم الخامس: أخطاء في وضع علامات الترقيم؛ جَعَلَتْ النَّص مُشَوَّهًا:

- ‌ملاحظاتي على التحقيق الثاني

- ‌المبحث الرابع عشر: عَمَلِي في الكتاب

- ‌المبحث الخامس عشر: تنبيهات مهمة

- ‌المُقَدِّمة

- ‌الباب الأول في أدلة الفقه

- ‌الْقُرْآنُ

- ‌السُّنَّةُ

- ‌الْإجْمَاعُ

- ‌الْقِيَاسُ

الفصل: والجواز؛ لأن الإجمال قد يُقصد لحكمةٍ. وثالثها: تفصيل إمام الحرمين وابن

والجواز؛ لأن الإجمال قد يُقصد لحكمةٍ.

وثالثها: تفصيل إمام الحرمين وابن القشيري، أنه يجوز فيما لا تكليف فيه، ويمتنع فيما فيه تكليف؛ حَذَرًا مِن تكليف ما لا يُطاق.

وهذا القول هو الراجح، وهو ما اقتصرتُ عليه في النَّظْم بِقولي:(وَالَّذِي المجمل مِنْ) إلى آخِره، أَيْ: هو المجمل، فحذف صدر الصلة من "الذي"؛ لِطولها وعدم صلاحية المذكور صلة.

ولو قُرئ: (وَالَّذِي أُجْمِلَ) لم يمتنع، وحينئذ فلا [يحتاج]

(1)

إلى هذا التقدير، بل تكون الصلة جملة فعلية، لكن التعبير الأول أصرح في ذِكر المسألة المقصودة.

ومعنى "زكن": عُلِم، وهو بالزاي المعجمة مِن: زكنتُ الشيء أزكنه (بالضم)، أيْ: عَلِمْتُه، والمراد أنَّ المكَلَّف به لا بُدَّ أنْ يَكون بيانه قد عُلِم، بخلاف غيره، والله أعلم.

ص:

228 -

وَالثَّالِثُ: "‌

‌الْإجْمَاعُ

" الِاتِّفَاقُ

مِنَ الَّذِينَ اجْتَهَدُوا وَفَاقُوا

229 -

مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ بَعْدَ مَوْتهِ

في أَيِّ عَصْرٍ كَانَ مَعْ ثبوتهِ

230 -

عَلَى الَّذِي رَأَوْا وَلَوْ في دنيَوِي

فَلَا اعْتِبَارَ بِعَوَامٍ تَلْتَوِي

الشرح: لَمَّا فرغ الكلام مِن الأصلين الأولين وهُما الكتاب والسُّنة، شرعتُ في بيان الثالث وهو"الإجماع"، ولم يخالِف في حُجِّيته وكوْنه مِن الأدلة إلا النَّظَّامُ وبعضُ الخوارج، وكذا الشيعة، فإنهم وإنْ سَلَّموا حُجيته فقدْ شرطوا فيه الإِمام المعصوم كما سيأتي، ففي الحقيقة الحجة في المعصوم، لا في الإجماع. وبالجملة فلا التفات إلى شيء مِن ذلك مع قيام

(1)

كذا في (ز، ش). وفي (ق): محوج. وفي هامش (ت): لعله "محوج". وفي سائر النُّسَخ: يجوز.

ص: 409

الأدلة، وسنشير إلى شيء منها.

و"الإجماع" لُغَةً: العزم، قال الله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام مِن الليل"

(1)

.

ويُطلق أيضًا لُغةً على الاتفاق، خلافًا لقوم كما حكاه القاضي عبد الوهاب، وجزم به إلْكِيا. فَعَلَى الصحيح يقال:"أجمعَ القوم" صاروا ذَوِي جمع. قال الفارسي: كما يقال: "ألبن وأتمر" صار ذا لبن وتمر.

وأَخْذُ الاصطلاحي مِن هذا واضحٌ، نقل مِن الأعَم للأخص، وأمَّا مِن الأول فاستُشكل بأنه [مُعَدًّى]

(2)

بِـ "عَلَى"، و"الإجماع" بمعنى العزم متعد بنفسه.

وأُجيبَ: بأنه يتعدى بِـ "عَلَى" أيضًا، وإنْ كان الأفصح تعديَهُ بنفسه كما قاله صاحب "المقاييس".

وأمَّا في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصرٍ مِن الأعصار على أيِّ أمرٍ كان مما اجتهدوا فيه ورأوه.

فَـ "الاتفاق" جنس، والمراد به الاشتراك في قول أو فعل قال على اعتقادهم ورأيهم، إثباتًا كان أو نفيًا.

وخرج بِـ "الاتفاق" قول المجتهد الواحد إذا لم يوجد سواه، فإنه لا يكون إجماعًا، [و]

(3)

سيأتي بيانه.

(1)

سنن أبي داود (2454)، سنن النسائي (رقم: 2336) وغيرهما، ولفظ النسائي: إلا صيام لمن لم يُجمِع قبل الفجر). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 2454).

(2)

في (ص): يُعَدَّى.

(3)

في (ز): كما.

ص: 410

وبِقَيْد "الاجتهاد"(وربما عُبِّر عن ذويه بِأهل الحل والعقد) خرج العوام.

وخرج بتعميم المجتهدين ما لو اتفق البعض دُون [الباقي]

(1)

، وسيأتي إيضاح ذلك في مسائل الاحتراز.

وأمَّا اشتراط كونهم مِن أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم فخرج به مجتهدو الأُمم السابقة، فلا يكون اتفاقهم إجماعًا ولا حُجة كما اقتضى كلام الإِمام ترجيحَه، وصرح به الآمدي هنا، ونقله الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" عن الأكثرين، خلافًا لِمَا رجحه الأستاذ أبو إسحاق وجمعٌ أنه كان حُجة قبل النَّسخ.

قلت: وهو ظاهر نَص الشافعي في "الأُم"، حيث قال في مناظرة في باب

(2)

.

وتوقف القاضي والآمدي في موضع آخر، وقال إمام الحرمين: إنْ كان سندهم قطعيًّا فحُجة، أو ظنيًّا فالوقف.

وللمسألة التفات على أصلين:

أحدهما: شَرْعُ مَن قَبْلنا هل هو شَرْع لنا؟

الثاني: أنَّ حجية الإجماع ثابتة بماذا؟

إنْ قُلنا: بالقرآن كما استدل به الشافعي رحمه الله استنباطًا مِن غير أنْ يُسْبَق إليه كما رواه البيهقي في "المدخل" في حكايته طويلة منها: أنه تلا القرآن ثلاث مرات حتى استخرجه مِن قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية، فإنه تعالى تَوعَّد على المخالفة لسبيلهم.

(1)

في (ز): البعض.

(2)

كذا في جميع النُّسخ سوى (من)، وفي (من): وهو ظاهر نص الشافعي في الأم.

ص: 411

وجرى على الاستدلال بذلك القاضي أبو بكر وغيره مِن الأصوليين.

ومنهم مَن يستدل له مِن القرآن بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].

أو قُلنا: بالسُّنة، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أُمَّتي على خطأ"

(1)

، وفي رواية:"على ضلالة"

(2)

. كذا في كتب الأصول، والمعروف في الحديث ما في سنن أبي داود عن أبي مالك الأشعري: "إنَّ الله أجاركم مِن ثلاث خِلالٍ، أنْ لا يدعو عليكم نبيكم فتهلِكُوا جميعًا، وأنْ لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا [تجتمعو]

(3)

على ضلالة"

(4)

. وسنده جيد، ورُوي مِن طُرق أخرى فيها ضعف، لكن يقوي بعضها بعضًا. فلا تدخل غير هذه الأُمة مِن الأمم في ذلك.

(1)

قال الحافظ ابن الملقن في (تذكرة المحتاج، ص 51): (هذا الحديث لم أره بهذا اللفظ).

(2)

سنن ابن ماجه (3950) بلفظ: (إن أُمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم). قال الألباني في (ضعيف ابن ماجه: 788): (ضعيف جدًا، دُون الجملة الأُولى، فهي صحيحة).

وفي سنن الترمذي (2167) بلفظ: (إن الله لا يجمع أُمتي -أو قال: أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ إلى النار). قال الألباني في "صحيح الترمذي: 2167): "صحيح دُون: "ومَن شذ").

(3)

كذا في (ظ، ص، ت)، وفي سائر النُّسخ: تجمعوا.

(4)

سنن أبي داود (4253)، المعجم الكبير للطبراني (3/ 292)، وغيرهما.

قال الألباني في (صحيح سنن أبي داود: 4253): (ضعيف، لكن الجملة الثالثة صحيحة).

وقال في السلسلة الصحيحة (1331): ("إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)

فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن). وانظر: السلسلة الضعيفة (1510).

ص: 412

وإنْ قُلنا: دليله أنه يستحيل في العادة اجتماع مِثل هذا العدد الكثير مِن العلماء المحقِّقين على قَطْعٍ في حُكم شرعي مِن غير اطِّلاعٍ على دليل قاطع، فوجب في كل إجماعٍ تقديرُ نَصٍّ قاطع فيه محكوم بتخطئة مخالفِه، كما استدل به ابن الحاجب وغيرُه- على ما فيه مِن التعقبات، فلا يختص ذلك بهذه الأُمة.

ثم لو سُلِّم أنه حُجة فالكلام في تعريف "الإجماع" الذي يُستدل به في شرعنا، وذاك إنْ وقع ولو قُلنا:(إنَّ شرعَهم شَرْعٌ لنا)، فمن أين يُعْرَف ويُنْقَل إلينا؟

وخرج بِقَيْد كوْنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما إذا كان في حياته، كما ذكره القاضي أبو بكر والأكثرون، منهم الإِمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب في أثناء أدلة الإجماع؛ لأنَّ قولهم دُونه لا يصح، وإنْ كان [معه]

(1)

فالحجة في قوله.

وقولنا: (في عصر) بيان لعدم اشتراط كل الأُمة إلى يوم القيامة، وإلا فمتى يُعْمَل به؟ وأنه لا يختص بعصر الصحابة، وأنه لا حاجة إلى انقراض المُجْمِعِين؛ لأنَّ وقت إجماعهم قد صَدُق عليه "عصر"، وكُل زمنٍ بعدَه فعصرٌ آخَر، إذِ المراد مِن "العصر" وقتٌ مِن الأوقات.

وقولنا: (على أَيِّ أمر كَانَ)، أيْ سواء أكان:

- شرعيًّا: كحل النكاح، وحُرمة قتل النفس بغير حق.

- أو لُغَويًّا: يكون الفاء للتعقيب.

ولا نزاع في هذين.

- أو عقليًّا: كحدث العالم. وخالف في هذه إمام الحرمين مطلقًا، وأبو إسحاق الشيرازي

(1)

في (ز، من): معهم. وتقدير الكلام: وإن كان قولهم مع قوله صلى الله عليه وسلم، فالحجة في قوله.

ص: 413

في كليات أصول الدين، قال: كحدث العالم وإثبات النبوة دُون جزئياته كجواز الرؤية.

- أو دنيويًّا: كالآراء والحروب وتدبير أمر الرعية، وفيه مذهبان مشهوران، الرجَّح منهما وجوب العمل فيه بالإجماع.

تنبيه:

دخل في قولي: (عَلَى الَّذِي رَأَوْا) القول والفعل.

وفيما إذا اتفق مجتهدو الأُمة على عمل -مِن غير قولٍ- خِلَافٌ في انعقاده إجماعًا:

فقيل (وهو الأرجح): ينعقد به، لعصمة الأُمة، فيكون كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا قطع الشيخ أبو إسحاق وغيرُه، وقال في "المنخول":(إنه المختار). وصرح به أيضًا صاحب "المعتمد"، وتبعه في "المحصول".

وقيل: لا، ونقله إمام الحرمين عن القاضي، بل كَوْن ذلك في وقت واحد ربما لا يتصور. نعم، الذي في "التقريب" إنما هو الجواز.

ثم قال إمام الحرمين: (إنَّ فِعلهم يحمل على الإباحة ما لم تَقُم قرينة دالة على الندب أو الوجوب). واستحسنه القرافي.

وفي المسألة قول رابع لابن السمعاني: (إنَّ كل فِعل خرج مخرج الحكم والبيان ينعقد به الإجماع، وما لا فلا، كما أنَّ الجبلِّي مِن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُثْبت تشريعًا)

(1)

.

وقد يتركب الإجماع (على القول الأول وهو الراجح) مِن قولٍ وفِعل، بأنْ يقول بعضهم:(هذا مباح)، ويُقْدِم الباقي على فِعله. قاله القاضي عبد الوهاب.

ومما يتفرع على المسألة أنَّ أهل الإجماع إذَا فعلوا فعلًا قُربة لكن لا يُعْلَم هل فعلوه واجبًا

(1)

قواطع الأدلة (2/ 12).

ص: 414

أو مندوبًا؟ فمقتضى قياس المذهب أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنا أمرنا باتباعهم كما أمرنا باتِّباعه.

واعْلَم أنَّ هذا التعريف إنما هو على المرجَّح في كثير مِن المسائل كما ستأتي الإشارة إلى شيء مِن ذلك.

وكذلك أشار ابن الحاجب إليه بقوله: (ومَن يرى انقراض العصر، زاد: "إلى انقراض العصر". ومَن يرى الإجماع لا ينعقد مع سَبْق خِلاف مستقر مِن حي أو ميت، يزيد: "لم يستقر خلافه")

(1)

. انتهى

أَيْ: وكذا مَن يرى عدم اختصاصه بهذه الأُمة، يُنقص هذا القيد. ومَن يرى دخول العوام، يُبدل "المجتهدين" بِـ "أَهْل العصر". ومَن يرى اختصاصه بالدِّينيات، يزيد "شَرْعًا"، وهو ظاهر لمن تَتَبَّعَه.

وقولي: (فَلَا اعْتِبَارَ بِعَوَامٍ تَلْتَوِي) تتمته قولي بعده:

ص:

231 -

عَنْ فَنِّ ذَاكَ الْحُكْمِ، كالْأُصُولي

في الْفِقْهِ، أَوْ عَكْسٍ لِذَا الْمَقُولِ

الشرح: المراد بالتواء العوام: مخالفتهم في الحكم الذي قد أجمع عليه خاصةُ أهل العلم. وهو من مادة "اللَّي"، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليُّ الواجد يُحِلُّ عرضَهُ وعقوبتَه"

(2)

. أَيْ: امتناعه من أداء الحق الذي عليه.

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 521).

(2)

سنن أبي داود (3628)، سنن ابن ماجه (2427)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 1434).

ص: 415

وحاصل المسألة أن مخالفة العوام للمجتهدين لا أثر لها. كما أنهم إذا أجمعوا على شيء، لا اعتبار بهم ولو خلا الزمان عن مجتهد حيث جَوَّزنا ذلك، وسيأتي ذلك في موضعه.

وعبَّر ابن الحاجب عن هذه المسألة بأن المقلِّد لا يُعتبر وفاقه

(1)

.

ولا يتقيد بذلك، بل العامِّي أَعَم [أنْ]

(2)

يَكون مُقَلِّدًا أوْ لا، فالتعبير به أَوْلَى؛ لشموله.

والقول باعتباره حكاه ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين، ونقله الإِمام وابن السمعاني والهندي عن القاضي، وكذا قال ابن الحاجب:(إنَّ ميل القاضي إلى اعتباره)

(3)

. أَيْ: المقلِّد.

لكن كلام إمام الحرمين في "مختصر التقريب" يقتضي أنَّ القاضي لا يَعتبِر خلافهم ولا وفاقهم.

قيل: والذي في "التقريب" تحرير الخلاف على وجه آخر:

- فإنَّ القائل بعدم اعتبار العامَّة قال: لقوله تعالى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"

(4)

، وقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. فَردَّ العوام إلى قول المجتهدين.

- والقائل باعتبارهم قال: إنَّ قول الأُمة إنما كان حُجة لعصمتها مِن الخطأ، فلا يمتنع أنْ تكون العصمة للهيئة الاجتماعية مِن الكل، فلا يَلزم ثبوتها للبعض.

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 521).

(2)

في (ز): من أن.

(3)

مختصر المنتهى (1/ 444)، الناشر: دار ابن حزم.

(4)

سنن أبي داود (رقم: 3641)، سنن ابن ماجه (223)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 3641).

ص: 416

فقال القاضي ما حاصله: إنَّ الخلاف يرجع إلى إطلاق الاسم، يعني أنَّ المجتهدين إذا أجمعوا، هل يَصْدُق أنَّ الأُمة أجمعت ويُحكم بدخول العوام فيهم تبعًا؟ أوْ لا؟

فعنده لا يصدق وإنْ كان ذلك لا يقدح في حُجيته، وهو خِلاف لفظي؛ لأنَّ مخالفتهم لا تقدح في الإجماع قَطعًا. وتبع القاضي كثير من المتأخرين على أنَّ الْخُلْف لَفْظي راجع إلى التسمية، لكن أبو الحسين في "المعتمد" نقل عن قوم أنَّ الإجماع لا يُحتج به إلا مع وفاق العامة.

وذكر الشيخ تقي الدين السبكي في شرح "منهاج الفقه" أنَّ الأستاذ أبا إسحاق خَرَّج على هذا الخلافِ الاختلافَ في تكفير مَن أَنكر مجمَعًا عليه غير معلوم مِن الدِّين بالضرورة، وستأتي المسألة.

وفي مسألة اعتبار العوام قول ثالث حكاه القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني أنه يعتبر في الإجماع على "عامٍّ"، وهو ما ليس [بمقصورٍ]

(1)

على العلماء وأهل النظر، كالعلم بوجود التحريم بالطلاق، وأن الحدث في الجملة ينقض الطهارة، وأن الحيض يمنع أداء الصلاة ووجوبها، بخلاف "الخاص"، كدقائق الفقه.

قيل: وبهذا التفصيل يزول الإشكال، وينبغي تنزيل إطلاق المطْلِقين عليه، وخَصَّ القاضي أبو بكر الخلاف بِـ "الخاص"، وقال: لا يُعتبر خلافهم في "العامِّ" اتفاقًا. وجرى عليه الروياني في "البحر".

وقولي: (كَالْأُصُولِي في الْفِقْهِ) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ مِن أمثلة مخالفة العامِّي ووفاقه العالم المجتهد في فن بالنسبة إلى مسألة في فن آخر، كالنحوي في الفقه، وعكسُه؛ لأنَّ قوله في ذلك بلا دليل استخرجه منه؛ لأنَّ الفَرْض عدم أهليته لذلك، وكالأصولي في مسألة من

(1)

في (ش): مقصورا.

ص: 417

الفروع وعكسه، أَيْ قول الفروعي في مسألة في الأصول، فَمَن لا يَعتبر العامي -لا وفاقًا ولا خلافا- لا يَعتبره هنا كذلك.

وإنما ذكرت هذا المثال في النَّظم (وهو الأصولي في الفروع وعكسه) لأنَّ فيه مذاهب:

أصحها: المنع؛ لِمَا سبق.

وثانيها: يُعتبر مطلقًا؛ لِمَا فيهما مِن الأهلية المناسبة للفَنَّيْن؛ لِتَلازُم الفَنَّيْن.

وثالثها: يُعتبر الأصولي في الفقه؛ لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد، دُون عكسه.

ورابعها: العكس؛ لأنه أَعْرَف بمواضع الاتفاق والاختلاف، والله أعلم.

ص:

232 -

وَالْمُجْمِعُونَ شَرْطُهُمْ إسْلَامُ

كَذَا عَدَالَة بِهَا احْتِرَامُ

233 -

إنْ جُعِلَتْ رُكْنًا في الِاجْتِهَادِ

كِنَّ ذَا رَأْيٌ بِلَا سَدَادِ

الشرح: هذا عطف على المرتب على تعريف "الإجماع" من المسائل، وهو أنَّ المجمِعين شرطُهم الإِسلام، فلا اعتبار بكافرٍ ولو انتهى إلى رُتبة الاجتهاد؛ لِمَا عُلِم من اختصاص الإجماع بأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيدخل في الكافر المبتدع إذا كَفَّرناه ببدعته؛ لأنه ليس مِن الأُمة المشهود لهم بالعصمة وإنْ لم يَعلم هو بكُفر نفسه، وهذا بلا خلاف.

نعم، قال الهندي:(لا ينبغي أنْ يكون تكفيره إنما هو بإجماعنا وحدَه؛ لئلا يَلزم الدَّوْر)

(1)

.

(1)

نهاية الوصول (6/ 2609).

ص: 418

بل إمَّا لموافقته [أو]

(1)

بقيام الأدلة على كُفره.

إنما الخلاف في المبتدع الذي لم نكفره ببدعته، ويُعرف الفرق بين النوعين مِن محله من أصول الدِّين.

فمَن لا نكفره ببدعته الأرجح فيه أنَّ الإجماع لا ينعقد بدونه؛ لأنه من الأُمة.

وقيل: لا يُعتبر مطلقا.

وقيل: يُعتبر قوله في حق نفسه فقط، بخلاف غيره، فَلَهُ مخالفة الإجماع المنعقد، وليس ذلك لِغَيْره. حكاه الآمدي وابن الحاجب، قال بعضهم: إنه لم يَرَه لغيرهما.

وهو في الحقيقة تفسير للقولين المتقدمَين لمن تأمَّل ذلك، فإنَّ مَن اعتبره مطلقًا لكونه مِن الأُمة فإنما هو في حق نفسه؛ لأنه عند نفسه مِن الأُمة، ومَن 11،

(2)

يعتبره مطلقًا فإنما هو لعدم اعتبار كوْنه مِن مجتهدي الأُمة، فيعدُّه عَدَمًا.

وقيل: يُفرق بين الداعية وغيرها. نقله ابن حزم عن جماهير سلفهم.

قلتُ: فما يوجد في كلام بعض الأئمة في بعض المبتدعة أنه لا اعتبار بهم -يحتمل أنْ يكون لاعتقاد كُفرهم وأنْ يكون لغير ذلك مِن المقتضِي لعدم اعتبار المبتدعة غير الكفرة مطلقًا أو في بعض الفنون.

فمِن ذلك قول الأستاذ أبي منصور: قال أهل السُّنة: لا يُعتبر في الإجماع وفاقُ القدرية والخوارج والرافضة، ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه وإن اعتُبِرَ في الكلام. هكذا روى أشهب عن مالك، وروي أيضًا عن الأوزاعي وعن محمَّد بن الحسن، وقال أبو ثور: إنه قول أئمة الحديث. انتهى

(1)

في (ض): الا أي. وفي (من): أي او.

(2)

في (ز): لا.

ص: 419

وقال الصيرفي: هل يقدح خِلاف الخوارج في الإجماع؟ فيه قولان.

ونحو ذلك، والله أعلم.

وقولي: (كَذَا عَدَالَةٌ بِهَا احْتِرَامُ) إلى آخِره -أَيْ: ومن شروط المجمِعين أيضًا العدالة، حتى لو خالَف فاسقٌ، لا أثر لمخالفته على أحد وجهين حكاهما الأستاذ أبو منصور، وإليه ذهب معظم الأصوليين كما قاله إمام الحرمين وابن السمعاني. وقال الرازي من الحنفية: إنه الصحيح عندنا.

قال ابن برهان: (وهو قول كافة الفقهاء والمتكلمين، ونُقل عن شرذمة مِن المتكلمين -منهم إمام الحرمين- الذهابُ إلى أنَّ خلافَه مُعْتَدٌّ به). انتهى

وقد جزم بهذا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، واختاره الغزالي في "المنخول"؛ لأن المعصية في الفعل دُون الاعتقاد لا تُزِيل اسم الإيمان.

وقولي: (إنْ جُعِلَتْ رُكْنًا في الِاجْتِهَادِ) إشارة إلى أن اشتراط العدالة مُرَتب على اشتراطها في أصل الاجتهاد. فإنْ جُعلت ركنًا في الاجتهاد، كانت شرطًا في المجمِعين، وإلا فلا. لكن القول بركنيتها في الاجتهاد ضعيف غير سديد، والأكثرون على خِلافه، فيقوى ترجيح اعتباره مطلقًا بذلك.

وثالثها في مسألة الإجماع: تعتبر مخالفته في حق نفسه دُون غيره، واختاره إمام الحرمين، فهو مُقَيِّد لمن نقل عنه إطلاق اعتباره كما سبق.

ورابعها: إنْ بَيَّنَ مَأْخَذه، اعْتُبِر، وإلَّا فلا. قال ابن السمعاني: ولا بأس به. قال: وهذا كله في الفاسق بلا تأويل، أمَّا الفاسق بتأويل فمُعتبَر في الإجماع كالعدل. قال:(وقد نَصَّ الشافعي على قبول شهادة أهل الأهواء)

(1)

. انتهى

(1)

قواطع الأدلة (1/ 482).

ص: 420

على أنَّ بعضهم علَّل عدم اعتبار الفاسق في الإجماع بأنَّ إخباره عن نفسه لا يوثق به، فربما أخبر بالوفاق وهو مخالِف، وبالعكس؛ فلَمَّا تَعَذَّر الوصول إلى معرفة قوله، سقط اعتباره، وحينئذ فلا يُبنى على اعتبار العدالة في الاجتهاد، بل يمنع ولو قُلنا بأنها ليست ركنًا في الاجتهاد. لكن الذي قاله ابن برهان وغيره البناء كما سبق، وأيضًا فقدْ يُتوصل إلى معرفة اعتقاده بقرائن تنضم إلى إخباره، لا مجرد إخباره، والله أعلم.

ص:

234 -

وَلَيْسَ شرْطًا عَدَدُ التَّوَاتُرِ

لَا وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَاصِرِ

الشرح: أَيْ: وعُلم مما تقدم مِن كوْن الإجماع اتفاق مجتهدي الأُمة أنه لا يشترط بلوغهم عدد التواتر الآتي بيانه في موضعه. هذا قول الأكثر، ونقله ابن برهان عن معظم العلماء. ونقل مقابِله الذي قال به القاضي أبو بكر (وهو أنَّ إجماع ما دُون عدد التواتر لا ينعقد عقلاً) عن طوائف مِن المتكلمين.

ومعنى قولهم: (عَقْلًا) أنهم إذا لم يبلغوا عدد التواتر، لا يمتنع عقلاً تواطؤهم على الخطأ، لكن هذا إنما هو تفريع على أنَّ حجية الإجماع عِلَّتُها ذلك، وقد سبق أنَّ المعتمد إنما هو القرآن والسُّنة.

وممن اختار عدم الحجية فيما لم يَنتهِ إلى عدد التواتر أيضًا إمام الحرمين، فإنه لَمَّا نقل عن بعض الأصوليين أنه لا يجوز أنْ ينحط علماء الأُمة في عصر عن أقَل عدد التواتر وأنَّ الأستاذ أبا إسحاق قال:"يجوز، ويكون حُجة حتى في الواحد"، قال:(والذي نرتضيه -وهو الحق - أنه يجوز انحطاط العلماء عن عدد التواتر، بل يجوز شغور الزمان عن العلماء)

(1)

.

(1)

البرهان (1/ 443).

ص: 421

قال: (وأما القول بأنَّ إجماع المنحطين عن مَبْلَغ التواتر حُجة فهو غير مَرْضِي؛ فإنَّ مأخذ الإجماع مستند إلى طرد العادة)

(1)

.

فوافق أبا إسحاق على إحدى المسألتين وهي انحطاط علماء عصر عن التواتر، وخالفه في الأخرى -وهي كَوْن إجماعهم حُجة- مِن أجل أنَّ مَنْشَأ حُجية الإجماع عنده العادة، أمَّا إذا قُلنا:"منشأه الآيات والأحاديث" -وهو الصحيح كما سبق- فالحق خِلاف ما قاله.

نعم، قول أبي إسحاق:(إنَّ الواحد حُجة) المختار خلافه وإنْ عزاه الهندي للأكثرين؛ لعدم صِدق كوْنه إجماع الأُمة.

وقال أبو إسحاق: قد يُطْلق على الواحد "أُمَّة" كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].

وقال ابن سريج في كتاب "الودائع": (حقيقة الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق مِن واحد فهو إجماع، وقد طالب أبو بكر الصديق رضي الله عنه بني حنيفة بالزكاة لَمَّا منعوها وَحْدَه، ثم وافقه الكل بَعد ذلك على أنه حق). انتهى

ولا حُجة في الأمرين:

- أمَّا تسمية إبراهيم عليه السلام "أُمة" فمجاز، باعتبار أنه المقصود مِن "أمَّ" إذًا قصد، وهو غيْر المعنى المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أُمتي على ضلالة".

- وأمَّا الثاني: فلمَّا وافق كُل الصحابة أبا بكر في ذلك، كان إجماعًا مِن الكل، لا مِن أبي بكر وحْده.

ومنهم مَن يجعله حُجة ولا يسميه إجماعًا؛ لِمَا بَيَّناه.

(1)

المرجع السابق.

ص: 422

وقال الغزالي: (إنِ اعتبرنا العوام ووافقوه فهو إجماع الأُمة؛ فيكون حُجة، وإلا فلا)

(1)

. والله أعلم.

ص:

235 -

وَالشَّرْطُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُخَالَفَهْ

مِنْ بَعْضِهِمْ، كَوَاحِدٍ قَدْ خَالَفَهْ

الشرح: أَيْ: وعُلِم مِن تعميم "الأُمة" أنه لو تأخر بعضهم عن قول الأكثر (أَيْ خالفهم) لا يَكون قول الأكثر إجماعًا ولا حُجة، وهو الصحيح من المذاهب، وقول الجمهور.

الثاني: أنه حُجة، لا إجماع. ورجحه ابن الحاجب فقال:(لو نَدَرَ المخالِفُ مع كثرة المُجْمِعين، لم يكن إجماعًا قَطْعًا، والظاهر أنه حُجة؛ لِبُعْد أنْ يَكون الراجح مُتَمَسَّك المخالِف). انتهى

وهو مبني على أن حجية الإجماع لاستحالة العادة، وقد سبق ضعفه.

ونحوه قول الهندي: (الظاهر أنَّ مَن قال: "إنه إجماع" فإنما يجعله إجماعًا ظنيًّا، لا قطعيًّا)

(2)

.

والثالث: أنه إجماع وحُجة. نُقل عن بعض المعتزلة، ونقله الآمدي عن محمَّد بن جرير الطبري، وإليه يميل كلام الشيخ أبي محمَّد الجويني في "المحيط"، ونقله الرُّوياني في "البحر" عن أحمد.

الرابع: لا إجماع ولا. حُجة، ولكن الأَوْلى اتِّباع الأكثر وإنْ كان لا يَحْرُم مخالفتهم.

ولا يَخفَى ضَعف هذه الزيادة؛ لأنه إنِ انتهض قول الأكثر دليلاً، وَجَب العملُ وإلَّا

(1)

المستصفى (1/ 143).

(2)

نهاية الوصول (6/ 2616).

ص: 423

فلا اعتبار به أصلًا.

والخامس: إنْ كان المخالِفُ واحدًا فهو نادرٌ لا اعتبار به، أو اثنان فصاعدًا لم ينعقد الإجماع بدونه أو دونهم.

وإليه أَشَرْتُ بِقولي: في النَّظْم: (كَوَاحِدٍ قَدْ خَالَفَهْ). أَيْ: خالف الحكْم الذي قال به الكل غَيْره.

والسادس: مخالفة الواحد والاثنين لا تُعتبر، وتُعتبر الثلاثة فصاعدًا.

السادس: إنْ بلغ المخالفُ عددَ التواتر، قدح وإلَّا فلا. حكاه الآمدي، وفي "مختصر التقريب": إنه الذي يصح عن ابن جرير.

والثامن: إنْ سَوَّغَ الأكثرُ للمخالِف أنْ يجتهد، اعْتُدَّ بخلافه، كابن عباس في العول. وإنْ أنكروا عليه، فلا، كالمتعة ورِبَا الفضل المنقولين عن ابن عباس؛ ولذلك رجع عنهما. وإلى هذا التفصيل ذهب الجرجاني من الحنفية، وحكاه السرخسي عن أبي بكر الرازي.

التاسع: أنَّ مخالفة الأقل إنْ دَفَعها نَصٌّ، لم تُعتبر، كخلاف ابن مسعود بقيَّة الصحابة في إثبات الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وإلَّا اعتُبر. وجزم بهذا التفصيل الروياني في "البحر" في كتاب القضاء، وهو قريب مما قبْله.

والعاشر: أنه يقدح مخالفةُ القليل في أصول الدِّين دُون غيْره مِن العلوم. حكاه القرافي عن ابن الأخْشيد من المعتزلة.

والحادي عشر: لا يعتبر خِلاف تابعي مع الصحابة، وأمَّا في غير هذه الصورة فيقدح مخالفة الأقل.

والثاني عشر: التفصيل بين أنْ ينشأ المخالف معهم ويخالفهم، أو ينشأ بعدهم.

ويتولد مِن المسائل الآتية مذاهب أخرى لمن تأملها، والله أعلم.

ص: 424

ص:

236 -

نَعَمْ، سُكُوتُ الْبَعْضِ عَمَّنْ صَرَّحَا

مِنْ غَير دَاعٍ حُجَّةٌ، وَيُنتحَى

237 -

تَسْمِيَةٌ لَهُ إِذَنْ "إجماعَا"

وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ الِامْتِنَاعَا

الشرح: هذا استدراك لِمَا تَقرر في المسألة السابقة -على المُرَجَّح- أنَّ تَخلُّف بعض مجتهدي الأُمة ينفي كَوْن قول الباقين إجماعا وحُجة، فيقال: إنَّ ذاك فيما إذا صرح مَن لَمْ يَقُل به بالمخالفة. أمَّا إذا سكتوا ولم يصرحوا بموافقة ولا مخالفة فهو المُعَبَّر عنه بِ "الإجماع السكوتي"، وفيه مذاهب:

أرْجَحُها: إنه حُجة (بالشرائط الآتية) وإجماع أيضًا (على المختار)، وهو معنى قولي:(وُينتحَى تَسْمِيَةٌ لَهُ إِذَنْ إجْمَاعًا). أيْ: يُخْتار ذلك ويُعتمد.

قال الجوهري بَعد أنْ قرر أنَّ أصلَ "الانتحاءِ" الاعتمادُ في السير على الجانب الأيسر: (إنه صار "الانتحاء" الاعتماد في كل وجه)

(1)

. انتهى

وإنما كان ذلك حُجة لأنَّ سكوت الساكت تقرير يُشعر بالموافقة، وإلَّا لَأنكر ذلك، وهو مستمَدٌ مِن مسألة سكوته صلى الله عليه وسلم على فِعل أحدٍ بِلا داعٍ كما تَقدم، فإنه سُنة بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: إنَّ ذلك الفعل جائز.

وأمَّا كوْنه إجماعًا فإنه لو لم يَكُن كذلك لم يكن حُجة؛ لأنَّ حُجية قول غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممتنعة إلَّا أنْ يكون إجماعًا، لِمَا قام الدليل به.

نعم، المرجَّح حينئذ أنه إجماع ظني، لا قطعي. وإنما لم أصرح بذلك في النَّظم لوضوحه؛ لأنَّ القطع -مع قيام الاحتمال في السكوت- لا يمكن.

(1)

الصحاح تاج اللغة (6/ 2503).

ص: 425

وقد نَصَّ الشافعي رحمه الله على ما قُلناه في الإجماع السكوتي -كما نقله الأستاذ أبو إسحاق- مِن أنَّ قول الواحد إذا انتشر فإجماع لا يجوز مخالفته.

وقال الرافعي في كتاب "القضاء": (المشهور عند الأصحاب أنه حُجة؛ لأنهم لو لم يساعدوه لاعترضوا عليه. وهل هو إجماع؟ فيه وجهان)

(1)

. انتهى

وقال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع": (إنه إجماعٌ على المذهب)

(2)

.

وكذا قاله أبو حامد أول تعليقه، ونقله في "البحر"عن الأكثرين.

وفي "شرح الوسيط" للنووي: الصواب من مذهب الشافعي أنه حجة وإجماع.

قال: وهو موجود في كُتب أصحابنا العراقيين. ويشهد له أيضًا أن الشافعي احتج في كتاب "الرسالة" به [لخبر]

(3)

الواحد.

وقال الباجي: (إنه قول أكثر أصحابنا المالكيين والقاضي أبي الطيب وشيخنا أبي إسحاق وأكثر أصحاب الشافعي)

(4)

. انتهى

وقال ابن برهان: (إليه ذهب كافة أهل العلم).

والقول الثاني: إنه حجة، لكن ليس بإجماع، وهو أحد الوجهين عندنا كما سبق، ونقله في "المعتمد" عن أبي هاشم، ونقله الشيخ في "اللمع" وابن برهان عن الصيرفي، واختاره الآمدي ووافقه ابن الحاجب في "مختصره" الكبير، وتردد في الصغير.

ويخرج من كونه قطعيًّا أو ظنيًّا (سواء قُلنا: إجماع، أوْ: لا):

(1)

العزيز شرح الوجيز (12/ 475).

(2)

اللمع (ص 90)، شرح اللمع (2/ 742).

(3)

كذا في (ض، ظ، ص، ش). لكن في (ز): بخبر. وفي (ت، ق): كخبر.

(4)

إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 480).

ص: 426

قول ثالث ورابع: إنه إجماع قطعي، أو حُجة قطعية.

والقول الخامس: إنه ليس لإجماع ولا حجة؛ لاحتمال تَوقُّف الساكت أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد. وحكاه القاضي أبو بكر عن الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقواله. وإمامُ الحرمين، وقال:(إنه ظاهر المذهب؛ إذ قال الشافعي: لا يُنْسَب إلى ساكت قول. وهي من عباراته الرشيقة)

(1)

.

وقال الغزالي في "المنخول": (إنه نَص عليه في الجديد)

(2)

.

وذكر غيره أنَّ الشافعي نَص على ذلك في "الرسالة" في قوله: (إنَّ أبا بكر قسم فسوى بين الحر والعبد، ولم يُفضل، فقسم عُمَرُ فألقى العبيد، ثم قسم عَلي رضي الله عنه). إلى أنْ قال: (فلا يُقال لِشيء مِن هذا: "إجماع". ولكن يُنْسَب إلى أبي بكر فِعله، وإلى عُمَر فِعله، وإلى عَلي فِعله، ولا يُقال لغيرهم ممن أخذ منهم [موافقة ولا مخالفة]

(3)

. ولا يُنْسَب إلى ساكت قول)

(4)

. انتهى

وقد حمل المحققون هذا المنقول عن الشافعي على نَفْي الإجماع القطعي وأنه لا ينفي أنه إجماع ظني، ويكون معنى قوله:"لا يُنسب إلى ساكتٍ قول" أَيْ: صريح، لا نَفْي الموافقة التي هي أَعَم من التصريح، كما يقول في سكوت البكر عند الاستئذان: إنه إذْن. ولا [يُسميه]

(5)

قولًا، وكذا الولي إذا سكت عند الحاكم عن التزويج، يُسمَّى "عضلًا"، ولا

(1)

البرهان (1/ 448).

(2)

المنخول (ص 318).

(3)

كذا في جميع النُّسَخ، ولفظ الشافعي في (اختلاف الحديث، ص 505): موافق لهم ولا مخالف.

(4)

اختلاف الحديث (ص 505).

(5)

كذا في (ص، ظ). لكن في (ز، ق، من، ت): نسميه.

ص: 427

يُسَمَّى "قولًا" بالامتناع. وسبق في تقريره صلى الله عليه وسلم أنه يُسمى سُنة تقريرية، ولا يُسمى قولًا. ولو أتلف إنسان مال غيره وهو ساكت، [يضمن]

(1)

المتلف؛ لأنه لم يأذن صريحًا. ولو سكت أحد المتناظرين عن الجواب، لا يُعَدُّ انقطاعًا إلا بإقراره أو قرينة حاليَّة ظاهرة، ونحو ذلك. وفروع الفقه في ذلك كثيرة مختلفة الحكم؛ لاختلاف المدارك كما هو مبين في موضعه.

ومن هنا نشأ الخلاف في كونه [هل]

(2)

يُسمى "إجماعًا"؛ للموافقة؟ أوْ لا؛ لِعَدم التصريح؟ كما حكى ذلك الأستاذ أبو إسحاق والبندنيجي في "الذخيرة" وصرَّحَا بأنَّ الخلاف لفظي.

وعبارة الروياني في "البحر": هو حجة مقطوع بها، وهل يكون إجماعا؟ فيه قولان، وقيل: وجهان. الأكثر ون أنه إجماع، والثاني: المنع.

قال: (وهو خلاف راجع للاسم؛ لأنه لا خلاف أنه إجماع يجب اتِّباعه، وتحرم مخالفته قطعًا). انتهى

وفيه نظر؛ لِما سبق ويأتي مِن بقية المذاهب.

واعْلم أن ابن التلمساني وغيره نزَّلوا نَصَّي الشافعي على حالين باعتبار إجماع الصحابة دون غيرهم، أو باعتبار ما تعم البلوى به (كخبر الواحد والقياس) دُون غيره، أوْ لا. وكلاهما لا يساعد عليه النص الذي ذكرناه في قسم أبي بكر وعمَر وعِلي رضي الله عنهم، فإنه لم يجعله إجماعًا مع أنه في الصحابة وفيما تعم به البلوى.

القول السادس: إنه إجماع بشرط انقراض العصر. وبه قال البندنيجي من أصحابنا، وفي "اللمع" للشيخ أبي إسحاق أنه المذهب.

(1)

في (ز): ضمن.

(2)

ليس في (ز، ص).

ص: 428

السابع: إنه إجماع إنْ كان فُتيَا لا حُكمًا. وهو قول ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب. لكن في "المحصول" عنه أنه إنْ كان مِن حاكم.

وبينهما فرْق؛ لاحتمال أنْ يكون فُتيا مِن حاكم، لا حُكمًا، وهو ما نقله عنه الروياني في "البحر" وابن بَرهان في "الأوسط".

الثامن: عكسه. قاله أبو إسحاق المروزي؛ لأن الأغلب [من الحاكم]

(1)

أنْ يكون عن مشاورة. ووقع في "النهاية" للهندي

(2)

نقله عن الأستاذ أبي إسحاق، وهو وَهْم؛ فإنَّ ابن القطان قد حكاه عن أبي إسحاق والصيرفي، وابن القطان أقْدَم مِن أبي إسحاق الإسفرايني.

التاسع: إنْ كان في شيء يفوت تداركه (كإراقة دم أو استباحة فرج)، كان إجماعًا وإلا فلا. حكاه ابن السمعاني.

العاشر: إنْ كان بها عصر الصحابة، كان إجماعًا، وإلا فلا. حكاه الماوردي والروياني في "البحر".

الحادى عشر: إنْ كان الساكتون أقل، كان إجماعًا، وإلا فلا. حكاه السرخسي من الحنفية

(3)

.

الثاني عشر: إنْ كان ذلك مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه، يكون السكوتي فيه إجماعًا. وهو ما اختاره إمام الحرمين في آخر المسألة.

الثالث عشر: أنه يحتج به إما لكونه إجماعًا قطعيًّا أو حجة ظنية. وهو مختار ابن الحاجب

(1)

في (ت، ق): في الحكم.

(2)

نهاية الوصول (6/ 2568).

(3)

أصول السرخسي (1/ 303).

ص: 429

في "مختصره" الصغير كما سبق نقله عنه، ولكنه في الحقيقة هو القول بأنه حُجة مع التردد في تسميته إجماعًا أوْ لا.

وفي كيفية الخلاف طُرق كثيرة في بيان محله ومحل القطع يَطُول ذِكرها، ولا فائدة فيه.

وقولي: (مِنْ غَير دَاعٍ) إشارة إلى أنَّ حجية الإجماع السكوتي -عند مَن يراه- يشترط فيه أمور تدخل كلها تحت انتفاء الداعي عن السكوت مِن غير موافقة:

منها: كوْن ذلك في المسائل التكليفية، وأنْ يكون في محل الاجتهاد، وأنْ يطَّلعوا على ذلك، وأن لا يكون هناك أمارة سخط وإنْ أيصرحوا به، وأنْ يمضي قَدْر مَهْل النظر عادة في تلك الحالة، وأنْ لا ينكر ذلك مع طول الزمان.

فخرج ما ليس من مسائل التكليف، نحو قول القائل:"عمار أفضل من حذيفة" أو بالعكس، لا يدل السكوت فيه على شيء؛ إذْ لا تكليف على الناس فيه. وما إذا كان القائل مخالفًا للثابت القطعي، فالسكوت عنه ليس دليلًا على موافقته.

وخرج أيضًا ما لم يطَّلع عليه الساكتون؛ فإنه لا يكون حجة قطعًا، والمراد القطع باطِّلاعهم أو غلبة الظن بذلك؛ لانتشاره وشهرته- كما صرح به الأستاذ نقلًا عن مذهب الشافعي واختيارًا له. أمَّا إنِ احتمل واحتمل، فلا- كما نقله ابن الحاجب عن الأكثر، ومقابِله قول: إنه حُجة.

وقال الإِمام الرازي وأتباعه: إنَّ القول إنْ كان فيما تعم به البلوى (كنقض الوضوء بمس الذكر) فهو حجة، وإلا فلا

(1)

. لكن صوّر ذلك في عصر الصحابة بناءً على أنَّ قول الصحابي حُجة كما صوَّر به الإِمام وغيره هذه المسألة، وإلا فلا، فبعض الأُمة مِن غير موافقة الباقين لا يُتصور القول بكونه حُجة. وقد علمت أن هذا التفصيل قول في أصل المسألة كما بيناه.

(1)

انظر: المحصول (4/ 159).

ص: 430

وخرج أيضًا ما إذا كان هناك أمارة سُخطٍ؛ فإنه ليس بحجة بلا خلاف، كما أنه إذا كان معه أمارة رضًى، يكون إجماعًا بلا خلاف -كما قاله الروياني والقاضي عبد الوهاب المالكي. نعم كلام الإمام الرازي كالصريح في جريان الخلاف فيما ظهر فيه أمارة السخط.

وخرج ما إذا لم يمض مدة النظر، وذلك لاحتمال أنَّ الساكت كان في مهلة النظر.

ومن شروط محل الخلاف أيضًا أن لا يطول الزمان مع [تكرر]

(1)

الواقعة. فإنْ كان كذلك فهو محل الخلاف السابق كما هو مقتضى كلام إمام الحرمين، وصرح به ابن التلمساني.

وأنْ يكون قبل استقرار المذاهب، فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوتي قطعًا، كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون لِلْعِلم بمذهبهم ومذهبه، كشافعي يقضي بنقض الوضوء بمس الذكر، فلا يدل سكوت مَن يخالفه (كالحنفية) على موافقته. قاله إلْكِيا وغيرُه.

تنبيه:

ينبغي أنْ يدخل في المسألة ما إذا فَعل بعضُ أهل الإجماع فِعلًا ولم يصدر منهم قول وسكت الباقون عليه، أنْ يكون هذا إجماعًا سكوتيًّا؛ بناءً على ما سبق مِن المرجَّح في أصل الإجماع أنه لا فرْق بين القول والفعل، بل يتولد من ذلك أنَّ الفاعل لو كان غير أهل الإجماع واطَّلع عليه أهل الإجماع ولم ينكروا عليه ولا داعي لعدم إنكارهم، أنْ يكون ذلك حجة؛ لأن تقريرهم كتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم شخصًا على فعلٍ، كما أوضحناه.

وإنما أَطَلْتُ في هذه المسألة بالنسبة إلى هذا المختصر لأنها مِن أُمهات الأصول، ومن المحتاج لإيضاحه، والله أعلم.

قولي: (وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ لِامْتِنَاعَا) وبعده:

(1)

في (ز، ق): تكرار.

ص: 431

ص:

238 -

في الِاكْتِفَا بِمُجْمَعِ الشَيْخَيْنِ

أَوْ بِالْخَلِيفَتين مَعْ [هَذَيْنِ]

(1)

الشرح: إلى آخِر الفصل بيان لكون المسائل التي ليس فيها إجماع كل الأُمة ليست بحجة، أيْ: ومن حيث إنَّ اعتبار جميع مجتهدي الأُمة في عصر (صريحًا أو تقديرًا) هو الراجح يُعْرَف امتناع ما ادُّعِي أنه إجماع في مسائل ولم يُجْمِع فيها إلا بعض الأُمة مع مخالفة غيرهم.

منها: إجماع الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، زعم بعضهم أنه حُجة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين مِن بعدي، أبي بكر وعمر"

(2)

. رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال:"حسن"، وابن حبان في صحيحه، ولكن له طُرق في بعضها ضعف، يُقَوِّي بعضُها بعضًا.

فقولي: (بِمُجْمَعِ الشَّيْخَيْنِ) أيْ: باجتماعهما، فإنهما إذًا اجتمعا في حُكم قد تَوافقَا عليه دُون غيرهما أو مع موافقة بعض الأمة لهما، صدق أنه [بإجماعهما]

(3)

.

ومنها: إجماع الخليفتين الآخَرَيْن اللذين هما عثمان وعلي رضي الله عنهما مع الشيخين؛ فيصير إجماعًا من الأربعة رضي الله عنهم.

قال أبو خازم (بالخاء المعجمة والزاي، مِن الحنفية): إنه حُجة، وحكم بذلك في زمان المعتضد في توريث ذوي الأرحام.

(1)

في (ض): هاتين.

(2)

سنن الترمذي (رقم: 3662)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 4451) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 3662).

(3)

كذا في (ز، من). لكن في (ص، ق، ظ): باجتماعهما.

ص: 432

ولَمَّا رَدَّ عليه أبو سعيد البردعي باختلاف الصحابة رضي الله عنهم، قال: العمل [لقول]

(1)

الخلفاء الأربعة.

وحكى موفق الدين الحنبلي في "الروضة" رواية عن أحمد بمثل ذلك.

نعم، لا يَلْزم منه ولا من احتجاج أبي خازم أنْ يكون إجماعًا، بل حُجة فقط؛ وحينئذ فلا معنى لتخصيص أبي خازم. وكونه إحدى رِوايتي أحمد [فإنه منقول]

(2)

قولًا للشافعي، فقد قال ابن كج في كتابه: إذا اختلفت الصحابة رضي الله عنهم على قولين وكانت الخلفاء الأربعة مع أحد الفريقين، قال الشافعي في موضع:"يُصار إلى قولهم"، وفي موضع:"لا، بل يطلب دلالة سواهما".

ثم ظاهر كلام أبي بكر الرازي يدل على أنَّ أبا خازم إنما بناه على أنَّ خِلاف الواحد والاثنين لا يقدح في الإجماع، لكن كثير من الأصوليين يذكر أن مستنده قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بِسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ"

(3)

.

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الترمذي، والحاكم في "المستدرك" وقال: على شرطهما.

والمراد بالخلفاء هُم الأربعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة مِن بعدي ثلاثون سَنة، ثم تفسير ملكًا عَضُوضًا"

(4)

. وهو حديث سعيد بن جُمْهَان (بضم الجيم وسكون الميم وفتح الهاء) عن

(1)

في (ت، ق): بقول.

(2)

في (ز): أن يكون ذلك.

(3)

مسند أحمد (17185)، سنن أبي داود (رقم: 4607)، سنن الترمذي (2676)، سنن ابن ماجه (42)، مستدرك الحاكم (332). قال الألباني: صحيح. "صحيح سنن أبي داود: 4607).

(4)

مسند الإِمام أحمد (رقم: 18430).

ص: 433

سفينة، رواه أبو داود بلفظ:"خلافة النبوة ثلاثون سَنة، ثم يُؤتي الله الملك مَن يشاء"

(1)

. قال سعيد: (أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وعَليّ كذا، يعني البقية). الحديث. وأخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي:(حسن، لا نعرفه إلا من حديث سعيد). انتهى. وسعيد وثَّقه يحيى بن معين وأبو داود وغيرهما.

ثم المراد بِسَنَتي أبي بكر كونهما كاملتين، وكذا في عُمَر عَلَى الاختلاف في تحرير مدة خلافاتهم، والحسن بن علي رضي الله عنهما وإنْ كانت مدة خلافته ستة أشهر ليكمل الثلاثين، لكن لَمَّا لم تتسع مُدته حتى تظهر أقواله وموافقته أو مخالفته، لم يجمعه أبو خازم ومَن قال بِقوله مع الأربعة.

قلتُ: وهذا لا يخلص في الجواب؛ فإن المراد اتفاقهم في أي وقت كان صدق اجتماعهم، لا قول كل واحد واحد في زمن خلافته، وسيأتي في موت الأقوال بموت أصحابها خِلاف، فتأمَّلْه.

ولنا:

- أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما خالف جميع الصحابة في خَمس مسائل في الفرائض انفرد بها، وابن مسعود بأربع، وغيرهما بغير ذلك، ولم يحتج عليهم أحد بإجماع الأربعة.

- وأنه لا حجة لأبي خازم في الحديث السابق، لمعارضته لحديث:"أصحابي كالنجوم"

(2)

، لكن هذا ضعيف، وبتقدير صحته فلا معارضة، فإنَّ المراد منه أن المقلد يتخير فيهم، لا أنَّ قول كلٍّ حُجة.

(1)

سنن أبي داود (رقم: 4647). قال الألباني: حسن صحيح. "صحيح سنن أبي داود: 4647).

(2)

رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم، 2/ 78)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى 2/ 564)، وقال الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 58): (موضوع).

ص: 434

وأما حديث: "عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء"

(1)

فسياقه فيما يكون حجة من حُجَج الشرع، وإنما الجواب أنَّ المراد أنْ لا يبتدع الإنسان بما لم يكن في السُّنة، ولا فيما عليه الصحابة في زمان الخلفاء الأربعة؛ لِقُرْب عهْدهم بتلقِّي الشرع.

فائدة:

في "الرونق" للشيخ أبي حامد أنه إذا عقد الخلفاء الأربعة عقدًا أو حموا حمًى، يلزم ولا ينقض- على أصح قولَي الشافعي، وسبقه إليه ابن القاص في تلخيصه في باب "الإحياء"، واستغربه السنجي في شرحه، وقال: يشبه أن يكون تفريعًا على القديم في تقليد الصحابي، وأما على الجديد فلا فرق، والله أعلم.

ص

239 -

كذَا بِأَهْلِ الْبَيْتِ، أَعْنِي فَاطِمَهْ

وَبَعْلَهَا وَنَجْلَهَا، كُنْ عَالِمَهْ

الشرح: أي: ومن ذلك أيضًا قول الشيعة، والمراد بهم مَن يُنسب إلى حُب عَلي رضي الله عنه ويزعم أنه مِن شيعته، وقد كان في الأصل لقبًا للذين ألفوه في حياته كسلمان وأبي ذر والمقداد، وعمار وغيرهم، ثم صار لقبًا بعد ذلك على مَن يَرى بتفضيله وبأمور أخرى قالوا بها لا يرضاها عَلِي كرم الله وجهه أبدًا، وتفرقوا كثيرا من رافضة وزيدية وغيرهم، وهؤلاء هم المراد عند إطلاق الأصوليين وغيرهم "الشيعة".

فمن أقوالهم الفاسدة هذه المسألة، وهي أن الإجماع يُكْتَفى فيه بانفراد أهل البيت، وهُم: فاطمة رضي الله عنها، وكذا عِلي، ونجل فاطمة مِن عَلي وهو الحسن والحسين رضي الله عنه م- أجمعين.

احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}

(1)

سبق تخريجه.

ص: 435

[الأحزاب: 33] الآية، فنفى عنهم الرجس، والخطأ من جملة الرجس. وفي الترمذي:"لَمَّا نزلتْ لَفَّ صلى الله عليه وسلم كساءً عليهم، وقال: هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم أذهِب عنهم الرجس وطَهِّرهم تطهيرًا"

(1)

. وفي "مسلم": "إني تارِكٌ فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضِلوا، كتاب الله وعترتي"

(2)

. وجواب ذلك ظاهر مشهور.

وربما قالت الشيعة: "إنَّ أهل البيت عليٌّ وَحْدَه" كما نقله الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع"؛ ولأجْل ذلك فَسَّرْتُ أهلَ البيت في النَظْم؛ لضعف هذه المقالة، والله أعلم.

ص:

240 -

كذَاكَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَكذَا

بِكُوفَةٍ مَعْ بَصْرَةٍ، بَلِ انْبِذَا

الشرح: أيْ: ومن ذلك أيضًا إجماع أهل الحرمين (مكة والمدينة) مع مخالفة غيرهم -ليس بحجة؛ لأنهم ليسوا كل الأُمة، خلافًا لمن زعم ذلك من الأصوليين.

وكذا إجماع أهل المصرين (الكوفة والبصرة) زعم قوم أنه حُجة، والصحيح في المسألتين خلاف ذلك، وأنه لا أثر للبقاع وإنْ شَرُفَتْ، مع أنَّ مَن حَوَتْهُ ليس كل الأُمة الذي جُعِلَت الحجة في قولهم.

قال القاضي أبو بكر: (وإنما صار مَن صار إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الإجماع

(1)

مسند أحمد (26639)، سنن الترمذي (رقم: 3871) وغيرهما. قال الألباني: صحيح بما تَقَدَّم. (صحيح سنن الترمذي: 3871).

(2)

صحيح مسلم (2408) بلفظ: ("فَخُذُوا بِكِتَابِ الله وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ" .. ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"). وسنن الترمذي (3786) وغيره بلفظ: "إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي".

ص: 436

بالصحابة، وكانت هذه البلاد موطن الصحابة، ما خرج منها إلا شذوذ منهم). انتهى.

أيْ: فلا يُظَن أنَّ القائل بذلك يقول به في كل عصر.

وقولي: (بَلِ انْبِذَا) أيْ: اطرح هذا الاعتقاد، فلا تعتقد حجية شيء مِن ذلك، فالألف في "انبِذا" بدل مِن نون التوكيد الخفيفة، وأصله "انْبِذن"، والله أعلم.

ص:

241 -

وَهَكَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ طَيْبَةِ

إذْ لَيْسَ في كُلٍّ جَميعُ الْأُمَّةِ

الشرح: أيْ: ومن ذلك أيضًا إجماع أهل المدينة، نُقل عن مالك أنه حُجة.

قال الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السُّنن": (قال مالك: وإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به، لم أر لأحد خِلافهُ، ولا يجوز لأحد مخالفته). انتهى

فمِن أصحابه مَن قال بظاهر ذلك؛ ولذلك أَطْلق النقل عنه بذلك الصيرفي في "الأعلام"، والروياني في "البحر"، والغزالي في "المستصفى".

ويكفي في تضعيف هذا القول قول الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث": (قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحدًا ذكر قوله إلَّا عابه، وإنَّ ذلك عندي معيبٌ). انتهى

وقال الباجي مِن أصحاب مالك: (إنما أراد فيما طريقه النقل المستفيض، كالصاع والمد، والأذان والإقامة، وعدم الزكاة في الخضروات مما [تقضي]

(1)

العادة أنْ يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ لو تَغَيَّر ممَّا كان عليه لَعَلِمَه. فأمَّا مسائل الاجتهاد فهُم وغيرهم سواء)

(2)

.

وحكاه القاضي في "التقريب" عن شيخه الأبهري، وجَرَى عليه القرافي في "شرح

(1)

في (ظ): يقتضي. وفي (ق): تقتضي.

(2)

انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 487 - 489).

ص: 437

المنتخب" وإنْ خالف في موضع آخَر.

وقيل: أراد أنَّ [نَقْلهم]

(1)

يَرْجُح على [نقْل]

(2)

غيرهم. وقد ذكر الشافعي نحو هذا في القديم.

وقيل: أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: أراد الصحابة والتابعين وتابعيهم. حكاه القاضي وابن السمعاني، وعليه جرى ابن الحاجب، وادَّعى ابن تيمية أنه مذهب الشافعي وأحمد.

وقيل: محمول على إجماع المتقدمين من أهل المدينة. ونحوه ما قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: إذا وجدتَ متقدمي أهل المدينة على شيء، فلا يدخل في قلبك شكٌّ أنه الحقُّ، وما جاءك فيه غير ذلك فلا تلتفت إليه. وفي رواية: فلا تَشُكَّن أنه الحقُّ، والله إني لك لناصح.

وقال مالك: (قدم علينا ابن شهاب قَدْمة، فسألته: لِمَ [ترك]

(3)

المدينة؟ فقال: كنتُ أسكنها والناس ناس، فلمَّا تغير الناس تركتُهم). رواه عنه عبد الرزاق.

وقيل: إذا تعارَض دليلان كحديثين أو قياسين، يرجح أحدهما بعمل أهل المدينة؟ أوْ لا؟ فعند الشافعي ومالك: نعم، وعند أبي حنيفة: لا، وعن أحمد قولان.

وقيل غير ذلك مما يَطُول ذِكره.

وقد استدل مَن يرى حجية قولهم بحديث: "إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع

(1)

في (ظ، ق، ت): فعلهم.

(2)

في (ض، ظ، ت، ق): فعل.

(3)

في (ق، ت، ظ): تركت.

ص: 438

طيبها"

(1)

. متفق عليه عن جابر رضي الله عنه، وخَطَأُ عُلمائها خَبَث، فإذَا كان منفيًّا، صار قولهم حُجة.

وأما قوله: "وينصع طيبها" فهو بالصاد والعين المهملتين، وأول الفعل مثناة تحت، و"طيبها" بالتشديد مرفوع بالفاعلية على المشهور، ويروى بالنصب فـ "تنصع" بمثناة فوق، والفاعل ضمير المدينة، لكن قال القزاز: لم أجد لنصع في الطيب وجهًا، وإنما وجه الكلام:"يتضوعُ طيبها" أيْ: يفوح. ويُروى "ينضخ" بمعجمتين.

والأحاديث في فضل المدينة كثيرة، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الطبراني "الأوسط" بإسناد لا بأس به:"المدينة قُبَّة الإِسلام، ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام"

(2)

.

قالوا: وأيضًا فإنَّ الصحابة كانوا مجتمعين -غالبًا- فيها.

وجواب الأول: أنَّ فضل البقاع كما سبق لا أثر له في عدم خطأ ساكنيها، إلَّا مَن عَصَمه الله، وهُم جميع الأمة لا بعضهم، ولهذا قال ابن عبد البر:(إنَّ مثل ذلك إنما كان في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج مِن المدينة إلَّا مَن لا خير فيه، وأمَّا بَعْد وفاته فقدْ خرج منها أخيار وسكنوا في غيرها)

(3)

. وكذا قاله القاضي عياض، لكن قال النووي: إنَّ هذا ليس بظاهر؛ لما صح: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد"

(4)

. وهذا والله أعلم في زمن الدجال.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 6783)، صحيح مسلم (رقم: 1383).

(2)

المعجم الأوسط (5/ 380، رقم: 5618) بلفظ: "ومُبَوَّأُ الحلال والحرام". قال الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 761).

(3)

لفظ ابن عبد البر في (التمهيد، 23/ 171): (إِنَّمَا كَانَ في حَيَاة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَحِينَئِذٍ لم يَكُنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْ جِوَاره فِيهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ

).

(4)

صحيح مسلم (رقم: 1381).

ص: 439

وجواب الثاني: أنَّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين بالمدينة، بل تفرقوا في الأمصار. وأمَّا بعد الصحابة فالعلماء غالبهم في الأمصار غيرها.

تنبيه:

إذا قلنا: (إنَّ إجماع المدينة حُجة)، فقال الأبياري المالكي: ليس كإجماع جميع الأمة حتى يفسق مخالفه ويُنْقَض قضاؤه، وإنما هو مَأْخَذ شرعي فقط.

وبالجملة فالمسألة طويلة الذيل، موصوفة بالإشكال، أُفْرِدَت بالتصنيف، صَنَّف فيها الضمير في وغيره، وفيما أشرنا إليه كفاية.

وقولي: (طَيْبَة) هي من أسماء المدينة، وهو مخفف من "طيبة" بالتشديد كما في نظائره، ويقال لها أيضًا:"طابة"، ولها أسماء كثيرة.

وقولي: (إذْ لَيْسَ في كُلٍّ جَميعُ الْأُمَّةِ) هو تعليل للمسائل المتقدمة من قولي: (وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ الِامْتِنَاعَا) إلى هنا، أيْ: إنَّ كل واحدة من المسائل التي ادُّعِي حُجيتها مع كَوْنهم بعض الأمة- ممتنع؛ لأنهم ليسوا كل الأُمة، والله أعلم.

ص:

242 -

وَلَيْسَ شَرْطًا انْقِرَاضُ الْعَصْرِ

وَلَا إمَامٌ عَصَّمُوا في دَهْر

الشرح: أيْ: شَرَط بعضهم في الإجماع -زيادة على ما سبق- انقراضَ العصر، وشرط آخرون أنَّ الإجماع لا بُدَّ فيه من وجود إمام معصوم. والأصح عدم اشتراط شيء منهما.

أما المسألة الأولى ففيها مذاهب:

أحدها وهو الصحيح عند المحققين: هذا، فيكون اتفاقهم حُجة بمجرده حتى لو رجع

ص: 440

بعضهم لا يُعْتَد به ويكون خارقًا للإجماع، ولو نشأ مخالِفُه لا [يُعْتَبر قوله]

(1)

، بل يكون الإجماع حُجة عليه. ولو ظهر للكل ما يوجب الرجوع فرجعوا كلهم مجمعين، لم يَجُز ذلك، بل إجماعهم الأول حُجة عليهم وعلى غيرهم. حتى لو جاء غيرهم مجمعين على خِلاف ذلك لَمْ يَجُز أيضًا، وإلَّا لَتَصادم الإجماعان.

وجرى على [هذا]

(2)

المذهب إمام الحرمين في "النهاية"، حيث استدل لمقابل قول ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّ الأم لا تحجب إلى السدس إلا بثلاثة إخوة. وقال القاضي في "التقريب": إنه قول الجمهور. والباجي: إنه قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال ابن السمعاني: إنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي. وقال الرافعي في الأقضية: أصح الوجهين. وصححه الإمام في "النهاية" والدبوسي في "تقويم الأدلة"، وقال أبو سفيان: إنه قول أصحاب أبي حنيفة. وقال أبو بكر الرازي: إنه الصحيح. وحكاه عن الكرخي.

والمذهب الثاني: أنه يشترط، وهو قول أحمد، ونصره محققوا أصحابه، واختاره ابن فورك وسليم، ونقله [ابن بَرهان]

(3)

عن المعتزلة، ونقله الأستاذ عن الأشعري.

واختلفوا: هل فائدته إمكان رجوع المجمعين؟ أو اعتبار قول مَن ينشأ مخالفًا قبل الانقراض؟ على وجهين.

واختلفوا أيضًا: هل الشرط انقراض الكل؟ أو الأكثر؟ أو الشرط موت العلماء فقط؟ أقوال مَبنية على المسائل السابقة، فالقائل بالغالب هو القائل بأنَّ ندرة المخالف لا تقدح، والقائل بانقراض علمائهم هو القائل بأنه لا عبرة بوفاق العوام، والقائل بالكل هو الذي لا

(1)

كذا في (ز، من). وفي (ق، ت): يعتد بقوله.

(2)

من (ظ، ق، ت).

(3)

في (ز): ابن برهان من أصحابنا.

ص: 441

يعتبر شيئًا من ذلك.

والمذهب الثالث: أنَّ الانقراض يُعتبَر في الإجماع السكوتي؛ لضعفه، بخلاف غيره، وبه قال البندنيجي، واختاره الآمدي، ونقل عن الأستاذ أبي منصور البغدادي، وأنه قال: إنه قول الحذاق من أصحاب الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر الأصحاب. ونقله إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق، لكن الذي في تعليقه عدم الاشتراط.

بل جعل سليم محل الخلاف في غير السكوتي، وأنَّ الانقراض في السكوتي لا خلاف فيه.

الرابع: إنِ استند الإجماع لقاطع فلا يشترط انقراضه، وإلا اشترط تمادي الزمان. وبه قال إمام الحرمين في "البرهان"، واختاره الغزالي في "المنخول"، قال: والمدار في طول الزمان على العُرف.

وضعَّفه ابن السمعاني بأنه إذا عُلم استنادهم لقاطع، فذلك القاطع هو الحجة، وإذَا لم يُعلم مستندهم، فكيف التوصل إلى معرفته؟ !

والخامس: ينعقد قبل الانقراض فيما لا مهلة فيه مما لا يمكن استدراكه (مِن قتل نفس أو استباحة فرج) دُون غيره. حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا، وهو نظير ما سبق في السكوتي. وفي "الحاوي" للماوردي أنَّ ما لا يتعلق به إتلاف يُشترط فيه الانقراض قَطْعًا، وما لا يمكن استدراكه فيه وجهان

(1)

.

والسادس: [المشتَرط]

(2)

أنْ لا يبقى إلا دُون عَدد التواتر، فحينئذ لا يكترث بالباقي ويحكم بانعقاد الإجماع، بخلاف ما إذا بقي أكثر، حكاه القاضي في "مختصر التقريب"، وأشار إليه ابن بَرهان في "الوجيز".

(1)

الحاوي الكبير (16/ 113).

(2)

كذا في (ز، ص، من). وفي سائر النُّسَخ: الشرط.

ص: 442

السابع: إن كان الإجماع عن قياس، اشترط الانقراض، وإلا فلا. نقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين، ولكن الذي نقله الهندي وغيره عنه التفصيل بين أن يعلم أن متمسكهم ظني فيعتبر طول الزمان، أو لا فلا، وقد سبق.

الثامن: إنْ شَرَطوا في إجماعهم أنه غير مستقر وجوَّزوا الخلاف، اعتُبر الانقراض، وإلا فلا. حكاه القاضي وسليم، ثم قيَّده بالمسائل الاجتهادية دُون مسائل الأصول التي يُقطع فيها بعدم المخالف.

التاسع: يشترط الانقراض في إجماع الصحابة دُون إجماع التابعين وغيرهم. وهو ظاهر كلام الطبري.

تنبيهان

أحدهما: المراد بِـ "العصر" زمان المجمعين، قَلَّ أو كَثُر، حتى لو ماتوا عقب الإجماع دفْعة يُقال: انقرض العصر.

الثاني: المشترطون للانقراض لا يمنعون كوْن الإجماع حجة قبل الانقراض، بل يقولون: يحتج به، لكن لو رجع راجع، قَدَح، أو حَدَث مخالِفٌ، قدح.

ونظيره أنَّ ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أو يفعله حُجة في حياته وإنِ احتمل أن يتبدل بنسخٍ؛ عملًا بالأصل في الموضعين. فإذَا رجع بعضهم، تَبيَن أنهم كانوا على خطأ لا ويقرُّون عليه، بخلافه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ قوله وفِعله حقٌّ في الحالين.

وأما المسألة الثانية فالمخالِف فيها الروافض؛ بناءً على قولهم الفاسد: إنَّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم. فإنْ كان ذلك الإِمام في الإجماع فحُجة، وإلا فلا.

فيقال لهم: فالحجة حينئذ إنما هي في قول الإِمام المعصوم، لا الباقي.

ص: 443

وقد أشرتُ إلى ذلك بقولي: (وَلَا إمَامٌ عَصَّمُوا في دَهْرِ). أيْ: ولا يُشترط وجود إمام اعتقدوا عصمته في ذلك الدهر، فهو فاسد مبني على فاسد، والله أعلم.

فروع

243 -

لَابُدَّ لِلْإجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنَدِ

وَلَوْ قِيَاسًا جَاءَ مِنْ مُجْتَهِدِ

الشرح: هذه فروع على ما سبق في تأصيل قواعد الإجماع:

أحدها: أنَّ الإجماع لا بُدَّ له من مُسْتَنَدٍ، أيْ: دليل من الشرع. قال الشافعي فيما نقله عنه الإِمام في "النهاية" في كتاب القراض: (الإجماع وإنْ كان حُجة قاطعة سمعية فلا يحكم أهل الإجماع بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصل)

(1)

. انتهى.

والدليل إما:

-كتاب، كإجماعهم على حد الزنا والسرقة وغير ذلك مما لا ينحصر.

- أو سُنة، كإجماعهم على توريث كل من الجدات السدس

(2)

، وتوريث المرأة من دية زوجها بخبر امرأة أشيم الضبابي

(3)

، ونحو ذلك وهو كثير.

- أو قياس: كإجماعهم على أن الجواميس في الزكاة كالبقر، على ما سيأتي فيه من النظر.

وإنما كان الإجماع يفتقر إلى مستند؛ لأنه من المجتهدين، والمجتهد لا يقول في الدَّين بغير

(1)

نهاية المطلب (7/ 437).

(2)

سنن أبي داود (رقم: 2894)، سنن الترمذي (2100)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 2894).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 444

دليل؛ فإنَّ القول بغير دليل خطأ. وأيضًا فكان يقتضي إثبات شرْع مستأنف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باطل.

وذهب بعضهم -كما نقله عبد الجبار عن قوْم- أنه يجوز أنْ يحصل [بالبَخْت]

(1)

والمصادفة، والمعنى أنَّ الإجماع قد يكون عن توقيف من الله عز وجل من غير مستند. وأجابوا عمَّا سبق من الدليل بأنَّ الخطأ إنما هو في الواحد من الأُمة، أما كل الأمة فلا.

وأُفْسِدَ ذلك بأنَّ الخطأ إذا اجتمع، لا ينقلب صوابًا؛ لأنَّ الصواب في قول الكل إنما هو مع مراعاة عدم الخطأ من كل فرد.

وزعم الآمدي أن الخلاف إنما هو في الجواز، لا في الوقوع.

ورُدَّ: بأنَّ الخصوم استدلوا بِصُوَر لا مستند فيها على زعمهم، فلولا أنه محل النزاع ما استدلوا بها.

قلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ فإنَّ مَن يدَّعي الجواز هو الذي ادَّعى الوقوع واستدل به، ومَن يمنع الجواز فلا يُسلم وقوع ذلك، مع بقاء المخالفة في الجواز من الأصل.

وقولي: (وَلَوْ قِيَاسًا) إشارة إلى أنَّ المستند يجوز أنْ يكون قياسًا (على المرجَّح)، والمخالف بعض الظاهرية زعم أنه لا يجوز، وهو بناء على أصلهم في منع القياس، لكن سبق أن جمهورهم إنما يمنع غير الْحَلي.

نعم، الغريب موافقة محمَّد بن جرير الطبري (مِن أئمتنا) لهم في ذلك مع أنه قائل بالقياس، ونقل عنه القاضي في "التقريب" أنه منعه عقلاً؛ لاختلاف الدواعي والأغراض، وتفاوتهم في الذكاء والفطنة.

(1)

في (ز): بالتبخيت. وفي (ظ، ق): بالبحث. وفي (ت، من): بالبحت. والبَخْت: الحظ.

ص: 445

وقيل: يجوز أن يقع عن قياس، ولكنه لم يقع.

ورُدَّ:

- بأنَّ إمامة الصديق رضي الله عنه مستند الإجماع فيها القياس، قال عمر رضي الله عنه:"رضيَهُ صلى الله عليه وسلم لِدِيننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ "

(1)

.

ولا يرد -كما قال ابن القطان- وقوع مثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه؛ لأنه أمر الصديق، وعبد الرحمن قد وجده يصلي فصلى خلفه، فالفرق ظاهر.

- وبإجماعهم في الجاموس أنه كالبقر، وهو بالقياس. قلتُ: على ما في هذا المثال من نظرٍ؛ فإنَّ البقر جنس تحته نوع العراب ونوع الجاموس. وإذا دخلَتْ في لفظ "البقر"، كانت الزكاة فيها نَصًّا، لا قياسًا. نعم، يمثل بإراقة نحو الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة؛ قياسًا على السمن، وتحريم شحم الخنزير؛ قياسًا على لحمه المنصوص عليه، ونحو ذلك، وهو كثير.

وقيل: وقع ولكن لا تحرم مخالفته.

وقيل: يجوز عن القياس الجلي دُون الخفي.

وقيل: عن قياس المعنى دُون قياس الشَّبَه.

واعْلم أنه يُعَبر عن هذه المسألة تارةً بذلك وتارةً بأن الإجماع عن أمارة هل يجوز؟ أو لا؟ كما قال الروياني، قال: فالجمهور يجوزونه. قال عامة أصحابنا: وهو المذهب. والتعبير بهذا يدخل فيه نحو خبر الواحد والمفاهيم ونحو ذلك.

وقولي: (جَاءَ مِنْ مُجْتَهِدِ) أيْ: يجوز أن يكون المستند القياس، ولا يضر كوْن القياس

(1)

في الشريعة للآجري (4/ 1839) من قول علي فض بلفظ: (فرضينا لدنيانا مَن رضيَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا).

ص: 446

إنما صدر منهم؛ لأنَّ القياس في الحقيقة كاشف عن الحكم، لا مُنْشِئ له؛ ولهذا كان دليلًا شرعيًّا، والله أعلم.

244 -

لكِنَّ عِلْمَنَا بِهِ لَا يَجِبُ

وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا

245 -

صِحَّته مِنْهُمْ وَمنْ غَيرهِمِ

وَالْأَخْذُ بِالْأقلِّ مِمَّا قَدْ نُمِي

الشرح: أيْ: إذا تَقرر أن الإجماع لا بُدَّ له من مستند، فلا يلزم أنْ يُطلَع عليه، بل بنفس حصول الإجماع ارتفع النظر إلى المستند. وإذا وجدناه موافقًا لِنَص أو غيره، لا يَتَعَيَّن أنْ يكون هو المستند، بل يجوز أنْ يَكون غيره، لكن يقوى أن يكون هو المستند؛ لأن الأصل عدم خلافِه.

قال الأستاذ أبو إسحاق: لا يجب على المجتهد طلبُ الدليل الذي وقع الإجماع به، فإنْ ظهر له دليل أو نُقل إليه كان أحد أدلة المسألة.

نعم، حكى ابن السمعاني في "القواطع" خلافًا في أنَّ انعقاد الإجماع: هل هو على الحكم الثابت بالدليل؟ أو على نفس الدليل؟ قال: (وينبني عليه أن الإجماع الواقع على وَفْق خبر من الأخبار: هل يكون دليلًا على صحته؟ قولان، أَوْلَاهما: أنه لا يدل؛ لجواز الاستناد إلى غيره، أو إليه مع ضميمة أخرى)

(1)

.

واعلم أن ابن بَرهان نقل عن الشافعي أن خبر الواحد إذا وُجد موافقًا للإجماع وجهلنا مستنده، أنَّ ذلك الخبر هو المستند. قال:(وخالفه الأصوليون)

(2)

. انتهى

(1)

قواطع الإدلة (1/ 479).

(2)

الوصول إلى الأصول (2/ 128). الناشر: مكتبة المعارف، تحقيق: د. عبد الحميد علي.

ص: 447

وحمل غيرُه كلام الشافعي على أنه أراد غَلبة الظن بأنه المستند، لا بِعَينه.

واحترز بِـ "الواحد"عن "المتواتر"؛ فإنه يكون مستندهم بلا خلاف كما قاله القاضي عبد الوهاب؛ لأنه يجب عليهم العمل بموجَب النَّص. انتهى.

قلتُ: وفيه نظر؛ لأنه لا يَلزم مِن القطع بالمتن القطعُ بالدلالة، فقدْ يستندون إلى غيره؛ لذلك.

فإنْ قيل: ما الفرق بين هذا وبين المجتهد إذا عَلَّل حُكم الأصل بِعِلَّة مناسبة فمنع الخصم كون تلك علة؛ لجواز أنْ تكون العلة غيرها، لم يُسْمَع؛ لأن الأحكام لا بُدَّ لها من علة، وقد وُجدت وهي مناسبة؛ فَتَعَيَّنَت؛ لأنَّ الأصل عدم ما سواها.

قيل: لأنَّ مسألتنا انتهض الدليل فيها بالإجماع؛ فلم يحتج إلى معرفة غيره من الأدلة، وإنْ وُجد موافقًا، فهو من باب كثرة الأدلة، وأما القياس فلا ينتهض الإلحاق ما لم تَثبت العلة؛ فَتَعَيَّن الاستناد إليها.

وقولي: (وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا) إلى آخِره -إشارة إلى مسألة ما لو وقع الاتفاق بعد الاختلاف، وهي مَبنية على أن مستند الإجماع يكون أمارة [ظنًّا]

(1)

؛ فلذلك عقبتها بما سبق، ولها صُوَر:

إحداها: أن يختلف أهل عصر على قولين ثم يتفق أهل عصر بعده على أحد القولين. فإنْ كان ذلك قبل استقرار خلاف الأوَّلين، أيْ قبل مُضي مدة على ذلك الخلاف يُعلَم بها أن كل قائل مُصمم على قوله لا ينثني عنه، فالجمهور على جوازه، وذلك كخلاف الصحابة لأبي بكر رضي الله عنهم في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم بعد ذلك، وكذا خلافهم في دفنه صلى الله عليه وسلم في أي مكان ثم أجمعوا على بيت عائشة رضي الله عنها؛ إذِ الخلاف لم يكن استقر.

(1)

في (ز، من): وظنا.

ص: 448

ونقل الهندي عن الصيرفي أنه لا يجوز، لكن الذي في كتاب الصيرفي ظاهره يُشْعر بموافقة الجمهور؛ ولهذا قال الشيخ في "اللمع":(إنَّ المسألة تصير حينئذ إجماعية بلا خلاف)

(1)

.

ووقع للقرافي عكس هذا، فزعم أنَّ محل الخلاف الآتي إذا لم يستقر خلافهم. وهو عجيب؛ فإنَّ محله إذا استقر.

فإذا كان الاتفاق في عصر بعد استقرار خلاف في عصر قَبْله ومضى أصحاب الخلاف عليه مدة، ففيه وجهان لأصحابنا، بل نقلهما أبو الحسن السهيلي في "أدب الجدل" قولين للشافعي وأنَّ أصحهما أنَّ الخلاف لا يرتفع وكأنَّ المخالف حاضر، [و]

(2)

ليس موته مُسْقِطًا لقوله: فيبقى الاجتهاد.

قال الشيخ أبو إسحاق: هو قول عامة أصحابنا. وقال سُليم الرازي: هو قول أكثرهم وأكثر الأشعرية. وكذا قاله ابن السمعاني، ونقله ابن الحاجب عن الأشعري.

قال إمام الحرمين: (وإليه مَيْل الشافعي، ومن عباراته الرشيقة: المذاهب لا تموت بموت أربابها)

(3)

.

ونقله أيضًا إلْكِيَا وابن برهان عن الشافعي، وقال أبو علي السنجي: إنه أصح قوليه. ونقله القاضي في "التقريب"عن جمهور المتكلمين، وبه قال أيضًا أحمد والصيرفي وابن أبي هريرة وأبو علي الطبري والقاضي أبو حامد والإمام والغزالي، وهو الذي نصره ابن القطان وأنه مذهب الشافعي؛ لأنه قال: حَدُّ الخمر أربعون؛ لأنه مذهب الصديق رضي الله عنه. وقد أجمعوا

(1)

اللمع (ع 93).

(2)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت، ق): إذ.

(3)

البرهان (1/ 456).

ص: 449

بعد هذا أنَّ حده ثمانون، إذْ قالوا: "نرى أنه إذا سكر هَذَى

(1)

، وإذَا هَذَى افترى"

(2)

. فلم يَعُده إجماعًا؛ لِسَبْق خِلَاف الصديق رضي الله عنه.

قيل: ولا يشكل على هذا قوله في الجديد: يُنْقَض قضاء مَن حَكَم ببيع أُمهات الأولاد؛ لأجل اتفاق التابعين بعد ما كان من اختلاف الصحابة؛ لأن الصحابة عادوا واتفقوا على المنع وعليٌّ رضي الله عنه فيهم.

والقول الثاني: إنه جائز، وعليه أكثر الحنفية، وعليه من أصحابنا الحارث المحاسبي والإصْطَخْري وابن خيران والقفال الكبير، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والإمام الرازي وأتباعه. ونقله إلْكِيَا عن الجبَّائي وابنه وأبي عبد الله البصري، وقواه المتأخرون؛ ولذلك جريت في النَّظْم عليه؛ لقوته.

وفي المسألة قول ثالث حكاه أبو بكر الرازي: إنْ كان خلافًا يؤثم فيه بعضهم بعضًا، كان إجماعا، وإلا فلا.

والقائلون بالجواز قال أكثرهم: يكون حُجة، ويرتفع به الخلاف المتقدم، وتصير المسألة إجماعية.

وقيل: لا يكون حجة.

وقيل: يكون حجة ولكن ليس بإجماع. نقله ابن القطان عن قوم وأنهم قالوا: وجه

(1)

هَذَي هَذْيًا وهَذَيانًا: تكلم بِكَلَام غير مَعْقُول في مرض أَو غَيره. (المحكم والمحيط الأعظم، 4/ 378).

(2)

السنن الكبرى للنسائي (رقم: 5288)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 8131)، وغيرهما. وقال الألباني في (إرواء الغليل: 2378): (ضعيف

، وقال الحافظ في "التلخيص": .. في صحته نَظَر). وانظر: التلخيص الحبير (4/ 75).

ص: 450

الحجية أن لهؤلاء مزية على أولئك؛ لانفراده في عصر؛ فهو المعتبر. قال: وليس بشيء إلا على قوله في القديم: إن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا، يؤخذ بقول الأكثر. أما على المشهور من مذهبه فلا فرق بين القليل والكثير.

قيل: والحقُّ في المسألة أنه إجماع ظني لا قطعي، وإليه يشير كلام إمام الحرمين.

وفي كتاب "تقويم الأدلة" لأبي زيد الدبوسي عن الحنفية: إنه من أدنى مراتب الإجماع

(1)

.

فرع:

هل وقع ذلك؟

الظاهر مما سبق عن الشافعي في حد الخمر وقوعه. وقال ابن الحاجب: (الحقُّ في مثل هذا الإجماع أنه يُعتبر

(2)

وقوعه، لأنه غالبًا لا يكون إلا عن جَلِي، وَيبعُد غفلة المخالف).

نعم، وقع قليلًا، كاختلاف الصحابة في بيع أُم الولد، ثم زال باتفاقهم على المنع، وكاختلافهم في نكاح المتعة ثم أجمعوا على المنع.

قلتُ: لكن هذان إنما يصح التمثيل بهما لما سيأتي وهو الصورة الثانية: أنْ يختلفوا على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى قول الآخَر، فيتفقوا بأنفسهم على ذلك القول.

فإنْ كان ذلك قبل استقرار الخلاف فإجماع وكذا حُجة، خلافًا لقوم يقولون: إنه إجماع، لا حجة. ولهذا جمع ابن الحاجب بينهما.

وهل ذلك وفاق؟ أو على خلاف؟ فيه ما سبق في التي قبلها عن الصيرفي وغيره.

(1)

تقويم الأدلة (ص 33).

(2)

كذا في جميع النُّسَخ، والصواب: يبعد؛ فعبارة ابن الحاجب في مختصره (ص 62): (والحقُّ أنه بعيد).

ص: 451

وإن كان بعد استقرار الخلاف، فقيل: ممتنع؛ لتناقض الإجماعين: الاختلاف أولًا ثم الاتفاق ثانيًا، كما إذا كانوا على قول فرجعوا عنه إلى آخَر. وبه قال القاضي، وإليه ميل الغزالي وغيره، ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، وجزم به الشيخ في "اللمع"، واختاره الآمدي وابن الحاجب.

وقيل: يجوز، إلا أن يكون مستندهم قاطعًا.

وإذا قُلنا بالجواز، فهل هو حُجة وإجماع؟ أو حجة فقط؟ فيه ما سبق، وهنا أَوْلى بكونه إجماعًا وحجة؛ لأنه قول كل الأمة؛ إذْ لم يبق قائل بخلافه، لا حي ولا ميت.

وقيل: إن كان في الفروع، لا يجزم معه بتحريم الذهاب للقول الآخَر، بخلاف ما فيه تأثيم وتضليل.

وقيل: إنْ قَرب عهدُ المختلفين فإجماع، أو تمادى فلا.

وقيل غير ذلك.

الصورة الثالثة: أن يختلفوا على قولين ثم يموت أحد الفريقين، وهو حُجة أيضًا؛ لأنهم صاروا كل الأمة. وكذا لو ارتدت - والعياذ بالله تعالى- إحدى الطائفتين، يكون قول الأخرى حجة؛ لأنهم كل الأمة.

وقد حكى الأستاذ أبو إسحاق في الصورتين قولين، المرجح ما سبق، واختاره الرازي والهندي، وصحح القاضي في "التقريب" الثاني؛ لأن الميت في حُكم الباقي الموجود، وفي "المستصفى" أنه الراجح، وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي. وبنى الخلاف أبو الحسن السهيلي على الخلاف في إجماع التابعين بعد اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، وهو بناء ظاهر.

الصورة الرابعة: أنْ يموت بعض أحد الفريقين ويرجع مَن بقي منهم إلى قول الآخَرين. قال ابن كج: وفيها وجهان، أحدهما: أنه إجماع؛ لأنهم أهل العصر. والثاني: المنع؛ لأن

ص: 452

الصديق رضي الله عنه جَلد في حد الخمر أربعين وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على ثمانين في زمن [عمر]

(1)

، فلم يجعلوا المسألة إجماعًا؛ لأنَّ الخلاف كان قد تَقدم وقد مات مِمَّن قال بذلك بعض، ورجع بعضٌ إلى قول عمر رضي الله عنه.

فرع: لو أجمعوا وخالف مَن كفرناه ببدعته فلَم يُعتد بخلافه، ثم رجع عن بدعته ولكن بقي خلافه في تلك المسألة التي خالفوا فيها زمن كفرهم، ينبني على انقراض العصر: إنِ اعتُبر، لم يكن إجماعًا. وإنْ لم يُعتبر وهو الأصح، وَجَب كوْنه إجماعًا. كما لو بلغ صبي أو أسلم كافر وبلغ رُتبة الاجتهاد: إذا خالف، لا يُعتد به؛ لأنَّ الإجماع قد سبق، والتفريع على عدم اعتبار الانقراض.

وهذه الصُّوَر كلها يشملها قولي في النظم: (وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا صِحَّتَهُ مِنْهُمْ وَمنْ غَيْرِهِمِ). أيْ: أوجب العلماء -على القول الراجح في الكل- أنه إجماع صحيح وحُجة شرعية، والله أعلم. وقولي:(وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا قَدْ نُمِي) أي: نُقل، وتتمته قولي: بعده:

ص:

246 -

مِنَ الْخِلَافِ بِانْتِفَا الدَّلِيلِ

تَمَسُّكٌ بِمُجْمَعٍ مَقُولِ

الشرح: إشارة إلى قاعدة تُنسب للشافعي رحمه الله تعالى، وهي:"الأخذ بأقلِّ ما قِيل"، وذكرتها هنا -تبعًا لكثير كابن الحاجب- وإنْ ذكَرها كثير في الأدلة المختلف فيها؛ لأنها ترجع إلى إجماع كما سيأتي تقريره. وقد وافق الشافعيَّ عليها القاضي وكثيرون، وخالفه قوم.

وصورة المسألة كما قال ابن السمعاني: أنْ يختلف العلماء في مقدَّرٍ بالاجتهاد، فيؤخذ بأقَلِّها إذا لم يدل على الزائد دليل. وربما قُصِر ذلك على اختلاف الصحابة رضي الله عنهم كما فسر به ابن

(1)

من (ق، ت).

ص: 453

القطان.

وقال القفال الشاشي: هو أنْ يَرِد فِعل مِن النبي صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا لِمُجْمَل ويحتاج إلى تحديده، فيُصار إلى أقلِّ ما يؤخذ

(1)

، وهذا كما قال الشافعي في أقل الجزية: إنه دينار؛ لأن الدليل قام على أنه لا بُدَّ من توقيت، فصار إلى أقل ما حُكى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ في الجزية. قال: وهذا أصل في التوقيت قد صار إليه الشافعي في مسائل كثيرة، كتحديد مسافة القصر بمرحلتين، وما لا ينجس بملاقاة النجس حتى يتغير بِقُلَّتَين، وأن دية اليهودي ثُلث دية المسلم.

وعلى التقرير الأول يُمثل بمسألة الدية أيضًا، فمِن قائل مِن الصحابة وغيرهم: إنَّ دية اليهودي أو النصراني نصف دية المسلم. ومن قائل: دية مسلم. ومن قائل: ثلث دية مسلم، فكان هذا أقلَّها. ومِثله ما ذهب إليه في الدية أنها أخماس، وقيل: أرباع، فالأخماس أقَل. فالأقل دائما مُجْمع عليه؛ لاجتماع الكل فيه، ألا ترى أنَّ كلًّا من الجميع والنصف مشتمل على الثلث في مثال قدر الدية؟

نعم، نفْي الزائد التمسك فيه بالبراءة الأصلية؛ ولذلك كان فرض المسألة فيما كان فيه الأصل براءة الذمة، فإن الأصل في مسألة الدية مثلًا براءةُ ذمة القاتل من الزائد على الأقل.

وقد ظهر بذلك أنه لا يَرِد على هذه القاعدة الجمعة حيث اختُلف في عدد ما تنعقد به، فقيل: أربعون، وقيل دون ذلك كالاثنين والثلاثة ونحو ذلك، مع أن الشافعي أخذ فيها بالأربعين، وهو أكثر ما قيل.

لأنَّا نقول: الجمعة ثابتة في الذمة بيقين؛ فلا يخرج عن عهدتها إلا بيقين، واليقين هنا هو الأكثر، لا الأقل، فكل مَن قال بصحتها بدون الأربعين قال به في الأربعين، فالْمُجْمَع عليه هو الصحة بالأربعين، فلَم تخرج عن القاعدة، بخلاف ما سبق في الدية ونحوها.

(1)

كلمة "يؤخذ" جاءت في بعض النُّسخ: يوجد.

ص: 454

على أنَّ ابن السمعاني حكى في ذلك وجهين في مَأْخَذ الشافعي في هذه القاعدة، أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أنَّ الشافعي إنما اعتبر الأربعين بدليل آخر.

فَعَلى الأول يُراد بالقاعدة القسمان معًا؛ لأن المراد الأخذ بالمحقق وطرح المشكوك فيما أصله البراءة، والأخذ بما يُخرج عن العهدة بيقين فيما أصله شغل الذمة، ورجح هذا المأخذ ابن السمعاني.

فإن قيل: الجمعة والدِّية كلاهما في الذمة بعد وجود سببهما، وقبل وجوده تكون الذمة خالية منهما، فهُما سواء.

فالجواب: أنَّ ما تَقَيَّد وارتبط بعضُه ببعض لا يُعتد ببعضه منفردًا، فالشَّغْل باقٍ، كالجمعة، فإنَّ المجمعين فِعلهم مرتبط بعضه ببعض، وما لا يرتبط -كالدية- يُعْتَد ببعضه منفردًا؛ لأنَّ مَن وجب عليه عشرون درهمًا لزيد، مأمور بتأدية كل درهم بخصوصه، فحينئذ الزائد لا يتحقق شغل الذمة به، فَفَارَقَ الجمعة. وليكن هذا جوابًا آخر عنها.

وأمَّا على تصوير القفال القاعدة فقد قال: إن الأربعين في الجمعة هو أقَل ما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم جمَّع بهم. ومما نُقِض به القاعدة الغسل من ولوغ الكلب، لم يأخذ فيه بأقل ما قيل، بل بالأكثر وهو السبع.

وأجاب ابن القطان بأن الكلام فيما لم يَرِد فيه نَص، بل دار بين أصول مجتهَد فيها، والسبع ورَدَ النص فيها.

واعلَم أن من شروط القاعدة: أنْ لا يكون دليل يدل على الزائد، ولا أحد قال بأقل مما فرض أنه أقل، ولا دليل دل على الأقل بخصوصه، وسبق في الأمثلة ما يوضح ذلك.

ومما يتفرع على القاعدة ما نُقل عن الشافعي فيمن سرق شيئًا فشهد شاهد أن قيمته ربع دينار، وآخَر: ثُمن دينار، لا يُقطع. وكذا لو شهد شاهد عليه بألْف وآخَر بألف وخمسمائة، لا

ص: 455

يحكم عليه إلا بما اتفقا عليه وهو الألف.

تنبيهان

أحدهما: إذا كان الأخذ بأقل ما قيل مركَّبًا من شيئين: إجماع، وبراءة أصلية في الزائد كما سبق، وقد قرره كذلك القاضي في "التقريب" والغزالي وغيرهما، فكيف أدخلته في مسائل الإجماع؟ وكيف ينازع المخالف للشافعي فيه بأنه لا إجماع فيه باعتبار الزائد كما قرر ذلك ابن الحاجب وغيره؟

والجواب: أنه من حيث الأقل عملٌ بمجمع عليه؛ فدخل في مسائل الإجماع وإنْ كان الشق الآخر مستنِدًا للبراءة الأصلية، وقد قرره كذلك العبدري في شرح "البرهان".

الثاني: نظير هذه المسألة اختلاف العلماء فيما إذا اختلف عليه مفتيان، هل يأخذ بقول أعظمهما؛ أو يتخير؛ ذكر هذا الأصل الماوردي في "الحاوي" في باب "جزاء الصيد"، وبنى عليه إذَا حَكم عدلان بمثلٍ وآخَران بآخَر، فوجهان ينبنيان على ذلك، والله أعلم.

ص:

247 -

وَالْخَرْقُ لِلْإجْمَاعِ بِالْمُخَالَفَهْ

مُحَرَّمٌ؛ فَامْنَعْ إذَا مَا خَالَفَهْ

248 -

إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَلَوْ أَتَى

مُفَصّلًا بِخَارِقٍ مَا ثَبَتَا

الشرح: خَرْق الإجماع بمخالفة الحكم المجمع عليه حرام؛ لأن الله عز وجل تَوَعَّد عليه بقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. فإنْ كان مستنده النص فقطْعًا، وإن كان عن قياس ونحوه فَعَلَى الأصح.

ومُقابِلُه قول حكاه عبد الجبار: إنه يجوز؛ لاحتمال خلاف اجتهادهم.

ورُدَّ بأنَّ بالإجماع قد انقطع النظر والاجتهاد، وصار دليلًا شرعيًّا تحرم مخالفته.

ص: 456

وقد سبقت مذاهب في مسائل تُشْبه هذا، وسبق ضعفها:

منها: تجويز أبي عبد الله البصري انعقاد إجماع بَعْد إجماع مع كوْن الثاني خرقًا للأول.

ومنها: مَن قال في الإجماع السكوتي: إنه ليس حُجة، وما لم ينقرض فيه العصر.

وشبه ذلك، وهو كثير.

وحيث قلنا في خرق الإجماع: (إنه حرام) فهل يكون كفرًا؟ فيه تفصيل يأتي آخِر الفصل.

وقولي: (فَامْنَعْ إذَا مَا خَالَفَهْ) إلى آخِره -إشارة إلى أن هذا الأصل يتفرع عليه مسائل:

إحداها: أن الأُمة إذا أجمعت على قولين، هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث غير القولين المتقدمَين؟ وفي معناه -وإن لم يتعرض الأكثر له- أن يُحْدثوا هُم أو بعضهم القول الثالث. فيه مذاهب:

أصحها عند الجمهور: المنع مطلقًا، كما لا يجوز إحداث قول ثانٍ، ونَصَّ عليه الشافعي في "الرسالة". قال أبو منصور: هو قول الجمهور. وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح وبه الفتوى. وقال ابن بَرهان: إنه مذهبنا. وجزم به القفال الشاشي والصيرفي والقاضي أبو الطيب والروداني.

الثاني: الجواز مطلقًا؛ لأنه لم يخرق إجماعًا سابقًا، فإنه قد لا يرفع شيئًا مما أجمعوا عليه. وحكاه ابن القطان عن داود، وحكاه الصيرفي والروياني عن بعض المتكلمين. وقال القاضي أبو الطيب: رأيت بعض أصحاب أبي حنيفة يختاره وينصره. وكذا نقله ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية.

نعم، أنكره ابن حزم على مَن نسبه لداود.

والثالث وهو الحقُّ عند المتأخرين: أن القول الثالث إنْ لزم منه رفْع ما أجمعوا عليه، كان خارقًا ممتنعًا، وإلا فلا يمتنع.

ص: 457

وقضية كلام الهروي في "الإشراف" أنه مذهب الشافعي، فإنه قال:(ومن لَفَّق من القولين قولًا على هذا الوجه، لا يُعَد خارقًا للإجماع كما ذكرنا في وطء الثيب: هل يمنع الرد بالعيب؟ تحزبت الصحابة حزبين: ذهبت طائفة إلى أنه يردها ويرد معها عُقرها، وذهب حزب إلى أنه لا يردها. فأخذ الشافعي في إسقاط العقر بِقَوْل حزب وفي تجويز الرد بقول حزب، ولم يُعد ذلك خرقًا للإجماع). انتهى

ومَن فَصَّل هذا التفصيل مَثَّل ما يَلزم منه رفْع مجمع عليه بوطء المشتري البكر ثم يطلع على عيب، فقيل: يمتنع الرد. وقيل يجوز مع الأرش. فالرد مجانًا بلا أرش خرقٌ لإجماع القولين على منع الرد قهرًا مجانًا.

وإنما قلتُ: (قهرًا)؛ لأنهم إذا تراضيا على الرد مع الأرش أو على الإمساك وأخذ أرش العَيْب القديم، جاز. فإنْ تشاحَّا فالصحيح إجابة مَن يدعو إلى الإمساك.

وأما تمثيل الآمدي بوطء الثيب في هذه الصورة ففيه نظر، فإنه على التقرير الذي ذكره الهروي يَكون من أمثلة ما لا يرفع وستأتي أمثلته، وعلى التقرير الذي سبق في البكر فمردود بقول أصحابنا: إنه يرد مجانًا، وهو أحد أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فنقل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

ومن أمثلة ما يرفع أيضًا: الإرث في الجد مع الأخ، فقيل: الإرث كله للجد. وقيل: يتقاسمان. فحرمان الجد خارِق.

وأمَّا مثال ما لا يرفع مجمعًا عليه فالفسخ في النكاح بالعيوب الخمسة: الجنون، والجذام، والبرص، والجب والعنه إنْ كان في الزوج، والقرن والرتق إنْ كان في الزوجة.

فقيل: لكل منهما أن يفسخ بها. وهو مذهبنا.

وقيل: لا.

ونُقل عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، كما نُقل عن أبي حنيفة أنه يفسخ ببعض دُون

ص: 458

بعض.

وعن الحسن البصري: إنَّ المرأة تفسخ دون الرجل؛ لتمكُّنه من الخلاص بالطلاق. قول ثالث، لكنه لم يرفع، بل وافق في كل مسألة قولًا وإنْ خالفه في أخرى.

ومثله الأم مع زوج وأب، أو زوجة وأب، قيل: للأم الثلث من الأصل في المسألتين. وهو قول ابن عباس.

وقيل: ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج أو الزوجة.

فالقول بأنَّ لها الثلث في إحدى المسألتين وثلث الباقي في المسألة الأخرى -لا يرفع القولين، بل يوافق في كُلٍّ قولًا.

وهذا معنى قولي: (فَامْنَعْ) إلى آخِره، فيدخل تحته القول الثالث المُبَايِن لهما، والمفصِّل إذا لزم منه مخالفة ما اجتمعا فيه؛ فإنه يكون خرقًا للإجماع.

ومفهومه أنه إذا لم يكن كذلك، لا امتناع فيه، وهو ما ذكرنا أن المتأخرين رجحوه.

نعم، اعترضه بعض الحنفية بأن هذا [المُفَصِّل]

(1)

لا معنى له، إذْ لا نزاع في أنَّ القول الثالث إنِ استلزم إبطال مجمع عليه، يكون مردودًا، لكن الخصم يقول: إنه يستلزم ذلك في جميع الصور، وإنْ كان في بعض لا يستلزم فالكلام في الكل.

ولا يَخفَى ضعف ذلك؛ فإنَّ المحالّ المتعددة كلٌّ حُكْم النظرِ فيه لِمَحِلِّه، لا لمشاركة غَيْرِه له فيه أو عدم المشاركة.

(1)

كذا في (ص، ق، ت)، لكن في (ز): التفصيل.

ص: 459

تنبيهان

الأول: لا يخفَى أنَّ التعبير بالقولين -على وَجْه التمثيل، ولا فرْق بين قولين وأكثر كما قاله الصيرفي، ومَثَّل بأقوالهم في الجد، قال: فلا يجوز إحداث قول سوى ما تَقدم.

وما قاله يقتضي أن الجد فيه أقوال: انفراده، انفراد الأخ، اشتراكهما. وممن حكى القول بحرمان الجد وانفراد الأخ ابن حزم.

ثُم كلام الصيرفي أيضًا يقتضي اختصاص ذلك باختلاف الصحابة فقط، ولكن ظاهر كلام غيره عدم الاختصاص، وظاهر كلام الصيرفي أيضًا تقييد المسألة بأن يستفيض الاختلاف فيهم، فأما إذا حُكي فتوى واحد ولم يستفِض قولُه، فيجوز الخروج عنه إلى ما قام عليه دليل.

الثاني: إذا تَعدَّد محل الحكم لكن أجمعوا على أنْ لا فصل بينهما، بل متى حُكم بحكم على أحد المحلَّين كان الآخر مِثْله، قال الهندي: يمتنع إحداثُ قولٍ بالفصل بينهما بلا خلاف.

ولكن الخلاف مشهور، حكاه القاضي في "التقريب"، وحكاه في "اللمع" احتمالًا للقاضي أبي الطيب، فينبغي أنْ يقول: على الأصح.

وإنْ لم يَنصوا على ذلك ولكن عُلِم اتحاد الجامع بينهما فهو جارٍ مَجْرَى النَّص على عدم الفَرق، كالعمة والخالة، مَن وَرَّث [إحْدَاهما]

(1)

وَرَّث الأخرى، ومَن مَنع مَنع؛ لأنَّ المأْخَذ واحد، وهو القرابة المحرمية.

فإذا لم يصرح الفريقان بالتسوية ولا اتحد الجامع، فلا يكون التفصيل خارقًا، فقولنا فيما

(1)

في (ز، ش): احديهما.

ص: 460

سبق أن يكون الثالث خارقًا [مُقَيّدًا]

(1)

لِمَا قُلْناه. والله أعلم.

ص:

249 -

أَمَّا دَلِيلٌ حَادِثٌ أَوْ عِلَّهْ

أَوْ ضَرْبُ تَأْوِيل فَجَوِّزْ كُلَّهْ

الشرح: هذه ثلاث مسائل ربما يظن أنها من الخارق وليس كذلك.

الأُولى: إذا استدل أهل عصر بدليل، جاز لمن بَعْدهم إحداث دليل آخَر إذا لم يكن فيه إبطال للأول عند الأكثر، وعليه الصيرفي وسليم وابن السمعاني وغيرهم، وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا؛ لأن الشيء قد يكون عليه أدلة، قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجوز؛ لأنَّ الأوَّلين إذا أجمعوا على دليل، كان الإتيانُ بدليل آخَر خلافَ ما أجمعوا عليه؛ فهو غَيْر سبيل المؤمنين التي سلكوها في الاستدلال.

ولا يخفَى فساد ذلك؛ لأن المطلوب من الأدلة أحكامها، لا أعيانها، فَعَيْن الحكم باقي، وغَيْرُ الدليل الأول ما غَيَّرَهُ، وإلَّا [يَلْزَم]

(2)

المنع مِن كل قول مِن مجتهد لم يتعرض الأوَّلون له.

وفصَّل ابن حزم وغيره بين أن يكون المحدَث نَصًّا آخَر لم يَطَّلِع عليه الأولون فيمتنع، أو لا فلا يمتنع. وحكى صاحب "الكبريت الأحمر" قولًا رابعًا بالوقف.

وذهب ابن برهان إلى قول خامس بالتفصيل بين الدليل الظاهر فلا يجوز إحداث غيره، وبين الخفِي فيجوز؛ لجواز اشتباهه على الأولين.

الثانية: إذا عللوا بِعِلَّة ثُم أَحْدَث مَن بَعْدهم عِلة أخرى، فيجوز أيضا على الصحيح؛

(1)

في (ش): مفيد. وفي سائر النُّسخ: مقيدا.

(2)

في (ز، ش): للزم.

ص: 461

بناءً على جواز تعليل الحكم الواحد بِعِلَّتين، وهو الصحيح كما سيأتي في باب القياس.

أما إذا قلنا: لا يجوز تعدُّد العِلَل، فيمتنع إحداث عِلة أخرى؛ لأن عِلتهم مقطوع بصحتها، ففيه دليل على فساد غيرها؛ ولهذا قال القاضي عبد الوهاب: إنَّ العلة إنْ كانت لحكم عقلي فلا يجوز إحداث علة أخرى له؛ لأن الحكم العقلي لا يُعلَّل بِعِلتين.

الثالثة: إذا أوَّلوا تأويلًا للفظٍ، هل لمن بعدهم إحداث تأويل آخَر؛ الصحيح الجواز كما سبق.

وقيل: لا يجوز؛ لأنه كالمذهب، لا كالدليل. واختاره القاضي عبد الوهاب، قال: لأنَّ الآية مثلًا إذا احتملت معاني وأجمعوا على تأويلها بأحدها، صار كالإفتاء -في حادثة تحتمل أحكامًا- بحكم؛ فلا يجوز أن يُؤَوَّل بغيره كما لا يُفتَى [بغير ما]

(1)

أفتوا به.

تنبيه:

قيَّدوا المسائل الثلاث بما إذا لم ينصُّوا على منع غير ما ذكروه، بأنْ يصرحوا بفساد غيره، أو يجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به حيث [ساغ]

(2)

ذلك. ففي "الملخص" للقاضي عبد الوهاب أن الدليل الثاني إنْ كان مما [تتغير]

(3)

دلالته، صح إجماعهم على كونه دليلًا.

أو قالوا في العلة: (لا علة للحكم إلا هذه)، أو بكون العلة الثانية تخالف الأُولى في بعض الفروع، فإنَّ الثانية تكون فاسدة.

(1)

كذا في (ز، ش)، لكن في سائر النسخ: بغيره كما.

(2)

كذا في (ص، ض). وفي سائر النُّسخ: شاع.

(3)

في (ق): لا تتغير. والعبارة نقلها الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 565) هكذا: (فإنْ كان الدليل الثاني مما يتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلًا).

ص: 462

ولم أُقَيِّده في النَّظم؛ لأنه لا يُحتاج إليه؛ فإنهم إذا أفسدوه، لم يكن دليلًا ولا تأويلًا ولا علة، بل هو لَغْو بإجماعهم، والكلام في إحداث شيء لم يسبق إبطاله منهم.

وكذلك قيدوا المسائل بما إذا لم يكن في المحدَث إبطالٌ وإلغاء لِمَا قاله الأولون. ولا يُحتاج أيضًا إليه؛ لأن بإبطال الأول يصير كأنه ادُّعِيَ أنَّ هذا هو الدليل أو التأويل أو [التعليل]

(1)

، فقد خرق الإجماع بمخالفته؛ إذْ لا يُقال:"آخَر" إلا مع بقاء الأول، وهذا واضح. والله أعلم.

ص:

250 -

وَحَيْثُ لَا خِلَافَ في انْعِقَادِهِ

يَكُونُ قَطْعِيًّا عَلَى انْفِرَادِهِ

الشرح: أي: إذا ثبت أن الإجماع حجة وأنه لا يجوز خرْقه ولا مخالفته، هل ذلك لكونه حجة قطعية حتى يكفر مُنْكِرُ حجيته أو يُضلَّل؟ وهل إنكار ما أجمعوا عليه مُكفر؟ أوْ لا (على ما سيأتي من التفصيل)؟ أو أنه حجة ظنية لا يتعلق بها شيء من الأمرين؟

ذهب الأكثرون إلى الأول، والإمامُ والآمدي إلى الثاني.

وفصَّل المحققون بين:

- الإجماع الذي لا خلاف في ثبوته وانعقاده، فيكون قطعيًّا.

- أو فيه خلاف، كالإجماع السكوتي، وما لم ينقرض عصره، والإجماع بعد الاختلاف، وما ندر المخالف فيه عند مَن يراه كما قاله ابن الحاجب، ونحو ذلك، فلا يكون قطعيًّا.

وقولي: (على انفراده) أي: لا يحتاج إلى انضمام دليل آخر يصير به قطعيًّا، والله أعلم.

(1)

في (ز): العلة.

ص: 463

ص:

251 -

فَجَاحِدٌ لِمُجْمَعٍ ضَرُورِي

في الدِّينِ كَافِرٌ بِلَا تَقْرِيرِ

252 -

وَهَكَذَا في الْمُجْمَعِ الْمَنْصُوصِ

وَغَيْرهِ، لَا [بِخَفَا]

(1)

مَخْصُوصِ

الشرح: أي: يتفرع على كوْن الإجماع قطعيًّا تكفيرُ مُنكره في بعض الحالات. واعْلَم أن الإنكار:

- إما أنْ يكون واردًا على نفس الإجماع، كالإنكار لحجية الإجماع أو تَصَوُّره في الأصل أو تصور معرفته.

- وإما أنْ لا يَرِد على نفس الإجماع [شيء]

(2)

، بل كَوْنه في تلك المسألة وقع؟ أم لا؟

- وإما لِمَا أجمعوا عليه من الحكم، فيجحد نفس الحكم.

فالأول: هو الخلاف في عَدِّه من الأدلة، ولم أتعرض له في النَّظم؛ لأن موضوعه تَرْك الخلاف

(3)

، وقد سبق في الشرح -أوائل الباب- التعرض لشيء منه، فالمخالفون في الإجماع الذي هو قطعي مبتدِعة، والقول في تكفيرهم كالقول في تكفير سائر أهل البدع والأهواء.

والمختار أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة، نُقل ذلك عن الشافعي وأبي حنيفة والأشعري. فأمَّا عن أبي حنيفة والأشعري فصحيح، وأما الشافعي فقيل: أُخِذ مِن قوله: لا أرد شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية.

قيل: ولا دلالة فيه؛ إذ لا يَلزم من عدم تكفير أهل البدع والأهواء في الجملة عدم

(1)

في بعض النُّسخ: بخَفًا. لكن قال البرماوي: (قصر في النظم للضرورة). فأصلها: بخفاء، وقصرت.

(2)

ليس في (ز، ص، ش).

(3)

يعني: النَّظم يترك الخلاف، فلا يتعرض لِذِكره.

ص: 464

تكفيرهم إذا انتهوا إلى ما يكفرون به. وقد صح عن الشافعي تكفير القائل بخلْق القرآن، رواه الحاكم عن سهل بن سهل، فقال:(سألتُ الشافعي عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق. قلتُ: مَن قال: "هو مخلوق" ففي هو عندك؟ قال: كافر. قلتُ: أقول: "كافر" فإذا قيل لي غدًا: لِمَ قلتَ؟ أقول: قاله لي الشافعي؟ قال: نعم، قُل: إن الشافعي قال: هو كافر).

وقال ابن خزيمة: سمعت الربيع يقول: تكلم حفص الفرد عند الشافعي بأن القرآن مخلوق، فقال له: كفرتَ بالله العظيم.

وذهب جمعٌ من أصحابنا إلى تكفير المُجَسِّمَة، لأنهم جاهلون بالله؛ [يعبدون]

(1)

غير الله إلهًا.

نعم، حيث يكفر المبتدع لا يصير مِن أهل القِبلة، وبه [تجتمع النقول]

(2)

، فقد قال الرافعي وتبعه في "الروضة" في باب الشهادات: جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، لكن اشتهر عن الشافعي تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم

(3)

.

قالا: ونقل العراقيون عنه تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتَأَوَّله الإمام بأنه في المناظرة ألزمهم بالكفر.

زاد النووي [فقال]

(4)

: أما تكفير منكر العِلم بالمعدوم أو بالجزئيات فلا شك فيه، [أما

(1)

في (ز): معتقدون.

(2)

كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: يجتمع القول.

(3)

روضة الطالبين (11/ 239).

(4)

من (ز).

ص: 465

مَن]

(1)

نفَى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله. وسننقل عن "الأم" ما يؤيده.

وذكر ذلك بعد نحو [صفحة]

(2)

، وهو ظاهر.

قال: (وقد تأَوَّلَه البيهقي وغيرُه بما لا يخرجهم عن الملة؛ ولهذا لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك)

(3)

. انتهى ملخصًا.

فانظر كيف قال في نافي العِلم: (إنه لا شك في كفره)، وأَوَّل غيرَ ذلك؟

فالضابط أنه لا يكفر إلا مَن يُنكر ما يعلم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به ضرورة، كالحشر والعِلم بالجزئيات، وكذا نحو [قذف]

(4)

عائشة كما صرح به النووي من [زيادة]

(5)

"الروضة"، فهذا كله إنما هو لانتهاء المبتدع إلى حد يكفر به وهو تكذيب القرآن وتكذيب ما عُلِم في الشرع صِدقه بالضرورة، ويبقى النظر: هل مِن ذلك كذا وكذا؟ أو لا؟ كالمجسمة ونحو ذلك.

وعُلِم أنهم بما يكفرون به يخرجون عن أهل القبلة؛ فلا ينافي إطلاق الأئمة أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، وأنَّ السعي في تأويل إطلاق تكفيرهم من الأئمة إنما هو لأنَّ ذلك الأمر لم يَنتهِ عند المُؤَوِّل إلى رتبة التكفير به.

أما المستحِل للمحرمات فإنْ كان [بتأويل]

(6)

لغير ما عُلِم من الدِّين بالضرورة فلا

(1)

كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: من اثبات.

(2)

في (ش): نصف صفحة.

(3)

روضة الطالبين (11/ 239).

(4)

في (ش): قذفه.

(5)

في (ز): زيادات. وفي (ش): زيادته في.

(6)

في (ز): لتأويل.

ص: 466

يكفر، وإن كان بلا تأويل أو بتأويل لِما علم بالضرورة فإنه يكفر.

فإنْ كان الإنكار لإجماع ظني (كالسكوتي، وما لم ينقرض فيه المجمعون، ونحو ذلك) فلا خلاف أنه لا يكفر ولا يُبدع.

الثاني: إنكار أن الإجماع وقع في تلك المسألة بعد أنْ بَلغه، فيقول: لم يقع، وإنه لو وقع لَقُلْتُ به.

فإن أخبر عن وقوعه الخاصة والعامة (كالصلاة)، كفر.

وإن أخبر الخاصة دُون العامة (كإرث بنت الابن السدس مع بنت الصلب)، لا يكفر -على الأظهر.

فإنِ ادَّعى في القِسم الأول أنه لم يَبْلغه وأمكن (كأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة)، صُدِّق في ذلك.

الثالث: إنكار الحكم المجمَع عليه وجَحْده، فينظر فيه، فإن كان معلومًا مِن الدِّين بالضرورة، كفر قطعًا، كمن أنكر ركنًا من أركان الإسلام، لكن ليس كُفره من حيث كون ما جحده مجمعًا عليه فقط، بل مع كونه مما اشترك الخلْقُ في معرفته، فإنه يصير بذلك كأنه جاحد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومعنى كوْنه معلومًا من الدين بالضرورة: أنْ يستوي خاصة أهل الدين وعامتهم في معرفته حتى يصير كالمعلوم بالعِلم الضروري في عدم تَطرُّق الشك إليه، لا أنه يستقل إدراك العقل به فيكون عِلما ضروريًّا؛ لأنَّ من قاعدة الأشاعرة أن لا يَثْبُت حُكم شرعي إلا بدليل، لا بضرورة العقل، وما كان بالدليل لا يَكون ضروريًّا، بل نظريًّا، وهو معنى قولي:(كَافِرٌ بِلَا تَقْرِيرِ). أيْ: لا يُقَر مُرتكبه، لا بجزية ولا بغيرها، بل هو مرتد يجب قتله بالرِّدة بإنكار المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة.

ص: 467

وإنْ لم يكن معلومًا من الدين بالضرورة ولكنه منصوص عليه مشهور عند الخاصة والعامة فيشارك القِسم الذي قَبْله في كوْنه منصوصًا ومشهورًا، ويخالفه من حيث إنه لم يَنْتَهِ إلى كوْنه ضروريًا في الدين فيكفر به جاحده أيضًا.

وإنْ لم يكن منصوصًا لكن بلغ مع كونه مجمعًا عليه في الشهرة مَبْلغ المنصوص بحيث يَعْرفه الخاصة والعامة، فهذا أيضًا يكفر منكِره أيضًا على أصح الوجهين اللذين حكاهما الأستاذ أبو إسحاق وغيره؛ لأنه يتضمن تكذيبُهم تكذيبَ الصادق.

وقِيل: لا يكفر؛ لعدم التصريح بالتكذيب.

وإنْ لم يكن منصوصًا ولا بلغ في الشهرة مَبْلغ المنصوص بل هو خفي لا يَعرفه إلا الخواص كما مَثَّلنا من استحقاق بنت الابن في الإرث مع بنت الصلب السدس، فهذا لا يكفر جاحدُه ومنكره؛ لعذر الخفاء، خلافًا لقول بعض الفقهاء: إنه يكفر؛ لتكذيبه الأُمة.

ورُدَّ بأنه لم يكذبهم صريحًا؛ إذِ الفَرْض حيث لم يكن مشهورًا، فهو مما يخفَى على مِثله.

وهو معنى قولي: (وَغَيْرهِ، لَا بِخَفَا). وقُصر في النَّظم؛ للضرورة، أي: وكذا إذا أجمعوا على غير منصوص وهو غير خفي بل ظاهر للخَلْق، بخلاف الخفي، فإنه ليس كذلك في التكفير به.

هذا ما تحرَّر في الجمع بين كلام أئمتنا وغيرهم، خلافًا لِما وقع في كلام الآمدي وابن الحاجب من الكلام المستغلق المحتاج للتأويل؛ لِما في ظاهره من الأمور المشكلة. فلنذكر شيئًا من كلام الأئمة، ثُم كلام الآمدي وابن الحاجب.

فنقول: قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: فأما ما أجمعت الأمة عليه أو ورد فيه خبر يوجب العِلم فأصلٌ بنفسه، يأثم المخالِف فيه، ولا يُعتبر فيه مخالفة أهل الأهواء، وربما أورثهم خلافُهم الكفرَ، كخلاف الميمونيَّة من الخوارج في سقوط الرجم، وخِلاف مِن

ص: 468

أسقط منهم حد الخمر.

وقال البغوي أوائل "التهذيب": الإجماع نوعان: خاص، وعام. فالعام: إجماع الأُمة على ما يعرفه الخاص والعام، كإجماعهم على أعداد الصلوات والركعات ووجوب الزكوات والصوم والحج، يكفر جاحده. وإنْ كان أمرًا لا يعرفه إلا الخواص كإجماعهم على بطلان نكاح المتعة وأنَّ لِبنْت الابن السدس مع البنت الواحدة من الصلب، فلا يكفر جاحده، ويُبَيَّن له الحقُّ.

وقال الرافعي فيمن ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها: (إنه مرتد، إلا أنْ يَكون قريب عهد بالإسلام يجوز أنْ يَخفَى عليه ذلك).

قال: (وهذا لا يختص بالصلاة، بل يجري في جحود كل حكم مجمع عليه)

(1)

.

قال النووي: (وليس هذا على إطلاقه، بل مَن جحد مجمعًا عليه فيه نَص وهو مِن أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة والزكاة والحج والزنا والخمر، فهو كافر. ومَن جحد مجمعًا عليه لا يعرفه إلا الخواص فليس بكافر. ومَن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نَص فيه فَفِي الحكم بتكفيره خلاف)

(2)

.

ثُم صحح في "باب الردة" من الخلاف القولَ بالتكفير.

وكذا ذكر القولين ابن السمعاني، ومَثَّل ما يشترك فيه الخاصة والعامة بأعداد الصلوات وركعاتها والحج والصيام وزمانهما وتحريم الزنا والخمر والسرقة. قال: فالجاحد لذلك كالجاحد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. ومَثَّل الإجماع الذي لا يَعْرفه إلا العلماء بتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة، وتوريث الجدة السدس،

(1)

العزيز شرح الوجيز (2/ 461).

(2)

روضة الطالبين (2/ 146).

ص: 469

وحجب بني الأم بالجد، ومنع توريث القاتل، ومنع الوصية للوارث.

قال: (فجاحد ذلك لا يكفر، بل يحكم بخطئه وضلالته)

(1)

.

وجَرَى على مِثل ذلك المعنى إمام الحرمين في "البرهان" والهندي في "النهاية".

أما الآمدي فقد قال: (اختلفوا في تكفير جاحد المجمَع عليه، فأثبته بعض الفقهاء وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أنَّ إنكار حُكم الإجماع الظني غيْر مُوجِب هذا. والمختار إنما هو التفصيل، وهو: أن اعتقاد الإجماع إما أن يكون داخلًا في مفهوم اسم الإسلام، كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة، أوْ لا يكون كذلك، كالحكم بحل البيع وصحة الإجارة ونحوه. فإنْ كان الأول فجاحده كافر؛ لِمزايلة حقيقة الإسلام له، وإنْ كان الثاني فلا)

(2)

. انتهى

وقال ابن الحاجب في "مختصره": (إنكار حُكم الإجماع القطعي ثالثها المختار: أنَّ نحو العبادات الخمس يكفر)

(3)

.

وقد اختُلف في مرادهما بالعبادات الخمس: أركان الدين الخمس؟ أو الصلوات الخمس؟ وإلًا ما كان فيلزم حكاية قولٍ: "إنَّ منكرها لا يكفر"، ولا يُعرف هذا، وأنَّ مُنكر الخفي فيه قول:"إنه يكفر"، وقد أنكره كثيرون، لكن سبق أن بعض الفقهاء قاله، بل هو ظاهر كلام الرافعي حتى إن النووي تعقبه عليه كما ذكرناه.

ومَن يُؤَوِّل كلام ابن الحاجب مُرادُه أن القائل بأنه لا يكفر يقول: لا يكفر بمخالفة مجرد الإجماع وإنْ كان يكفر من حيث إنه ضروري في الدِّين؛ فيكون مكذبًا لصاحب الشرع.

(1)

قواطع الأدلة (1/ 472).

(2)

الإحكام (1/ 344). ولفظ "لمزايلة" جاء في بعض النسخ هكذا: كمن أنكر.

(3)

مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 505)، الناشر: دار ابن حزم.

ص: 470