الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِمَامَ إِذَا أَخْطَأَ كَانَ دَرْكُ خَطَئِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَأْمُومِينَ، فَمَنْ صَلَّى مُعْتَقِدًا لِطَهَارَتِهِ وَكَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَقُلْنَا: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلنَّجَاسَةِ كَمَا يُعِيدُ مِنَ الْحَدَثِ، فَهَذَا الْإِمَامُ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ، فَيَكُونُ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَطَئِهِ شَيْءٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا نَصٌّ فِي إِجْزَاءِ صَلَاتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ بَعْضَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ بِتَأْوِيلٍ أَخْطَأَ فِيهِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَيُصَلِّيَ، أَوْ يَحْتَجِمَ وَيُصَلِّيَ، أَوْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ، أَوْ يُصَلِّيَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يُعْفَى عَنْهَا عِنْدَ الْمَأْمُومِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْإِمَامُ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لِلْمَأْمُومِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ خَطَأِ إِمَامِهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى أحمد وأبو داود عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ الْوَقْتَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ فَلَهُ وَلَهُمْ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ» " لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أبو داود " وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ " فَهَذَا الِانْتِقَاصُ يُفَسِّرُهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْخَطَأُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ:" وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ " أَنَّهُ إِذَا تَعَمَّدَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الْأَرْكَانَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا لَا يَنْبَغِي الصَّلَاةُ خَلْفَهُ.
[فَصْلٌ في محل الْقُنُوتَ في الصَلَاةِ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَالنَّاسُ فِيهِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الْقُنُوتَ إِلَّا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ إِلَّا بَعْدَهُ.
وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كأحمد وَغَيْرِهِ فَيُجَوِّزُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهِمَا، وَإِنِ اخْتَارُوا الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَقْيَسُ؛ فَإِنَّ سَمَاعَ الدُّعَاءِ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِ الْعَبْدِ:" سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " فَإِنَّهُ يُشْرَعُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ دُعَائِهِ، كَمَا بُنِيَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ، أَوَّلُهَا ثَنَاءٌ وَآخِرُهَا دُعَاءٌ.
وَأَيْضًا فَالنَّاسُ فِي شَرْعِهِ فِي الْفَجْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي الْفَجْرِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ؛ فَإِنَّهُ قَنَتَ ثُمَّ تَرَكَ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَمَنْ قَالَ: الْمَتْرُوكُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ أَوْ بَلَغَتْهُ فَلَمْ يَتَأَمَّلْهَا؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ:«سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ الْقُنُوتِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ، قَالَ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، قَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [قَبْلَ] الرُّكُوعِ، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ، فَقَنَتَ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ» ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أحمد والحاكم
عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:" «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا " جَاءَ لَفْظُهُ مُفَسَّرًا: " أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» ".
وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقُنُوتِ: طُولُ الْقِيَامِ، لَا الدُّعَاءُ، كَذَلِكَ جَاءَ مُفَسَّرًا.
وَيُبَيِّنُهُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: " «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا» "، فَأَخْبَرَ أَنَّ قُنُوتَهُ كَانَ سِرًّا وَكَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْقُنُوتِ هُوَ إِدَامَةَ الطَّاعَةِ، سُمِّيَ كُلُّ تَطْوِيلٍ فِي قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، قُنُوتًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وَلِهَذَا لِمَا سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ قَالَ: " مَا سَمِعْنَا وَلَا رَأَيْنَا " وَهَذَا قَوْلٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْقُنُوتُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، حَيْثُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ، وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ اسْتَحَبَّهُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ فِيهِنَّ، وَجَاءَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ وَالظُّهْرِ، لَكِنْ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ قَنَتَ قُنُوتًا رَاتِبًا بِدُعَاءٍ مَعْرُوفٍ، فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ بِقُنُوتِ الْوِتْرِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ:" اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ - إِلَى آخِرِهِ ".
وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ كأحمد وَغَيْرِهِ، فَقَالُوا: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ لِلنَّوَازِلِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي قَتْلِ أَصْحَابِهِ أَوْ حَبْسِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَنَتَ مُسْتَنْصِرًا، كَمَا اسْتَسْقَى حِينَ الْجَدْبِ، فَاسْتِنْصَارُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَاسْتِرْزَاقِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ إِذْ بِالنَّصْرِ وَالرِّزْقِ قِوَامُ أَمْرِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ: بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ» "، وَكَمَا قَالَ فِي صِفَاتِ الْأَبْدَالِ:" «بِهِمْ تُرْزَقُونَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ» "، وَكَمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ - أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20 - 21] ثُمَّ تَرْكُ الْقُنُوتِ جَاءَ مُفَسَّرًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَهُ لِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عمر رضي الله عنه إِذَا أَبْطَأَ عَلَيْهِ خَبَرُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ قَنَتَ، وَكَذَلِكَ علي رضي الله عنه قَنَتَ لَمَّا حَارَبَ مَنْ حَارَبَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالُوا: وَلَيْسَ التَّرْكُ نَسْخًا؛ فَإِنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يُنَافِيَ الْمَنْسُوخَ، وَإِذَا فَعَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا لِحَاجَةٍ ثُمَّ تَرَكَهُ لِزَوَالِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ لَوْ تَرَكَهُ تَرْكًا مُطْلَقًا لَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْفِعْلِ.
قَالُوا: وَنَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ قُنُوتًا رَاتِبًا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقِلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ أَنَّهُ دَعَا فِي قُنُوتِهِ فِي الْفَجْرِ وَنَحْوِهَا إِلَّا لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ، وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ قَنَتَ دَائِمًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَلَا أَنَّهُ قَنَتَ دَائِمًا يَدْعُو قَبْلَهُ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْقُنُوتَ الرَّاتِبَ، فَإِذَا عُلِمَ هَذَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ " حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَذَانِ الرَّاتِبِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِعَارِضٍ تَحْضِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ.
فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ النَّازِلَةِ لَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ.
وَهَذَا أَصْلٌ آخَرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ كَالْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيمَا يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ الرَّاتِبَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ الْعَارِضِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا، كَمَا سَقَطَ