المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب] - القواعد النورانية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[فَصْلٌ في الطَّهَارَةُ]

- ‌[الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ نَوْعَانِ]

- ‌[الوضوء من لحوم الإبل]

- ‌[مرور الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ بين يدي المصلي]

- ‌[بيان مقدار ما يعفى من النجاسة]

- ‌[اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ]

- ‌[أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا رُطُوبَةَ فِيهَا كَالشَّعَرِ وَالظُّفْرِ وَالرِّيشِ]

- ‌[طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ]

- ‌[التيمم]

- ‌[الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الصلاة]

- ‌[فَصْلٌ في مواقيت الصَّلَاةَ]

- ‌[فَصْلٌ في الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْأَذَانُ]

- ‌[فَصْلٌ في كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا في الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِتْمَامِهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْقَدْرُ الْمَشْرُوعُ لِلْإِمَامِ في الصَلَاةُ]

- ‌[فَصْلٌ في كون السَّلَامُ مِنَ الصَّلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ في صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في ارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ]

- ‌[فَصْلٌ في محل الْقُنُوتَ في الصَلَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ]

- ‌[فَصْلٌ في الصَّلَوَاتُ فِي الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ في الزَّكَاةُ]

- ‌[السَّائِمَةِ]

- ‌[الْمُعَشَّرَاتِ]

- ‌[مِقْدَارُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِلْكِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصِّيَامُ]

- ‌[تَبْيِيتِ النية في الصيام]

- ‌[فَصْلٌ في صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ]

- ‌[فَصْلٌ في الْحَجُّ] [

- ‌حَجَّةَ الوداع]

- ‌[الْمُتْعَةَ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ]

- ‌[كَانَتْ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ جُزْءًا مِنْ حَجِّهِ فَالْهَدْيُ الْمَسُوقُ لَا يُنْحَرُ حَتَّى يَقْضِيَ التَّفَثَ]

- ‌[الْمُقَامِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْمَبِيتِ بِهَا اللَّيْلَةَ]

- ‌[الجمع بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ]

- ‌[قَصْرَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ]

- ‌[صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْر]

- ‌ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

- ‌[الصَّلَاةِ عَقِبَ السَّعْيِ]

- ‌[التلبية]

- ‌[أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ الْحَلَالُ وَذَكَّاهُ]

- ‌[فَصْلٌ في قَوَاعِدَ متعلقة بالْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا]

- ‌[فصل الْقَاعِدَةُ الأولى الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَعَاقِدِ حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا]

- ‌[فَصْلٌ في حكم إجارة الْأَرْض إذا كانت مُشْتَمِلَة عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكَرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى]

- ‌[فَصْلٌ في قَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ شروط من أجاز المزارعة]

- ‌[فَصْلٌ خطأ من يتمسك بألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهي]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ]

- ‌[القول الأول الأصل في العقود والشروط الحظر]

- ‌[القول الثاني الأصل في العقود والشروط الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنِ لَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[مقدمات نافعة جدا في هذا الباب]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مَسَائِلُ الْأَيْمَانِ فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أو فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الثانية الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ بِهَا تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ بِهَا يَظْهَرُ سِرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ نَذْرُ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعِتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصْلٌ مُوجَبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

الفصل: ‌[فصل اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب]

وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا: أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ لِلَّهِ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا.

وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

[فَصْلٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعِتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

فَصْلٌ

فَأَمَّا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعِتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: فَمِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا حَضًّا أَوْ مَنْعًا، أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا مِثْلَ قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. فَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ

ص: 320

الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ هُنَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: تَجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ، فَاخْتَلَفُوا هُنَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا بَلَغَنَا الْكَلَامُ فِيهَا عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي عَصْرِهِمْ. وَلَكِنْ بَلَغَنَا عَنِ الصَّحَابَةِ الْكَلَامُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَاخْتَلَفَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِالْحِنْثِ، وَلَا تَجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ. هَذَا رِوَايَةُ عوف عَنِ الحسن، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وأحمد فِي الصَّرِيحِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وأبي عبيد وَغَيْرِهِمْ.

فَرَوَى حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عوف عَنِ الحسن قَالَ: " كُلُّ يَمِينٍ - وَإِنْ عَظُمَتْ، وَلَوْ حَلَفَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنْ جَعَلَ مَالَهُ فِي الْمَسَاكِينِ، مَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقَ امْرَأَةٍ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ، أَوْ عِتْقَ غُلَامٍ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ - فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ ". وَقَالَ إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ لِابْنِهِ: إِنْ كَلَّمْتُكَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ؟ فَقَالَ: لَا يَقُومُ هَذَا مَقَامَ الْيَمِينِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَقَالَ سليمان بن داود: يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَبِهِ قَالَ أبو خيثمة، قَالَ إسماعيل: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عبد الرزاق عَنْ معمر عَنْ إسماعيل بن

ص: 321

أمية عَنْ عثمان [بن حاضر] الحميري: " أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ بِمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، وَجَارِيَتُهَا حُرَّةٌ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَتِ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَا: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَعْتِقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا فِي الْمَالِ، فَإِنَّهَا تُزَكِّي الْمَالَ ". قَالَ أبو إسحاق إبراهيم الجوزجاني: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ لَا يَحُلَّانِ فِي هَذَا مَحَلَّ الْأَيْمَانِ، وَلَوْ كَانَ [الْمُجْزِئُ فِيهَا مُجْزِئًا] فِي الْأَيْمَانِ لَوَجَبَ عَلَى الْحَالِفِ بِهَا إِذَا حَنِثَ كَفَارَّةٌ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا.

قُلْتُ: أَخْبَرَ أبو إسحاق بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مُفْتِي النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ - مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَصْحَابِ أبي حنيفة ومالك - كَانُوا لَا يُفْتُونَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إِلَّا بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، لَا بِالْكَفَّارَةِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ مَذْهَبُهُمْ فِيهَا الْكَفَّارَةُ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا أَفْتَى بِمِصْرَ بِجَوَازِ الْكَفَّارَةِ، كَانَ غَرِيبًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: يَا أبا عبد الله هَذَا قَوْلُكَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.

فَلَمَّا أَفْتَى فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَالشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وعلي المديني وَنَحْوِهِمْ، فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ بِالْكَفَّارَةِ، وَفَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ، صَارَ الَّذِي يَعْرِفُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ أُولَئِكَ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَإِلَّا فَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدِ اعْتَذَرَ أحمد عَمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كَفَّارَةِ الْعِتْقِ بِعُذْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: انْفِرَادُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِذَلِكَ.

ص: 322

وَالثَّانِي: مُعَارَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ. وَمَا وَجَدْتُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشَاهِيرِ بَلَغَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا بَلَغَ أحمد، فَقَالَ المروزي: قَالَ أبو عبد الله: إِذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ إِذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ، وَقَالَ: لَيْسَ يَقُولُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، فِي حَدِيثِ ليلى بنت العجماء حَدِيثِ أبي رافع:" أَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عُمَرَ وحفصة وزينب، وَذَكَرَتِ الْعِتْقَ، فَأَمَرُوهَا بِالْكَفَّارَةِ " إِلَّا التَّيْمِيَّ. وَأَمَّا حميد وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ. قَالَ: سَأَلْتُ أبا عبد الله عَنْ حَدِيثِ أبي رافع، قِصَّةِ حَلِفِ مَوْلَاتِهِ لَيُفَارِقَنَّ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عُمَرَ وحفصة، فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ. قُلْتُ: فِيهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، قَالَ أبو عبد الله: لَيْسَ يَقُولُ فِيهِ: " كُلُّ مَمْلُوكٍ " إِلَّا التَّيْمِيُّ. قُلْتُ: فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ فَحَنِثَ؟ قَالَ: يَعْتِقُ.

كَذَا يَرْوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: " الْجَارِيَةُ تَعْتِقُ "، ثُمَّ قَالَ: مَا سَمِعْنَاهُ إِلَّا مِنْ عبد الرزاق عَنْ معمر. قُلْتُ: فَأَيْشِ إِسْنَادُهُ؟ قَالَ: معمر عَنْ إسماعيل، عَنْ عثمان [بن حاضر] ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ إسماعيل بن أمية وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، وَهُمَا مَكِّيَّانِ:[وَقَدْ فَرَّقَا] بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ؛ [لِأَنَّهُمَا] لَا يُكَفَّرَانِ، وَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ [عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ عَارَضَ مَا رَوَاهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ] عَنِ ابْنِ عُمَرَ وحفصة وزينب، مَعَ انْفِرَادِ التَّيْمِيِّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَالَ صالح بن

ص: 323

أحمد: قَالَ أَبِي: وَإِذَا قَالَ: جَارِيَتِي حُرَّةٌ إِنْ لَمْ أَصْنَعْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتِقُ. وَإِذَا قَالَ: كُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَارِيَتُهُ [فِيهِ كَفَّارَةٌ]، فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْبِهُ هَذَا - أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا - الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَا يُكَفَّرَانِ - وَأَصْحَابُ أبي حنيفة يَقُولُونَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ: إِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا قَالَ: مَالِي عَلَى فُلَانٍ صَدَقَةٌ، كَذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ: بِأَنَّهُ هُنَاكَ [مُوجَبُ] الْقَوْلِ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، لَا وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ.

فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْطُ وُجُوبَ ذَلِكَ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بَدَلًا عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ، كَمَا تَكُونُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. كَمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَدَلًا عَنِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، وَبَقِيَ الْإِطْعَامُ بَدَلًا عَنِ الصَّوْمِ عَنِ الْعَاجِزِ عَنْهُ. وَكَمَا تَكُونُ بَدَلًا عَنِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ أَدَائِهِ وَبَيْنَ أَدَاءِ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ: فَإِنَّ مُوجَبَ الْكَلَامِ وُجُودُهُمَا، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ. وَإِذَا وَقَعَا لَمْ يَرْتَفِعَا بَعْدَ وُقُوعِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ. فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يُعَلِّقِ الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَهُ بِالشَّرْطِ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِ هَذَا الْإِعْتَاقِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إِذَا مُتُّ فَعَبْدِي حُرٌّ، عَتَقَ بِمَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ

ص: 324

إِلَى الْإِعْتَاقِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ هَذَا التَّدْبِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ أحمد، وَفِي بَيْعِهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ. وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَعْتِقُوهُ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، [وَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ هُنَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ] .

ذَكَرَ أبو عبد الله إبراهيم بن محمد [بن محمد] بن عرفة فِي تَارِيخِهِ: أَنَّ المهدي لَمَّا رَأَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنَ الْعَهْدِ [إِلَى ابْنِهِ] عَزَمَ عَلَى خَلْعِ عيسى وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لموسى، فَامْتَنَعَ عيسى مِنَ الْخَلْعِ، وَزَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ أَيْمَانًا تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ وَتُطَلِّقُ نِسَاءَهُ، فَأَحْضَرَ لَهُ المهدي ابْنَ عُلَاثَةَ وَمُسْلِمَ بْنَ خَالِدٍ الزَّنْجِيَّ وَجَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَفْتَوْهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَاعْتَاضَ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي يَمِينِهِ [بِمَالٍ كَثِيرٍ ذَكَرَهُ] وَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِلَى أَنْ خَلَعَ نَفْسَهُ وَبُويِعَ للمهدي ولموسى الهادي بَعْدَهُ.

وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَقَالَ فِي الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ: يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ؛ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ليلى بنت العجماء الَّتِي أَفْتَاهَا عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين، وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ فِي قَوْلِهَا:" إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي مُحَرَّرٌ ". وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ مِمَّا اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُسْتَدِلُّونَ فِي مَسْأَلَةِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، لَكِنْ تَوَقَّفَ أحمد وأبو عبيد عَنِ الْعِتْقِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْفَرْقِ، وَعَارَضَ أحمد ذَلِكَ.

وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا ثَوْرٍ فِيهِ أَثَرٌ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ

ص: 325

الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوَاتُهُ لِلْعِتْقِ، لَكِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ - فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ - كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ خِلَافٌ مُعَيَّنٌ لَكَانَ فُتْيَا مَنْ أَفْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ. فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ نَذْرُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ أَجْزَأَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ: إِمَّا أَنْ تُجْزِئَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، [أَوْ لَا] يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: نَذْرُ غَيْرِ الطَّاعَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَكِ "، كَمَا كَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ قَوْلُهُ:" فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُمْ ".

عَلَى أَنِّي إِلَى السَّاعَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَلَامٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَذَاكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوُقُوعُ. ذَكَرَ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا، قُلْتُ: أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.

فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ، وَتَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ. وَفِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا يَمِينًا خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، كداود وأبي محمد بن حزم، لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ وَلَا عِتْقٌ مُعَلَّقٌ.

ص: 326

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَجَّلِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إِلَّا مَا دَلَّ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ يُخَالِفُونَ فِيهَا:

إِحْدَاهَا: كَوْنُ الْأَصْلِ تَحْرِيمُ الْعُقُودِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ وَالْمُعَلَّقَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ.

وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ [فَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّكْفِيرَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ] وَفَرَّقُوا بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ وَنَذْرِ الْغَضَبِ، فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَبَيْنَ الْمُعَلَّقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُ وُقُوعِهِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ هُوَ الْوُجُودُ أَوِ الْوُجُوبُ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَخْرُجُ عَلَى أُصُولِ أحمد مِنْ مَوَاضِعَ ذَكَرْنَاهَا. وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِمَنْ قَالَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِكَفَّارَةٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة، الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابن القاسم، الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ. فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَلِفِ بِالْعِتْقِ هُوَ الْمُتَوَجِّهُ. وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَاعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ.

ص: 327

وَأَيْضًا فَإِذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَأَفْعَلَنَّ، أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ لَأَفْعَلَنَّ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَالِي صَدَقَةٌ لَأَفْعَلَنَّ، وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ.

وَالَّذِي يُوَضِّحُ التَّسْوِيَةَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى فِدْيَةِ الْخُلْعِ، فَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ - وَهُوَ كِتَابٌ مِصْرِيٌّ مِنْ أَجْوَدِ كُتُبِهِ -: وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِسَبَبٍ: طَلَاقًا بِصِفَةٍ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ صِفَةً. وَيَقُولُونَ:" إِذَا وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي زَمَانِ الْبَيْنُونَةِ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ "، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَهَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ، لَيْسَ طَلَاقًا مُجَرَّدًا عَنْ صِفَةٍ. فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، أَوْ إِذَا طَهُرْتِ، فَقَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالزَّمَانِ الْخَاصِّ. فَإِنَّ الظَّرْفَ صِفَةٌ لِلْمَظْرُوفِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدْ وَصَفَهُ بِعِوَضِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ نُحَاةَ الْكُوفَةِ يُسَمُّونَ حُرُوفَ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا حُرُوفَ الصِّفَاتِ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُعَلَّقًا بِالْحُرُوفِ الَّتِي قَدْ تُسَمَّى حُرُوفَ الصِّفَاتِ، سُمِّيَ طَلَاقًا بِصِفَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ.

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ، فَإِنَّ هَذَا يَعُودُ إِلَيْهِ، إِذِ النُّحَاةُ إِنَّمَا سَمَّوْا حُرُوفَ الْجَرِّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى صِفَةً لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ.

فَإِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي الطَّلَاقِ الْمَوْصُوفِ عَلَى طَلَاقِ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَاسُوا كُلَّ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ عَلَيْهِ، صَارَ هَذَا كَمَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75]

ص: 328

[التَّوْبَةِ] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ هُوَ نَذْرٌ بِصِفَةٍ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النذر الْمَقْصُودِ شَرْطُهُ، وَبَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ عَدَمُ شَرْطِهِ الَّذِي خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ. [فَكَذَلِكَ] يُفَرَّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ وَصْفُهُ كَالْخُلْعِ؛ حَيْثُ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعِوَضُ، وَالطَّلَاقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ، الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ وَعَدَمُ شَرْطِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَاسُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا أَشْبَهَهُ. وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا الَّتِي يُقْصَدُ عَدَمُهَا، كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي النَّذْرِ سَوَاءً. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَالِاعْتِبَارُ.

أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 1 - 2][التَّحْرِيمِ] .

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي كُلِّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ لَهُمْ تَحِلَّتَهَا. وَقَدْ ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِطَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ يَحْلِفُونَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى. فَلَوْ فُرِضَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ لَهَا تَحِلَّةٌ، لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ، كَيْفَ وَهَذَا عَامٌّ، لَا يُخَصُّ مِنْهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِجْمَاعٍ، بَلْ هُوَ عَامٌّ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا مَعَ عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ، فَإِنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ [تُوجِبُ] مَنْعَ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْفِعْلِ. فَشَرْعُ التَّحِلَّةِ لِهَذَا الْعَقْدِ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ

ص: 329

وَالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ أَيْمَانِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ. فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَقْتُلَنَّ النَّفْسَ أَوْ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ أَوْ لَيَمْنَعَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ - مِنْ أَدَاءِ أَمَانَةٍ وَنَحْوِهَا - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الطَّلَاقَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، أَكْثَرَ مِمَّا يَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ، ثُمَّ إِنْ وَفَّى بِيَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ.

أَمَّا الدِّينُ: فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ: إِمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَا فِي غَايَةِ الِاتِّصَالِ وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْعِشْرَةِ مَا يَجْعَلُ فِي طَلَاقِهِمَا فِي أَمْرِ الدِّينِ ضَرَرًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ ضَرَرُ الدُّنْيَا، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْوَاقِعُ، بِحَيْثُ لَوْ خُيِّرَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَالِهِ وَوَطَنِهِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ، لَاخْتَارَ فِرَاقَ مَالِهِ وَوَطَنِهِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِرَاقَ [الْوَطَنِ] بِقَتْلِ النَّفْسِ. وَلِهَذَا قَالَ أحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مُتَابَعَةً لعطاء: إِنَّهَا إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَحَلَفَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَا تَحُجُّ، صَارَتْ مُحْصَرَةً وَجَازَ لَهَا التَّحَلُّلُ، لِمَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الزَّائِدِ عَلَى ضَرَرِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ أَوِ الْقَرِيبِ مِنْهُ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَكِ أَوْ أَعْتِقَ عَبِيدِي، فَإِنَّ هَذَا مِنْ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّكِ، أَوْ لَأَعْتِقَنَّ عَبِيدِي، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَوُجُوبِهِ: هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُفَرِّقُونَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]

ص: 330

{تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1][التَّحْرِيمِ] ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّهُ مَا مِنْ تَحْرِيمٍ لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَّا وَاللَّهُ غَفُورٌ لِفَاعِلِهِ رَحِيمٌ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ [قَوْلَ " لِمَ "] اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا سَبَبَ لِتَحْرِيمِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا رُخْصَةَ لَهُ، لَكَانَ هُنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ وَانْتِفَاءَ مُوجَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَنْ هَذَا الْفَاعِلِ.

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ - لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 87 - 89][الْمَائِدَةِ] ، وَالْحُجَّةُ فِيهَا كَالْحُجَّةِ فِي الْأُولَى وَأَقْوَى، فَإِنَّهُ قَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، وَهَذَا عَامٌّ يَشْمَلُ تَحْرِيمَهَا بِالْأَيْمَانِ مِنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89]، أَيْ: فَكَفَّارَةُ تَعْقِيدِكُمْ أَوْ عَقْدِكُمُ الْأَيْمَانَ، وَهَذَا عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وَهَذَا عَامٌّ كَعُمُومِ قَوْلِهِ:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ عُمُومَهُ: أَنَّهُمْ قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ

ص: 331

تَرَكَ» ، فَأَدْخَلُوا فِيهِ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالْحَلِفَ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُدْخِلْ مالك وأحمد وَغَيْرُهُمَا [الْحَلِفَ] بِالطَّلَاقِ مُوَافَقَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِحَلِفٍ، وَأَمَّا الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ: مَا تَضَمَّنَ مَحْلُوفًا بِهِ وَمَحْلُوفًا عَلَيْهِ: إِمَّا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَإِمَّا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ بَيِّنَةٌ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وأحمد وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا عَلَى التَّكْفِيرِ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وَكَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ عَامًّا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَالْيَمِينِ بِالنَّذْرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءٌ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ - فِي قَوْلِهِ: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، وَتَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ - مُنْصَرِفًا إِلَى الْيَمِينِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعُمُّ اللَّفْظُ إِلَّا الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ. وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْيَمِينُ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ» .

ص: 332

وَهُنَا سُؤَالٌ مِمَّنْ يَقُولُ: كُلُّ يَمِينٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ فَلَا كَفَّارَةَ لَهَا وَلَا حِنْثَ.

فَيُقَالُ: لَفْظُ الْيَمِينِ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ اسْمَ الْيَمِينِ فِي هَذَا كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«النَّذْرُ حَلْفَةٌ» ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ لِمَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ وَالْعِتْقِ:" كَفِّرْ يَمِينَكَ "، وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِإِدْخَالِ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» .

وَيَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثُمَّ قَالَ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فَاقْتَضَى هَذَا: أَنَّ نَفْسَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ يَمِينٌ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ: إِمَّا تَحْرِيمُهُ الْعَسَلَ، وَإِمَّا تَحْرِيمُهُ مارية القبطية، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ يَمِينًا بِاللَّهِ؛ وَلِهَذَا أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ - كعمر وعثمان، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَغَيْرُهُمْ -: أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ: إِمَّا كَفَّارَةٌ كُبْرَى كَالظِّهَارِ، وَإِمَّا كَفَّارَةٌ صُغْرَى كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ الظِّهَارَ وَنَحْوَهُ يَمِينًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ: لِمَ تُحَرِّمُهُ بِلَفْظِ الْحَرَامِ، وَإِمَّا لِمَ تُحَرِّمُهُ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَنَحْوِهَا، وَإِمَّا لِمَ تُحَرِّمُهُ مُطْلَقًا؟ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّالِثُ: فَقَدْ ثَبَتَ [أَنَّ] تَحْرِيمَهُ بِغَيْرِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ يَمِينٌ [فَيَعُمُّ] . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُهُ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ،

ص: 333

فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَحْرِيمًا لِلْحَلَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ لَمْ تُوجِبِ الْحُرْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ، لَكِنْ لَمَّا أَوْجَبَتِ امْتِنَاعَ الْحَالِفِ مِنَ الْفِعْلِ، فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ تَحْرِيمًا شَرْطِيًّا لَا شَرْعِيًّا. فَكُلُّ يَمِينٍ تُوجِبُ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] .

وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، لَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ يَمِينٍ حَرَّمَتِ الْحَلَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ جَمِيعَ صُوَرِهِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هُوَ سَبَبُ قَوْلِهِ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وَسَبَبُ الْجَوَابِ إِذَا كَانَ عَامًّا كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا، لِئَلَّا يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ. وَهَكَذَا التَّقْرِيرُ فِي قَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] .

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتِ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ عَامَّتُهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَغَيْرِهَا.

وَأَيْضًا فَنَقُولُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَأَنَّ مَا سِوَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْحَلِفِ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَعِزَّةِ اللَّهِ، أَوْ لَعَمْرِ اللَّهِ، أَوْ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا. وَإِنْ كَانَتِ الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِاللَّهِ وَصَفَاتِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، وَ «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ

ص: 334

التَّامَّاتِ» ، وَ «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ» ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ حَلِفٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، فَقَدْ حَلَفَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَإِيجَابُ الْحَجِّ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَإِذَا قَالَ: فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَدْ حَلَفَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الَّذِي هُوَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ، وَالتَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231][الْبَقَرَةِ: 231] فَجَعَلَ حُدُودَهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ مِنْ آيَاتِهِ، لَكِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ، كَمَا يَعْقِدُ النَّذْرَ لِلَّهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ الْحَجُّ وَالصَّوْمُ عَقْدٌ لِلَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ حَالِفًا بِهِ فَهُوَ لَمْ يَقْصِدِ الْعَقْدَ لِلَّهِ، بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ. فَإِذَا حَنِثَ وَلَمْ يَفِ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَهُ لِلَّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَهُ بِاللَّهِ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يُعَظِّمُهُ

ص: 335

بِالْحَلِفِ، فَإِنَّمَا حَلَفَ بِهِ لِيَعْقِدَ بِهِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَيَرْبِطَهُ؛ لِأَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ فِي قَلْبِهِ إِذَا رَبَطَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَحُلَّهُ. فَإِذَا حَلَّ مَا رَبَطَهُ بِهِ فَقَدِ [انْتَقَصَتْ] عَظَمَتُهُ فِي قَلْبِهِ، وَقُطِعَ السَّبَبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَمِينُ: الْعَقْدُ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ. وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْيَمِينَ غَمُوسًا كَانَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77][آلِ عِمْرَانَ]، وَذَكَرَهَا صلى الله عليه وسلم فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ فِيمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْطَعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» ".

وَذَلِكَ: لِأَنَّهُ إِذَا تَعَمَّدَ أَنْ يَعْقِدَ بِاللَّهِ مَا لَيْسَ مُنْعَقِدًا بِهِ، فَقَدْ نَقَصَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، أَوْ تَبَرَّأَ مِنَ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَلَفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ بِاللَّهِ فِعْلًا قَاصِدًا لِعَقْدِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ، لَكِنْ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ حَلَّ هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ بِهِ، كَمَا يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لِحَاجَةٍ، أَوْ يُزِيلُ عَنْهُ وُجُوبَهَا. وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا، فَهِيَ يَمِينٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، لِأَنَّهُ رَبَطَ عَدَمَ الْفِعْلِ بِكُفْرِهِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَتُهُ مِنَ اللَّهِ، فَيَكُونُ

ص: 336

قَدْ رَبَطَ الْفِعْلَ بِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ. هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ. فَرَبْطُ الْفِعْلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ - مِنَ الْإِيجَابِ أَوِ التَّحْرِيمِ - أَدْنَى حَالًا مِنْ رَبْطِهِ بِاللَّهِ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا عَقَدَ الْيَمِينَ بِاللَّهِ فَهُوَ عَقْدُ لَهَا بِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ، وَهُوَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ، الَّذِي هُوَ [حَقُّ] اللَّهِ وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا سَبَّحَ اللَّهَ وَذَكَرَهُ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لَهُ وَذَاكِرٌ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّسْبِيحُ تَارَةً لِاسْمِ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1][الْأَعْلَى] ، كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ تَارَةً لِاسْمِ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25][الْإِنْسَانِ: 25]، وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ مَعَ التَّسْبِيحِ فِي قَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41][الْأَحْزَابِ] ، فَحَيْثُ عَظَّمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ، أَوِ الْحَلِفِ بِهِ، أَوِ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، فَهُوَ مُسَبِّحٌ لَهُ بِتَوَسُّطِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى الَّذِي فِي قَلْبِهِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، عِلْمًا وَقَصْدًا وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا. وَحُكْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مَا كَسَبَهُ قَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225][الْبَقَرَةِ: 22]، وَكَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89][الْمَائِدَةِ: 89] .

فَلَوِ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مَا فِي لَفْظِ الْقَسَمِ مِنِ انْعِقَادِهِ بِالْإِيمَانِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ دُونَ قَصْدِ الْحَلِفِ لَكَانَ مُوجَبُهُ أَنَّهُ إِذَا حَنِثَ يَتَغَيَّرُ إِيمَانُهُ بِزَوَالِ حَقِيقَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» "، كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ يَمِينًا فَاجِرَةً كَانَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ، [إِذْ قَدِ

ص: 337

اشْتَرَى بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا] ، فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

لَكِنَّ الشَّارِعَ عَلِمَ أَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَا يَفْعَلُ لَيْسَ غَرَضُهُ الِاسْتِخْفَافَ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ كَغَرَضِ الْحَالِفِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. فَشَرَعَ لَهُ الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ حَلَّ هَذِهِ الْعُقْدَةَ وَأَسْقَطَهَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ قَلْبُهُ شَيْئًا مِنَ [الْجِنَايَةِ] عَلَى إِيمَانِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْكَفَّارَةِ.

وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ مُوجَبَ الْيَمِينِ: انْعِقَادُ الْفِعْلِ بِهَذَا [الْيَمِينِ] الَّذِي هُوَ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ، فَإِذَا عُدِمَ الْفِعْلُ كَانَ [مُقْتَضَاهُ] عَدَمَ إِيمَانِهِ، هَذَا لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَجَبَ عَلَيَّ كَذَا، أَنَّهُ عِنْدَ الْحَلِفِ يَجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَوْلَا مَا شُرِعَ مِنَ الْكَفَّارَةِ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ [كَاذِبًا] فَهُوَ كَمَا قَالَ» " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَجَعَلَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ فِي قَوْلِهِ: " هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِنْ فَعَلَ كَذَا "، كَالْغَمُوسِ فِي قَوْلِهِ:" وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا "، إِذْ هُوَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ قَطَعَ عَهْدَهُ

ص: 338

مِنَ اللَّهِ حَيْثُ عَلَّقَ الْإِيمَانَ بِأَمْرٍ مَعْدُومٍ وَالْكُفْرِ بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ.

وَطَرْدُ هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ إِذَا كَانَتْ فِي النَّذْرِ أَوِ الطَّلَاقِ أَوِ الْعَتَاقِ: وَقَعَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ تَرْفَعْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ.

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224][الْبَقَرَةِ]، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ - أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ - عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَانِعًا لَكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، بِأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعْرُوفًا مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ مَكْرُوهًا حَرَامًا أَوْ نَحْوَهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: افْعَلْ ذَلِكَ، أَوْ لَا تَفْعَلْ هَذَا، قَالَ: قَدْ حَلَفْتُ بِاللَّهِ، فَيَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ.

فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ يَجْعَلُوا نَفْسَهُ مَانِعًا لَهُمْ بِالْحَلِفِ بِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ - إِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْحَلِفِ - وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى. فَإِنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ سُبْحَانَهُ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ نَكُونَ مَنْهِيِّينَ عَنْ جَعْلِهِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّنَا مَنْهِيُّونَ عَنْ أَنْ نَجْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ وَنُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَا فِي الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ.

ص: 339

فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ أَنْ لَا يَبَرَّ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يُصْلِحَ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِنْ وَفَّى ذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ. وَإِنْ حَنِثَ فِيهَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَنْذُورِ، فَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ عَنْهُ أَبْعَدَ عَنِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى يَمِينِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، فَصَارَتْ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ.

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ همام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» "، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عكرمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اسْتَلَجَ فِي أَهْلِهِ [بِيَمِينٍ] فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا» ". فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِ الْحَالِفِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ التَّكْفِيرِ. وَاللَّجَاجُ: هُوَ التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: رَجُلٌ لَجُوجٌ: إِذَا تَمَادَى فِي الْمُخَاصَمَةِ، وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعُلَمَاءُ هَذَا: نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّهُ يَلِجُ حَتَّى يُعَقِّدَهُ، ثُمَّ يَلِجُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحِنْثِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ

ص: 340

يَمِينِكَ» "، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "«فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَرَوَى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: "«فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَلِفٍ عَلَى يَمِينٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَلِفُ، فَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا تَرْكًا لِخَيْرٍ فَيَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ، أَوْ يَكُونَ فِعْلًا لِشَرٍّ فَيَرَى تَرْكَهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ، فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ.

وَقَوْلُهُ هُنَا: " عَلَى يَمِينٍ " هُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، سَمَّى الْأَمْرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يَمِينًا، كَمَا سَمَّى الْمَخْلُوقَ خَلْقًا، وَالْمَضْرُوبَ ضَرْبًا، وَالْمَبِيعَ بَيْعًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - فِي قِصَّتِهِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِهِ لَمَّا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحْمِلُونَهُ - فَقَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ "، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ:" «إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ".

ص: 341

وَرَوَى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم أَيْضًا: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ".

وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ - مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن عمر، وعوف بن مالك الجشمي.

فَهَذِهِ نُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَوَاتِرَةُ أَنَّهُ أَمَرَ " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» "، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ أَوِ النَّذْرِ وَنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُهُ» "، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ قَصَدَ تَعْمِيمَ كُلِّ يَمِينٍ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَهِمُوا مِنْهُ دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ.

فَرَوَى أبو داود فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا محمد بن المنهال، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا [حَبِيبُ بْنُ الْمُعَلِّمِ] عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ، فَقَالَ: إِنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عمر: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا

ص: 342

نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ» .

فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَنَذَرَ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: بِأَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ. وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ» ".

فَفُهِمَ مِنْ هَذَا: أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ قَطِيعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّذْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا أَفْتَاهُ عمر. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا النَّذْرَ كَانَ عِنْدَهُ يَمِينًا لَمْ يَقُلْ لَهُ:" كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ "، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ» ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْحَضُّ أَوِ الْمَنْعُ، وَالنَّذْرُ: مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ، وَكِلَاهُمَا لَا يُوَفَّى بِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ» " يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ نَذْرًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، أَوْ كَانَتْ بِوُجُوبِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الصَّدَقَةِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الْهَدْيِ، أَوْ كَانَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، كَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَمَقْصُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ فَقَطْ، أَوْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا فِي الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ مِنَ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ.

وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِاسْتِدْلَالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ، فَإِنَّهُ

ص: 343

لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ مِنَ الْكَفَّارَةِ، دُونَ إِخْرَاجِ الْمَالِ فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ.

وَأَيْضًا: فَمِمَّا يُبَيِّنُ دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ أحمد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَفْظُ أبي داود قَالَ: [حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ] : حَدَّثَنَا سفيان عَنْ أيوب، عَنْ نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدِ اسْتَثْنَى» "، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عبد [الوارث] عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، غَيْرَ حَنِثٍ» ".

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ» "، رَوَاهُ أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ:" فَلَهُ ثُنْيَاهُ "، وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ:" فَقَدِ اسْتَثْنَى ".

ثُمَّ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا: يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أحمد يَجْعَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ

ص: 344

فِيمَا إِذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ هُوَ نَفْسُ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِيقَاعِهِمَا وَالْحَلِفِ بِهِمَا ظَاهِرٌ. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ.

فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» "، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» "، فَإِنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.

فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» "، لَفْظُ الْعُمُومِ فِيهِ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَإِذَا كَانَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ لَفْظُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أحمد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» " جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا، مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَبِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا» إِلَخْ " إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ بِاللَّهِ، أَوِ الْيَمِينَ بِاللَّهِ وَالنَّذْرِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. فَإِنَّ حُضُورَ مُوجَبِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِقَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ حُضُورِ مُوجَبِ اللَّفْظِ الْآخَرِ، إِذْ كِلَاهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ [رَفْعُ] الْيَمِينِ: إِمَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِمَّا بِالتَّكْفِيرِ.

ص: 345

وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

فَقَوْمٌ قَالُوا: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ أَنْفُسُهُمَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَوْمٌ قَالُوا: لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، لَا إِيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا، لَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مالك وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أحمد، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ، وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ، رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرَ التَّابِعِينَ - كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ والحسن - لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ.

ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أحمد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: لَا اسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لَيْسَا مِنَ الْأَيْمَانِ.

وَقَالَ أَيْضًا: الثُّنْيَا فِي الطَّلَاقِ لَا أَقُولُ بِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ حَرْفَانِ وَاقِعَانِ.

ص: 346

وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ.

وَذَلِكَ أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَا يَمِينًا أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، أَوْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، مَا عَلِمْتُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ.

فَمَنْ أَدْخَلَ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ» "، فَقَدْ حَمَّلَ الْعَامَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ قَوْلَهُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ فَعَلْتُهُ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْقَوْلِ الْعَامِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. فَإِنَّ هَذَا الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ [وَهُنَا يَنْبَغِي تَقْلِيدُ أحمد بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ] لَيْسَا مِنَ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا كَالْحَلِفِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا. وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ: حَنِثَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّوْهُ يَمِينًا [وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ سَمَّوْهُ يَمِينًا] وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ يُسَمُّونَهُ يَمِينًا. فَمَعْنَى الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إِنْ

ص: 347

شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَعُودُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي حَالِفٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَهُ، فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ نَوَى عَوْدَهُ إِلَى الْحَلِفِ، بِأَنْ يَقْصِدَ أَنِّي حَالِفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَكُونَ حَالِفًا: كَانَ مَعْنَى هَذَا [مَعْنَى] الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعُودُ الْمَشِيئَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْفِعْلِ. فَالْمَعْنَى: لَأَفْعَلَنَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ، فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدْ شَاءَهُ، فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَنَى: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لُزُومَهُ إِيَّاهُ. فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَوْلُ أحمد: " إِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ " كَلَامٌ حَسَنٌ بَلِيغٌ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحُكْمَ الْكَفَّارَةِ مَخْرَجًا وَاحِدًا [بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ] بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَقَعُ لِمَا عَلَّقَ بِهِ الْفِعْلَ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَنَحْوُهُمَا: لَا تُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُودِ أَسْبَابِهَا، فَإِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهَا فَقَدْ شَاءَهَا اللَّهُ. وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْحَوَادِثُ الَّتِي قَدْ يَشَاؤُهَا اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشَاؤُهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوِهَا. وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ: بِالْبِرِّ تَارَةً، وَالْمُخَالَفَةِ بِالْحِنْثِ أُخْرَى. فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَارْتِفَاعِ الْيَمِينِ

ص: 348

بِالْمَشِيئَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ التَّعْلِيقِ. فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لِيَفْعَلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ إِنْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. فَالِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّكْفِيرُ يَتَعَاقَبَانِ الْيَمِينَ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ.

فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدْفَعُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَوْلُ أحمد وَغَيْرِهِ: " الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ "، كَقَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ: لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا. وَهَذَا فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. أَمَّا الْحَلِفُ بِهِمَا فَلَيْسَ تَكْفِيرًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: فَإِنَّهُ لَمْ يُكَفِّرِ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ [وَالصَّدَقَةَ] وَالْهَدْيَ وَالْحَجَّ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ الْحَلِفَ بِهِمَا، وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَكَمَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ بِلَا خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ أحمد وَمُوَافِقِيهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِ.

فَلَازِمُ قَوْلِ أحمد هَذَا: أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ: كَانَ الْحَلِفُ بِهِمَا تَصِحُّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا مُوجَبُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مالك، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، فَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ.

ص: 349

وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، وَسَنَتَكَلَّمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حِدَةٍ.

وَإِذَا قَالَ أحمد أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ - لَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ أحمد فَقَالَ: يَصِحُّ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ - فَهَذَا الْفَرْقُ مَا أَعْلَمُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَنْ أحمد، وَلَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ؛ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوهُ نَصَّ فِي تَكْفِيرِ الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ [كَمًّا نَصَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ] .

لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي يَنْصُرُونَهَا، وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ قَوْلَهُ لَوَازِمُ لَا يَتَفَطَّنُ لِلُزُومِهَا، وَلَوْ تَفَطَّنَ لَكَانَ: إِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهَا أَوْ لَا يَلْتَزِمُهَا، بَلْ يَرْجِعُ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا غَيْرُ لَوَازِمَ.

وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إِذَا خَرَّجُوا عَلَى قَوْلِ عَالَمٍ لَوَازِمَ قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ: فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ، لَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، أَوْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ. وَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصَّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهِ أَوْ لَمْ يَنُصَّ. فَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ اللَّازِمِ - وَخَرَّجُوا عَلَيْهِ خِلَافَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، مِثْلَ أَنْ يَنُصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ يُعَلِّلَ مَسْأَلَةً بِعِلَّةٍ يَنْقُضُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا عَلَّلَ أحمد هُنَا عَدَمَ التَّكْفِيرِ بِعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَتَانِ - فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْرِيجِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ [فِيهِ] بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ: هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ، أَوْ لَا يُسَمَّى؟

ص: 350

وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. فالأثرم والخرقي وَغَيْرُهُمَا: يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ، والخلال وَصَاحِبُهُ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِ: [وَلَازِمُ قَوْلِهِ] ، فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَلَا هُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِلَازِمِ قَوْلِهِ، بَلْ هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ الطَّلَاقَ مُبِيحًا لَهُ أَوْ آمِرًا بِهِ، [أَوْ مُلْزِمًا لَهُ] إِذَا أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ.

وَهَذِهِ الْعُقُودُ مِنَ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَشْيَاءَ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ عَلَيْهِ. وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إِذَا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ سَبَبَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْكَلَامُ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ، لَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهَا، وَلَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهَا ابْتِدَاءً.

فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوِ الطَّلَاقُ، لَيْسَ قَصْدُهُ الْتِزَامَ حَجٍّ وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا تَكَلُّمَ بِمَا يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْحَضُّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرَهِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَضِّ وَالْمَنْعِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهَذَا لِي لَازِمٌ، أَوْ هَذَا عَلِيَّ حَرَامٌ، لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ هَذَا اللُّزُومِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَّقَ ذَلِكَ بِهِ، فَقَصْدُهُ مَنْعُهُمَا جَمِيعًا لَا ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا ثُبُوتُ سَبَبِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْحُكْمِ وَلَا لِسَبَبِهِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُكْمُ.

ص: 351

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْأُمَّةِ، لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَانَ يُحْلَفُ بِهِ عَلَى عَهْدِ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ. وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَإِنِّي لَمْ أَقِفْ إِلَى السَّاعَةِ عَلَى كَلَامٍ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْهُمْ: الْجَوَابُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ هَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدْ شَاعَتْ فِي الْأُمَّةِ وَانْتَشَرَتِ انْتِشَارًا عَظِيمًا، ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ مَنِ اعْتَقَدَ: أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا لَا مَحَالَةَ، صَارَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مِنَ الْأَغْلَالِ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ، حَتَّى اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا.

وَذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى تَرْكِ أُمُورٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا، إِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا [وَعَلَى فِعْلِ أُمُورٍ يَمْتَنِعُ فِعْلُهَا شَرْعًا أَوْ طَبْعًا] وَغَالِبُ مَا يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، ثُمَّ فِرَاقُ الْأَهْلِ فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْلَالِ الْيَهُودِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، لِئَلَّا يَتَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى الطَّلَاقِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَلَفُوا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ أَوِ الْمَمْنُوعَةِ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى فِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ أَوْ تَرْكِهَا مَعَ عَدَمِ فِرَاقِ الْأَهْلِ، فَقَدْ قَدَحَتِ الْأَفْكَارُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ، أُخِذَتْ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ:

الْحِيلَةُ الْأُولَى فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: فَيُتَأَوَّلُ لَهُمْ خِلَافُ مَا قَصَدُوهُ وَخِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ. وَهَذَا هُوَ

ص: 352

الَّذِي [وَضَعَهُ] بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ، وَسَمَّوْهُ بَابَ الْمُعَايَاةِ، وَسَمَّوْهُ بَابَ الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ. وَأَكْثَرُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنَ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الدِّينِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ - كأحمد وَغَيْرِهِ - يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْتَالُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ.

الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: احْتَالُوا لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَأْمُرُوهُ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَحْدَثُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَظُنُّهَا حَدَثَتْ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّ عَامَّةَ الْحِيَلِ إِنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَحِيلَةُ الْخُلْعِ لَا تَمْشِي عَلَى أَصْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهِ بِهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ فُرْقَةٍ [بَائِنَةٍ] يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ، فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إِلَى أَنْ يَتَرَبَّصَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ثُمَّ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ [بَعْدَ انْقِضَائِهَا] وَهَذَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْمُدَّةِ. فَصَارَ يُفْتِي بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَرُبَّمَا رَكَّبُوا مَعَهَا أَحَدَ قَوْلَيْهِ الْمُوَافِقَ لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد: مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَيَصِيرُ [الْحَالِفُ] كُلَّمَا أَرَادَ الْحِنْثَ خَلَعَ زَوْجَتَهُ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. فَإِمَّا أَنْ يُفْتُوهُ بِنَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَوْ يُفْتُوهُ بِعَدَمِهِ.

وَهَذَا الْخُلْعُ - الَّذِي هُوَ خُلْعُ الْأَيْمَانِ - هُوَ شَبِيهٌ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ

ص: 353

سَوَاءً. فَإِنَّ ذَلِكَ عَقَدَ عَقْدًا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِزَالَتَهُ، وَهَذَا فَسَخَ فَسْخًا لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إِزَالَتَهُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحْدَثَةٌ بَارِدَةٌ قَدْ صَنَّفَ أبو عبد الله ابن بطة جُزْءًا فِي إِبْطَالِهَا، وَذَكَرَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ فَيُبْطِلُوهُ بِالْبَحْثِ عَنْ شُرُوطِهِ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، لَعَلَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ فَاسِدًا، لِيُرَتِّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَقَعُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وأحمد فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ، وَالْفُسُوقُ غَالِبٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَنْفُقُ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بِسَبَبِ الِاحْتِيَالِ لِرَفْعِ يَمِينِ الطَّلَاقِ، حَتَّى رَأَيْتُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُصَنَّفًا مَقْصُودُهُ بِهِ الِاحْتِيَالُ لِرَفْعِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ تَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِي صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَكَوْنِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، الَّذِي قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْفَاسِدِ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ: فَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، بَلْ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَقَطْ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً، وَهُوَ نَوْعٌ مِنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَمِنَ الْمَكْرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالضَّرُورَةُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ.

الْحِيلَةُ الرَّابِعَةُ: السُّرَيْجِيَّةُ، فِي إِفْسَادِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أَيْضًا، لَكِنْ

ص: 354

لِوُجُودِ مَانِعٍ، لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ. فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةً بَعْدَهُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي أَوْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا؛ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ، فَإِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْمُنَجَّزِ، فَيُفْضِي وُقُوعُهُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ. وَأَمَّا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، بَلْ رَأَوْهُ مِنَ الزَّلَّاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ كَوْنُهَا لَيْسَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ حَيْثُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ نِكَاحٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ.

وَسَبَبُ الْغَلَطِ: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالُوا: إِذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَقَعُ مِنَ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ، أَمْ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَلَا يَقَعُ إِلَّا الْمُنَجَّزُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وأحمد وَغَيْرِهِمَا.

وَمَا أَدْرِي: هَلِ اسْتَحْدَثَ ابن سريج هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِلِاحْتِيَالِ عَلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ، أَمْ قَالَهَا طَرْدًا لِقِيَاسٍ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، وَاحْتَالَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ؟ لَكِنِّي رَأَيْتُ مُصَنَّفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَقْصُودُهُ بِهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَلِهَذَا صَاغُوهَا بِقَوْلِهِمْ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ [قَبْلَهُ] ثَلَاثًا: لَمْ تَنْفَعْهُ هَذِهِ

ص: 355

الصِّيغَةُ فِي الْحِيلَةِ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الدَّوْرِ سَوَاءً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَطْلِيقٍ يُنَجِّزُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ، أَوْ يُعَلِّقُهُ بَعْدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ تَطْلِيقٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِشَرْطٍ وَوُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ: لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ تَطْلِيقًا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْمُطَلَّقِ، [وَوُجُودُ] الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ لَيْسَ فِعْلًا مِنْهُ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَهَذَا يَعُمُّ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ بَعْدَ هَذَا بِشَرْطٍ، وَالْوَاقِعُ بَعْدَ هَذَا بِشَرْطٍ تَقَدَّمَ تَعْلِيقُهُ.

فَصَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ بِصُورَةِ قَوْلِهِ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، حَتَّى إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، قَالُوا لَهُ: قُلْ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَيَقُولُ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: افْعَلِ الْآنَ مَا حَلَفْتَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْكَ طَلَاقٌ.

فَهَذَا التَّسَرُّجُ الْمُنْكَرُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، الْمَعْلُومُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا نَفَّقَهُ فِي الْغَالِبِ مَا أَحْوَجَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِ مِنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكَادُ يَقْصِدُ سَدَّ بَابِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ إِلَّا نَادِرًا.

الْحِيلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِيَالُ، لَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا، وَلَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ إِبْطَالًا وَلَا مَنْعًا: احْتَالُوا لِإِعَادَةِ النِّكَاحِ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ الَّذِي دَلَّتِ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ

ص: 356

الصَّحَابَةِ - مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ - عَلَى تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ. ثُمَّ قَدْ تَوَلَّدَ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي كِتَابِ " [بَيَانِ] الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْلِيلِ "، وَأَغْلَبُ مَا يُحْوِجُ النَّاسَ إِلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ: هُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا قَصَدَهُ، وَمَنْ قَصَدَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عِنْدَهُ مِنَ النَّدَمِ وَالْفَسَادِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَى وُقُوعِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْحِنْثِ.

فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ الْخَمْسَةُ الَّتِي هِيَ الِاحْتِيَالُ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ، وَإِخْرَاجِهَا عَنْ مَفْهُومِهَا وَمَقْصُودِهَا، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِالْخُلْعِ وَإِعَادَةِ النِّكَاحِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِالْبَحْثِ عَنْ فَسَادِ النِّكَاحِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ - فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاللَّعِبِ الَّذِي يُنَفِّرُ الْعُقَلَاءَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَيُوجِبُ طَعْنَ الْكُفَّارِ فِيهِ، كَمَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ. وَيَتَبَيَّنُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْفِطْرَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بَرِيءٌ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ حِيَلَ الْيَهُودِ وَمَخَارِيقَ الرُّهْبَانِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِيهَا، وَأَوْجَبَ كَثْرَةَ إِنْكَارِ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا وَاسْتِخْرَاجَهُمْ لَهَا: هُوَ حَلِفُ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ، وَاعْتِقَادُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ، حَتَّى لَقَدْ فَرَّعَ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُرُوعِ الْأَيْمَانِ شَيْئًا كَثِيرًا مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُرُوعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي يُفَرِّعُهَا هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ، كَمَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ يَقُولُ: مِثَالُهَا مِثَالُ رَجُلٍ بَنَى دَارًا حَسَنَةً عَلَى حِجَارَةٍ مَغْصُوبَةٍ، فَإِذَا نُوزِعَ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ، فَاسْتَحَقَّهَا غَيْرُهُ:

ص: 357

انْهَدَمَ بِنَاؤُهُ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْفُرُوعَ الْحَسَنَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى أُصُولٍ مُحْكَمَةٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ.

فَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ قَدْ أَوْجَبَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي قَدْ غَيَّرَتْ بَعْضَ أُمُورِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَصَارَ فِي هَؤُلَاءِ شَبَهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مَعَ أَنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَلِفِ بِهِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيمَا أَعْلَمُهُ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ، وَلَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَهُ أَكْثَرُ مِنْ عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ اسْتَنَدَتْ عَلَى قِيَاسٍ مُعْتَضِدٍ بِتَقْلِيدٍ لِقَوْمٍ أَئِمَّةٍ عُلَمَاءَ مَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ، وَهُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فَوْقَ مَا يُظَنُّ بِهِمْ، لَكِنْ لَمْ نُؤْمَرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ، بَلْ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ. فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَعْيَانٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - كعبد الله بن عمر الْمُجْمَعِ عَلَى إِمَامَتِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ، وَأُخْتِهِ حفصة أم المؤمنين، وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ فَقِيهَاتِ الصَّحَابَةِ: الْإِفْتَاءَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ، وَالطَّلَاقُ أَوْلَى مِنْهُ. وَذَكَرْنَا عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ عِلْمًا وَفِقْهًا وَدِينًا؛ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعَةً لَهُ.

فَإِذَا كَانَ لُزُومُ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِهِ مُقْتَضِيًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَحَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ هَذِهِ الْحَالُ: كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى هَذَا الْفَسَادِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي

ص: 358

ضَمَانِ الْحَدَائِقِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا، وَبَيْعِ الْخُضَرِ وَنَحْوِهَا.

وَذَلِكَ: أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ إِذَا حَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ، أَوْ لَيَعُقَّنَّ أَبَاهُ، أَوْ لَيَقْتُلَنَّ عَدُوَّهُ الْمُسْلِمَ الْمَعْصُومَ، أَوْ لَيَأْتِيَنَّ الْفَاحِشَةَ، أَوْ لَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، فَهُوَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ الْمُفْتِينَ: إِذَا رَآهُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَإِقَامَةِ عُذْرِهِ.

وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا اسْتَخْرَجَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُفْتِينَ. فَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمُخَادَعَتِهِ وَالْمَكْرِ السَّيِّئِ بِدِينِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ، وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَالِاعْتِدَاءِ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاكِ لِمَحَارِمِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَسْتَجِيزُ بَعْضَ ذَلِكَ، فَقَدْ دَخَلَ مِنَ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ الْمُجْتَهِدِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ - مَا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ حَقِيقَةَ الدِّينِ.

وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَالَ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، بَلْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ إِذَا اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. فَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يَأْذَنُ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ.

أَمَّا فَسَادُ الدِّينِ: فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» "، وَقَالَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا

ص: 359

الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» ".

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد، وَقَدِ اسْتَحْسَنُوا جَوَابَ أحمد لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَطَأَنَّ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: يُطَلِّقُهَا وَلَا يَطَأُهَا، قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الطَّلَاقَ وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ.

وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلَيْنِ: إِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، [وَإِمَّا أَنْ] يَكُونَ تَحْرِيمُهُ دُونَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا حَرَامًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَرَامٍ إِلَّا إِلَى حَرَامٍ.

وَأَمَّا ضَرَرُ الدُّنْيَا: فَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ. فَإِنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يُوجِبُ مِنَ الضَّرَرِ مَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا قَطُّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي صُحْبَةِ زَوْجِهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ مَتَاعُهُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ، إِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا أَعْجَبَتْكَ، وَإِنْ أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ» "، وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ لَمَّا سَأَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ:" «أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ: أَفْضَلُهُ: لِسَانٌ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَامْرَأَةٌ صَالِحَةٌ تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي

ص: 360

الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ. وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21][الرُّومِ: 21] ، فَيَكُونُ أَلَمُ الْفِرَاقِ أَشَدَّ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَوْتِ أَحْيَانًا، وَأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ، وَأَشَدَّ مِنْ فِرَاقِ الْأَوْطَانِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ بِقَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُبٌّ وَعَلَاقَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالْفِرَاقِ وَيَفْسُدُ حَالُهُمْ، ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْقَطِيعَةِ بَيْنَ أَقَارِبِهِمَا، وَوُقُوعِ الشَّرِّ لَمَّا زَالَتْ نِعْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ:{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54][الْفُرْقَانِ: 54]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78][الْحَجِّ: 78]، وَمِنَ الْعُسْرِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185][الْبَقَرَةِ: 185] .

وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِعْلَ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، فَإِنَّهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفَسَادُ النَّاشِئُ مِنَ الطَّلَاقِ أَعْظَمَ مِنَ الصَّلَاحِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ هِيَ الَّتِي أَزَالَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224][الْبَقَرَةِ: 124]، وَأَزَالَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:" «لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ» ".

فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ الثَّلَاثِ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ.

ص: 361

قِيلَ: لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ذَنْبٌ إِذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا. فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ فِي حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ تَابَ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ، فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أُصُولَ شَرِيعَتِنَا أَنْ يَبْقَى أَثَرُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَيْهِ، لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْرَجًا؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي يُنْشِئُ الطَّلَاقَ، لَا بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مُرِيدٌ لِلطَّلَاقِ: إِمَّا لِكَرَاهَتِهِ لِلْمَرْأَةِ، أَوْ غَضَبِهِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا، فَإِذَا كَانَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّلَاقِ بِاخْتِيَارِهِ، [وَوَالَى] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ وُقُوعُ الضَّرَرِ فِي مِثْلِ هَذَا نَادِرًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَفْعَلَهُ. ثُمَّ قَدْ يَأْمُرُهُ الشَّرْعُ، أَوْ تَضْطَرُّهُ الْحَاجَةُ إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَهُ وَلَا لِسَبَبِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي بَابِ الْأَيْمَانِ: تَخْفِيفُهَا بِالْكَفَّارَةِ، لَا تَثْقِيلُهَا بِالْإِيجَابِ أَوِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ظَاهَرَ أوس بن الصامت رضي الله عنه مِنِ امْرَأَتِهِ.

وَأَيْضًا: فَالِاعْتِبَارُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ. وَالْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ.

وَذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ

ص: 362

عَبْدِي، أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ: فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ هَذَا أَوْ شَرِبْتُ هَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ، أَوْ فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ، أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوِ الْحَجُّ لِي لَازِمٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَكِلَاهُمَا يَمِينَانِ مُحْدَثَتَانِ لَيْسَتَا مَأْثُورَتَيْنِ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَا مَعْرُوفَتَيْنِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ.

وَإِنَّمَا الْمُسْتَأْخِرُونَ صَاغُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْمَانًا، وَرَبَطُوا إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، كَالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ يَحْلِفُونَ بِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِهَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ: يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَوْلَهُ: فَامْرَأَتِي طَالِقٌ: يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّلَاقِ. فَالْكَلَامُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِنَفْسِ الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ هَذَا طَلَاقًا، وَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يُحْدِثَ صَدَقَةً.

وَجَوَابُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ الْوَصْفِ الْفَارِقِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْفُرُوعِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا.

وَالثَّانِي: بَيَانُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ، أَوْ فَبَعِيرِي هَدْيٌ: فَالْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْرَامِ

ص: 363

وَالْهَدْيِ، لَا وُجُوبُهَا، كَمَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ: فَعَبْدِي حُرٌّ، وَامْرَأَتِي طَالِقٌ: وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، لَا وُجُوبُهُمَا. وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فِيمَا إِذَا قَالَ: هَذَا هَدْيٌ، وَهَذَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، هَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ لَا يَخْرُجُ؟ فَمَنْ قَالَ: يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، فَهُوَ كَخُرُوجِ زَوْجِهِ وَعَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ. أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهَدْيَ يَتَمَلَّكُهَا النَّاسُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ، وَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَهُوَ جَعَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ هُنَا وُجُوبَ الطَّلَاقِ لَا وُجُودَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ.

فَبَعْضُ صُوَرِ الْحِلْفِ بِالطَّلَاقِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُوبٍ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُودٍ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْفِعْلِ هُنَا وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْمُعَلَّقَ هُنَاكَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْإِهْدَاءِ، أَلَيْسَ مُوجَبُ الشَّرْطِ ثُبُوتَ هَذَا الْوُجُوبِ وَذَاكَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؟

فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْوُجُوبُ، بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُودُ، بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ إِنْ فَعَلَ كَذَا، فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وُجُودُ الْكُفْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ

ص: 364

الْكُفْرُ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ: لَلَزِمَهُ الْكُفْرُ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ابْتِدَاءً: عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ، وَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ. وَلَوْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ وُجُودَهُ كَقَوْلِهِ: إِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ، لَكِنْ لَا [يَتَأَخَّرُ] الْكُفْرُ، لِأَنَّ تَوْقِيتَهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ: إِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ.

قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا قَالَ: " فَعَلَيَّ أَنْ أَطَلِّقَ امْرَأَتِي " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَلِهَذَا تَوَقَّفَ طَاوُسٌ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا.

وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَالتَّكْفِيرِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ. فَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ كَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلتَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الظِّهَارِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، لَكِنْ فِي الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَوْلُهُ: إِنْ فَعَلْتُ فَهِيَ طَالِقٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا. أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا

ص: 365