المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل القاعدة الأولى العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل] - القواعد النورانية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[فَصْلٌ في الطَّهَارَةُ]

- ‌[الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ نَوْعَانِ]

- ‌[الوضوء من لحوم الإبل]

- ‌[مرور الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ بين يدي المصلي]

- ‌[بيان مقدار ما يعفى من النجاسة]

- ‌[اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ]

- ‌[أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا رُطُوبَةَ فِيهَا كَالشَّعَرِ وَالظُّفْرِ وَالرِّيشِ]

- ‌[طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ]

- ‌[التيمم]

- ‌[الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الصلاة]

- ‌[فَصْلٌ في مواقيت الصَّلَاةَ]

- ‌[فَصْلٌ في الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْأَذَانُ]

- ‌[فَصْلٌ في كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا في الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِتْمَامِهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْقَدْرُ الْمَشْرُوعُ لِلْإِمَامِ في الصَلَاةُ]

- ‌[فَصْلٌ في كون السَّلَامُ مِنَ الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ في صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في ارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ]

- ‌[فَصْلٌ في محل الْقُنُوتَ في الصَلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ]

- ‌[فَصْلٌ في الصَّلَوَاتُ فِي الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الزَّكَاةُ]

- ‌[السَّائِمَةِ]

- ‌[الْمُعَشَّرَاتِ]

- ‌[مِقْدَارُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِلْكِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصِّيَامُ]

- ‌[تَبْيِيتِ النية في الصيام]

- ‌[فَصْلٌ في صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْحَجُّ] [

- ‌حَجَّةَ الوداع]

- ‌[الْمُتْعَةَ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ]

- ‌[كَانَتْ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ جُزْءًا مِنْ حَجِّهِ فَالْهَدْيُ الْمَسُوقُ لَا يُنْحَرُ حَتَّى يَقْضِيَ التَّفَثَ]

- ‌[الْمُقَامِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْمَبِيتِ بِهَا اللَّيْلَةَ]

- ‌[الجمع بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ]

- ‌[قَصْرَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ]

- ‌[صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْر]

- ‌ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

- ‌[الصَّلَاةِ عَقِبَ السَّعْيِ]

- ‌[التلبية]

- ‌[أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ الْحَلَالُ وَذَكَّاهُ]

- ‌[فَصْلٌ في قَوَاعِدَ متعلقة بالْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا]

- ‌[فصل الْقَاعِدَةُ الأولى الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَعَاقِدِ حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا]

- ‌[فَصْلٌ في حكم إجارة الْأَرْض إذا كانت مُشْتَمِلَة عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكَرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى]

- ‌[فَصْلٌ في قَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ شروط من أجاز المزارعة]

- ‌[فَصْلٌ خطأ من يتمسك بألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهي]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ]

- ‌[القول الأول الأصل في العقود والشروط الحظر]

- ‌[القول الثاني الأصل في العقود والشروط الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنِ لَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[مقدمات نافعة جدا في هذا الباب]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مَسَائِلُ الْأَيْمَانِ فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أو فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الثانية الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ بِهَا تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ بِهَا يَظْهَرُ سِرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ نَذْرُ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعِتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصْلٌ مُوجَبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

الفصل: ‌[فصل القاعدة الأولى العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل]

مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مالك وأحمد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ، فَهَلْ يُبَاحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

[فَصْلٌ في قَوَاعِدَ متعلقة بالْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا]

[فصل الْقَاعِدَةُ الأولى الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ]

فَصْلٌ

وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا

فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ، [فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهَا أَيْسَرُ مِنْهُ فِي الْعِبَادَاتِ] .

فَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ الْعُقُودِ. فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْهِبَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْوَقْفُ، وَالْعِتْقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أحمد، يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ، وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً، كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ.

ص: 153

ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا، كَمَا فِي الْأَخْرَسِ.

وَيُقِيمُونَ الْكِتَابَةَ أَيْضًا مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا. كَمَا فِي الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُصْبَغُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ، وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ. وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29][النِّسَاءِ: 29]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4][النِّسَاءِ: 4] . وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ إِلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ، إِذِ الْأَفْعَالُ مِنَ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا: تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً؛ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ، فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ، [فِيمَا] كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ، كَالْمَبِيعَاتِ [الْمُحَقَّرَاتِ] ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ فِيهَا، أَوْ بَنَى مِطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ، وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ: كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ، أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ، وَكَالْهَدِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أَكْثَرُ أُمُورِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ، بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ.

وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ أبي حنيفة، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ

ص: 154

أحمد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَبِكُلِّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً. فَإِنِ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ. وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَقِرٌّ، لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ، بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ، كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ، فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ هِيَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوِ الرُّومِ أَوِ التُّرْكِ أَوِ الْبَرْبَرِ أَوِ الْحَبَشَةِ، بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ.

وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مالك وَظَاهِرِ مَذْهَبِ أحمد؛ وَلِهَذَا يُصَحَّحُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنَ الْآخَرِ، بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا بِدَرَاهِمَ فَيَأْخُذُهُ، أَوْ يَقُولَ: أَعْطِنِي خُبْزًا بِدَرَاهِمَ، فَيُعْطِيهِ مَا يَقْبِضُهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوِ الْحَلْوَاءَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ، أَوْ يَضَعَ الْمَتَاعَ لَهُ لِيُوضَعَ بَدَلَهُ، فَإِذَا وَضَعَ الْبَدَلَ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ، كَمَا يَحْكِيهِ التُّجَّارُ عَنْ عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ كُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ هِبَةً [فَهُوَ هِبَةٌ مِثْلَ الْهَدِيَّةِ] .

ص: 155

وَمِثْلَ: تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ يُحْمَلُ مَعَهَا إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ لَا عَارِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ: مِثْلَ: رُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ الْمُكَارِي، وَرُكُوبِ دَابَّةِ الْجَمَّالِ أَوِ الْحَمَّارِ، أَوِ الْبَغَّالِ الْمُكَارِي عَلَى الْوَجْهِ [الَّذِي اعْتُقِدَ] أَنَّهُ إِجَارَةٌ، وَمِثْلَ الدُّخُولِ إِلَى الْحَمَّامَاتِ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ بِالْأُجْرَةِ، وَمِثْلَ دَفْعِ الثَّوْبِ إِلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ، أَوْ دَفْعِ الطَّعَامِ إِلَى طَبَّاخٍ أَوْ شَوَّاءٍ يَطْبُخُ أَوْ يَشْوِي بِالْأَجْرِ، سَوَاءٌ شَوَى اللَّحْمَ مَشْرُوحًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوحٍ، حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْخُلْعِ، هَلْ يَقَعُ بِالْمُعَاطَاةِ؟ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: اخْلَعْنِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ، فَيَقْبِضُ الْعِوَضَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِالْمُعَاوَضَةِ.

فَذَهَبَ الْعُكْبَرِيُّونَ كأبي حفص العكبري وأبي علي بن شهاب إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خُلْعٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أحمد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُصُوصِهِ، بَلْ لَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» ، قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ فَقَدْ عَمِلَ.

وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كأبي عبد الله بن حامد، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِالْكَلَامِ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أحمد مَا اعْتَمَدُوهُ فِي ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ فَسْخُ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظٍ، فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ.

ص: 156

وَأَمَّا النِّكَاحُ: فَقَالَ هَؤُلَاءِ كابن حامد وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، مِثْلَ أبي الخطاب وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَالشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَمَنَعُوا مِنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوِ الْعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ - كابن حامد وَالْقَاضِي وَالْمُتَأَخِّرِينَ - إِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعَلُّمِهَا انْعَقَدَ بِمَعْنَاهَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ. وَأَنَّ فِيهِ شَوْبَ التَّعَبُّدِ.

وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أحمد - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ أحمد عَلَى ذَلِكَ، وَلَا نَقَلُوا عَنْهُ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَقَلُوا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ أبي [الحرث] : إِذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ فَلَيْسَ بِنِكَاحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50][الْأَحْزَابِ: 50] ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، بَلْ قَدْ نَصَّ أحمد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ لِأَمَتِهِ:" أَعْتَقْتُكِ وَجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ " وَبِقَوْلِهِ: " جَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ، أَوْ صَدَاقَكِ عِتْقَكِ " ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ جَوَابَاتِهِ.

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَأَمَّا أبو عبد الله بن حامد: فَطَرَدَ قِيَاسَهُ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولَ: " تَزَوَّجْتُهَا أَوْ نَكَحْتُهَا "؛ لِأَنَّ

ص: 157

النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ قَطُّ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا بِهَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ.

وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: فَجَعَلُوا هَذِهِ الصُّورَةَ مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ ابن حامد، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ.

وَذَكَرَ ابن عقيل قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؛ لِنَصِّ أَحْمَدَ بِهَذَا، وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُصُوصِ أحمد وَأُصُولِهِ.

وَمَذْهَبُ مالك فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِهِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ مالك اخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مَنْعُ مَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هِبَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، قَالَ ابن القاسم: وَإِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إِنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ مالك، فَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مالك وأحمد مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِهِمَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ، وَأَنَّ الْكِنَايَةَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى النِّيَّةِ، وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَتَقُومُ مَقَامَ إِظْهَارِ النِّيَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَا الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مَعْرُوفَةٌ: مِنَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا لَهُ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:" مَلَّكْتُهَا لَكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ " عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ، وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ إِمْلَاكًا وَمِلَاكًا، وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ

ص: 158

يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ رَوَوْهُ تَارَةً: " «أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» " وَتَارَةً: "مَلَّكْتُكَهَا " وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى " مَلَّكْتُكَهَا " بَلْ إِمَّا أَنَّهُ قَالَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً، رَوَوُا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا.

ثُمَّ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ أُصُولِ أحمد وَنُصُوصِهِ، وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، إِذِ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُهُ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا.

نَعَمْ لَوْ قِيلَ: تُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ: لَكَانَ مُتَوَجَّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مالك وأحمد وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ مالك وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أحمد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وابن عقيل، وَالْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إِلَى عَادَتِهِمْ، فَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ، وَإِنْ كَانُوا

ص: 159

يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَوَطِئَهَا، أَوْ طَاوَعَتْهُ وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا أُقِرَّا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمُسْلِمُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يُمَيَّزَ عَنِ السِّفَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5][الْمَائِدَةِ: 5]، وَقَالَ:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25][النِّسَاءِ: 25] فَأَمَرَ بِالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مُبَالَغَةً فِي تَمْيِيزِهِ عَنِ السِّفَاحِ، وَصِيَانَةً لِلنِّسَاءِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْبَغَايَا، حَتَّى شَرَعَ فِيهِ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ وَالْوَلِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِشُهْرَتِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ:" «الْمَرْأَةُ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا: فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» " وَأَمَرَ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ، أَوْ بِالْإِعْلَانِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي مَذْهَبِ أحمد، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَّلَهُ بِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنِ السِّفَاحِ، وَبِأَنَّهُ يَحْفَظُ النَّسَبَ عِنْدَ التَّجَاحُدِ.

فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ حِكْمَتُهَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا نَظَرٌ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3][النِّسَاءِ: 3]، وَقَالَ:{أَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32][النُّورِ: 32] وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275][الْبَقَرَةِ: 275]، وَقَالَ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4][النِّسَاءِ: 4] ،

ص: 160

وَقَالَ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29][النِّسَاءِ: 29]، وَقَالَ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6][الطَّلَاقِ: 6]، وَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282 - 283][الْبَقَرَةِ: 282، 283] وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245][الْبَقَرَةِ: 245]، وَقَالَ:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261][الْبَقَرَةِ: 261]، وَقَالَ:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276][الْبَقَرَةِ: 276]، وَقَالَ:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ} [الحديد: 18][الْحَدِيدِ: 18]، وَقَالَ:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92][النِّسَاءِ: 92]، وَقَالَ:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1][الطَّلَاقِ: 1] وَقَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231][الْبَقَرَةِ: 231]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا هَذِهِ الْعُقُودُ: إِمَّا أَمْرًا، وَإِمَّا إِبَاحَةً، وَالْمَنْهِيُّ فِيهَا عَنْ بَعْضِهَا كَالرِّبَا، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَبِطِيبِ نَفْسٍ فِي التَّبَرُّعِ فِي

ص: 161

قَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا، وَلَا فِعْلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي، وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ التَّرَاضِي وَطِيبَ النَّفْسِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

فَنَقُولُ: قَدْ وُجِدَ التَّرَاضِي وَطِيبُ النَّفْسِ، وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي غَالِبِ مَا يُعْتَادُ مِنَ الْعُقُودِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا وُجِدَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِمَا بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْمِلُهُ اللَّدَدُ فِي نَصْرِهِ لِقَوْلٍ مُعَيَّنٍ عَلَى أَنْ يَجْحَدَ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنَ التَّرَاضِي وَطِيبِ النَّفْسِ، فَلَا عِبْرَةَ بِجَحْدِ مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ جَحْدَ الضَّرُورِيَّاتِ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَتَلْقِينٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْمَذَاهِبِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا مَا يُغَيِّرُهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ حَيْثُ لَا تَوَاطُؤَ عَلَى الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْفِطَرَ السَّلِيمَةَ لَا تَتَّفِقُ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ فَقَدْ يَتَّفِقُ جَمَاعَاتٌ عَلَى الْكَذِبِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَدٍّ، فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ، كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ، كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَكَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ، كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» .

ص: 162

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَحُدَّ الشَّارِعُ لَهَا حَدًّا، لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عَيَّنَ لِلْعُقُودِ صِفَةً مُعَيَّنَةً [مِنَ] الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِالصِّيَغِ الْخَاصَّةِ، بَلْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ، وَأَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا وَلَا يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا، حَتَّى يُدْخِلَ أَحَدَهُمَا فِي خِطَابِ اللَّهِ وَلَا يُدْخِلَ الْآخَرَ، بَلْ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنَ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمُعَاقَدَاتِ بَيْعًا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي لُغَتِهِمْ تُسَمَّى بَيْعًا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ: عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ، وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَبِاسْتِقْرَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ نَعْلَمُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ أَوْ أَحَبَّهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إِلَّا بِالشَّرْعِ.

وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْحَظْرِ، فَلَا يُحْظَرُ مِنْهُ إِلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ هُمَا شَرْعُ اللَّهِ، وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ

ص: 163

[عِبَادَةٌ؟ ! وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنَ [الْعِبَادَاتِ] أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى أَنَّهُ] مَحْظُورٌ؟ وَلِهَذَا كَانَ أحمد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ، فَلَا يُشْرَعُ مِنْهَا إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21][الشُّورَى: 21] .

وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ، فَلَا يُحْظَرُ مِنْهَا إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59][يُونُسَ: 59]، وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ - وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 136 - 138][الْأَنْعَامِ] ، فَذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمِنَ التَّحْرِيمَاتِ.

وَفِي صَحِيحِ مسلم عَنْ عياض بن حمار رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ

ص: 164

بِهِ سُلْطَانًا» ".

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ:

الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهَا فِي مَعَاشِهِمْ - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ - فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْعَادَاتِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، فَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا فِيهِ فَسَادٌ، وَأَوْجَبَتْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَكَرَّهَتْ مَا لَا يَنْبَغِي، وَاسْتَحَبَّتْ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعَادَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا، مَا لَمْ تُحَرِّمِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمِ الشَّرِيعَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَحَبُّ، أَوْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَمَا لَمْ تَحِدَّ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ حَدًّا، فَيَبْقَوْنَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَصْلِيِّ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ: عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ الصِّيغَةَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، إِذِ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَإِلَّا فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.

فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنَى مَسْجِدَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ بَنَوُا الْمَسَاجِدَ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُ هَذَا الْمَسْجِدَ، وَلَا مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّفْظَ، بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَفْسِ بِنَائِهِ.

ص: 165

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ «لَمَّا اشْتَرَى الْجَمَلَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " هُوَ لَكَ يَا عبد الله بن عمر» وَلَمْ يَصْدُرْ مِنِ ابْنِ عُمَرَ لَفْظُ قَبُولٍ. وَكَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى لَهُ، فَيَكُونُ قَبْضُ الْهَدِيَّةِ قَبُولَهَا، وَلَمَّا نَحَرَ الْبُدْنَاتِ قَالَ:" مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ " مَعَ إِمْكَانِ قِسْمَتِهَا، فَكَانَ هَذَا إِيجَابًا، وَكَانَ الِاقْتِطَاعُ هُوَ الْقَبُولَ، وَكَانَ يُسْأَلُ فَيُعْطِي، أَوْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَيَقْبِضُ الْمُعْطَى، وَيَكُونُ الْإِعْطَاءُ هُوَ الْإِيجَابَ، وَالْأَخْذُ هُوَ الْقَبُولَ، فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ الْآخِذِينَ بِلَفْظٍ، وَلَا يَلْتَزِمُ أَنْ يَتَلَفَّظَ لَهُمْ بِصِيغَةٍ، كَمَا فِي إِعْطَائِهِ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وللعباس وَغَيْرِهِمْ.

وَجَعَلَ إِظْهَارَ الصِّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهَا بِاللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُدَلَّسَاتِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ جِنْسَانِ: عُقُودٌ، وَقُبُوضٌ، كَمَا جَمَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:«رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا قَضَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى» وَيَقُولُ النَّاسُ: الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعُقُودِ: إِنَّمَا هُوَ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ. فَإِنَّ الْمُعَاقَدَاتِ تُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبْضِ وَجَوَازَهُ، بِمَنْزِلَةِ إِيجَابِ الشَّارِعِ،

ص: 166

ثُمَّ التَّقَابُضُ وَنَحْوُهُ وَفَاءٌ بِالْعُقُودِ، بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ.

وَالْقَبْضُ يَنْقَسِمُ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، كَالْعَقْدِ. وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، فَكَذَلِكَ الْعُقُودُ، وَإِنْ حَرَّرْتَ عِبَارَتَهُ قُلْتَ: أَحَدُ نَوْعَيِ التَّصَرُّفَاتِ. فَكَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عَادَةِ النَّاسِ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ.

وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الْإِبَاحَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ أَوِ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إِظْهَارِهِ لِلرِّضَى.

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ غَائِبًا، وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِلَى مَنْزِلِ أبي طلحة وَمَنْزِلِ جابر بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ. وَلَمَّا دَعَاهُ صلى الله عليه وسلم اللَّحَّامُ سَادِسَ سِتَّةٍ: اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ، فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامَ الدَّاعِيَ، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ قَالَ: ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ قَدْ مَضَوْا.

وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أبي جعفر: إِنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ

ص: 167