الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ ; لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إِمَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْهَا، وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إِذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَكُونُ إِيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ.
[فَصْلٌ في حكم إجارة الْأَرْض إذا كانت مُشْتَمِلَة عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ]
فَصْلٌ.
وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، مَا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا، لَا سِيَّمَا دِمَشْقَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ، وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَسَاكِنَ، فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْدَرِعُهَا، أَوْ يُسْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ. فَهَذَا - إِذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ - مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أحمد عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا كَانَ الشَّجَرُ قَلِيلًا وَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ، أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مالك، وَعَنْ أحمد كَالْقَوْلَيْنِ. قَالَ الكرماني: قِيلَ لأحمد: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ فِيهَا نَخَلَاتٌ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ، أَظُنُّهُ: أَرَادَ الشَّجَرَ، لَمْ أَفْهَمْ عَنْ أحمد أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ فِيمَا إِذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ هُوَ غَيْرُ الْجِنْسِ، كَشَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ
بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ. وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ، كَقَوْلِ مالك، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ: جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا، أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ، أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرِكْ، يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ.
وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَائِهَا، وَاشْتِرَاءَ النَّخْلِ وَدُخُولَ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَأْمَنِ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ ثَمَرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ: مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» ، وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ:" «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ "، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: " تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا» " وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم: أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سعيد بن المثنى الْمُحَدِّثِ عَنْ جابر.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جابر قَالَ: " «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» "، وَفِي رِوَايَةِ لَهُمَا " «وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» " بَدَلَ " الْمُعَاوَمَةِ "، وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عطاء
عَنْ جابر: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشْقِهَ، وَالْإِشْقَاهُ: أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُحَاقَلَةُ: أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنَ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ، وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنَ التَّمْرِ. وَالْمُخَابَرَةُ: الثُّلُثُ وَالرُّبْعُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ» . قَالَ زيد: قُلْتُ لعطاء: أَسَمِعْتَ جابرا يَذْكُرُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِمَا عَنْ أبي البختري قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، فَقَالَ:" «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ، أَوْ يُؤْكَلَ، وَحَتَّى يُوزَنَ. فَقُلْتُ: مَا يُوزَنُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى [يُحْرَزَ] » "، وَفِي مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " « [لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا] ، لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ» ".
وَقَالَ ابن المنذر: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ، قَالُوا: فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ، فَقَدْ بَاعَهُ الثَّمَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ، وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرْدًا لِعُمُومِ الْقِيَاسِ، وَمَنْ جَوَّزَهُ إِذَا كَانَ قَلِيلًا قَالَ: الضَّرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، كَمَا لَوِ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ، أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ.
وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وأحمد وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أبي حنيفة ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِيَاعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ: الْقَطْعُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إِبْقَاءَهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ، وَسَنَتَكَلَّمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
وَذَكَرَ أبو عبيد: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إِجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ كَثِيرٌ: إِجْمَاعٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ ابن عقيل، وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الكرماني، وَهَذَا الْقَوْلُ كَالْإِجْمَاعِ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ - قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ [دَيْنٌ] ، فَدَعَا عمر غُرَمَاءَهُ، فَقَبَّلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ، وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ ".
وَأَيْضًا: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا، فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ جُرُبِ الْأَرْضِ السَّوَادِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا مُقَدَّرًا، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ: ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ: سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ: دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مالك وَالشَّافِعِيِّ وأحمد: أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ
تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَاجَرَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَقِّتْهُ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ إِجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عمر وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ، وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أبو عبيد فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ هَذَا فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ [الْمُعَامَلَةَ] تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ.
وَحُجَّةُ ابن عقيل: أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهَا دَاعِيَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ إِجَارَتُهَا إِذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ إِلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ، وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ مالكا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ، تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مالك إِذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إِذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إِلَّا بِسَقْيِهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ.
هَذَا إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ، كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَأَمَّا إِنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ. . وَكَذَلِكَ إِنْ فَرَقَّ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، فَأَمَّا إِنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَقَدَ جَوَّزَ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِجَارَةُ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُ ابن عقيل هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ، وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ، [أَوْ مُرْتَكِبٍ] لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ [أَوْ ضَارٌّ] وَمُتَضَرِّرٌ، فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ: تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، يَبِيعُهُ إِيَّاهَا مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَيُبِيحُهُ إِبْقَاءَهَا، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَتَارَةً بِأَنْ يَكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ، مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ.
وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إِنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ، كأبي يوسف ومحمد وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، فَقَدِ اضْطُرُّوا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إِلَى أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إِمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ، وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مَسَاقَاتِهَا.
وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إِلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إِبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أحمد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: إِبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا، كَمَذْهَبِ مالك وَغَيْرِهِ.
وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ الصَّحِيحُ قَطْعًا، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ،
وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» " رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ: أحمد وأبو داود وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلُهُ، وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إِلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، مِثْلُ: الْهِبَةِ وَالْعَارِيَةِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُبَايَعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ.
فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ، لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنَ الْعِوَضِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفٍ لَمْ يَرْضَ [بِالِاقْتِرَاضِ] إِلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إِلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا، فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْفٍ، وَلَا هَذَا أُقْرِضَ قَرْضًا مَحْضًا، بَلِ الْحَقِيقَةُ: أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ "، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ: حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، وَهَكَذَا مَنْ أَكَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ، أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ: أَنَّهُ إِنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا، وَأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِنَّمَا بَذَلَ الْأَلْفَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ هِيَ جُلُّ
الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضِهِ، فَلَيْسَتِ الْحِيلَةُ إِلَّا ضَرْبًا مِنَ اللَّعِبِ [وَالْإِفْسَادِ] ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ.
وَالَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ، أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ [هُمْ] بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ، كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّرَرِ [وَالِاضْطِرَارِ] مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامَ ذَلِكَ إِلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّذِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78][الْحَجِّ: 78]، وَقَالَ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185][الْبَقَرَةِ: 185]، وَقَالَ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28][النِّسَاءِ: 28]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ:" «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ» "، " «وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» "، " «لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً» "، فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إِلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ، وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا: أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ
بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173][الْبَقَرَةِ: 173]، وَقَوْلِهِ:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3][الْمَائِدَةِ: 3] ، فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً: هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً، كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اضْطُرَّ فِيهِ إِلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ، وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ، فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ، وَحَالُهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163][الْأَعْرَافِ:]، وَقَوْلُهُ:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160][النِّسَاءِ: 160] وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ رُبَّمَا نُنَبِّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابن عقيل: هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أحمد وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إِنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عمر فِي قِصَّةِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، فَإِنَّهُ قَبَّلَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا
الشَّجَرَ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى حَائِطِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْخَرَاجِ عَلَى السَّوَادِ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا، إِذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72][الْمُؤْمِنُونَ: 72] وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَالِهِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أُجْرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الصَّحَابَةُ - وَلَا نَظِيرَ لَهُ - لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ سَوَاءٌ.
فَإِنَّهُ إِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوِ الْمُزَارَعَةُ، قِيلَ: وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ، كَمَا فُعِلَ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، إِمَّا فِي خِلَافَةِ المنصور وَإِمَّا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنَ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُقَاسَمَةِ، الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوِ الْمُحَابَاةِ فِيهَا، قِيلَ: قَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ ذَلِكَ، فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ لَهُمْ أَرْضُونَ فِيهَا شَجَرٌ [تُكْرَى] بَلْ هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. وَنَعْلَمُ أَنَّ
السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَعْمُرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبُهُمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ لَا تَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى عَامِلٍ أَمِينٍ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ [بَارِدٌ] لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ عمر بِمَالِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ.
فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ، وَلَا أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ.
وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ، وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا طَائِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: سُئِلَ أحمد عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " الْقَبَالَاتُ رِبًا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرٌ، قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا؟ قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْقَبَالَةُ الْمَكْرُوهَةُ، قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سعيد عَنْ جبلة سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: " الْقَبَالَاتُ رِبًا "، قِيلَ: الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، لِأَجْلِ الْفَضْلِ، فَإِذَا قِيلَ فِي الْأُجْرَةِ أَوِ الثَّمَنِ أَوْ نَحْوِهِمَا: إِنَّهُ رِبًا، مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ، فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا ; لِأَنَّ الرِّبَا إِمَّا رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ [لَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ] تَأْجِيلُهُ، وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْخِيرُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا رِبَا الْفَضْلِ، الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا يَكُونُ إِذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مَغَلِ الْأَرْضِ، مِثْلُ: أَنْ يَقْبَلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ [بِتَمْرٍ] ، فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ، وَهَذَا مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا إِذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، مِثْلُ: أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رِبًا، كَقَوْلِ مالك، وَهَذَا مِثْلُ الْقَبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ ; لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ [مَعْلُومَةٍ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ] تَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، فَيَظْهَرُ الرِّبَا.
فَالْقَبَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا رِبًا: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ مِنْ جِنْسِ مَغَلِهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ، وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ، تَغُلُّ لَهُ مَا تَغُلُّ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ، فَيَضْمَنُهَا رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مَظْهَرُ تَسْمِيَتِهِ بِالرِّبَا، فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ
الرِّبَا بِسَبِيلٍ، وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ.
ثُمَّ إِنَّ أحمد لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ ; لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ، فَيَكُونُ الْمَغَلُ بِكَسْبِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ، بَلِ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي الْقَبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا، فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ بِهِ عَنِ [ابْنِ عُمَرَ] أَنَّهُ رِبًا، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَّامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ، فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَكْتَرِيهِ لِيَكْرِيَهُ فَقَطْ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ رِبًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ، وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمَغَلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا، فَتَقْبِيلُهَا لِآخَرَ مُرَابَاةٌ لَهُ، وَلِهَذَا كَرِهَهَا أحمد، وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إِذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَرْضِهَا: بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ، عَلَى أَنَّ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إِكْرَاءٌ لِلْأَرْضِ مِنْهُمْ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مَعَ إِكْرَاءِ الشَّجَرِ بِنِصْفِ ثَمَرِهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ إِكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ ; لِأَنَّ إِعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، لَكَانَ إِعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ:
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا، فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا، أَوْ مَالَ يَتِيمٍ، فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَإِكْرَاءُ الْأَرْضِ أَوِ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ فِي إِجَارَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنِ اكْتَرَاهُ اكْتَرَاهُ بِنَقْصٍ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكُلُّ مَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ وَجَبَ إِبَاحَةُ لَوَازِمِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِهَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لَوَازِمِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إِلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، فَهُنَا يَتَعَارَضُ الدَّلِيلَانِ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَةُ كِرَاءٍ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ، بِخِلَافِ دُخُولِ كِرَاءِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَا نَصَّ فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَمَتَى أُكْرِيَتِ الْأَرْضُ وَحْدَهَا وَبَقِيَ الشَّجَرُ لَمْ يَكُنِ الْمُكْتَرِي مَأْمُونًا عَلَى الثَّمَرِ، فَيُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، كَمَا إِذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، يَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مِثْلُ قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إِذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي جِنْسٍ - وَكَانَ فِي بَيْعِهِ مُتَفَرِّقًا ضَرَرٌ - جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ. [وَبِهِ فُسِّرَ] تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ وَالْمَسَاكِنُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِنَقْصٍ كَثِيرٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَكْرَى الْأَرْضَ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سَقْيَ الشَّجَرِ - وَالسَّقْيُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - صَارَ الْمُعَوَّضُ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ السَّقْيَ، فَإِذَا سَقَاهَا - إِنْ سَاقَاهُ عَلَيْهَا - صَارَتِ الْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِمُسَاقَاةٍ، وَإِنْ
لَمْ يُسَاقِهِ لَزِمَ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إِلَّا بِمُسَاقَاةٍ، أَوْ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ لِلْمَكْرِيِّ جَمِيعُ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضُهَا فَفِي بَيْعِهَا - مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْمَسَاكِنَ لِغَيْرِهِ - نَقْصٌ لِلْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهَا ضَرَرٌ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمْعِ يُخَالِفُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ، وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ أحمد وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا تَعَذَّرَتِ الْقِسْمَةُ: أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يُؤَاجِرَ مَعَهُ، إِنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مَنْفَعَةً ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ» " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ كُلِّهِ، وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنَ الْقِيمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُفْرَدَةٌ دُونَ حِصَّتِهِ مِنْ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، فَعُلِمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ النِّصْفِ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَبِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِتْلَافِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ، فَيَجِبُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ قُسِّمَتِ الْقِيمَةُ.
فَإِذَا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ بَيْعَ نَصِيبِهِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ نَقْصِ قِيمَةِ شَرِيكِهِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا - إِذَا كَانَ فِي
تَفْرِيقِهِمَا ضَرَرٌ - أُولَى، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الشَّاةِ مَعَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُمَا بِالْحَلْبِ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ اللَّبَنِ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَيَجُوزُ مَتَى كَانَ مَعَ الشَّجَرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، كَمَنْفَعَةِ أَرْضٍ لِلزَّرْعِ أَوْ بِنَاءٍ لِلسَّكَنِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ فَقَطْ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ أَوِ الْمَسْكَنِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِمُجَرَّدِ الْحِيلَةِ، كَمَا قَدْ يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " لَمْ يَجِئْ هَذَا الْأَصْلُ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إِكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ، وَاسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ، وَذَلِكَ: أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي [تُسْتَخْلَفُ] مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا، وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ، وَالْبَهَائِمُ وَالصُّوفُ، وَالْمَاءُ الْعَذْبُ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا خَلَقَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَأُخِذَ، خَلَقَ اللَّهِ بَدَلَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ، كَالْمَنَافِعِ سَوَاءٌ، وَلِهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَةِ وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنَ النَّمَاءِ مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوِ الرِّبَاعِ لِمَنْفَعَتِهَا، فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا، وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا، وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا، بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ، وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ.
وَأَمَّا بَابُ الْعَارِيَةِ فَيُسَمُّونَ إِبَاحَةَ الظَّهْرِ إِفْقَارًا، يُقَالُ: أَفْقَرَهُ الظَّهْرُ، وَمَا أُبِيحَ لَبَنُهُ: مَنِيحَةً، وَمَا أُبِيحُ ثَمَرُهُ: عَرِيَّةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ
عَارِيَةً، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقْتَرِضُ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «مَنِيحَةُ لَبَنٍ، أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ» " فَاكْتِرَاءُ الشَّجَرِ ; لِأَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ ثَمَرَهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إِلَّا إِجَارَةَ الظِّئْرِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6][الطَّلَاقِ: 6] .
وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا، وَرَأَى جَوَازَ إِجَارَةِ الظِّئْرِ، قَالَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حَجْرِهَا، وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا، كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] ، وَضَمُّ الطِّفْلِ إِلَى حَجْرِهَا إِنْ فُعِلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْتُهُ: مِنْ أَنَّ الْفَائِدَةَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْبَيْعِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إِلَّا أَجْرًا، لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَبَ اللَّبَنَ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِلَّا بَيْعًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصِلُهَا.
فَلَمَّا كَانَ لِلْفَوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا حَالَانِ:
حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَحَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضِهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يَصْلُحَ الزَّرْعُ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُ وَيَحْصُدُ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ، وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إِلَى [الْمُكْتَرِي] حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ الْأَرْضَ إِلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا. وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَكَمَا أَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِزَرْعِهَا، فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرَةِ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِثَمَرِهَا، بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إِلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إِلَى الْمُزَارَعَةِ، هَذَا مُعَامَلَةٌ مِنَ النَّمَاءِ، وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتِ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْفِ لِأَصْلِهَا وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا، وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا، وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا، فَكَذَلِكَ تُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إِنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ، كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ، كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ، وَمَعَ
عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا قَدْ يَعْدَمُ الثَّمَرُ وَقَدْ يَنْقُصُ، فَإِنَّ مِنَ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُسْقَ لَمْ يُثْمِرْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إِجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ، لَا إِجَارَةٌ لِلشَّجَرِ. وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا، وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا.
يُقَالُ: مِثْلُهُ فِي إِكْرَاءِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْبُتُ قَلِيلًا وَقَدْ يَنْبُتُ كَثِيرًا.
وَإِنْ قِيلَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنَ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ.
قِيلَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا: التَّمَكُّنُ مِنَ الِاسْتِثْمَارِ، لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إِنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ. كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إِنَّمَا هُوَ السُّكْنَى، وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ.
فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ: إِنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُحْصَدُ، لَيْسَ كَاكْتِرَائِهَا لِلسُّكْنَى أَوِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا.
وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إِلَّا وُضُوحًا.
فَظَهَرَ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زُهُوِّهَا، وَبَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ، لَيْسَ هُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِكْرَاؤُهَا لِمَنْ يُحَصِّلُ ثَمَرَتَهَا وَزَرْعَهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا
حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي [مِنَ الْجِذَاذِ، كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي] مِنَ الْحَصَادِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ، وَمُؤْنَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ، فَهُوَ كَمُكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تَنْبُتَ، لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ.
وَلَكِنْ يُقَالُ: طَرْدُ هَذَا: أَنْ يَجُوزَ إِكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا.
قِيلَ: إِذَا جَوَّزْنَا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ تُدْفَعَ الْمَاشِيَةُ إِلَى مَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ.
وَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إِجَارَتُهَا لِاحْتِلَابِ لِبَنِهَا كَمَا جَازَ إِجَارَةُ الظِّئْرِ؟
قِيلَ: إِجَارَةُ الظِّئْرِ أَنْ تُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ ; لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ الَّتِي تُرْضِعُ الطِّفْلَ، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ: أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوَفِّي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ: جَوَازُهُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ لِيُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْلِبُ اللَّبَنَ، أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ، فَهَذَا مُشْتَرٍ اللَّبَنَ، لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةٍ، وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ، وَاحْتِلَابُهُ كَقِطَافِهَا، وَهُوَ الَّذِي نَهَى