الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
تقسيم الهجر وبيان الشرعي من غيره:
والهجر نوعان:
أحدهما: هجر لحقِّ النفس وحظها.
والثاني: هجر لحقِّ الله.
فالأول: غير مشروع ولا مأمور به، بل منهي عنه؛ لأن المؤمنين أخوة، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» (2)(3) وفي الحديث الصحيح: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْ عُضْوٍ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» (4)(5) .
(1) سورة الحجرات آية: 10.
(2)
البخاري: الأدب (6065)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2559)، والترمذي: البر والصلة (1935)، وأبو داود: الأدب (4910) ، وأحمد (3 / 110)، ومالك: الجامع (1683) .
(3)
الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية.
(4)
البخاري: الأدب (6011)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) ، وأحمد (4 / 268،4 / 270،4 / 278،4 / 375) .
(5)
الحديث رواه أحمد في المسند وأخرجه مسلم.
وهذا الهجر لا يجوز أكثر من ثلاث عند الحاجة إليه، بل يرخص فيه ثلاثة أيام فأقل، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (1)(2) وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (3)(4) ومنه الترخيص في إحداد غير الزوجة ثلاثة أيام فأقل، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت.
والثاني: هجر لحق الله، وهذا هو الهجر الشرعي المأمور به، فهو طاعة، والطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابًا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به، لم يكن مشروعًا.
والهجر الشرعي نوعان:
أحدهما: المنكرات وهو نوعان:
الأول: هجر الإنسان نفسه عن المنكرات
(1) البخاري: الاستئذان (6237)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2560)، والترمذي: البر والصلة (1932)، وأبو داود: الأدب (4911) ، وأحمد (5 / 416،5 / 421،5 / 422)، ومالك: الجامع (1682) .
(2)
الحديث متفق عليه، انظر رياض الصالحين ص 527.
(3)
مسلم: البر والصلة والآداب (2565)، والترمذي: البر والصلة (2023)، وأبو داود: الأدب (4916) ، وأحمد (2 / 268،2 / 329،2 / 389،2 / 400،2 / 465)، ومالك: الجامع (1686،1687) .
(4)
الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم والترمذي وابن ماجه.
كما قال صلى الله عليه وسلم «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (1)(2) ومنه قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (3) .
الثاني: هجر المقام بين من يفعل المنكرات، فلا يشهد المنكرات
مثل قوم يشربون الخمر، يجلس عندهم، أو دعي إلى وليمة فيها خمر أو زمر، يجيب دعوتهم، إلا لحاجة كمن حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» (4)(5) ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به.
(1) البخاري: الإيمان (10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996)، وأبو داود: الجهاد (2481) ، وأحمد (2 / 193) .
(2)
الحديث متفق عليه، رياض الصالحين، باب النهي عن الإيذاء.
(3)
سورة المدثر آية: 5.
(4)
الترمذي: الأدب (2801) ، وأحمد (3 / 339)، والدارمي: الأشربة (2092) .
(5)
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم عن جابر.
وهذا النوع في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) .
النوع الثاني من أنواع الهجر الشرعي: هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها
(1) سورة الأنعام آية: 68.
(2)
سورة النساء آية: 140.
وهذا الهجر على وجه التأديب، فهو بمنزلة التعزير والعقوبة لمن يفعل المنكرات، والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، فإن المنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة، فإن عقوبتها على صاحبها خاصة، ومثال ذلك من السنة: هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الثلاثةَ الذين خلّفوا، حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقًا، ولهذا فرق السلف والأئمة بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية، فالداعي لا تقبل شهادته، ولا يصلّ خلفه، ولا يؤخذ عنه العلم، ولا ينكح؛ لأنه أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرًّا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.