المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: تحقيق حديث إن الله محسن - المجلى في شرح القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى

[كاملة الكواري]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌منزلة العلم بأسماء الله وصفاته من الدين:

- ‌سبب تأليف هذا الكتاب:

- ‌ملحق المقدمة

- ‌أولاً: أنواع التوحيد

- ‌ دعاء المسألة ودعاء العبادة

- ‌الفصل الأولقواعد في أسماء الله تعالى

- ‌القاعدة الأولى:أسماء الله كلها حسنى

- ‌ملحق القاعدة الأولى

- ‌ تفصيل القول في كلام المؤلف (لا احتمالا ولا تقديراً)

- ‌ثانياً: الأسماء المقترنة

- ‌الدهر" ليس من أسماء الله تعالى

- ‌ملحق القاعدة الثانية

- ‌أولاً: الفرق بين الاسم والصفة

- ‌ثانياً: تقرير أن أسماء الله أعلام وأوصاف

- ‌ثالثاً معاني الذات:

- ‌رابعاً: حجة المعطلة والرد عليها

- ‌خامساً: الدهر

- ‌ملحق القاعدة الثالثة

- ‌ الفرق بين المتعدي واللازم

- ‌ملحق القاعدة الرابعة

- ‌ هل لازم المذهب مذهب:

- ‌ملحق القاعدة الخامسة

- ‌ملحق القاعدة السادسة

- ‌أولاً: هل أسماء الله محصورة

- ‌ثانياً: تحقيق حديث (أو استأثرت به في علم الغيب عندك)

- ‌ثالثاً: معنى الإحصاء الوارد في الحديث

- ‌رابعاً: طرق حديث تعيين الأسماء الحسنى:

- ‌خامساً: تحقيق حديث إن الله محسن

- ‌مراجع الكتاب

- ‌كتب العقيدة

- ‌كتب التفسير

- ‌علوم القرآن والقراءات

- ‌علوم اللغة

- ‌النحو

- ‌الأدب:

- ‌البلاغة:

- ‌المنطق والفلسفة

- ‌الفقه وأصوله

- ‌أصول الفقه

- ‌الحديث وشروحه

- ‌أسماء الرجال والتاريخ

- ‌مصطلح الحديث

- ‌كتب السيرة

الفصل: ‌خامسا: تحقيق حديث إن الله محسن

الماجد، الواحد، الصمد،

القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو،. الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور (1)

‌خامساً: تحقيق حديث إن الله محسن

ورد لفظ إن الله محسن عن ثلاثة من الصحابة:

1 -

حديث شداد بن أوس:

رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/275) وعبد الرزاق في مصنفه (4/392)

2 -

حديث أنس:

رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/113) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/40) ، وانظر مجمع البحرين في زوائد المعجمين (4/330) وقال الهيثمي في المجمع (5/200) رجاله ثقات ا. هـ

(1) رواه الحاكم في المستدرك (1/62)، وقال: حديث قد خرجاه في الصحيحين دون ذكر الأسامي فيه، والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقته بطوله ا. هـ وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين عن الحافظ ابن حجر فيما سبق أن العلة ليست تفرد الوليد فقط.

والحديث رواه الترمذي (5/486) وقال: هذا حديث غريب وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ا. هـ

ورواه ابن حبان في صحيحه (3/89) ، والبيهقي في السنن والكبرى (10/27) ، والبغوي في شرح السنة (3/76) والدرامي في رده على بشر المرسي ص 12

والبيهقي في الأسماء والصفات (1/22) ، وفي الشعب (1/115)

ملاحظة: ذكر الدكتور بشار عواد في تحقيقه لسنن الترمذي أن الحديث خرجه أبو يعلى (6277) والنسائي في الكبرى (7659) والطبراني في الأوسط (985) وعند الرجوع إلى هذه المصادر وجدت أن الحديث من غير سرد الأسماء وهذا ذهول من الدكتور المحقق.

فإن قيل إن المحقق يقصد أصل الحديث دون سرد الأسماء.

قلنا إن أصله في الصحيحين فكان الأولى أن يذكره 0

ص: 142

3 -

حديث سمرة:

أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6/426) وقال الحافظ المقدسي في ذخيرة الحفاظ (1/491) - والذي رتب فيه أحاديث الكامل وقال عنه الذهبي في مقدمة الميزان (1/2) : وقد ذيل طاهر المقدسي على الكامل لابن عدي بكتاب لم أره - قال المقدسي عقب الحديث رواه مجاعة بن الزبير عن الحسن عن سمرة، ومجاعة فيه شيء ا. هـ

قلت: ومجاعة قد ضعفه الدارقطني كما في المغني للذهبي (2/437) وقال الإمام أحمد: لم يكن به بأس في نفسه كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/420) وقال ابن عدى في الكامل (6/427) : هو ممكن يحتمل، ويكتب حديثه ا. هـ ونقله عنه في اللسان (5/22) وذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/44) والذهبي في السير (7/196) .

وقد ذكر الدكتور زهير بن نور في كتابه ابن عدى ومنهجه في الكامل أن عبارة (ممن يكتب حديثه) هي من درجات التعديل التي لا يحتج بحديثه ولكن يصلح للاعتبار (2/141/150) .

وانظر الضعفاء للعقيلي (4/255) ودراسات في الجرح للأعظمي ص 295 وشفاء العليل بألفاظ الجرح والتعديل لمصطفى بن إسماعيل (1/147) ومباحث على علم الجرح لقاسم بن سعد ص 44 والرفع والتكميل للكنوي ص 225.

** الحكم على الحديث

الحديث صححه الألباني في السلسلة برقم (470) وفي صحيح الجامع الصغير (1/374)

ص: 143

القاعدة السابعة

الإلحاد (1) في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها (2)

وهو أنواع:

الأول: أن ينكر شيئاً منها (3) أو مما دلت عليه من الصفات (4) والأحكام (5) كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم.

(1) الإلحاد من اللحد بفتح اللام وضمها كما ذكر الهنائي في المنتخب من غريب كلام العرب (2/516) واللحد هو الذي يكون في جانب القبر ومن معاني لحد: مال وعدل وجار ذكره ابن سيده في المحكم والمحيط الأعظم (3/194) والمناسب هنا من معاني الإلحاد هو الميل لأن ألحد بمعنى مال عن الاستقامة كما ذكره ابن فارس في مجمل اللغة (2/803) .

(2)

والذي يجب فيها سيعرف من ضد ما سيذكره المؤلف.

(3)

أي من الأسماء كما فعل غلاة الجهمية وغيرهم الذين أنكروا أسماء الله وصفاته ووصفوه بالوجود المطلق بشرط الإطلاق أي ليس مقيداً بصفة ثبوتية وإنما يصفونه بالسلوب.

انظر شرح التدمرية للشيخ ابن عثيمين وهو مخطوط ص 45 وسيأتي مزيد تفصيل في الملحق.

ومن ذلك أيضاً ما فعله أهل الجاهلية في إنكارهم لاسم الرحمن كما في صحيح البخاري المطبوع مع الفتح (5/390) .

(4)

أي يثبت الاسم وينكر الصفة كما فعل المعتزلة فيقولون: عليم بلا علم.

(5)

المراد من الأحكام هو الأثر أو المقتضى كما سبق في القاعدة الثالثة وهذه لا تكون إلا في الأسماء المتعدية فالمعتزلة مثلاً يثبتون الاسم وينكرون الصفة ويثبتون الأثر مثل العلم فيثبتون أن الله يعلم مع أنهم لا يثبتون صفة العلم 0

ص: 144

وإنما كان ذلك إلحاداً لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها (1)

والثاني: أن يجعلها دالة (2) على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص (3)

بل هي دالة على بطلانه (4) فجعلها دالة عليه (5) ميل بها عما يجب فيها (6)

(1) فيكون إلحادا ويدخل في هذا النوع القول بأن أسماء الله مخلوقة ومحدثة ولهذا يقول الدارمي في سياق مناقشته للجهمية (إن الله تعالى كان بزعمكم مجهولاً لا اسم له حتى أحدث الخلق فأحدثوا له اسماً من مخلوق كلامهم فهذا هو الإلحاد في أسماء الله والتكذيب بها ا. هـ - انظر النقض على بشر المريسي (1/166) .

(2)

أي بجعل الأسماء دالة على أوصاف المخلوقين فيجعلها الملحد في أسماء الله دالة على التمثيل:

ووجه كونه إلحاداً: أن من اعتقد أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على تمثيل الله بخلقه، فقد أخرجها عن مدلولها، ومال بها عن الاستقامة، وجعل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم دالاً على الكفر، لأن تمثيل الله بخلقه كفر لكونه تكذيباً لقوله تعالى:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقال تعالى: {هل تعلم له سميا} .

قال نعيم بن حماد الخزاعي ت سنة 228هـ: " من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه " نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/610) .

ولا شك أن هذا التشبيه من الشرك أيضاً وقد فسر بعض الأئمة الإلحاد بالشرك فروى ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1623) عن قتادة أن يلحدون هو يشركون

وروى عن عطاء ت: سنة 115 الإلحاد هو المضاهاة ونقلهما السيوطي في الدر المنثور (3/271) .

(3)

لأن القول بالمماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه لأن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً بل إذا كان تفضيل الكامل بالناقص يحط من قدره فكيف بتمثيل الكامل بالناقص:

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في كلام المؤلف في القاعدة السادسة من قواعد الصفات وفي القاعدة الرابعة من قواعد الأدلة، وانظر مقدمة القول المفيد للمؤلف ص 13.

(4)

كقوله تعالى {ليس كمثله شيء} .

(5)

أي على صفات المخلوقين.

(6)

لأنه قد أخرجها عن مدلولها ومال بها عن الاستقامة وجعل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم دالاً على الكفر لأن التمثيل بخلقه كفر.

ص: 145

الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه (1) كتسمية النصارى له: (الأب)(2) وتسمية الفلاسفة إياه: (العلة الفاعلة)(3) وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفية فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها.

كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها (4) باطلة ينزه الله تعالى عنها

الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز واشتقاق اللات من الإله (5) على أحد القولين (6)

(1) . ويدل عليه قول الأعمش ت سنة 148هـ في تفسير يلحدون بنصب الياء والحاء بأنه يدخلون في الأسماء ما ليس فيها ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/1623)

وقال البغوي في تفسيره (2/218) : قال أهل المعاني الإلحاد في أسماء الله تسميته بما لم يتسم به ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ا. هـ

(2)

يزعم النصارى ان الله سمى نفسه بالأب في إنجيل يوحنا ومتى وان الابن هو عيسى عليه السلام.

انظر هداية الحيارى لابن القيم ص226، والرد على النصارى لأبي البقاء ص57

وانظر الخلاف عندهم في معناه في الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة للقرافي ص136، والجواب الصحيح لشيخ الإسلام (3/221) .

(3)

العلة عند المتكلمين: ما يتوقف عليه ذلك الشيء أما العلة الفاعلة فهي: الفاعلة للحدث كخلق الله للإنسان أو هي العلة التي تؤثر في المعلول موجدة له،

انظر تفصيل ذلك في:

تهافت الفلاسفة للغزالي ص 122 ط - دار الفكر اللبناني وتهافت التهافت لابن رشد ص 154، والتعريفات للجرجاني ص 150، والتوقيف للمناوي ص 523، والمنهج الجديد في الفلسفة لليزدي (2/94) .

والمراد من العلة هنا العلة الفاعلة بالطبع كما ذكره السفاريني في اللوامع، وانظر المثل النورية في فن الحكمة للحاقاني ص 181.

(4)

توكيد للأسماء، والتي صفة لها، وسموه به صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.

(5)

ذكر ذلك المفسرون كالطبري في تفسيره (6/133) والثعالبي في الجواهر الحسان (1/590) ، والواحدي في الوسيط (2/431) واختلفوا في تاء اللات فقيل إنها لام فعل كالباء من باب، وقيل انها تاء التأنيث ذكر ذلك ابن عطية في تفسيره (14/101) .

(6)

أي على قول من ذكرنا من المفسرين وفي المسألة قول ثان وهو أنه ليس مشتقاً من اسم الله بل إن العزى تأنيث الأعز والمعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء.

ص: 146

فسموا بها أصنامهم وذلك (1)

لأن أسماء الله تعالى مختصة به (2) .

لقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]

وقوله: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 8]

قوله: {له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض} (3)

[الحشر: 241]

فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق وبأنه يسبح له ما في السموات والأرض فهو مختص بالأسماء الحسنى فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله عز وجل ميل بها عما يجب فيها.

ومنه (4) ما يكون شركاً أو كفراً حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.

= وأما اللات على المعنى الآخر فهو اسم رجل يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه.

انظر هذه الأقوال في تفسير الخازن (4/208) والدر المصون للسمين (6/208) وتفسير ابن عطية (14/101) ، وتفسير السمرقندي (1/585) .

واللات بالتخفيف عند عامة القراء وقرأ ابن عباس ورويس ومجاهد بالتشديد على إنه اسم الرجل الذي يلت بالسويق كما ذكرنا وعلى هذا لا يكون مشتقاً من الإله انظر الخلاف في ذلك في: زاد المسير (8/71) ، تفسير الماوردي (5/398) التنبيهات في إعراب القرآن للعكبري (2/1187) ويسمى بإملاء ما من به الرحمن وأنكر محقق الكتاب هذه التسمية، وانظر أيضاً إتحاف فضلاء البشر (2/501) والحجة لابن خالوية ص 336 ومعاني القرآن للأخفش (2/486) ، وإعراب القرآن للنحاس (4/272) والنشر لابن الجزري (2/379) والمحتسب لابن جني (2/294) ، وغيث النفع للصفاقسي ص 359.

(1)

هذا هو وجه كون ذلك إلحاداً.

(2)

فلا يجوز أن تنقل المعاني الدالة عليها هذه الأسماء إلى المخلوقين ليعطي من العبادة ما لا يستحقه إلا الله فكما اختص سبحانه بالألوهية والعبادة فهو مختص بالأسماء الحسنى فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله عز وجل ميل بها عما يجب فيها كما ذكر المؤلف وسيأتي حكم تسمية البشر بحكيم وعلي وغيرها في الملحق.

(3)

الشاهد من الآيات اختصاص الله سبحانه بالأسماء فلا يشرك غيره معه.

(4)

أي بعد أن ذكر أن جميع أنواع الإلحاد محرم بين أن بعضها يكون كفراً أو شركاً =

ص: 147

ملحق القاعدة السابعة

ذكرنا في الحاشية على القاعدة السابقة أننا سنفصل في الملحق بعض المسائل وهي:

أولاً: الرد على غلاة الجهمية في نفيهم للأسماء.

ثانياً: حكم تسمية البشر بأسماء الله كحكيم وعلي.

ثالثاً: حكم الإلحاد في بعض أنواعه.

أولاً: الرد على الجهمية في نفيهم للأسماء

غلاة الجهمية، والقرامطة، والباطنية ومن تبعهم ينكرون الأسماء والصفات ولا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق (1) فلا يقال هو موجود، ولا حي ولا عليم، ولا قدير وإنما هي أسماء لمخلوقاته أو مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحى، العليم، القدير ويقولون إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى فلا فرق بين العلم، والقدرة والسمع، والبصر ونحو ذلك.

وشبهتهم أنهم اعتقدوا أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم التشبيه والتعدد ووجه ذلك في الأسماء أنه إذا سمى بها لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم فإذا أثبتنا " الحي " مثلاً لزم أن يكون متصفاً بالحياة لأن صدق المشتق يستلزم صدق المشتق منه وذلك يقتضي قيام الصفات به وهو تشبيه

= وبعضها يكون محرماً فقط ولا يصل إلى درجة الكفر وقد ذكرنا فيما سبق بعض الحالات التي يكون فيها الكفر وسيأتي في الملحق البعض الآخر.

(1)

يعني أن منتهى قولهم إن وجود الله مشروط بسلب كل أمر ثبوتي وعدمي أو بسلب الأمور الثبوتية كما يقول بعضهم فالوجود المطلق والإنسان المطلق والجسم المطلق بلا صفة إنما هو أمر في الأذهان لا في الأعيان.

ص: 148

وأما في الصفات فقالوا إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد وهو تركيب ممتنع مناقض للتوحيد.

والرد عليهم من وجوه:

الأول: أن الله تعالى جمع فيما سمى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات فمن أقر بالنفي وأنكر الإثبات فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض والكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله قال الله تعالى منكراً على بني إسرائيل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85] وقال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} [النساء: 150] .

الثاني: أن الموجود المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج المحسوس وإنما هو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة، فتكون حقيقة القول به نفي وجود الله تعالى إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر.

الثالث: قولهم: " إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى " مكابرة في المعقولات، سفسطة في البدهيات، فإن من المعلوم بضرورة العقل، والحس أن الصفة غير الموصوف، وأن كل صفة غير الصفة الأخرى فالعلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، كما أن العلم والقدرة، والكلام، صفات متغايرة

الرابع: أن وصف الله تعالى بصفات الإثبات أدل على الكمال من وصفه بصفات النفي، لأن الإثبات أمر وجودي يقتضي تنوع الكمالات في حقه، وأما النفي فأمر عدمي لا يقتضي كمالاً إلا إذا تضمن إثباتاً وهؤلاء النفاة لا يقولون بنفي يقتضي الإثبات.

ص: 149

الخامس: قولهم: " إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد......." قول باطل مخالف للمعقول، والمحسوس فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف فها هو الإنسان الواحد يوصف بأنه حي، سميع بصير، عاقل، متكلم إلى غير ذلك من صفاته ولا يلزم من ذلك تعدد ذاته.

السادس: قولهم: " في الأسماء إن إثباتها يستلزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم فيقتضي أن يكون إثباتها تشبيهاً "

جوابه: أن المعاني التي تلزم من إثبات الأسماء صفات لائقة بالله تعالى غير مستحيلة عليه، والمشاركة في الاسم، أو الصفة لا تستلزم تماثل المسميات والموصوفات.

السابع: قولهم: " إن الإثبات يستلزم تشبيهه بالموجودات "

جوابه: أن النفي - الذي قالوا به - يستلزم تشبيهه بالمعدومات على قياس قولهم وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات وحينئذ فإما أن يقروا بالإثبات فيوافقوا الجماعة، وإما أن ينكروا النفي كما أنكروا الإثبات فيوافقوا غلاة الغلاة من القرامطة والباطنية وغيرهم، وأما التفريق بين هذا وهذا فتناقض ظاهر ا. هـ من تقريب التدمرية للمؤلف.

ثانياً: حكم تسمية البشر بأسماء الله

سئل الشيخ ابن عثيمين عن ذلك وفيما يلي نص السؤال والجواب:

ما حكم التسمية بأسماء الله مثل كريم وعزيز ونحوهما؟

التسمي بأسماء الله عز وجل يكون على وجهين:

الوجه الأول: وهو على قسمين:

القسم الأول أن يحلى بـ " ال " ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله عز وجل، كما لو سميت أحداً بالعزيز والسيد والحكيم وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يسمى به غير الله لأن " ال " هذه تدل على لمح الأصل وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.

ص: 150

القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ " ال " فإنه لا يسمى به ولهذا غير النبي صلى الله عليه وسلم كنية أبي الحكم التي تكنى بها، لأن أصحابه يتحاكمون إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله هو الحكم وإليه الحكم " ثم كناه بأكبر أولاده شريح فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظاً بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع، لأن هذه التسمية تكون مطابقة تماماً لأسماء الله سبحانه وتعالى فإن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.

الوجه الثاني: أن يتسمى بالاسم غير محلى بـ "ال" وليس المقصود به معنى الصفة فهذا لا بأس به مثل حكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام:" لا تبع ما ليس عندك " وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به.

لكن في مثل جبار لا ينبغي أن يتسمى به وإن كان لم يلاحظ الصفة وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت وعلو واستكبار على الخلق فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها والله أعلم.

ما حكم التسمي بأسماء الله تعالى مثل الرحيم والحكيم؟

يجوز أن يسمى الإنسان بهذه الأسماء بشرط ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه بأن تكون مجرد علم فقط ومن أسماء أصحابه الحكم وحكيم بن حزام، وكذلك اشتهر بين الناس اسم عادل وليس بمنكر وأما إذا لوحظ فيه المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء فإن الظاهر أنه لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم أبي الحكم الذي تكني به لكون قومه يتحاكمون إليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله هو الحكم وإليه الحكم، ثم كناه بأكبر اولاده شريح وقال له " أنت أبو شرح " وذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم فكان هذا مماثلاً لأسماء الله سبحانه وتعالى، لأن أسماء الله عز وجل ليست مجرد أعلام بل هي أعلام من حيث دلالتها على

ص: 151

ذات الله سبحانه وتعالى وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه وأما أسماء غيره سبحانه وتعالى فإنها مجرد أعلام إلا أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فإنها أعلام وأوصاف وكذلك أسماء كتب الله عز وجل فهي أعلام وأوصاف أيضاً اهـ.

ويلاحظ أن الشيخ ابن عثيمين في السؤال الثاني جعل العبرة أن تكون الأسماء لمجرد العلمية وظاهره ولو كان محلى بأل خلافاً لما فصله في السؤال السابق.

والذي عليه ظاهر الإطلاق في هذا الجواب هو ظاهر إطلاق اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم 11865

هل يصح ما يأتي دليلاً على تحريم تسمية الخلق بأسماء الخالق؟

أ - حيث إن تسمية المخلوق بالاسم العلم (الله) ممنوعة، كانت تسمية المخلوق بأسماء الخالق الأخرى أيضاً ممنوعة إذ لا وجه للتفرقة بين أسماء الله تعالى؟

ب - من المعلوم في اللغة أن الجار والمجرور إذا سبق المعرفة أفاد القصر فملاحظ ذلك في قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} فتفيد تسمية الآية قصر الأسماء الحسنى على الله وعدم جواز تسمية الخلق بها، فهل يصح هذا دليلاً؟

الجواب:

ما كان من أسماء الله تعالى علم شخص كلفظ (الله) امتنع تسمية غير الله به لأن مسماه معين لا يقبل الشركة وكذا ما كان من أسمائه في معناه في عدم قبول الشركة كالخالق والبارىء فإن الخالق من يوجد الشيء على غير مثال سابق والبارىء من يوجد الشيء بريئا من العيب، وذلك لا يكون إلا من الله وحده فلا يسمى به إلا الله تعالى، أما ما كان له معنى كلي تتفاوت فيه أفراده من الأسماء والصفات كالملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر، فيجوز تسمية غيره بها فقد سمى الله نفسه بهذه الأسماء وسمى بعض عباده بها مثال: قول تعالى {قالت امرأة العزيز} وقال: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} إلى أمثال ذلك، ولا يلزم التماثل، لاختصاص كل مسمى بسمات تميزه عن غيره وبهذا يعرف الفرق بين

ص: 152

تسمية الله بلفظ

الجلالة وتسميته بأسماء لها معان كلية تشترك أفرادها فيها فلا تقاس على لفظ الجلالة أما الآية {ولله الأسماء الحسنى} فالمراد منها قصر كمال الحسن في أسمائه تعالى لأن كلمة الحسنى اسم تفضيل وهي صفة للأسماء لا قصر مطلق أسمائه عليه تعالى كما في قوله تعالى: {والله هو الغني الحميد} فالمراد قصر كمال الغنى والحمد عليه تعالى لا قصر اسم الغني والحميد عليه فإن غير الله يسمى غنياً وحميداً

س: إذا ثبت أن من أسماء الله تعالى ما يجوز تسمية الخلق بها فهل من أسماء الله تعالى مالا يجوز تسمية الخلق بها؟ وهل يدخل ضمن هذا المنع الرحمن والقيوم وهل هناك أسماء أخرى لا يجوز وصف الخلق بها؟

جـ: تقدم في جواب السؤال الثاني والثالث بيان الضابط مع أمثلة لما يجوز تسمية المخلوق به من أسماء الله تعالى وما لا يجوز وبناء على ذلك لا يجوز تسمية المخلوق بالقيوم لأن القيوم هو المستغني بنفسه عن غيره المفتقر إليه كل ما سواه وذلك مختص بالله لا يشركه فيه غيره قال ابن القيم رحمه الله في النونية: -

هذا ومن أوصافه القيوم

احداهما القيوم قام بنفسه

فالأول استغناؤه عن غيره

****

****

****

والقيوم في أوصافه أمران

والكون قام به هما الأمران

والفقر من كل إليه الثاني

وكذا لا يسمى المخلوق - بالرحمن - لأنه بكثرة استعماله اسماً لله تعالى صار علماً بالغلبة عليه مختصاً به كلفظ الجلالة فلا يجوز تسمية غيره به

وسئلت اللجنة الدائمة في الفتوى رقم 8911 عن ذلك وفيما يلي نص السؤال والجواب:

يسعدني أن أتحدث في رسالتي المتواضعة إلى سماحتكم فأنا أتحدث إلى واحد من أشهر الشخصيات الإسلامية في عالمنا الإسلامي وغيره أرجو أن يتسع صدركم الكبير لقراءة هذه السطور ولكم من الله جزيل الشكر والعرفان وجزاكم الله خيراً عنا 0

ص: 153

(ذو الجلال والإكرام) اسم من أسماء الله الحسنى وهو تعظيم لله عن كل شيء وتنزيه له وقد قرأت لسماحتكم رسالة مرسلة إلى العاهل السعودي وكنتم قد بدأتموها بقولكم " جلالة الملك " ألستم معي في أن الجلالة لله وحده وأن الملك اسم من أسمائه الحسنى لا يجوز تسمية شخص بها أيا كانت صفته وشخصيته فنرجو إيضاح ذلك من سماحتكم حتى لا يقع المسلمون في إثم من جراء تنزيه الأشخاص بهذه الصفات التي اختصها الله لنفسه دون غيره اللهم إلا " رؤوف رحيم " صفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي نفس الوقت تصادفت تحت يدي وأنا أتصفح في المجلة العربية في العدد (89) منها رسالة شكر من الأستاذ / محمد النويصر رئيس المكتب الخاص للعاهل السعودي إلى القائمين على إخراج المجلة وهو يبدأ رسالته بقوله: (لقد تسلم جلالة مولاي حفظه الله خطابكم المرسل وبه أعداد المجلة

)

الجواب:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه

. وبعد

إن كثيراً من الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين غيره من مخلوقاته في اللفظ والمعنى الكلي الذهني فتطلق على الله بمعنى يخصه تعالى ويليق بجلاله سبحانه وتطلق على المخلوق بمعنى يخصه ويليق به، فيقال مثلاً: الله حليم، وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حليم، وليس حلم إبراهيم كحلم الله، والله رؤوف رحيم ومحمد صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم وليس رأفة محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته كرأفة الله بخلقه ورحمته والله تعالى جليل كريم ذو الجلال والإكرام على وجه الإطلاق، وكل نبي كريم جليل، وليست جلالة كل نبي وكرمه كجلالة غيره من الأنبياء وكرمه ولا مثل جلال الله وكرمه بل لكل من الجلالة والكرم ما يخصه والله تعالى حي، وكثير من مخلوقاته حي، وليست حياتهم كحياة الله تعالى، والله سبحانه مولى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وصالح المؤمنين وليس ما لجبريل وصالح المؤمنين من ذلك مثل ما لله من الولاية والنصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم

..إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولا يلزم من

ص: 154

ذلك تشبيه المخلوق بالخالق في الاسم أو الصفة، وأسلوب الكلام، وما احتف به من القرائن يدل على الفرق بين ما لله من الكمال في أسمائه وصفاته وما للمخلوقات مما يخصهم من ذلك على وجه محدود يليق بهم أ. هـ

وبهذا يتبين لنا أن حكم تسمية الخلق بأسماء الخالق فيه تفصيل عند اللجنة الدائمة للإفتاء:

1 -

أن هناك أسماء خاصة لله عز وجل لا يجوز أن يسمى غير الله به مثل: الله - لرحمن - الخالق - البارئ - القيوم، وضابط هذا النوع هو ما كان مسماه معيناً لا يقبل الشركة، أو ما كان في معنى عدم قبول الشركة كالخالق ونحوه.

2 -

أنه إذا قصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا يجوز أن يسمى العبد سواء كان محل بألـ أو غير محلى.

3 -

أنه إذا لم يكن واحداً مما سبق فإنه يجوز أن يسمى به العبد ولو كان محلى بأل لأنه معنى كلي تتفاوت فيه أفراده كالملك والعزيز والجبار هذا ما كتبه المعاصرون في هذه المسألة أما الفقهاء السابقون من أصحاب المذاهب فإنهم قد تكلموا عن المسألة في كتاب الأيمان من كتب الفقه.

ونظراً لكثرة الأقوال فيها فإنني سأقتصر على ذكر مذهب الحنابلة وسأشير إلى مراجع بقية المذاهب لمن أراد الاستزادة.

ومذهب الحنابلة فيه تفصيل:

1 -

هناك أسماء لا يسمى بها غير الله مثل: الله والقديم (1) الأزلي.

(1) اسم القديم لله ذكره الحنابلة وغيرهم ومن المعاصرين مال إليه الشيخ سليم الهلالى في كتابه دراسات منهجية في العقيدة السلفية ص 22 حيث قال: وقد ادعى بعض العلماء أن المتكلمين أدخلوا القديم في أسماء الله وهي لم ترد في الكتاب والسنة ثم نقل عن شارح الطحاوية ذلك ثم قال: أن القديم ورد وكصفة للرحمن كما في حديث (وبسلطانه القديم) صححه الألباني ا. هـ.

وقد أنكر شيخ الإسلام هذه التسمية في منهاج السنة النبوية (2/123) وابن القيم في بدائع الفوائد (1/162) .

واضطرب كلام السفاريني في اللوامع فاثبته اسما لله في (1/38) ، وفي ص 40 وفي ص125 نقل عن ابن القيم ما يؤيد أنه ليس باسم وسكت عليه.

وانظر الحجة في بيان المحجة لقوام السنة (1/93) .

ص: 155

والأول الذي ليس قبله شيء، والأخر الذي ليس بعده شيء، وخالق الخلق، ورازق العالمين أو رب العالمين والعالم بكل شيء، ومالك يوم الدين ورب السماوات والأرض والرحمن والحي الذي لا يموت

2 -

هناك أسماء لا تختص بالله سواء أكانت محلاه بألـ أو غير محلاة مثل: الرحيم، العظيم، الرب، الرازق، الخالق، الحي، القوي، فهي من الأسماء المشتركة (1)

ملاحظة: ما ذكرناه عن اسم الرحمن وأنه مختص بالله لا يسمى به غيره هو الصحيح من المذهب كما ذكر المرداوي في الإنصاف (11/4) ومشى عليه ابن قدامة في المغني (13/452) .

والقول الثاني أن الرحمن ليس مختصاً بالله بل يسمى به غيره وهو الذي مشى عليه ابن قدامة في المقنع وفي كتابه الهادي أو عمدة الحازم في زوائد أبي القاسم ص 243 واختاره ابن عبدوس في تذكرته وجزم به أبو الخطاب في الهداية والسامري في المستوعب وابن الجوزي في المذهب الأحمد ص 129.

وانظر المسألة في فقه الحنفية في:

شرح فتح القدير (5/63) ، والبناية على الهداية للعيني (6/14) ، وحاشية أبي السعود المسماة بفتح الله المعين على شرح الكنز لمنلامسكين (2/293) ، وبدائع الصنائع للكاساني (4/13) والاختيار للموصلي (4/52)

وانظر في عدم جواز التسمية بالحق إذا كان معرفاً وجوازه إذا كان منكراً في حاشية ابن عابدين (5/482) .

وانظر المالكية في:

منح الجليل لعليش (3/5) ، والشرح الصغير للدردير (2/198) ،

(1) هذا ما ذكره في مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى للرحيباني (6/358) ، وانظر شرح الزركشي على الخرقي (7/87) والمغني (13/452) وانظر توجيه الأقوال في الممتع على المقنع لابن المنجا (6/81)

ص: 156

والشافعية:

مغني المحتاج للشربيني (4/321) والأنوار الأعمال الأبرار للأردبيلي (2/263)، والغرة البهية للشيخ زكريا النصارى في شرح منظومة ابن الوردي (10/78) حيث يقول ابن الوردي:

تحقيق ما لم يجب اليمين

كالله والرحمن والإله

لا إن نوى سواه كالرحيم

والحق والخالق والجبار

****

****

****

****

بذكر الاسم الخاص لا تديين

وغالب وصفة لله

والرب والعليم، والحكيم

ورازق ومن صفات الباري

ونختم حديثنا بما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري حيث قال:

" والمعروف عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من العلماء أن أسماء الله ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يختص بالله، كالجلالة، والرحمن، ورب العالمين. فهذا ينعقد به اليمين إذا أطلق، ولو نوى به غير الله.

ثانياً: - ما يطلق عليه وعلى غيره، لكن الغالب إطلاقه عليه، وأنه يقيد في حق غيره بضرب من التقييد، كالجبار، والحق، والرب، ونحوها. فالحلف به يمين، فإذا نوى به غير الله فليس بيمين.

ثالثها: ما يطلق في حق الله وفي حق غيره على حد سواء، كالحي، والمؤمن، فإن نوى به غير الله فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى فوجهان ا. هـ

وانظر منهج ابن حجر في العقيدة وبدائع الفوائد لابن القيم (1/164) .

ثالثاً: ذكرنا أن من أنواع الإلحاد هو إنكار الأسماء أو الصفات، وكذلك تمثيل صفات الله بصفات خلقه وننقل نص فتوى الشيخ ابن عثيمين في هذه المسألة:

- سئل الشيخ رعاه الله تعالى: عن أنواع التعطيل؟

فأجاب بقوله: - التعطيل نوعان:

الأول: تعطيل تكذيب وجحد، وهذا كفر. ومثاله رجل قال إن الله

ص: 157

لم يستو على العرش. فهذا جحود وتكذيب، لأن الله تعالى يقول {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ومن كذب خبر الله فهو كافر.

الثاني: تعطيل تأويل، وهذا هو معترك الخلاف بين العلماء هل يحكم على من عطل تأويلاً بالكفر أو لا؟ ومثاله رجل أثبت أن الله على العرش استوى لكن قال إن معناه استولى فهذا تعطيل تأويل لا يكفر به الإنسان، ولهذا لا نكفر من فسر الاستواء بالاستيلاء.

وهذا النوع في الحقيقة فيه تفصيل: فأحياناً يكون الإنسان مبتدعاً غير كافر، وأحياناً يكون مبتدعاً كافراً حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية في ذلك.

- سئل الشيخ: ما حكم إنكار شيء من أسماء الله تعالى أو صفاته؟

فأجاب حفظه الله بقوله: الإنكار نوعان:

النوع الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحداً أنكر اسما من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة.

النوع الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها ولكن يؤولها وهذا نوعان:

الأول:

أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر.

الثاني:

أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر، لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل إن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا معنى النعمة، أو القوة، فهذا كافر، لأنه نفاها نفياً مطلقاً فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مكذب ولكن إن قال: المراد باليد

ص: 158

النعمة أو القوة فلا يكفر، لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة قال الشاعر:

وكم لظلام الليل عندك من يد

تحدث أن المانوية تكذب

من " يد " أي: من نعمة، لأن المانوية يقولون: إن الظلمة لا تحدث الخير، وإنما تحدث الشر.

- وسئل الشيخ: ما حكم من يعتقد أن صفات الخالق مثل صفات المخلوق؟

فأجاب بقوله: الذي يعتقد أن صفات الخالق مثل صفات المخلوقين ضال، ذلك أن صفات الخالق لا تماثل صفات المخلوقين بنص القرآن الكريم قال الله تعالى:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ولا يلزم من تماثل الشيئين في الاسم أو الصفة أن يتماثلا في الحقيقة هذه قاعدة معلومة.

أليس للآدمي وجه. وللبعير وجه؟ اتفقا في الاسم ولكن لم يتفقا في الحقيقة وللجمل يد وللذرة يد، فهل اليدان متماثلاتان؟

الجواب لا إذن لماذا لا تقول لله عز وجل وجه، ولا يماثل أوجه المخلوقين. ولله يد ولا تماثل أيدي المخلوقين؟! قال الله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] وقال: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} [الأنبياء: 104] هل هناك يد من أيدي المخلوقين تكون كهذه اليد؟ لا. إذن يجب أن نعلم أن الخالق لا يماثل المخلوق، لا في ذاته، ولا في صفاته {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ولذلك لا يجوز أبداً أن تتخيل كيفية صفة من صفات الله، أو تظن أن صفات الله كمثل صفات المخلوق.

****

ص: 159

قواعد في للأسماء الحسنى إضافة على ما ذكره المؤلف

القاعدة الثامنة:

الأسماء المشتقة من صفة واحدة لا تعد كلها اسماً واحداً، بل كل صيغة من صيغ الاسم يعد اسماً مستقلاً، فصفة (القدرة) ، اشتق منها عدة أسماء مثل (القادر)(القدير)(المقتدر)

وصفة (العلو) اشتق منها أسماء مثل (العلي) ، (الأعلى) ، (المتعال) وكذلك صفة (الكرم) اشتق منه أسماء مثل (الكريم) ، (الأكرم)

..الخ

فالقادر اسم، والقدير اسم، والمقتدر اسم، مع أنها كلها مشتقة من صفة واحدة، لأن بعضها يزيد بخصوصية عن الآخر، وقد وقع الاتفاق على أن اسمي (الرحمن) ، و (الرحيم) اسمان، مع كونهما مشتقين من صفة واحدة، فتغير مباني وألفاظ الأسماء يغير المعنى، وإذا تغير المعنى صار اسماً مستقلاً بذاته.

انظر أسماء الله للغصن ص 134، ومنهج ابن حجر في العقيدة (1/526)

القاعدة

الأسماء المقترنة، التي لا يصح فيها إطلاق اسم منها دون الآخر، مثل اسمي (القابض، الباسط) ، واسمي (المقدم، المؤخر) ، فهذه الأسماء تعد اسمين، لأن كل اسم منها يحمل معنى غير الآخر، لكنها تكون كالاسم الواحد في المعنى، فلا يصح إفراد اسم عن الآخر في الذكر، لأن الاسمين إذا ذكرا معاً دل على عموم قدرته وتدبيره، وأنه لا رب غيره، وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح، والله له الأسماء الحسنى، ليس له مثل السوء قط.

فلو قلت يا ضار، يا نافع يا مميت وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها وإلى هذا أشار ابن القيم في النونية:

هذا ومن أسمائه ما ليس يفرد

بل يقال إذا أتى بقران

وهي التى تدعى بمزدوجاتها

إفرادها خطر على الإنسان

إذ ذاك موهم نوع نقص جل رب

العرش عن عيب وعن نقصان

كالمانع المعطي وكالضار الذى

هو نافع وكماله الأمران

ونظير هذا القابض المقرون باسم

الباسط اللفظان مقترنان

وكذا المعز مع المذل وخافض

مع رافع لفظان مزدوجان

وحديث إفراد اسم منتقم فموقوفك

ما قد قال ذو العرفان

ما جاء في القرآن غير مقيد

بالمجرمين وجا بذو نوعان

وانظر تعليق ابن الوزير في إيثار الحق ص 174

ص: 160

القاعدة التاسعة:

يجوز الإخبار عن الله بما لا يتضمن نقصاً كالقديم وواجب الوجود والذات وأنه بائن من خلقه إذ باب الإخبار أوسع من باب الأسماء وقد سبق ذلك.

****

القاعدة عشرة:

أسماء الله قديمة غير مخلوقة:

أسماء الله عز وجل هي أوصافه التي وصف بها نفسه، ووصفه سبحانه وتعالى من كلامه، وكلامه غير مخلوق، فالأسماء الحسنى إذاً غير مخلوقة ومما يدل على أن الأسماء الحسنى من كلام الله قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

(أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) وقد تقدم تخريج الحديث ويقول ابن القيم في شفاء العليل ص 472: وقد دل الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة بل هو الذي يتكلم بها وسمى بها نفسه ولهذا لم يقل: بكل اسم خلقته لنفسك ولو كانت مخلوقة لم يسأله بها فإن الله لا يقسم عليه بشيء من خلقه فالحديث صريح في أن أسماء الله ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم ا. هـ

ولا يعترض على هذا بأن بعض الأسماء لم ترد في القرآن وإنما وردت في السنة فقط وهي من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنا نقول إن الحديث المتقدم دل على أن المسمي هو الله سواء كان هذا الاسم في كتابه أو علمه أحداً من خلقه، والذي ورد في السنة فقط هو من النوع الذي علمه الله

ص: 161

للرسول صلى الله عليه وسلم والتسمية على هذا تكون من كلام الله ابتداء لا من كلام ولا من تسمية من بلغ وأدى

وأهل السنة إذا قالوا: إن الأسماء الحسنى تابعة للذات لا يريدون بهذا أن الأسماء من صفات ذاته فحسب، وإنما يريدون أنها من صفات ذاته وقد تعلقت بها مشيئته، أي: أنه سمى نفسه بمشيئته وقدرته وقد قال في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: " والذين وافقوا السلف على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته، لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته، ويسمى نفسه بمشيئته وقدرته؟ هذا فيه قولان! النفي هو قول ابن كلاب ومن وافقه، والإثبات قول أئمة الحديث والسنة "

وممن نص على أن الأسماء الحسنى من كلام الله شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قال: " والذي كان معروفاً عند أئمة السنة أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة فيقولون: الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول، لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء " فعلى هذا يكون الإمام أحمد ممن يرى أن الأسماء من كلام الله، ونحوه كلام الإمام الدارمي الذي بين أن قول المريسي بأن الأسماء الحسنى مخلوقة أصله قول الجهم بأن القرآن مخلوق وهماَ من جملة الكلام، فرد عليهما قولهما إن كلام الله مخلوق ومنه القرآن والأسماء الحسنى.

وعلى أن الأسماء الحسنى غير مخلوقة مضى جماعة العلماء وأئمة السنة:

قال الإمام الشافعي: " من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة لأن اسم الله غير مخلوق "

وقال ابن هانئ: " سمعت أحمد بن حنبل - وهو مختف عندي - فسألته عن القرآن فقال: من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر "

ص: 162

وقال الإمام الدارمي: " وفيما ذكرنا - (أي من الأدلة) - بيان بين ودلالة قاطعة ظاهرة على إلحاد هؤلاء الملحدين في أسمائه المبتدعين أنها مخلوقة

. " ا. هـ.

وقد صرح الأئمة بتكفير من قال بخلق الأسماء الحسنى وذلك لما ظهرت بدع الجهمية في القول بخلق القرآن فكان قولهم بخلق الأسماء امتداداً لقولهم بخلق القرآن، لأنهما من كلام الله تعالى.

وفي هذا المعنى يقوم الإمام الدارمي: " فهذا الذي ادعوا في أسماء الله أصل كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم " وقال قبلها: " وقد كان لإمام المريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن كان القرآن عنده مخلوقاً من قول البشر " وقال الإمام إسحاق بن راهوية: " أفضوا (- أي الجهمية-) إلى أن قالوا: أسماء الله مخلوقة لأنه كان ولا اسم وهذا الكفر المحض اهـ من كتاب منهج أهل السنة لخالد بن نور (2/396) .

وبهذه القاعدة نعرف أن أسماء الله لا يقال لها أنها غيره كما هو رأى الجهمية والمعتزلة فإنهم قالوا أن أسماء الله غير الله وكل ما هو غير الله فإنه مخلوق.

ولا يقال أن أسماء الله هي عين المسمى أو هي هو بمعنى أنها هي نفس ذاته كما هو قول الأشاعرة والماتريدية.

وقد فصل ابن أبي العز في المسألة فقال ص 80:

وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى وغيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه: فالاسم يراد به المسمى تارة ويراد به اللفظ الدال عليه أو على المسمى أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك - فهذا المراد به المسمى نفسه وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله تعالى ونحو ذلك فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال:: فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق وإن أريد

ص: 163

أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسماً أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى. وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال فقد يراد به ما ليس هو إياه وقد يراد به ما جاز مفارقته له

ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل.

1 -

فإن أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها - فهذا غير صحيح.

2 -

وإن أريد به إن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً وحده ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً يتصور هذا وحده وهذا وحده لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.

وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، هذا له معنى صحيح وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها وليست غير الموصوف بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.

فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.

وإذا قلت: أعوذ بعزة الله فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله 0

ص: 164

وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن " ذات " في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى صاحبة كذا: تأنيث ذو، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال.

*****

ص: 165

القاعدة الحادية عشرة:

من أسماء الله ما يكون دالاً على عدة صفات:

وقد سبق توضيح ذلك عند شرح كلام المؤلف في القاعدة الأولى.

القاعدة الثانية عشر:

أسماء الله وصفاته مختصة به واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات

وقد وضحنا ذلك في حاشية القاعدة السابعة ص 182.

*******

**

*

ص: 166

الفصل الثاني

ص: 168

الفصل الثاني

قواعد في صفات الله تعالى

القاعدة الأولى

صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه (1) كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والعزة والحكمة والعلو والعظمة وغير ذلك (2) وقد دل على هذا (3) السمع والعقل والفطرة.

- أما السمع: فمنه قوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل: 60]

(1) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (1/158)

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى (6/71) : الكمال ثابت لله بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تبارك وتعالى يستحقه بنفسه المقدسة " ا. هـ.

مثال ذلك:

حياة الله فهي صفة كمال كما سبق، وكذلك علم الله محيط بكل شيء قديم بقدم الذات ولم يسبق بجهل ولا يطرأ عليه نسيان ولا ذهول وعلمه باق بقاء الذات العلية

ولا يوجد أحد يتصف بهذا العلم فهذا هو وجه الكمال.

فالله له الكمال المطلق في جميع صفاته، والاشتراك اللفظي بين صفات الله وبين صفات المخلوق فهو إنما قبل ان تضاف صفة الله إلى الله، وصفة المخلوق إلى المخلوق وهو ما يسمى بالمطلق الكلي ولا وجود لها في الخارج وإنما يتصور في الذهن دون ان يعين علم الخالق أو علم المخلوق.

(2)

أدلة هذه الصفات مذكورة في كتب العقائد قاله المؤلف.

(3)

أي على كمال صفات الله وانظر هذه الأدلة في كتاب علو الله للدرويش ص 18وص21

ص: 169

- والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى (1)

وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة (2) فلابد أن تكون له صفة (3) إما صفة كمال وإما صفة نقص (4) والثاني (5) باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة ولهذا (6) أظهر الله تعالى بطلان إلوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز فقال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له (7) إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون} (8)[الأحقاف: 5] .

وقال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} (9)

[النحل: 20، 21] .

وقال

(1) والشاهد من الآية هو قوله {ولله المثل الأعلى} أي الوصف لأن المثل من بين انطلاقاته الوصف كما قال تعالى {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي وصف الجنة وانظر في ذلك كتاب أمثال القرآن لعبد الرحمن حبنكة الميداني ص 33 وللمثل معان أخرى سنذكرها في الملحق.

(2)

احترازاً من الموجود الذهني وقد سبق بيان ذلك في القاعدة الثانية من قواعد الأسماء.

(3)

ذكر المؤلف الأدلة على ذلك في القاعدة الثانية من قواعد الأسماء.

(4)

هذه قسمة عقلية تامة إذ لا يوجد قسم ثالث ووجه القسمة أنها بين الكامل وهو الرب وبين الناقص وهو المخلوق، وهناك ما يسمى بالقسمة الاستقرائية المبنية على التتبع لكن العقل لا يمنع قسماً زائداً كتقسيم الأديان السماوية إلى ثلاثة، المنطق للمظفر ص 115

(5)

أي صفة النقص.

(6)

هذا هو الدليل على أن صفة النقص للرب باطل.

(7)

والشاهد من الآية أن هذه الأصنام لا قدرة لها البتة على الخلق والإيجاد والإعدام والنفع والضر واستجابة الطلب وكلها صفات نقص.

انظر تفسير الرازي (28/6) .

(8)

وهذا ايضاً نقص وإنما جاز وصف الأصنام بالغفلة وهي لا تليق إلا بالعقلاء لأنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل.

انظر التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزيء الغرناطي (4/74) .

(9)

فوصفهم الله بالعجز لأمور:

أ - أنهم لا يخلقون شيئاً قليلاً أو كثيراً بل هم يُخلقون فكيف يخلقون مع افتقارهم في إيجادهم إلى الله.

ب - أنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون شيئاً.

جـ- هذه الأصنام لا تعلم متى يبعث عابدوها فهم سووا بين الكامل من جميع الوجوه =

ص: 170

عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} (1)[مريم: 42]

وعلى قومه: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} (2)

[الأنبياء: 66، 67] ثم إنه قد ثبت بالحس (3) والمشاهدة (4) أن للمخلوقات صفات كمال

= والناقص الذي لا شيء له من أوصاف الكمال، وفي الآية تهكم بالمشركين الذين عبدوا من لا يحس ولا يشعر.

انظر تفسير السعدي (3/53) ، تفسير الصابوني (2/122)

وقال ابن القيم في النونية ص90

والله عاب المشركين بأنهم

عبدوا الحجارة في رضي الشيطان

ونعى عليهم كونها ليست

بخالقة وليست ذات نطق بيان

فأبان أن الفعل والتكليم من

أوثانهم لا شك مفقودان

ملاحظة: استدل شيخ الإسلام بهذه الآية على بطلان قول القرامطة في استدلالهم على مذهبهم بصحة سلب النقيضين وأنه لا يلزمهم التشبيه إلا إذا كان نفيهما عن محل قابل لهما أما الذي ليس بقابل لهما فلا يلزمهم ذلك فالجمادات التي ليس فيها إحساس لا يقال إنها حية ولا ميتة فأجاب شيخ الإسلام بأن العرب يصفون الجماد بالحياة والموت كما في قوله تعالى {أموات غير أحياء} وأن ما ذكروه هو اصطلاح للفلاسفة المشائين

انظر شرح التدمرية لفالح آل مهدي ص 85 وشرح الشيخ ابن عثيمين المخطوط ص 83.

وانظر تفسير المشائين في مناهج البحث عند مفكري الإسلام د. سامي النشار، والأجوبة المرضية ص 84.

(1)

أي لم تعبد أصناماً ناقصة في ذاتها، وفي أفعالها فلا تسمع ولا تبصر ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً بل لا تملك لأنفسها شيئاً فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلاً وشرعاً ودل تنبيهه وإشارته إلى الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال الذي لا ينال العبد نعمة إلا منه.

تفسير السعدي. (3/204)

(2)

في هذه الآية يوبخ إبراهيم عليه السلام المشركين ويعلن لهم أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة لأنها لا تنفع ولا تضر

تفسير السعدي (3/288) ، تفسير المراغي (17/50)

(3)

الحس خمسة أشياء هي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق

انظر حاشية النفحات للجاوي على شرح المحلي لورقات إمام الحرمين ص 28

وقيل إن هناك حاسة سادسة تدرك بها عوارض النفس كالجوع والعطش والشبع والأصح ما عليه العامة وهو الخمس ذكر ذلك أبو البقاء الكفوي في الكليات ص54

(4)

المشاهدة نوع من الحس وهذا من الإطناب بذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله =

ص: 171

وهي من الله تعالى فمعطي الكمال أولى به (1)

*وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة (2) مجبولة (3) مفطورة (4)

على محبة الله وتعظيمه وعبادته (5) .

وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟

وإذا كانت الصفة نقصاً لا كمال فيها فهي ممتنعة (6) في حق الله تعالى كالموت والجهل والنسيان والعجز والعمى والصمم ونحوها (7) لقوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]

= حتى كأنه ليس من جنسه وهذا بناء على الراجح عند الأصوليين أن عطف الخاص على العام ليس تخصيصاً

وقال السيوطي في نظمه في البلاغة:

وذكر خاص بعد ذي عموم

منبهاً بفضله المعلوم

كعطف جبريل وميكال على

ملائك قلت وعكسه جلا

انظر شروح التلخيص (3/217) ، شرح عقود الجمان (1/239) ، والبلاغة لحفني ناصف ص 167.

(1)

هذا يسمى بقياس الأولوية وسيأتي في الملحق تقرير هذه القاعدة.

أما النفوس المريضة بالشبهات والتخرصات فإنهم يكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض انظر الفتاوى (4/60) .

وقال شارح الطحاوية ص95: " أودع الله في الفطرة الإنسانية التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما يعرفونه منه "

(2)

أي مخلوقة، من الجبل بمعنى الخلق.

(3)

انظر تفسير ابن عاشور (23/28) ، ونزهة القلوب في تفسير غريب القرآن للسجستاني ص 198.

(4)

الفطر أصله الشق طولاً، وفطر الله الخلق هو إيجاده الشيء وخلقهم.

مفردات الراغب (2/494) ، والبرهان في غريب القرآن لحسن الحبشي ص 324

(5)

ما لم تتغير الفطر وتتلوث بشبه خارجية.

(6)

ممتنعة عقلاً وشرعاً.

(7)

والظلم والعطش والبكاء والحزن والأكل والشرب انظر شرح التدمرية لفالح آل مهدي ص 290.

ص: 172

وقوله عن موسى: {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} (1)

[فاطر: 44] وقوله: {وما كان الله ليعجزه (2) من شيء في السموات ولا في الأرض} [طه: 52] وقوله: {أم يحسبون أنا لا نسمع (3) سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف: 80] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور " (4) وقال: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً " (5)

(1) قال ابن فارس في " مجمل اللغة "(4/866) : " النسيان: الترك، قال الله جل وعز: {نسوا الله فنسيهم} " ا. هـ

وسئل الشيخ ابن عثيمين في " مجموع فتاوى ورسائل "(3/54-56/رقم 354) السؤال التالي: هل يوصف الله تعالى بالنسيان؟

فأجاب حفظه الله تعالى بقوله: " للنسيان معنيان:

أحدهما: الذهول عن شيء معلوم، مثل قوله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} " ومثل الآية التي أتى بها المؤلف هنا ثم قال: " وعلى هذا فلا يجوز وصف الله بالنسيان بهذا المعنى على كل حال.

والمعنى الثاني للنسيان: الترك عن علم وعمد مثل قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} الآية، ومثل قوله تعالى:{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً} على أحد القولين وهذا المعنى من النسيان ثابت لله تعالى عز وجل، قال الله تعالى:{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم} .

وتركه سبحانه للشيء صفة من صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته التابعة لحكمته والنصوص في ثبوت الترك وغيره من أفعاله المتعلقة بمشيئته كثيرة معلومة وهي دالة على كمال قدرته وسلطانه.

وقيام هذه الأفعال به سبحانه لا يماثل قيامها بالمخلوقين وإن شاركه في أصل المعنى، كما هو معلوم عند أهل السنة: ا. هـ باختصار.

(2)

الشاهد من الآية أن الله نفى عن نفسه العجز.

(3)

الشاهد أن الله نفى عن نفسه الصمم.

(4)

رواه البخاري برقم (7131) كما في طبعة التوشيح شرح الجامع الصحيح للسيوطي (9/4150) .

ورواه مسلم برقم (2825) كما في طبعة المفهم للقرطبي (7/67)

والشاهد من الحديث نفي العمى عن الله.

وقال القرطبي في المفهم (7/267) :

الله ليس بأعور وهذا تنبيه للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصاً في ذاته، عاجزاً عن إزالة نقصه، لم يصلح لأن يكون إلهاً لعجزه وضعفه، ومن كان عاجزاً عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره وعن مضرته.

(5)

رواه البخاري في صحيحه برقم (4205) كما في الفتح (7/537) ، ورواه مسلم في =

ص: 173

وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص كما في قوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة (1)

غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا (2) بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64] وقوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} (3)[آل عمران: 181]

ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص فقال سبحانه: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين (4) والحمد لله رب العالمين} [الصافات: 180-182] وقال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} (5)[المؤمنون: 91]

= صحيحه كما في شرح النووي (17/35) .

والشاهد من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم، نفى عن الله الصمم لأن الله سميع وهو قريب مع العبد.

ومعنى (اربعوا) أي ارفعوا وأمسكوا عن الجهر.

انظر عون الباري على البخاري لصديق حسن خان (5/279)

وقال أنور الكشميري في فيض الباري على البخاري (4/134) : ليس في الحديث النهي عن الجهر بل فيه كونه لغواً لأن الذي تدعونه أقرب إليكم من حبل الوريد ا. هـ

(1)

أي عن الخير والإحسان والبر.

(2)

هذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم لأن كلامهم متضمن وصف الله الكريم بالبخل وعدم الإحسان فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقاً عليهم فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحساناً وأسوأهم ظناً بالله وهذا هو الشاهد من الآية.

انظر تفسير السعدي (1/500) .

(3)

أي أن الله سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه مع أفعالهم الشنيعة وهو قتلهم الأنبياء الناصحين وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.

السعدي (1/298) .

(4)

لسلامتهم من الآفات والذنوب، وسلامة ما وصفوا به فاطر الأرض والسماوات.

والشاهد أن الله نزه نفسه عما يصفونه به فهو المقدس عن النقص المحمود بكل كمال. السعدي (4/277) .

(5)

الشاهد من الآية أن الله نزه نفسه عما يصفونه من الشريك والولد.

تفسير فتح البيان لصديق حسن خان (9/146) .

ص: 174

وإذا كانت الصفة كمالاً في حال ونقصاً في حال لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق فلا تثبت له إثباتاً مطلقاً ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً بل لابد من التفصيل فتجوز في الحال التي تكون كمالاً وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً وذلك كالمكر والكيد والخداع (1)

ونحوها فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد وتكون نقصاً في غير هذه الحال (2) ولهذا لم يذكرها الله تعالى

(1) المكر والكيد والخداع ألفاظ متقاربة ومعناها هو التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم فيوصل الشر والأذى بالغير خفية وبغتة.

ولهذا عندما مكر اليهود بعيسى وأرادوا قتله مكر الله بهم وألقى الشبه على من أراد أن يقتله فقُتل ورفع الله عيسى إليه فسلم من مكرهم.

وكذلك عندما كاد إخوة يوسف له فإن الله كاد ليوسف وخلص منهم أخاه في قصة صواع الملك بطريقة منظمة من السماء فالله أسند الكيد لنفسه وليس هذا ظلماً.

انظر تفسير الطبري (3/289) ، والفتاوى (7/111) .

وسيأتي في الملحق تفصيل هذه المسألة.

وليس مكر الله كمكر المخلوق.

انظر تفصيل ابن القيم للمسألة في مختصر الصواعق ص 288.

(2)

أي إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له وإذا فعلت بمن يستحق العقوبة كانت عدلاً ولهذا قال شيخ الإسلام في الفتاوى (7/11) :

وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ " المكر " و" الاستهزاء " و" السخرية " المضاف إلى الله وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز وليس كذلك بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلاً، كما قال تعالى:{كذلك كدنا ليوسف) فكاد له كما كادت أخوته لما قال له أبوه: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} وقال تعالى: {أنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً} وقال تعالى: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} وقال تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم} ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم ا. هـ.

وانظر الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (1/168)

ص: 175

من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها كقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] وقوله: {إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً} [الطارق 15، 16] وقوله: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 182-183] وقوله: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142] وقوله: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزيء بهم} (1)[البقرة: 14، 15]

ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم} [الأنفال: 71] فقال: {فأمكن منهم} ولم يقل: فخانهم لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان وهي صفة ذم مطلقاً (2)

وبذا عرف أن قول بعض العوام: " خان الله من يخون " منكر فاحش يجب النهي عنه.

ملحق القاعدة الأولى

ذكرنا في الحاشية على القاعدة الأولى أننا سنفصل بعض المسائل وهي:

1 -

معنى المثل الأعلى.

2 -

قياس الأولوية.

3 -

تفسير المكر والكيد والخداع.

أولاً: معنى المثل الأعلى

يطلق المثل على عدة أمور:

1 -

تشبيه شيء بشيء لوجود عنصر تشابه أو تماثل بينهما.

(1) والشاهد من الآيات أن هذه صفات تدل على أن الله عز وجل يفعلها مقيدة ولهذا كانت كمالاً في هذه الحالة.

(2)

أي ليست كمالاً حتى لو في مقابلة العدو 0

ص: 176

2 -

المثل بمعنى النموذج من ذي أفراد متعددة لنوع من الأنواع أو عمل من الأعمال أو سنة من سنن الله نظراً إلى التشابه الموجود بين أفراد النوع الواحد

3 -

تطلق كلمة المثل ويراد منها وصف الشيء كالآية التي ذكرها المؤلف والآية التي جئنا بها في الحاشية.

انظر أمثال القرآن للميداني ص 19 وما بعده، والأمثال في القرآن للدكتور محمد جابر العلواني ص 25 وما بعده، وأمثال الحديث للدكتور عبد المجيد محمود ص 79، وأمثال الحديث للرامهرمزي طبعة الدار السلفية في بومباي.

وأما المثل الأعلى ففيه خمسة أقوال:

- الأول: أن المثل الأعلى هو كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.

- الثاني: أنه الإخلاص والتوحيد.

- الثالث: أنه ما ضربه الله لنفسه من الأمثال كقوله تعالى: {الله نور السموات والأرض} [النور: 35] .

- الرابع: أنه هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا الله وهو قول إمام المفسرين ابن جرير الطبرى.

- الخامس: أنه الصفة العليا، والمثل كثيراً ما يرد بمعنى الصفة وقد رجح هذا القول شمس الدين ابن القيم فقال:(المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا وعلم العالمين بها ووجودها العلمى، والخبر عنها وذكرها وعبادة الله بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه بها) .

انظر: مختصر الصواعق للموصلي ص 16، وشرح الطحاوية ص 96 والقواعد الكلية لليربكان ص 293.

ثانياً: قياس الأولوية

ذكرنا في الملحق أن القاعدة التي ذكرها المؤلف وهي أن للمخلوق

ص: 177

صفات كمال وهي من الله فمعطي الكمال أولى يسمى بقياس الأولوية وذلك أن القياس ثلاثة أنواع كما ذكر المؤلف في شرح الواسطية (1/98) : القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول.

1 -

قياس الشمول: هو ما يعرف عندنا بالعام الشامل لجميع أفراده بحيث يكون كل فرد منه داخلاً في مسمى ذلك اللفظ ومعناه فمثلاً إذا قلنا الحياة فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق لأن الكل يشمله اسم " حي ".

2 -

قياس تمثيل: بمعنى أن نجعل ما يثبت للخالق مثل ما يثبت للمخلوق.

3 -

قياس الأولوية: وهذا يقول العلماء أنه مستعمل في حق الله لقوله تعالى: " ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] بمعنى كل صفة كمال فلله تعالى أعلاها السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات لكن لله أعلاها وأكملها ولهذا أحياناً نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى فمثلاً نقول: العلو صفة كمال في المخلوق فإذا كان صفة كمال في المخلوق فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائماً نجده في كلام العلماء.

إذاً: يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز أو الجائز على الواجب ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى. لو قال لك قائل: الله موجود والإنسان موجود وقال وجود الله كوجود الإنسان بالقياس فنقول لا يصح لأن وجود الخالق واجب ووجود الإنسان ممكن.

فلو قال: أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق نقول: لا يمكن، سمع الخالق واجب لا يعتريه نقص وهو شامل لكل شيء وسمع الإنسان ممكن إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم والمولود سميعاً يلحقه نقص السمع

ص: 178

وسمعه محدود إذاً: لا يمكن أن يقاس الله بخلقه فكل صفات الله لا يمكن أن تقاس بصفات خلقه لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق ا. هـ

وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/475) : كل كمال ثبت للمخلوق غير مستلزم للنقص فخالقه ومعطيه إياه أحق بالاتصاف به وكل نقص في المخلوق فالخالق أحق بالتنزه عنه كالكذب والظلم والسفه والعيب بل يجب تنزيه الرب تعالى عن النقائص والعيوب مطلقاً وإن لم يتنزه عنها بعض المخلوقين ا. هـ

ويعبر عن هذه القاعدة بأكثر من صيغة:

- الأولى: أن يقال: إذا كانت نفس المخلوق وهو محدثة ناقصة متصفة بأنها حية عالمة قادرة سميعة بصيرة فإن الرب المعبود الأول والآخر والظاهر والباطن أولى بأن يكون حياً عالماً قادراً سميعاً بصيراً.

- الثانية: أن يقال: إذا كان سلب الصفات مثل الحياة والعلم والسمع والبصر يعتبر نقصاً في المخلوق المحدث فلأن يعتبر ذلك نقصاً في الخالق أولى.

- الثالثة: أن يقال: إذا كانت الغفلة عيباً ونقصاً في المخلوق المربوب الناقص بذاته فلأن تكون نقصاً في حق الخالق المدبر الغني بذاته أولى.

بقى أن نذكر أمراً مهماً في هذه القاعدة وهو أنه يشترط في الكمال الثابت بقياس الأولى:

1 -

كونه كمالاً وجودياً إذ لا كمال في العدم المحض.

2 -

كونه ممكن الوجود في خارج الذهن إذ ما ليس كذلك فهو في حكم العدم إذ المجردات العقلية لا وجود لها في الخارج.

3 -

أن يكون لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإن كان فيه نقص لم ينسب إلى رب العالمين كالنوم والأكل فإنه كمال في الإنسان لكنه لا ينسب إلى الله لما يستلزمه من عدم كمال الحياة.

4 -

أن يكون غير مسلتزم للعدم فإن استلزمه لم يوصف به كالنوم فإنه مستلزم لعدم الحياة ا. هـ من القواعد الكلية للأسماء والصفات للبريكان 0

ص: 179

وقال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (1/30) :

ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد، ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك.

وقال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/543) ثم احتج الإمام أحمد بحجة أخرى من الأقيسة العقلية قال:

فمن ذلك: قال الإمام أحمد: " ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً يقول الله جل ثناؤه: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وقال: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلها تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} " ا. هـ

وهذه الحجة من باب (قياس الأولى) وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءه في أسفل سافلين وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين وإذا كان هذا مما ينزه ويقدس عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفاً بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه بل هو العلي الأعلى بكل وجه ا. هـ

وذكر شيخ الإسلام في كتابه المذكور أمثلة أخرى مهمة على هذه القاعدة وأتى بفوائد تستحق الرحلة إليها إلى أبعد مكان فلتطلب من مكانها.

ثالثاً: تفسير المكر والكيد والخداع:

سئل الشيخ ابن عثيمين هل يوصف الله بالمكر؟ وهل يسمى به؟

فأجاب: لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيداً فلا يوصف الله تعالى به وصفاً مطلقاً قال الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}

ص: 180

ففي هذه الآية دليل على أن لله مكراً والمكر هو التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر ومنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري " الحرب خدعة "

فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟

قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق فلا يجوز أن تقول " إن الله ماكر " وإنما تذكر هذه الصفة في مقام ويكون مدحاً مثل قوله تعالى:

{ويمكرون ويمكر الله} وقوله {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون} ومثل قوله تعالى {أفأمنوا مكر الله} ولا تنفى عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق بل أنها في المقام التي تكون مدحاً يوصف بها، وفي المقام التي لا تكون مدحاً لا يوصف بها.

وكذلك لا يسمى الله به فلا يقال: إن من أسماء الله الماكر والمكر من الصفات الفعلية لأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه.

ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح الواسطية (1/290) فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟

فإن تعريفه عند أهل العلم: أنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم يعنى أن توقع بخصمك بأسباب خفية ما يدرى عنها

هذا هو الكيد وهو في محله صفة كمال وفي غير محله صفة نقص لكنه في غير محله له اسم آخر وهو الخيانة ويذكر أن على بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب الذي منا انكسرت قلوب الآخرين قالوا: هذا صاحبنا الذي اخترناه للمبارزة وهو أشجعنا غلب.

لا شك إن قلوبهم تنكسر وتضعف شوكتهم فلما بارزه عمرو بن ود وخرج صرخ على: ما خرجت لأبارز رجلين، هنا عمرو بن ود التفت وظن أن هناك واحداً خرج معه فلما التفت ضربه على رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه!

ص: 181

هذا خداع لكنه جائز ويحمد عليه لأنه في موضعه فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم على بن أبي طالب ويهنئه ولكنه خرج ليقتله فقال على: أنا عندي ما هو أعظم من قتلك ففعل هذه الفعلة المهم: أن المكر والكيد والخداع في محله مدح.

الخلاصة:

أن نقول: إن المكر والكيد والخداع والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق لأنها تكون مدحاً في حال وذماً في حال.

يوصف بها حين تكون مدحاً ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحاً فلا نقول: " الله خير الماكرين "" خير الكائدين " وإنما نقول: " الله ماكر بمن يمكر به خادع لمن يخادعه " والاستهزاء من هذا الباب لا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق لأن الاستهزاء نوع من اللعب {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38] لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون كمالاً ا. هـ بتصرف.

*********

***

*

ص: 182

القاعدة الثانية

باب الصفات أوسع من باب الأسماء

وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى وأفعاله لا منتهى لها كما أن أقواله لا منتهى لها قال الله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} (1)

[لقمان: 27] .

(1) قال السعدي في تفسيره (4/114) :

{ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام} يكتب بها {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} مداداً يستمد بها، لتكسرت تلك الأقلام ولفنى ذلك المداد و {ما نفدت كلمات الله} وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له بل لما علم تبارك وتعالى ان العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته وعلم تعالى أن معرفته لعباده أفضل نعمة أنعم بها عليهم، وأجل منقبة حصلوها وهى لا تمكن على وجهها ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله فنبههم تعالى على بعضها تنبيهاً تستنير به قلوبهم، وتنشرح له صدورهم ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه:" لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " وإلا فالأمر أجل من ذلك وأعظم. وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى الذي لا يطاق الوصول به إلى الأفهام والأذهان وإلا فالأشجار وإن تضاعفت على ما ذكر أضعافاً كثيرة والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها لكونها مخلوقة.

وأما كلام الله تعالى، فلا يتصور نفاده بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي على أنه لا نفاد له ولا منتهى فكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته:{وأن إلى ربك المنتهى} وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته وأن كل ما فرضه الذهن من الأزمان السابقة مهما تسلسل الفرض والتقدير فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية وأنه مهما فرض الذهن والعقل من الأزمان المتأخرة وتسلسل الفرض والتقدير وساعد على ذلك من ساعد بقلبه ولسانه فالله تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية والله في جميع الأوقات يحكم ويتكلم ويقول ويفعل كيف أراد وإذا أراد لا مانع له من شيء من أقواله وأفعاله فإذا تصور العقل ذلك عرف أن المثل الذي ضربه الله لكلامه ليدرك العباد شيئاً منه وإلا فالأمر أعظم وأجل ا. هـ

ص: 183

ومن أمثلة ذلك أن من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش (1) إلى غير ذلك من الصفات (2) التي لا تحصى كما قال تعالى: {وجاء ربك} (3)[الفجر: 22] وقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (4)[البقرة: 210] وقال: {فأخذهم (5) الله بذنوبهم} [آل عمران: 11] وقال: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} (6)[الحج: 65] وقال: {إن بطش ربك لشديد} (7)[البروج: 12]

وقال: {يريد الله

(1) الصفات التي ذكرها المؤلف صفات فعلية

(2)

ذكر المؤلف في الأمثلة الصفات الفعلية إلا مثالاً واحداً فقد أتى بالصفة الذاتية الفعلية وهي الإرادة في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) فأصل صفة الإرادة ذاتية فعلية لكن الآية التي استشهد بها هي الإرادة التي ترادف المحبة فتكون هي صفة فعلية أيضاً.

قال الشيخ خليل بن هراس في كتابه ابن تيمية السلفي ص126:

فكلامه قديم الجنس حادث الأفراد، وكذلك فعله وإرادته ونحو ذلك ا. هـ

وقال في ص111:

ومن الصفات ما هي قديم الجنس ولكن تحدث في ذاته تعالى آحاده وذلك مثل العلم والإرادة والكلام ا. هـ

وقال خالد بن نور في منهج أهل السنة (2/510) :

أهل السنة يثبتون إرادة أزلية ذاتية وإرادات مستقبلية فعليه ا. هـ

(3)

الشاهد: إثبات المجيء.

(4)

الشاهد: إثبات الإتيان.

(5)

الشاهد إثبات الأخذ.

(6)

الشاهد إثبات الإمساك.

(7)

الشاهد إثبات البطش.

ملاحظة: هذه الصفة لم يذكرها الشيخ علوي السقاف في كتابه الجامع لصفات الله حيث ذكر في المقدمة ص 12 أنه احصى جميع الصفات الفعلية، فتكون هذه الصفة مما يستدرك على كتابه.

وقد ذكر هذه الصفة د. مروان القيسي في كتابه معالم التوحيد ص 167.

ص: 184

بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (1)

[البقرة: 185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا "(2)

فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد ولا نسميه بها فلا نقول إن من أسمائه: الجائي والآتي والآخذ والممسك والباطش والمريد والنازل ونحو ذلك وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به (3) .

(1)

الشاهد إثبات صفة الإرادة وهي الإرادة الشرعية الدينية لأنها مرادفة للمحبة،

انظر الروضة الندية شرح الواسطية لزيد بن فياض ص 80.

(2)

الحديث في الصحيحين كما في الجمع بين الصحيحين للحميدي (3/78) ، والجمع بين الصحيحين لأبي حفص الموصلي (1/290) ، وجامع الأصول لابن الأثير (4/138) .

(3)

وقد سبق أن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء فالله لا نسميه بالمريد لكن نخبر عنه أنه يريد وكذا الإخبار عنه بالصانع والقديم.

وانظر مدارج السالكين (3/415)

ص: 185

القاعدة الثالثة

صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية

- فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة والعلم والقدرة والاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا والوجه واليدين ونحو ذلك (1) .

- فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة (2) على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل.

- أما السمع: فمنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً} (3)

[النساء: 136] فالإيمان بالله يتضمن الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله وهو الله

(1) جمع المؤلف في الأمثلة بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.

(2)

أراد المؤلف بكلمة الحقيقة تأكيد إثبات الصفة لله ونفي التأويل الذي يقول به أهل التعطيل ولم يرد بذلك إن حقيقة اليد للجارحة فتكون يد الله فيها لحم وعظم وعصب كما يزعم أهل الباطل بل إن المتكلمين أنفسهم عبروا بهذه الكلمة في الصفات التي أثبتوها كما ذكر الباقلاني في الإنصاف ص 36 والجويني في الإرشاد ص79 ولشيخ الإسلام بحث موعب في الفتاوى (6/351) ومواطن أخرى من كتابه.

(3)

الشاهد من الآية أن الله أمر بـ:

أ - الإيمان به وهو يتضمن الإيمان بصفاته.

ب - الإيمان بكتبه وهو يتضمن الإيمان بكل ما جاء فيه من الصفات.

ت - الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن الإيمان بالصفات التي أخبرنا بها.

ص: 186

عز وجل.

- وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بها من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثاً من غيره فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادراً ممن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العي (1) بحيث لا يفصح بما يريد وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله عز وجل فوجب قبول خبره على ما أخبر به.

وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأصدقهم خبراً وأنصحهم إرادة وأفصحهم بياناً (2) فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه.

والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب.

فيجب نفيها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه (3) لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال وذلك لأن:

(1) بين المؤلف أن التردد في الخبر له ثلاثة أسباب:

أ - الجهل كما لو أخبرني أحد يجوز أن يكون جاهلاً فإني أتردد في قبول خبره

ب - الكذب

جـ- العي بحيث لا يفصح بما يريد، وزاد المؤلف في شرح الواسطية (1/102) حسن القصد.

وهذه الأربعة منفية عن خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

(2)

قوله العلم: فضده الجهل

وقوله الصدق: ضده الكذب

وقوله أفصح: فضده العي.

أي المنفية مأخوذة من السلب أي النفي وعكسه الإثبات وللمتكلمين معنى أخر للصفات السلبية سنذكره في الملحق وللإمام ابن القيم تفصيل لذلك سنذكره في الملحق أيضاً.

(3)

ذكر هذه القاعدة شيخ الإسلام في التدمرية ص 57

ص: 187

- النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً.

- ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالاً كما لو قلت: الجدار لا يظلم (1) .

- وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصاً (2) كما في قول الشاعر:

قبيلة لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبة خردل

وقول لآخر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب*ليسوا من الشر في شيء وإن هانا (3)

مثال ذلك: قوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] فنفى الموت عنه يتضمن كمال حياته.

مثال آخر: قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] نفى الظلم عنه يتضمن كمال عدله.

مثال ثالث: قوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض} [فاطر: 44] فنفى العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته ولهذا قال بعده: {إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] لأن العجز سببه إما الجهل (4)

بأسباب الإيجاد وإما قصور القدرة عنه فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض

(1) فإن هذا ليس مدحاً لأن الجدار لا يقبل الظلم.

(2)

ذكر ذلك المؤلف في تقريب التدمرية ص 52 قال: ان النفي إن لم يتضمن كمالاً - فقد يكون لنقص الموصوف لعجزه عنه كما لو قيل عن شخص عاجز عن الانتصار لنفسه ممن ظلمه: " إنه لا يجزي السيئة بالسيئة " فإن نفي مجازاته السيئة بمثلها ليس لكمال عفوه ولكن لعجزه عن الانتصار لنفسه حينئذ يكون نفي ذلك عنه نقصاً وذماً لا كمالاً ومدحاً.

وانظر شرح الطحاوية ص 53.

(3)

قد ذكرنا تحقيق هذين البيتين والخلاف فيهما ومحل الشاهد في الملحق.

(4)

ذكر المؤلف أن سبب العجز هو:

أ-

الجهل بأسباب الإيجاد.

ب-

قصور القدرة عن الإيجاد

ص: 188

وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال (1) .

ملحق القاعدة الثالثة

ذكرنا أننا سنتكلم في الملحق عن بعض المسائل وهي:

1 -

الصفات السلبية التي ذكرها ابن القيم.

2 -

تقسيم الصفات عند المتكلمين ومعنى الصفة السلبية عند الأشاعرة.

3 -

تحقيق بيتين ذكرهما المؤلف.

أولاً: الصفات السلبية

تكلم الإمام ابن القيم في النونية عن أقسامها فقال ص 238 من طبعة العمير:

فاسمع إذاً توحيد رسل الله ثم

اجعله داخل كفة الميزان

مع هذه الأنواع وانظر أيها

أولى لدى الميزان بالرجحان

توحيدهم نوعان قولي وفعلي

كلا نوعيه ذو برهان

فالأول القولي ذو نوعين

أيضاً في كتاب الله موجودان

إحداهما سلب ذا نوعان

أيضاً في كتاب الله مذكوران

سلب النقائص والعيوب جميعها

عنه هما نوعان معقولان

سلب لمتصل ومنفصل هما

نوعان معروفان أما الثاني

سلب الشريك مع الظهير مع

الشفيع بدون إذن المالك الديان

وكذلك سلب الزوج والولد الذي

نسبوا إليه عابدو الصلبان

(1) والخلاصة أن النفي ينقسم ثلاثة أقسام:

أ - نفي لا يتضمن نقصاً ولا مدحاً لعدم القابلية.

ب - نفي يتضمن نقصاً كما سبق في قول الشاعر.

جـ- نفي يتضمن كمالاً كنفي الصفات عن الله مع ثبوت كمال ضدها بل قد يكون النفي يتضمن أكثر من كمال.

وانظر أمثلة أخرى لهذه القاعدة في التدمرية لشيخ الإسلام مع شرح فالح آل مهدي ص 134، وتقريب التدمرية للمؤلف ص52.

ص: 189

وكذاك نفي الكفء أيضاً والولي

لنا سوى الرحمن ذي الغفران

والأول التنزيه للرحمن عن

وصف العيوب وكل ذي نقصان

كالموت والإعياء والتعب الذي

ينفي اقتدار الخالق المنان

والنوم والسنة التي هي أصله

وعزوب شيء عنه في الأكوان

وكذلك العبث الذي تنفيه حكمته

وحمد الله ذي الإتقان

وكذاك ترك الخلق إهمالاً سدى

لا يبعثون إلى معاد ثان

كلا ولا أمر ولا نهى عليهم

من إله قادر ديان

وكذاك ظلم عباده وهو الغني

فما له والظلم للإنسان

وكذاك غفلته تعالى وهو علام

الغيوب فظاهر البطلان

وكذلك النسيان جل إلهنا

لا يعتريه قط من نسيان

وكذاك حاجته إلى طعم ورزق

وهو رزاق بلا حسبان

هذا وثاني نوعي السلب الذي

هو أول الأنواع في الأوزان

تنزيه أوصاف الكمال له عن

التشبيه والتمثيل والنكران

لسنا نشبه وصفة بصفاتنا

إن المشبه عابد الأوثان

كلا ولا نخليه من أوصافه

إن المعطل عابد البهتان

من مثل الله العظيم بخلقه

فهو النسيب لمشرك نصراني

أو عطل الرحمن من أوصافه

فهو الكفور وليس ذا إيمان

ويقول الشيخ عبد العزيز السلمان في الأسئلة والأجوبة على الواسطية ص 13:

ما ينزه عنه الله ينقسم إلى قسمين متصل ومنفصل

مثال المتصل كالنوم والإعياء والتعب واللغوب والموت والجهل والظلم والغفلة والنسيان وعن احتياجه إلى طعم ورزق وضابط هذا القسم ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يضاد الصفات الكاملة.

والقسم الثاني: المنفصل وضابطه: تنزيهه عن أن يشاركه أحد من

ص: 190

الخلق في شيء من خصائصه التي لا تكون لغيره وذلك كالزوجة والشريك والكفؤ والظهير والشفيع بدون إذن الله والولي من الذل فكل ذلك ينزه عنه الله جل وعلا وتقدس ا. هـ.

ثالثاً: تحقيق البيتين اللذين ذكرهما المؤلف:

(1)

قول الشاعر:

قبيلة لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبة خردل

الشاعر هو: النجاشي الحارثي وهو قيس بن عمرو بن مالك من بني حارث بن كعب (1) .

وقد ولد الشاعر في الجاهلية وموطنه في نجران باليمن (2) .

وكان فيما روى ضعيف الدين وذكر أنه شرب الخمر في رمضان فجلده علي مائة جلدة (3) .

رواية البيت

البيت روى بوجهين:

الأول: ما ذكره المؤلف وهي التي في الإصابة للحافظ ابن حجر نسخه دار إحياء التراث العربي (3/583) وقد ذكر هذه الرواية ابن قتيبة في الشعر والشعراء (1/331) ، وابن القيم في الصواعق المرسلة (2/506) .

الثاني: قبيلته.

أي من غير تصغير.

(1) سمط الآلي بمعرفة عبد العزيز الميمني (2/89) .

(2)

تاريخ الأدب لبروكلمان القسم الأول ص 232.

(3)

خزانة الأدب للبغدادي (4/76) وشرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي أيضاً (5/196) وقد ذكر هذه القصة الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/387) ط. دار الكتب العلمية

والشنقيطي في الدرر اللوامع على همع الهوامع (5/157) .

وكذا في حاشية أمالي ابن الشجري (2/167) ط. الخانجي.

وهذه موجودة في الإصابة لابن حجر، نسخة دار الكتب العلمية ت: عادل عبد الموجود (6/388) وهي في نسخة العقد الفريد لابن عبد ربه كما سيأتي مع استبدال كلمة (لا يخفرون) بدلاً من لا يغدرون وذكرها المؤلف في تلخيص الحموية ص54.

ملاحظة: قد يكون في هذه الكلمة تصحيف.

ص: 191

سبب البيت:

تذكر كتب الأدب في سبب البيت أن النجاشي هجا بنى العجلان رهط تميم بن مقبل فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب وقالوا: يا أمير المؤمنين إنه هجانا، قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:

إذا الله عادى أهل لؤم ورقة

فعادي بني عجلان رهط ابن مقبل

قال عمر: هذا رجل دعا فإن كان مظلوماً استجيب له وإن لم يكن مظلوماً لم يستجب له

قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:

قبيلته لا يخفرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبة خردل

قال عمر: ليت آل الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:

ولا يردون الماء إلا عشية

إذا صدر الوراد عن كل منهل

قال عمر: فإن ذلك أجم لهم وأمكن. قالوا فإنه يقول بعد هذا:

وما سمى العجلان إلا لقولهم

خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل

قال عمر: سيد القوم خادمهم فما أرى بهذا بأساً (1) .

هكذا ذكر ابن عبد ربه إلا أن للقصة تكملة وهي أن عمر رضي الله عنه حكم بعد ذلك حسان بن ثابت في هذه القضية ووقف مع تميم بن مقبل فهدد عمر النجاشي على هذا الهجاء وقال له: إن عدت قطعت لسانك (2)

وأما الحافظ ابن حجر فقد ذكر في ترجمة تميم بن مقبل بيتاً زائداً وهو

(1) العقد الفريد (6/167) .

(2)

الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/331) .

ص: 192

أولئك أولاد الهجين وأسرة اللئيم

ورهط العاجز المتذلل

فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه (1) وبذلك يظهر لنا كذب ما قاله بروكلمان في حق حسان بن ثابت وأنه نفر غلوه في السباب فنهاه عمر عن الهجاء (2) .

الشاهد من البيت:

أن النجاشي الشاعر لم يقصد بهذا البيت مدح بني العجلان بل أراد أن يذمهم ويصفهم بالعجز كما ذكر ذلك ابن عبد ربه (3) .

فإن قيل إن عمر بن الخطاب لم يفهم من هذا البيت الهجاء كما نقلناه سابقاً وقال: لا أرى بهذا بأساً فالجواب:

1 -

أن عبد ربه الذي اقتصر على القصة في المجلد السادس هو الذي ذكر أن هذا البيت يراد به الذم في المجلد الثاني من كتابه ص332

2 -

إن عمر رضي الله عنه أخذ ذلك على ظاهره تم تبين له أن هذا الظاهر غير مراد كما ذكرنا سابقاً والعبرة بذلك والله أعلم.

(2)

وقول الآخر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

قائل هذا البيت هو:

قريط بن أنيق (كلاهما بالتصغير) وذكر البغدادي أن التبريزي قال في شرح الحماسة أنه شاعر إسلامي ثم ذكر البغدادي: أنه تتبع كتب الشعراء وتراجمهم فلم يظفر له بترجمة (4) .

أما أبو تمام فقال إنها لبعض شعراء بلعنبر (5)

(1) الإصابة لابن حجر (1/496) ، ط - دار الكتب العلمية.

(2)

تاريخ الأدب لبروكلمان (1/233) .

(3)

العقد الفريد (2/332) .

(4)

شرح أبيات مغني اللبيب (1/87) وخزانة الأدب (7/446) .

(5)

شرح المرزوقي على الحماسة (1/22) والإعلام للزركلي (5/195)

ص: 193

والبيت ذكره أبو تمام في أول الحماسة (1) .

رواية البيت:

روى البيت بوجهين:

الأول: ذوي حسب كما ذكر المؤلف وهي التي في نسخة التبريزي في شرحه على الحماسة (2) .

الثاني: ذوي عدد وهي التي في بقية النسخ (3) ومشى عليها البغدادي وابن القيم في الصواعق.

الشاهد من البيت:

اختلفوا في مراد الشاعر على قولين:

الأول: أن الشاعر أراد بهذا البيت وصف قومه بالذل والعجز لا الحلم والخشية وهذا هو قول ابن عبد ربه (4) والأعلم الشنتمري (5) وأبي القاسم الفارسي (6) والإمام ابن القيم (7) وهو مراد الشيخ ابن عثيمين في الكتاب.

الثاني: أن الشاعر وصف قومه بأنهم يؤثرون السلامة والعفو عن الجناة ما أمكن ولو أرادوا الانتقام لقدروا بعددهم وعدتهم ولكن المراقبة والتقوى تدعوهم إلى إيثار الحسنى وليس قصد الشاعر ذمهم وهذا هو قول المرزوقي في شرح الحماسة (8) وأقره على ذلك البغدادي وزاد: وكيف يذمهم ووبال الذم راجع إليه (9) .

(1) وهو كتاب فيه جملة من أشعار العرب جمعها أبو تمام الطائي الشاعر المشهور ونسبته لها من حيث أن كلامه مذكور فيها،

انظر حاشية الدسوقي على مغني اللبيب (1/18) .

(2)

كذا في حاشية شرح الحماسة للمعري (1/47) .

(3)

حاشية شرح الحماسة للمعري (1/47) .

(4)

العقد الفريد (2/332) .

(5)

في شرح حماسة أبي تمام (1/359) حيث قال: هذا هزؤ منه لقومه ا. هـ.

(6)

في شرح الحماسة لأبي القاسم الفارسي (2/78) حيث قال: يصفهم بالجبن وبهوانهم ا. هـ

(7)

الصواعق المرسلة (2/506) .

(8)

شرح المرزوقي على الحماسة (1/3)

(9)

خزانة الأدب (7/442)

ص: 194

القاعدة الرابعة

الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها (1) ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر (2)

ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية كما هو معلوم.

أما الصفات السلبية فلم تذكر غالباً (3) إلا في الأحوال التالية (4) :

(1) سبق معنى الدلالة.

(2)

ولأن تفصيل الصفات الثبوتية أكمل في المدح كأن نقول: زيد جواد كريم شجاع ونحو ذلك

ولذكر الصفات الثبوتية فائدتان غير ما ذكر المؤلف هما:

أ - قطع السبيل على أهل التعطيل والتحريف إذ أن جريان النصوص على هذه الحال من تعيين الصفة بلفظها الدال عليها في جميع الموارد أو غالبها لدليل على أن المراد إثباتها والإيمان بها وأن حقيقتها مرادة له جل شأنه.

ب - إبطال التمثيل إذ أن هذا الاطراد بالتعيين دليل على أن وصف الله وتسميته بها حق وصدق لا يماثله فيه أحد ا. هـ من القواعد الكلية للبريكان.

(3)

وإنما ذكر غالباً لأن القاعدة هي الإثبات المفصل والنفي المجمل أما النفي المفصل فهو طريقة أهل البدع بل لو قيل للملك أنت لست بزبال ولا كناس ولا غدار ولا خائن ولا غبي لعد الناس ذلك نقصاً وعيباً.

فإن قيل ان القرآن قد ذكر النفي المفصل فما الجواب؟ قلنا لهذا قال المؤلف ان الصفات السلبية لم تذكر غالباً لأنها ذكرت على خلاف الأصل المطرد ولهذا لابد له من علة إذ كل ما خالف الأصل طلب سببه.

وقد يقال انه قال: غالباً لأن هناك حالات أخرى لم يذكرها المؤلف وقد نقلنا بعضها

انظر في ذلك الصفدية لشيخ الإسلام (1/116) وشرح التدمرية لفالح أل مهدي ص 34 وشرح الطحاوية بترتيب الشيخ خالد فوزي (1/448) .

(4)

ذكر المؤلف أسباب الصفات السلبية وهي تنقسم قسمين:

الأول: النفي المجمل وسببه عموم كماله.

الثاني: النفي المفصل وسيذكر له المؤلف سببين.

ص: 195

الأولى: بيان عموم كماله (1) كما في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء] (2) [الشورى: 11] {ولم يكن له كفواً أحد} (3)[الإخلاص: 4]

الثانية: نفى ما ادعاه في حقه الكاذبون كما في قوله: {أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} (4)[مريم: 91، 92]

الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين كما في قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38]

وقوله: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} (5)

[ق: 38]

(1) هذا هو السبب الأول للصفات السلبية المجملة للدلالة على عموم كمال الرب بسلب جميع النقائص والعيوب عنه على سبيل العموم والشمول لكل فرد من أفراد ما يضاد الكمال من النقائص وهذا هو الغالب في الصفات السلبية أما النفي المفصل فقليل وسيذكر المؤلف له سببين.

(2)

انظر معنى الآية والوجوه التي قيلت فيها في شرح الطحاوية ص 97.

(3)

انظر في ذلك شرح سورة الإخلاص لشيخ الإسلام ابن تيمية حققه الدكتور عبد العلي بن حامد، بومباي، الهند، وكتاب القول المعتمد في تفسير قل هو الله أحد لجمال الدين الأرميوني ت سنة 958هـ، حققه محمد خير رمضان.

(4)

فهذه الآية رد على الكافرين الملحدين الذين قالوا إن لله ولداً وكذلك قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد} [المؤمنون: 91] وقوله تعالى {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] فيهما الرد على من زعم ذلك.

فائدة:

ينبغي لها معنيان:

أ - بمعنى المستحب وهذا هو الذي على ألسنة الفقهاء ولا يعني انه حرام.

ب - ينبغي بمعنى المستحيل وهو الذي في الكتاب والسنة كالآية التي ذكرها المؤلف وكقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) .

(5)

ووجه دفع التوهم أنه قد يقول الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره، هذه السماوات العظيمة والأرضون العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام فسيلحقه التعب فقال {وما مسنا من لغوب} أي من تعب وإعياء، فعليه نقول: إن هذا التفصيل في النفي لئلا يتوهم واهم بأن الله سبحانه وتعالى تعب وأعيى فنفى الله عز وجل ذلك قاله المؤلف في شرح الواسطية (1/112) .

قال قتادة والكلبي: نزلت هذه الآية في يهود المدينة، زعموا أن الله خلق السموات =

والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، واستراح في يوم السبت، ولذلك جعلوه يوم راحة، فأكذبهم الله في ذلك.

انظر تفسير الماوردي (5/356) ، وزاد المسير لابن الجوزي (8/22)

فائدة: اختلف المفسرون في قوله تعالى {ستة أيام} على أقوال:

القول الأول: إنها ستة أيام كأيا منا أي مقدار ستة أيام كأيامنا المتعارفة والمتبادرة إلى الذهن وهذا قول الضحاك وكعب الأخبار وعبد الله بن سلام وذكره البغوي في تفسيره (2/164) والألوسي (8/132) وأبو حيان في تفسيره البحر المحيط (4/309) حيث قال: في مقدار ستة أيام، ليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق وهذا كقوله {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [مريم: 62] والمراد: مقدار البكرة والعشي في الدنيا، لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار. وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها. قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام؟ والذي أقول: إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره، أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل، أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله (في ستة أيام) ظرفاً لـ (خلق السموات والأرض) فيكون (في ستة أيام) مدة لخلق الأرض بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها نورها ودوابها وآدم عليه السلام وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أياماً باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها ا. هـ.

وانظر تفسير الرازي (14/82)

القول الثاني: أنها ستة آلاف سنة لأن اليوم كألف سنة وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل ومجاهد كما في تفسير ابن كثير (2/538) ، والدر المنثور (3/169) والآلوسي (8/132) .

القول الثالث: أنها ستة أوقات أي لحظات ذكره أبو السعود في تفسيره (2/255) .

ملاحظة: ذكر المؤلف سببين للنفي المفصل في صفات الله وهناك سببان آخران.:

1 -

تهديد الكافرين في مثل قوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} قاله المؤلف في شرح الواسطية.

2 -

توسيع دائرة الإثبات بإثبات أضدادها من صفات الكمال فنفى السنة والنوم إثبات لكمال حياته وإحاطة علمه وكمال قدرته، ونفي الصاحبة والولد إثبات لصمديته وعظمته.

القواعد الكلية للبريكان ص 156.

وبهذا يتبين لنا أن الصفات السلبية لها خمسة أسباب واحدة منها للنفي المجمل وأربعة أسباب للنفي المفصل.

ص: 196

القاعدة الخامسة

الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين:

ذاتية (1) وفعلية (2) :

- فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة والعلو والعظمة ومنها الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعينين (3)

والفعلية (4) :

هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا.

(1) الذاتية مكونة من ذات وياء النسبة وهائها.

(2)

الفعلية مكونة من فعل وياء النسبة وهائها والفعلي ما نسب إلى الفعل.

(3)

ذكر المؤلف ضابط الصفات الذاتية وتسمى أيضاً بالصفات اللازمة لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنها.

وتنقسم الصفات الذاتية إلى قسمين:

أ - صفات ذاتية خبرية هي التي تثبت عن طريق الخبر ولو لم يرد النص بها لم يستطع العقل وحده معرفتها لكنه مع ذلك لا ينفيها.

وضابطها أنها التي مسماها لنا أبعاض وأجزاء ويجب الحذر من القول أنها أبعاض لله أو أجزاء له

وللدكتور جابر السميري كتاب بعنوان الصفات الخبرية وهي رسالة ماجستير.

ب - صفات ذاتية معنوية وهي ما كان دالاً على معنى أو التي ليست مسماها لنا أبعاض وأجزاء وتسمى بالصفات العقلية لأن العقل دل عليها فلو لم يأت النص لاهتدى العقل إليها. وقيل إن العقل لا يستقل بذلك بل يدل عليه بخلاف الأول فإنها خبرية محضة ولا مجال للعقل فيها.

انظر معالم التوحيد للقيسي، والصفات الإلهية للشيخ محمد بن أمان الجامي رحمه الله ص207.

والأمثلة التي ذكرها المؤلف جمع فيها بين الصفات الخبرية والعقلية.

(4)

وتسمى بالصفات الطارئة والصفات الاختيارية وتسمى بالأفعال الاختيارية أيضاً

يقول الشيخ ابن عثيمين في شرح بلوغ المرام ص115 من المخطوط: =

- وأفعال الله هل هي قديمة أو حادثة؟

جـ: نقول في هذا تفصيل أما من حيث الجنس وأصل الصفة فهي قديمة غير حادثة لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً.

وأما من حيث النوع أو الواحد فهي حادثة، مثال النوع الاستواء على العرش حادث لأنه كان بعد خلق العرش، النزول إلى السماء الدنيا حادث لأنه بعد خلق السماء الدنيا

الآحاد نزول الله كل ليلة إلى السماء الدنيا هذا آحاد كل ليلة يكون له نزول كذلك كل أفعال الله التي لا تحصى وهو دائماً عز وجل يخلق ويرزق ويحيي ويميت كل أفعاله هذه حادثة الآحاد بالنسبة لتعلقها بالمخلوق المفعول.

- هل فيه من ينكر قيام الأفعال الاختيارية بالله؟

ج: نعم فيه من يقولون إن الله لا يفعل فعلاً حادثاً لماذا؟ قالوا لأن الفعل الحادث لا يقوم إلابحادث فلو جوزنا أن يفعل الله أفعالاً حادثة لكان لازم ذلك أن يكون الله حادثاً بعد أن لم يكن ولكن هذا قياس فاسد لمخالفته النص وقياس باطل من أصله لأن هذا التلازم الذي ذكروه ليس بصحيح.

أما الأول فلأننا لو أخذنا بهذا القياس لزم أن ننكر كل فعل من أفعال الله ومن العجائب أنهم لا ينكرون حدوث المفعول ثم ينكرون حدوث الفعل لا ينكرون أن زيداً وعمراً حادث بعد أن لم يكن ولكن تعلق الخلق به كان في الأزل وهذا في الحقيقة عندما تتأمله لا يصح إطلاقاً هل يمكن أن يقع فعل ولا يوجد المفعول يعني خلق زيد وعمرو ومتى كان؟ في الأزل الذي لا نهاية له وكيف يخلق من الأزل البعيد ثم لا يوجد في المخلوق إلا في هذا الزمن مثلاً هذا واضح بأنه باطل جداً

فالقول بأن الفعل قديم والمفعول حادث ثم الفعل أيضاً ليس فعلاً في نفس الله بل يفسرونه بالمفعول هذا كله شيء باطل.

فمذهب أهل السنة والجماعة الذي دل عليه السمع والعقل أن الله فاعل بإرادته يفعل ما يشاء ويختار وأن فعله يكون حادثاً لتعلقه بالمفعول لكن أصل الفعل وأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً ولم يأت عليه وقت من الأوقات معطلاً عن الفعل هذا قديم أزلي ا. هـ

وقد وعدنا فيما سبق أن نبين مراد الطحاوي من قوله (ولا يحدث له وصف متجدد) ولتوضيح ذلك يقول البريكان في شرحه لمنظومة الخطابي في العقيدة ص 49 ومن لوازم قدم ذات الباري جل جلاله كون صفاته ملازمة له أولاً وأبداً أسوة بذاته فإذا كانت ذاته دائمة أزلاً وأبداً موجودة أزلاً وأبداً فكذلك الشأن في صفاته سبحانه فلم تستجد له صفة بعد أن لم يكن متصفاً بها سواء كانت هذه الصفات صفات ذاته أو صفات فعله

وعليه فالصفات الفعلية من هذه الجهة تكون راجعة لصفات الذات دائمة بدوامها إذ هي متعلقة بالمشيئة والإرادة وهو دائم الاتصاف بها فكذلك ما بني =

ص: 198

وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه باعتبار أصله (1)

= عليها من صفات فعله ولا يكدر على ذلك كون الصفات الفعلية حادثة الآحاد لأن متعلق الدوام هو الجنس، ومتعلق الحدوث الأفراد ومعنى الحدوث كون كل فرد منها له ابتداء وانتهاء وإن كان جنس الصفة ليس له ابتداء وانتهاء وبذا يرتفع الإشكال ويبين الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل ا. هـ

وتنقسم الصفات الفعلية إلى:

1 -

صفات فعل خبرية: وهي الصفات التي ثبتت بالدليل النقلي المحض (الكتاب والسنة) والتي لا يمكن الاهتداء إليها ومعرفتها بالعقل لولا ورود النص بها ولو لم يرد بها النص لما استطاع العقل أن يعرف عنها شيئاً لكنه مع ذلك لا ينفيها كالاستواء والنزول والمجيء والعجب والفرح.

2 -

صفات فعل عقلية: وهي الصفات التي يمكن للعقل إدراكها وورد النص بها ولو لم يأت النص بها لأدركها العقل كالخلق والإحياء والإماتة والرزق.

ومن ناحية أخرى فإن أفعال الله تعالى تنقسم إلى قسمين:

1 -

ما كان منها متعلقاً بالذات الإلهية، فهو أفعال لازمة كالتكلم والنزول والاستواء إلى السماء والاستواء على العرش ومجيء الله تعالى يوم القيامة

2 -

ما كان منها متعدياً إلى غيره كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وأنواع التدبير الأخرى.

(1)

عرفنا أن المؤلف قد قسم صفة الفعل إلى:

جنس

نوع

آحاد أو أفراد

وهو يشمل أنواعاً

تكون حادثة أيضاً مثل

فجنس الفعل أزلي

نزول الله كل ليلة

وآحاد الكلام والإرادة والخلق

ملاحظة:

ينبغي التنبيه إلى أن الشيخ عبد العزيز السلمان في الكواشف الجلية ص430 قد ذكر أن الاستواء والنزول والضحك والمجيء والفرح يقال لها قديمة النوع حادثة الآحاد فكيف نوفق بين هذا القول وبين قول الشيخ ابن عثيمين؟

ليس مراد الشيخ السلمان أن هذه الأفعال قديمة وإنما مراده أن جنس الفعل قديم وهذه حادثة فهو قد جعل النوع جنساً وتقسيم الشيخ ابن عثيمين أفضل إلا أنهما متفقان على أن هذه الأفعال حادثة.

ص: 200

صفة

ذاتية لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية لأن الكلام يتعلق بمشيئته يتكلم متى شاء بما شاء كما في قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]

وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة كما يشير إليه قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} (1)[الإنسان: 30] .

*****

**

*

(1)

في كلام المؤلف رد على نفاة الحكمة لله كالأشاعرة والفلاسفة.

وقول المؤلف (كل صفة تعلقت بمشيئته) فيه رد على المعتزلة الذين أثبتوا الحكمة لكنهم قالوا ليست صفة لله وإنما هي مخلوقة والمقصود إحسانه إلى الخلق.

ولشيخ الإسلام بحث استوعب هذه المسألة في جامع الرسائل والمسائل بعنوان (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل)(2/283)

وللدكتور محمد المدخلي رسالة ماجستير في الحكمة والتعليل في أفعال الله فانظر ص51 وص62 من الكتاب.

وللدكتور محمد مصطفى شلبي رسالة بعنوان: تعليل الأحكام. تكلم عن هذه المسألة ص97 0

ص: 201

القاعدة السادسة

يلزم (1) في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين (2)

أحدهما: التمثيل (3) والثاني: التكييف

فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين (4)

وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.

أما السمع: فمنه قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (5)[الشورى: 11]

(1) أي يجب ذلك قطعاً وقد سبق حكم ذلك في القاعدة السابعة.

(2)

وهنا يرد سؤال وهو: لماذا لم يقل المؤلف أنه يجب التخلي عن التعطيل والتحريف أيضاً؟

الجواب: إن المؤلف قد ذكر أن المثبت للصفة يجب عليه التخلي عن محذورين أما المعطل والمحرف فقد نفى الصفة ولم يثبتها.

(3)

سيأتي في كلام المؤلف وجه تعبيره بالتمثيل.

(4)

انظر بطلان ذلك في كتاب إتمام المنة بشرح اعتقاد أهل السنة د. إبراهيم البريكان ص42

تنبيه:

أ - كلام المؤلف في أن مثبت الصفات يلزم منه أن يتخلى عن التمثيل ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما سيأتي في القاعدة السابعة وفي القاعدة الأولى من قواعد الأدلة أن العبرة في ذلك الإثبات هو الكتاب والسنة لأننا لو أخذنا ذلك على الإطلاق احتج علينا المثبت لجميع الصفات ولو لم ترد في الشرع ولو كانت صفات نقص بنفي المشابهة والتكييف وهذا باطل لأنه سيصف الله بالأعضاء والبكاء والحزن والجوع والعطش وغير ذلك من النقائص ويزعم أنه بلا تشبيه وهذا ما ذكره شيخ الإسلام في التدمرية مع شرح فالح أل مهدي ص290.

ب - نفي المماثلة لا يعني نفي أصل الاشتراك فالإنسان جسم والحجر جسم إلا أنهما يختلفان والإنسان موجود والله موجود إلا ان وجود كل منهما يخصه.

(5)

أي ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، ذكره السعدي في تفسيره (4/412) .

ص: 202

وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (1)[النحل: 17] وقوله: {هل تعلم له سمياً} (2)[مريم: 65] وقوله: {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4](3)

- وأما العقل: فمن وجوه:

الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبايناً (4) في الذات وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات لأن صفة كل موصوف تليق به كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات فقوة البعير (5) مثلاً غير قوة. الذرة (6)

فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع

(1) في الآية استفهام إنكاري على الذين يجعلون الله مشابهاً لخلقه وسيأتي في الملحق مزيد من التفصيل في شرح الآية لأهميتها.

(2)

أي هل تعلم لله مشابهاً ومماثلاً من المخلوقين وهذا استفهام بمعنى النفي المعلوم بالعقل، ذكره السعدي في تفسيره (3/213) .

(3)

يراجع في فهم الآية إلى شراح هذه السورة وقد ذكرناهم سابقاً.

(4)

اختلافاً.

(5)

سمى بعيراً لأنه يبعر وهو اسم يقع على الذكر والأنثى وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس ذكره الدميري في حياة الحيوان الكبرى (1/167) .

(6)

الذرة بالضم ضرب من الحب مأخوذ من ذرا على ما في معاجم اللغة إلا ابن دريد في

جمهرته (2/696) فقد ذكره في (ذرة) انظر اللسان (5/41) وتهذيب الأزهري (15/8) أما الذرة بالفتح فجمعها الذر وهي النمل الأحمر الصغير كما في حياة الحيوان للدميري (1/455) وأتى بفوائد كثيرة.

وقال ابن عباد في المحيط في اللغة (10/55) الذر: صغار النمل والواحدة ذرة ا. هـ

وذكر السمين في عمدة الحفاظ (2/38) أن الذر فيها قولان أحدهما النملة الصغيرة كما ذكرنا واستشهد بما قاله امرؤ القيس:

من القاصرات الطرف لو دب محول ****من الذر فوق الإتب منها لأثرا

والقول الثاني: إنها الهباء وهو مارئي في شعاع الشمس من كوة ونحوها ا. هـ

وللجاحظ كلام جميل في الحيوان (2/7) عن حياة الذرة. -

وأختم الكلام بما رواه الإمام أحمد في مسنده (2/363) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/355) رجاله، جال الصحيح ا. هـ

ص: 203

اشتراكها في الإمكان والحدوث (1) فظهور التباين بينهما وبين الخالق أجلى وأقوى (2) .

الثاني: أن يقال كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهاً في صفاته للمخلوق في المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟ فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصاً (3) . الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في

الحقيقة والكيفية فنشاهد أن للإنسان يداً ليست كيد الفيل (4) وله قوة ليست كقوة الجمل (5)

مع الاتفاق في الاسم فهذه يد وهذه يد وهذه قوة وهذه قوة وبينهما تباين في الكيفية والوصف فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة، والتشبيه كالتمثيل وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل

(1) الإمكان والحدوث مترادفان وهو ما يتصور العقل عدمه وقد سبق.

(2)

وجه ذلك أن الخالق واجب الوجود والمخلوق ممكن فظهور التباين بينهما أولى من التباين بين الممكنات.

(3)

بل المقارنة بين الكامل والناقص يحط من قدره ويجعله ناقصاً إذا لم يكن على سبيل الإلزام: ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل أن السيف أمضى من العصا

أما إذا كان على سبيل الإلزام فإنه لا يدل على النقص كما قال تعالى {آلله خير أما يشركون}

(4)

الفيل معروف، وجمعه أفيال وفيول وفيله ولا تقل: أفيلة ذكره الدميري في حياة الحيوان الكبرى (2/159) .

وانظر الحيوان للجاحظ (2/562) .

(5)

الجمل هو الذكر من الإبل وجمعه جمال وأجمال وجمائل وجمالات قال تعالى {كأنه جمالات صفر، قال أكثر المفسرين: هي جمع جمال كرجال ا. هـ من حياة الحيوان للدميري (1/250) وكان الأولى أن يعبر المؤلف بالبعير لأنه يشمل الذكر والأنثى بخلاف الجمل فإنه للذكر وذلك مقابلة مع الفيل الذي ذكره فإنه يشمل الذكر والأنثى إلا إذا كان المؤلف يرى أن الفيل خاص بالذكر والزنربيل للأنثى كما هو قول بعض أهل اللغة فإن ما ذكره مناسب لأنه حينئذ يكون الفيل والجمل للذكر.

انظر ربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري (4/432)

ص: 204

الصفات والتشبيه التسوية في أكثر الصفات (1)

لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن {ليس كمثله شيء} (2)[الشورى: 11]

(1) التمثيل هو إثبات مثيل للشيء أي نقول هذا مثل هذا والتشبيه هو إثبات مشابه للشيء أي هذا مشابه لهذا.

وهل بينهما فرق؟

قيل إنه ليس بينهما فرق ولهذا نجد العلماء يعبرون بذلك على أنهما شيء واحد وقيل بل إن هناك فرقاً:

فالتمثيل يقتضي المماثلة وهي المساواة من كل وجه

التشبيه يقتضي المشابهة وهي المساواة في أكثر الصفات.

والتشبيه الذي ضل فيه الناس على نوعين:

أولاً: تشبيه المخلوق بالخالق وهو إثبات شيء للمخلوق مما يختص به الخالق من:

الأفعال

كفعل من أشرك في الربوبية ممن زعم أن مع الله خالقا

مثاله: غلاة الباطنية الذين يزعمون أن أوليائهم يديرون الكون.

مثال آخر: الثنوية من المجوس الذين يقولون إن للحوادث خالقين فالنور لخلق الخير والظلمة لخلق الشر ً

والحقوق

كفعل المشركين بأصنامهم حيث زعموا أن لها إلهاً حقاً في الألوهية فعبدوها مع الله.

والصفات

كفعل الغلاة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره كمدح المتنبي:

فكن كما شئت يا من لا شبيه له

وقول البوصري:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

ثانياً: تشبيه الخالق بالمخلوق:

أي أن يثبت لله في ذاته وصفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق مثل أن يقول:

إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين، واستواءه مثل استواء المخلوق وهكذا.

وقد قيل أن أول من عرف بهذا النوع هو هشام ابن الحكم الرافضي أما تشبيه ذات الله بذات المخلوق فلا يعلم أن أحداً قاله.

(2)

*سئل الشيخ بن عثيمين: أيهما أولى: التعبير بالممثلة أم التعبير بالمشبهة؟

فأجاب قائلاً: التعبير بالممثلة خير من التعبير بالمشبهة لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن نفي التمثيل هو الذي ورد في القرآن الكريم، ولم يرد في القرآن نفي التشبيه، واللفظ الذي هو التعبير القرآني خير من اللفظ الذي هو التعبير الإنساني قال الله تعالى:{ليس كمثله شيء} .

الوجه الثاني: أن التشبيه لا يصح نفيه على الإطلاق لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر =

ص: 205

- وأما التكييف (1) فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا من غير أن يقيدها بمماثل (2) وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل:

(1) التكييف: مشتق من الكيف.

والكيف هو الهيئة والماهية والشكل.

فيكون التكييف هو حكاية كيفية الصفات وشكلها أو هيئتها، كطولها وعرضها وحجمها ونحو ذلك.

انظر شرح منظومة أبي الخطاب للبريكان ص72، وكليات أبي البقاء الكفوي ص752.

ملاحظة: المنفي في الصفات هو التكييف لا الكيفية لأن كل صفة لها كيفية وقد نص عليها الأشعري في رسالة الثغر ص 72 إلا أن الواجب تفويضها.

قال ابن قدامة في الروضة (1/72) : والكيفية ما يصلح جواباً للسؤال بكيف ا. هـ

وذهب علوي السقاف في مقدمة كتاب ابن الجوزي المسمى بدفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص71 إلى أن الكيف منفي عن الرب عز وجل أيضاً واستدل بقول الإمام مالك الذي سيأتي وهذا مردود لأن كلام الأئمة في نفي التكييف لا الكيفية.

(2)

هذا هو الفرق بين التمثيل والتكييف.

فالتكييف هو أن يحكى كيفية الشيء سواء كانت:

مطلقة

مثل: اشتريت سيارة صفتها كذا وكذا ولكنه لا يذكر مثيلاً لها

مقيدة بشبيه

أن يقول: اشتريت سيارة مثل هذه السيارة.

أما التمثيل فيكون مقيداً بالمماثل: انظر تلخيص الحموية للمؤلف ص55

فيكون التكييف أعم لأن كل ممثل مكيف وليس كل مكيف ممثلاً

ص: 206

مشترك اتفقا فيه وإن اختلفا في الحقيقة، فلله وجود، وللإنسان وجود ولله حياة وللإنسان حياة وهذا الاشتراك في أصل المعنى - الحياة - نوع من التشابه، لكن الحقيقة أن صفات الخالق ليست كصفات المخلوق فحياة الخالق ليست كحياة المخلوق.

فحياة المخلوق ناقصة مسبوقة بعدم وملحوقة بفناء، وهي أيضاً ناقصة في حد ذاتها، يوم يكون طيباً، ويوم يكون مريضاً، ويوم يكون متكدراً، ويوم يكون مسروراً وهي أيضاً حياة ناقصة في جميع الصفات، البصر ناقص، السمع ناقص، العلم ناقص، القوة ناقصة، بخلاف حياة الخالق جل وعلا، فإنها كاملة من كل وجه

الوجه الثالث: أن بعض أهل التعطيل يسمون المثبتين للصفات مشبهة فإذا قلت: من غير تشبيه فهم هؤلاء أن المراد من غير إثبات صفة، ولذلك نقول: إن التعبير بقولنا من غير تمثيل أولى من التعبير بالتشبيه.

- أما السمع: فمنه قوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} (1)[طه: 110] وقوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} (2)[الإسراء: 36] ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها فيكون تكييفنا قفواً لما ليس لنا به علم وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.

- وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له أو بالخبر الصادق عنه وكل هذه الطرق (3) منتفية في كيفية صفات الله عز وجل فوجب بطلان تكييفها.

وأيضاً فإننا نقول: أي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟

إن أي كيفية تقدرها في ذهنك (4) فالله أعظم وأجل من ذلك.

وأي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذباً فيها لأنه لا علم لك بذلك وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان (5) أو تقريراً باللسان أو تحريراً بالبنان (6) .

(1) أي لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم عليه كما في آية البقرة.

عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير، اختصار أحمد شاكر (2/162)

(2)

سبق بيان معنى الآية في القاعدة الخامسة من قواعد الأسماء

(3)

أي الطرق لمعرفة كيفية الشيء ثلاثة هي:

أ- معرفة ذاته

ب- معرفة نظيره المساوي

ج - الخبر الصادق عنه

(4)

ليس هذا من باب الجواز الشرعي وإنما من باب التنزل مع الخصم وهذه طريقة سلكها القرآن وجرى عليها العلماء والشعراء ومن ذلك قوله تعالى {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}

(5)

أكد المؤلف أنه يجب الكف عن التكييف تقديراً بالقلب فلا تتوهم ولا تقدر في نفسك.

(6)

أي بالكتابة

2 -

أخرج هذا الأثر:

-

اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة "(2/398)

- والبيهقي في " الأسماء والصفات "(2/150-151) من طريقين مع اختلاف يسير بينهما في الألفاظ وفي كتاب الاعتقاد (ص56)

ص: 207

ولهذا لما سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة (1) "

وروى عن شيخه ربيعة أيضاً: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول " وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان (2) .

(1) ذكر شيخ الإسلام أن إسناد كلهم أئمة ثقات.

- وأخرج هذا الأثر اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة "(2/398) .

- والبيهقي في " الأسماء والصفات "(2/151) .

- والعجلي في " تاريخ الثقات " ص158، رقم 431.

- ورواه الذهبي في " العلو " ص98 بإسناده إلى سفيان الثوري.

- وابن قدامة في " العلو " ص164.

- وقد صحح شيخ الإسلام هذا الأثر، وقال في الفتاوى (5/365) :" وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك " أ. هـ، وانظر: در تعارض العقل والنقل (6/264) ، وكذا حكم عليه الألباني بالصحة، انظر: مختصر العلو ص132) والفتوى الحموية بتحقيق التويجري ص307.

(2)

ويستعمل ذلك في جميع الصفات الذاتية والفعلية.

ص: 208

- والدرامي في " الرد على الجهمية " ص33

- وأبو إسماعيل الصابوني في " عقيدة السلف " ص17-19، من ثلاثة طرق

- وابن عبد البر في " التمهيد "(7/151)

- وأبو نعيم في " الحلية "(6/352-326)

- والذهبي في " السير "(8/89-90-95)

- وذكره في " العلو" ص103-104، المختصر ص141، وحكم عليه بالصحة، وقال: إن هذا ثابت عن الإمام مالك

- وكذا ذكره ابن قدامة في " لمعة الاعتقاد " ص4، وفي " العلو " ص172-173

- والسيوطي في " الدر المنثور "(3/473)

- والبغوي في " شرح السنة "(1/171)

- وجود إسناده الإمام ابن حجر في " الفتح "(13/407) فقال: وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب

فذكره

- انظر الفتوى الحموية بتحقيق التويجري ص308.

-

وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز (1) لا تستطيع الخلاص منها وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته فالجأ إلى ربك فإنه معاذك وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك (2) قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (3)[فصلت: 36] .

ملحق القاعدة السادسة

ذكرنا في الحاشية أننا سنفصل القول في الآية التي استشهد بها المؤلف وهي قوله تعالى {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] ففي الآية تشبيه مقلوب إذ مقتضى الظاهر عكسه لأن الخطاب لعباد الأوثان حيث سموها آلهة تشبيهاً به تعالى فجعلوا غير الخالق كالخالق فجاءت المخالفة في الخطاب كأنهم لمبالغتهم في عبادتها ولإسفافهم - بالتالي - وارتكاس عقولهم صارت عندهم الأصل وصار الخالق الحقيقي هو الفرع فجاء الإنكار على وفق ذلك.

وللتشبيه المقلوب أسرار كثيرة منها هذا السر الذي ألمعنا إليه ومنها أن ينسى الإنسان أن المشبه به هو المقدم لشدة ولعه بالمشبه فيعكس التشبيه

(1) المفاوز جمع مفازة وسميت بذلك لأنها مهلكة من فوز أي هلك، وقال ثعلب سميت المفازة من فوز الرجل إذا مات أي صار في مفازة بين الدنيا والآخرة.

انظر لسان العرب لابن منظور (10/347) وتهذيب اللغة للأزهري (13/264) ، والعين للخليل بن أحمد (7/389) .

(2)

يوصف الله بالطبيب كما في حديث أبي رمثة الذي رواه أبو داود وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الله الطبيب " صححه الألباني في السلسة برقم (1537) ، بل ذكر البيهقي وابن العربي والقرطبي أنه اسم من أسماء الله.

(3)

والشاهد أن العبد يسأل الله مفتقراً إليه أن يعيذه ويعصمه ذكره السعدي في تفسيره (4/399)

ص: 209

كما

فعل البحتري في وصف البركة التي بناها المتوكل على الله إذ قال:

كأنها حين لجت في تدفقها

يد الخليفة لما سال واديها

والمعهود أن تشبه يد الخليفة في تدفقها بالكرم بالبركة إذا تدفقت بالماء.

هذا وقد جرى الشعراء على مذهب القلب كثيراً فمنهم من أصاب كما أصاب أبو عبادة البحتري ومنهم من أخطأ وتعسف.

وفي قوله تعالى أيضاً " أفمن يخلق كمن لا يخلق " تغليب إذ المراد بمن لا يخلق الأصنام وجاء بمن الذي هو للعقلاء ذوي العلم وذلك لأنهم لما عبدوها وسموها آلهة أجروها مجرى أولي العلم فجيء بمن على اعتقادهم ووفق ما هو مركوز في سلائفهم، وأيضاً للمشاكلة بينهما وبين الخالق الحقيقي وهو المعبر عنه بقوله "أفمن يخلق كمن لا يخلق"

قال العز بن عبد السلام هذه الآية مشكلة لأن قاعدة التشبيه تقتضي أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ولا يقال أنهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من الله لأنهم لم يقولوا ذلك وإنما قالوا: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى بخلاف قوله تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل المتقين كالفجار فإنهم لما كانوا يقولون نحن نسود في الآخرة كما سدنا في الدنيا جاء الجواب على وفق معتقدهم إنهم أعلى والمؤمنون أدنى.

وأجاب شيخ الإسلام زكريا في فتح الرحمن: " بأن الخطاب لعباد الأوثان وهم بالغوا في عبادتها حتى صارت عندهم أصلاً في العبادة والخالق فرعاً فجاء الإنكار على وفق ذلك ليفهموا المراد على معتقدهم ا. هـ من كتاب إعراب القرآن الكريم وبيانه لمحي الدين الدرويش (5/280)

ص: 210

القاعدة السابعة

صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها

فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى (1) : " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث (انظر القاعدة الخامسة في الأسماء) .

طرق إثبات الصفة

ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:

الأول: التصريح بالصفة (2) كالعزة (3) والقوة (4) والرحمة (5) والبطش (6) والوجه (7) واليدين (8) ونحوهما.

الثاني: تضمن الاسم لها مثل: الغفور متضمن للمغفرة والسميع متضمن للسمع ونحو ذلك (انظر القاعدة الثالثة في الأسماء) .

(1) نقلها شيخ الإسلام في الفتوى الحموية ص271.

(2)

الصفة هي المعنى القائم بالله وقد سبق بيان ذلك في ملحق القاعدة الثانية.

(3)

كقوله تعالى {إن العزة لله} [يونس: 65] .

(4)

كقوله تعالى {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58] .

(5)

كقوله تعالى {أولئك يرجون رحمة الله} [البقرة: 218] .

(6)

كقوله تعالى {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] .

(7)

كقوله تعالى {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} [البقرة: 272] .

(8)

كقوله تعالى {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] .

والتصريح بالصفة سواء في الكتاب أو في السنة.

ص: 211

الثالث: التصريح بفعل أو وصف (1)

دال عليها كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة (2) والانتقام من المجرمين (3) الدال عليها - على الترتيب - (4) قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " الحديث (5) وقول الله تعالى: {وجاء ربك والملك صفاً صفا} [الفجر: 22] وقوله: {إنا من المجرمين منتقمون} (6)[السجدة: 22] .

(1)

قيل إن الصفة والوصف مترادفان وقيل بينهما تغاير والظاهر أن مراد المؤلف من الوصف هنا هو اسم الفاعل كما في المثال الذي أتى به.

انظر كتاب الوصف المشتق في القرآن د. عبد الله الدايل ص43

(2)

هذه كلها أفعال للرب فالاستواء، والنزول والمجيء صفات فعلية.

(3)

عرفنا أن هناك فرقاً بين الصفة والوصف وأن دلالة الصفة تكون بالتصريح بها وكذلك تثبت الصفة بالتصريح بالوصف كالانتقام فهو صفة فعلية

(4)

يسمى في البلاغة باللف والنشر المرتب وسماه بعض البديعيين بالطي والنشر وهو ذكر متعدد على الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك بالقرائن.

انظر التبيان في البيان للطيبي ص504 وعلم البديع د. عبد العزيز عتيق ص167 ومعجم البلاغة للدكتور أحمد مطلوب ص525.

(5)

سبق تخريج الحديث.

(6)

وورد من ذلك قوله تعالى {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} [الكهف: 8] ، وقد ذكر ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق ص 160 انه من الأسماء.

وورد قوله تعالى {وأنا لموسعون} [الذاريات: 47] .

وممن ذكر ذلك من الأسماء ابن منده وابن العربي وابن الوزير.

ملاحظة: ان جعلنا المنعم والموسع والجاعل أسماء فإثبات الصفة يرجع إلى الوجه الثاني وهو التضمن لكن لما كان المؤلف يرى أن المنتقم ليس اسما فإنه ذكر أن لله صفة الانتقام من الوجه الثالث والله أعلم.

ص: 212

الفصل الثالث

ص: 213

الفصل الثالث

قواعد في أدلة الأسماء والصفات

القاعدة الأولى

الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: (1) .

فلا تثبت أسماء الله بغيرهما (2) .

وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته (3) وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه مع إثبات كمال ضده.

وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه (4) فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.

وأما معناه فيفصل فيه فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.

فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام (5) .

ومنه: كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة ونحو ذلك

(1) سبق وأن ذكر المؤلف أن أسماء الله وصفاته توقيفية وذكرنا الأدلة على ذلك.

(2)

كالقياس والاستحسان العقلي كما سبق، فلا يقاس السخي على الجواد مثلاً وهكذا

(3)

وإذا لم يثبته يكون آثماً وقد سبق إن إنكار الأسماء من الإلحاد.

(4)

وسيأتي أمثلة ذلك في كلام المؤلف.

(5)

قد سبق بيان ذلك مفصلاً 0

ص: 215

من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها (1){ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 27] .

- ومنه: الوجه والعينان واليدان ونحوها.

- ومنه: الكلام والمشيئة والإرادة بقسميها الكوني والشرعي، فالكونية بمعنى المشيئة والشرعية بمعنى المحبة (2) .

- ومنه: الرضا والمحبة والغضب والكراهة ونحوها (3) .

- ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت والنوم والسنة والعجز والإعياء والظلم والغفلة عن أعمال العباد وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك (4) .

- ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة)(5) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟

قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء.

وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل (6) أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به

(1) عرفنا فيما سبق المراد من نوع الفعل ومن أفراد الفعل أو آحاده.

(2)

انظر هذه المسألة في شرح الواسطية لكل من:

- الشيخ عبد العزيز الرشيد ص66.

- الشيخ ابن عثيمين (1/169) ، وفي الفتاوى أيضاً ص42.

- الشيخ صالح الفوزان ص39.

- الشيخ زيد بن فياض ص79.

- الشيخ عبد الله بن جبرين (1/132) .

(3)

أدلة هذه مذكورة في مواضعها في كتب العقائد قاله المؤلف ا. هـ.

(4)

أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد قاله المؤلف وانظر التدمرية ص57.

(5)

سيأتي تفصيله في الملحق.

(6)

السفل له معنيان:

أن يكون شيء أسفل من شيء والمراد هنا أن يكون الخالق أسفل من المخلوق بأن =

ص: 216

فالأول: باطل لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع (1) .

= أ - تكون السماء أو أي شيء فوقه وهذا مستحيل.

ب - السفل يطلق ويراد به مركز الأرض لأن الجسم الكروي ليس له إلا جهتان: علو وهو السطح، وسفل وهو المركز كما بين ذلك شيخ الإسلام في الرسالة العرشية وفي نقض التأسيس رداً على ما توهمه الرازي من أن إثبات العلو لله يلزم أن يكون الرب أسفل في نصف الكرة الثانية من الأرض فبين شيخ الإسلام إن هذا لا يقال لأن الله محيط بالعالم.

انظر الفتاوى (6/545) .

(1)

قد ذكرنا في مقدمة الكتاب المؤلفات التي ألفت في العلو وهي كثيرة.

وسئل الشيخ ابن عثيمين في الفتاوى ص65:

هل السماء الثانية فما فوقها تكون فوقه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟

الجواب: لا، ونجزم بهذا لأننا لو قلنا بإمكان ذلك لبطلت صفة العلو، وصفة العلو لازمة لله وهي صفة ذاتية لا تنتفي عن الله ولا يمكن ان يكون شيء فوقه حينئذ يبقى الإنسان منبهتا كيف ينزل إلى السماء الدنيا ولا تقله ولا تكون السموات الأخرى فوقه هل يمكن هذا؟!.

الجواب: إذا كنت منبهتاً من هذا فإنما تنبهت إذا قست صفات الخالق بصفات المخلوق صحيح أن المخلوق إذا نزل إلى المصباح صار السطح فوقه وصار سطح المصباح يقله، لكن الخالق لا يمكن أن يقاس بخلقه، فلا تقل: كيف؟ ولم؟

فإذاً هذان السؤالان: هل السماء تقله؟

الجواب: لا لأنك إن فرضت هذا لزم أن يكون الله محتاجاً إلى السماء والله تعالى غني عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه. والسؤال الثاني: - هل تكون السموات فوقه ما عدا السماء الدنيا؟

الجواب: -لا لأنك لو فرضت ذلك لزم انتفاء صفة العلو لله مع أن العلو من صفات الله الذاتية التي لا ينفك عنها.

فالسؤال هذا من أصله بدعة، كما قال مالك للذي سأله عن الاستواء كيف استوى؟ قال " السؤال عنه بدعة " يعني لأنه ما سأل الصحابة عنه، فأنت الآن ابتدعت في دين الله حيث سألت عن أمر ديني ما سأل عنه الصحابة وهم أفضل منك، وأحرص منك على العلم بصفات الله، لكن مع ذلك لو قال: أنا يساورني القلق أخشى أن أعتقد بصفات الله ما لا يجوز، فبينوا لي وأنقذوني، فحينئذ نبين له، لأن الإنسان قد يبتلى بمثل هذه الأمور ويأتيه الشيطان ويوسوس له، ويقول كيف؟ وكيف؟ حتى يؤدي به إلى أحد محذورين: إما التمثيل، وإما التعطيل، فإذا جاءنا يسأل ويقول: أنقذوني ما زال هذا يتردد في خاطري، ما يكفيني أن تقولوا: بدعة. كيف أذهب ما في خاطري وقلبي نقول نبين لك ا. هـ.

ص: 217

والثاني: باطل أيضاً لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته

والثالث: حق لأن الله تعالى العليّ فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.

ودليل هذه القاعدة السمع والعقل:

*فأما السمع: فمنه قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه (1) واتقوا لعلكم ترحمون} [الأنعام:155] .

وقوله: [فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (2) [الأعراف:158] .

وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (3)[الحشر: 7]

. وقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (4)[النساء: 80] .

وقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (5)[النساء: 59]

وقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (6)[المائدة: 49]

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة (7) .

(1) الشاهد من الآية قوله {فاتبعوه} أي فيما يأمر به وينهى.

(2)

الشاهد من الآية قوله {واتبعوه لعلكم تهتدون} .

(3)

الشاهد من الآية قوله {فخذوه} وقوله {فانتهوا} .

(4)

الشاهد من الآية قوله (من يطع الرسول) أي بتصديق خبره واثبات ما أثبته لله وقوله {فمن تولى} أي عن طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فانه لا يضر إلا نفسه.

(5)

الشاهد من الآية قوله {فردوه إلى الله والرسول} فأمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله والرسول أي إلى كتاب الله وسنة رسوله.

(6)

الشاهد من الآية هو أنه إذا حكم فانه يحكم بالكتاب والسنة.

(7)

انظر هذه النصوص في كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ص291 وما بعده 0

ص: 218

وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة لأن مما جاء في القرآن الأمر بإتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.

فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟ (1) .

وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟ (2) .

وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟ (3) .

ولقد قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (4)

[النحل: 89] .

(1) هذا استفهام إنكاري من المؤلف للذين لا يتبعون سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنهم بذلك لم يؤمنوا بالقرآن أيضاً لأن القرآن أمر بإتباعه.

(2)

وهذا استفهام إنكاري من المؤلف وان من لم يرد التنازع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فانه لم يؤمن بالقرآن.

(3)

أي إن القرآن أمر بالإيمان بالرسول أي إتباعه كما سبق

(4)

قوله {لكل شيء} (يحتاج إليه الناس من أمر الشريعة) إما بتبيينه في نفس الكتاب أو بإحالته على السنة لقوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] أو بإحالته على الإجماع كما قال تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 155] أو على القياس كما قال تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر:2] والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس، فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، كلها مذكورة في القرآن فكان تبياناً لكل شيء، فاندفع ما قيل كيف قال الله تعالى:{نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} ونحن نجد كثيراً من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصاً كعدد ركعات الصلاة ومدة المسح والحيض ومقدار حد الشرب ونصاب السرقة وغير ذلك ومن ثم اختلف الأئمة في كثير من الأحكام ا. هـ من حاشية الجمل على الجلالين (4/261) ،

وانظر تفسير الخازن (3/95) ، والوسيط للواحدي (3/79) .

ص: 219

ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن (1)

وأما العقل: فنقول إن تفصيل القول (2) فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى (3) من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة. .

ملحق القاعدة الأولى

ذكرنا أننا سنفصل المراد من الجهة وقد لخص الألباني في مختصر العلو للذهبي (ص70) معتقد أهل السنة في ذلك فقال:

والجواب عنها ما قاله ابن تيمية في " التدمرية " ص45: قد يراد بـ " الجهة " شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بـ "الجهة نفس

(1) ولنضرب لك أمثلة على ذلك:

قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فهذا يفهم منه وجوب كل من الصلاة والزكاة.

ولكن: ما هي ماهية هذه الصلاة التي أوجبها وما كيفيتها؟ وما وقتها؟ وما عددها؟ وعلى من تجب؟ وكم مرة تجب في العمر؟

وما هي ماهية الزكاة؟ وعلى من تجب؟ وفي أي مال تجب؟ وما مقدارها؟ وما شروط وجوبها؟ وقال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ففهمنا: وجوب إتمامهما.

ولكن: ما المراد بهما؟ أهو جميع ما كان يفعله العرب في الجاهلية؟ أو شيء آخر؟ فما هو؟ وكم مرة تجب في العمر؟

انظر الرسالة للإمام الشافعي ص20 وما بعده، وحجية السنة لعبد الغني عبد الخالق ص323.

(2)

قول المؤلف (تفصيل القول) احترازاً من الإجمال فانه يمكن للعقل أن يدرك ان الله كامل الصفات على سبيل الإطلاق.

(3)

الواجب هو الذي لا يمكن عدمه.

والجائز هو الذي يمكن عدمه.

والممتنع هو الذي يستحيل وجوده.

وقد سبق بيان ذلك.

ص: 220

العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والخالق سبحانه وتعالى مباين للمخلوق ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.

فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أو تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب أن الله فوق العالم.

وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة. أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل "

ومنه يتبين أن لفظ الجهة غير وارد في الكتاب والسنة وعليه فلا ينبغي إثباتها ولا نفيها لأن في كل من الإثبات والنفي ما تقدم من المحذور ولو لم يكن في إثبات الجهة إلا إفساح المجال للمخالف أن ينسب إلى متبني العلو ما لا يقولون به، لكفى.

وكذلك لا ينبغي نفى الجهة توهماً من أن إثبات العلو لله تعالى يلزم منه إثبات الجهة لأن في ذلك محاذير عديدة منها نفي الأدلة القاطعة على إثبات العلو له تعالى ومنها نفى رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة فصرح بنفيها المعتزلة والشيعة وعلل ابن المطهر الشيعي في " منهاجه " النفي المذكور بقوله: " لأنه ليس في جهة "! وأما الأشاعرة، أو على الأصح متأخروهم الذين أثبتوا الرؤية فتناقضوا حين قالوا:" إنه يرى لا في جهة "! يعنون العلو! قال شيخ الإسلام في " منهاج السنة "(2/252) :

" وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون: إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل، كقولهم في الكلام، ولهذا يذكر أبو عبد الله الرازي

ص: 221

أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين.

ثم أخذ يرد على النفاة أنه إن أريد بها أمر وجودي غير الله كان مخلوقاً والله تعالى فوق خلقه لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات.

وإن أريد بـ " الجهة " أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده.

وهذا المعنى الأخير هو المراد في كلام المثبتين للعلو والناقلين عن السلف إثبات الجهة لله تعالى، كما في نقل القرطبي عنهم.

وقال ابن رشد في " الكشف عن مناهج الأدلة "(ص66) :

" (القول في الجهة) ، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة وتبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة ثم ذكر بعض الآيات المعروفة ثم قال: إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهاً، لأن الشرائع كلها متفقة على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين

"

ص: 222

القاعدة الثانية

الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها (1)

دون تحريف (2) لا سيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها:

(1)

الظاهر لغة: الواضح البين.

واصطلاحاً: ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: " توضؤا من لحوم الإبل " رواه أحمد وأبو داود فإن الظاهر من المراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة على الصفة الشرعية دون الوضوء الذي هو النظافة

فخرج بقولنا: ما دل بنفسه على معنى المجمل لأنه لا يدل على المعنى بنفسه.

وخرج بقولنا: راجح المؤول لأنه يدل على معنى مرجوح لولا القرينة.

وخرج بقولنا: مع احتمال غيره النص الصريح لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً.

العمل بالظاهر:

العمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره لأن هذه طريقة السلف ولأنه أحوط وأبرا للذمة وأقوى في التعبد والانقياد.

تعريف المؤول:

المؤول لغة: من الأول وهو الرجوع.

واصطلاحاً: ما حمل لفظه على المعنى المرجوح.

فخرج بقولنا: على المعنى المرجوح النص والظاهر.

أما النص فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً وأما الظاهر فلأنه محمول على المعنى المرجح.

والتأويل قسمان: صحيح مقبول، وفاسد مردود.

أ - فالصحيح: ما دل عليه دليل صحيح كتأويل قوله تعالى: {واسأل القرية} إلى معنى واسأل أهل القرية لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها.

ب - والفاسد: ما ليس عليه دليل صحيح كتأويل المعطلة قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} إلى معنى استولى والصواب أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل ا. هـ من كتاب الأصول للمؤلف.

(2)

صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل يسمى تحريفاً.

انظر شرح الطحاوية بترتيب الشيخ خالد بن فوزي (1/506)

ص: 223

ودليل ذلك السمع والعقل

- أما السمع: فقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193-195] .

وقوله: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] .

وقوله: {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [الزخرف: 3] .

وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي (1) .

وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون} (2)

[البقرة:75] وقال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا} (3)[النساء: 46]

- وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص اعلم بمراده من غيره وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة..

(1) هذا هو الشاهد من الآيات وأنه يجب فهمه على ظاهره إلا إذا منع منه دليل شرعي فإنه يترك هذا الظاهر.

مثال ذلك قوله تعالى {إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} فإن ظاهره متروك لدليل شرعي آخر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعذ عند الشروع في القراءة.

وانظر الخلاف في هذه المسألة في تفسير الرازي (20/92) فقد نقل هذا القول عن الأكثر وان بعض الأئمة أخذ بظاهر الآية كداود الظاهري وقال ان الاستعاذة تكون بعد القراءة.

وقول المؤلف (إلا أن يمنع منه دليل شرعي) احترازاً من الأدلة العقلية التي يستند إليها المعطلة في صرف ظواهر القرآن والسنة.

(2)

الشاهد من الآية أن الله ذم واستنكر على اليهود لأنهم حرفوا كلامه من التوراة فجعلوا الحلال حراماً وبالعكس وزادوا ونقصوا فتحريف نصوص الصفات كذلك.

انظر فتح القدير للشوكاني (1/151) .

(3)

الشاهد من الآية إن الله ذم اليهود لأنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه إما بتغيير اللفظ أو المعنى أو بهما جميعاً وتحريف نصوص الصفات كذلك منهي عنه.

انظر تفسير السعدي (1/354) .

ص: 224

القاعدة الثالثة

ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر:

فباعتبار المعنى (1) هي معلومة وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة

وقد دل على ذلك السمع والعقل

- أما السمع: فمنه قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (2)[ص:29] .

وقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون} (3)

[الزخرف: 3] .

وقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (4)[النحل:44] .

(1) أي أصل المعنى لا المعنى الذي يكون في حق المخلوق فهذا غير مراد قطعاً ولهذا يقول شارح الطحاوية ص76 عن الصفات أن أصل معناها معلوم لنا ا. هـ

وانظر التدمرية ص89 فقد ذكر شيخ الإسلام هذه القاعدة وفصل فيها.

(2)

قال السعدي في تفسير (4/487) :

[ليدبروا آياته] أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها. فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر، أفضل من سرعة التلاوة، التي لا يحصل بها هذا المقصود ا. هـ

إذا لا يمكن أن أتدبر ما لا أدرك معناه وإنما أتدبر وأعقل إذا كان الكلام معلوماً لدي.

(3)

قال السعدي في تفسير (4/437) :

[إنا جعلناه قرآناً عربياً] هذا هو المقسم عليه، أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها وهذا من بيانه.

وذكر الحكمة في ذلك: [لعلكم تعقلون] ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان.

(4)

فقوله (لتبين للناس) دليل على إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين القرآن بألفاظه ومعانيه 0

ص: 225

والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.

وكون القرآن عربياً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.

وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.

وأما العقل: فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام ان يكون هداية للخلق ويبقى في أعظم الأمور وأشدّها ضرورة مجهول المعنى بمنزلة الحروف الهجائية (1)

التي لا يفهم منها شيء لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى.

= قال السعدي في تفسيره (3/62) :

[وأنزلنا إليك الذكر] أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم، الظاهرة والباطنة.

[لتبين للناس ما نزل إليهم] وهذا شامل لتبيين ألفاظه، وتبيين معانيه.

[ولعلهم يتفكرون] فيه، فيستخرجون من كنوزه وعلومه، بحسب استعدادهم، وإقبالهم عليه.

ملاحظة: والشاهد من الآيات أنه أمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه.

(1)

هي الحروف التي تتركب منها الكلمات وتسمى أيضاً: حروف المعجم وحروف البناء وهي أقسام:

انظر المعجم المفصل في علوم اللغة د. محمد التونجي (1/282)

وفي كتاب المعجم المفصل في الأدب (1/358) قال:

حروف الهجاء: هي الحروف العربية وعددها ثمانية وعشرون حرفاً وإذا اعتبرنا الألف تمثل علامتين: هما الهمزة والألف اللينة صار العدد تسعة وعشرين. ويدعوهم بعضهم " حروف المعجم "، وآخرون " الأبجدية " وفئة " حروف الألف باء " فالأول يرفضه ابن جني لأن المعجم مصدر، ولكن هنا جاء على صيغة اسم المفعول فيصبح المعنى: = الحروف الغامضة، من الفعل الرباعي " أعجم " أي أزال الغموض والثاني " الأبجدية " لا تطلق إلا على الترتيب الجملي المعروف حسابياً والمأخوذ عن بعض اللغات السامية

وهو أ، ب، ج، د هـ،

..والثالث " الألف باء " وهو المقصود اليوم وفي المعاجم بحسب تسلسلها: أ، ب، ت، ث

..، إلى الياء.

أما كلمة " الهجاء " فهي تقطيع اللفظة بحروفها مع حركاتها ويقال: هجوت الحروف هجواً أو هجاءً وهجوتها تهجية وتهجيتها تهجيةً ولهذا قالوا: حروف التهجي أو التهجية.

ص: 226

وقد قال الله تعالى في كتابه: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (1)[هود: 1] .

هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات.

وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.

وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة (2) الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات ويدعون أن هذا مذهب السلف. والسلف بريئون من هذا المذهب وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً (3)

وتفصيلاً أحياناً (4) وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل)

(1)

يقول تعالى: هذا [كتاب] أي عظيم، ونزل كريم.

[أحكمت آياته] أي: أتقنت وأحسنت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه.

[ثم فصلت] أي: ميزت: وبينت بياناً في أعلى أنواع البيان

[من لدن حكيم] يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته.

[خبير] مطلع على الظواهر والبواطن فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة وسعة الرحمة

(2)

عرف المؤلف المراد من التفويض وأنهم الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات أصل التفويض في اللغة مأخوذ من قولهم: فوض إليه الأمر أي رده إليه..

(3)

من ذلك ما قاله الإمام الأصبهاني قوام السنة في كتابه الحجة في بيان المحجة (1/91) :

" إن الأخبار في صفات الله عز وجل جاءت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لكتاب الله عز وجل، فنقلها الخلف عن السلف قرناً بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل إثبات الصفات لله والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله به في تنزيله وبينه الرسول عن كتابه مع اجتناب التأويل ا. هـ

(4)

وهو كثير ومن ذلك ما سبق عن الإمام مالك وشيخه ربيعه وقد نقل الإمام اللالكائي جملة منها في كتابه أصول الاعتقاد (3/397) .

ص: 227

ص (116) جـ 1 المطبوع على هامش (منهاج السنة) : " وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ (1) إلى أن قال ص (118) : " وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه " (2) .

قال: " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته

..لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " ا. هـ (3) كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد وما عليه مزيد رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجمعنا به في جنات النعيم.

(1) انظر درء تعارض العقل والنقل المطبوع في جامعة الإمام بتحقيق د. محمد رشاد و (1/201) في طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق محمد بيضون (1/116) .

(2)

درء التعارض (1/204) ط. جامعة الإمام، و (1/188) ط. دار الكتب العلمية.

(3)

درء التعارض (1/204+205) ط الإمام، و (1/118) ط دار الكتب العلمية.

ص: 228

القاعدة الرابعة

ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني (1)

وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام:

(1) انظر التدمرية لشيخ الإسلام ص69، وتقريب التدمرية للشيخ ابن عثيمين ص61 حيث يقول:

فإن قال قائل: في نصوص الصفات لا يجوز إجراؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد.

فجوابه أن يقال: ماذا تريد بالظاهر؟ أتريد ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل فهذا الظاهر مراد لله ورسوله قطعاً وواجب على العباد قبوله، والإيمان به شرعاً لأنه حق.

أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل، فهذا غير مراد لكنه ليس ظاهر نصوص الكتاب والسنة لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفراً وباطلاً ولا يرتضي ذلك أحد من المسلمين.

فتبين بذلك أن من قال: إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد فقد أخطأ على كل تقدير لأنه إن فهم من ظاهرها معنى فاسداً وهو التمثيل فقد أخطأ في فهمه وأصاب في قوله " غير مراد " وإن فهم من ظاهرها معنى صحيحاً وهو المعنى اللائق بالله فقد أصاب في فهمه وأخطأ في قوله " غير مراد " فهو إن أصاب في معنى ظاهرها أخطأ في نفي كونه مراداً، وإن أخطأ في معنى ظاهرها أصاب في نفي كونه مراداً فيكون قوله خطأ على كل تقدير.

والصواب الذي لا خطأ فيه أن ظاهرها مراد وأنه ليس إلا معنى يليق بالله ا. هـ

وذكر شارح الطحاوية احترازاً مهماً، وهو أن إثبات السلف للظاهر ليس معناه التمثيل والتكييف وذلك لأن لفظ (الظاهر) يستخدمه المتكلمون في المعنى الفاسد أي ظاهر ما في المخلوقين وهذا ليس بمقصد الأئمة ثم هذا ليس هو الظاهر من النصوص ولا يفهم منها ذلك إلا جاهل أو معاند وأما السلف فالظاهر عندهم هو ما سبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة.

وهذه المسألة مرتبطة بمسألة المجاز في اللغة وقد سبق الكلام فيه

ومسألة المجاز: من المسائل التي احتج بها النفاة المعطلة على نفي صفات الله تعالى والحق في هذه المسألة: أن كل لفظ فهو حقيقة فيما استعمل فيه بقرينته وقد لزم ذلك القائلين بنفي المجاز ممن قال: إن العام المخصوص حقيقة وأكثرهم يثبت ذلك وليس =.

ص: 229

فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه (1) فلفظ (القرية) مثلاً يراد به القوم تارة ومساكن القوم تارة أخرى

فمن الأول (2)

قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً} [الإسراء: 58]

= لأحدهم دليل في إثبات المجاز وليس لهم إسناد صحيح لواضع اللغة أن كذا وضع بكذا

فلو فرضنا أن أسداً مفترساً وضع له في حديقة الحيوانات منبر فصعد عليه (كما يكون فيما يسمى بالسرك) فهل يصبح عند أهل المجاز أن يعبر عن هذه الصورة بـ (رأيت أسداً على المنبر) أو يحتاج الأمر إلى قرينة تدل على أن المراد الحيوان المفترس لكثرة استعماله في الرجل الشجاع.

ومثال آخر: وهو لفظ السيارة: الدالة على من يسير كما قال تعالى: {متاعاً لكم وللسيارة} [المائدة: 96] وقوله: {وجاءت سيارة فأرسلوها واردهم} [يوسف: 19] وهذا الاسم شائع الآن على السيارة المركبة المعهودة فقولهم: " الحقيقة ما لا يحتاج إلى قرينة " ليس صحيحاً على إطلاقه بل كل من الألفاظ إنما تعرف من خلال التركيب ولذا فإن أهل اللغة إنما نقلوا التراكيب ولم ينقلوا المفردات كما هو معروف في المعاجم وهذا بين والله اعلم.

وانظر في كسر طاغوت المجاز: الصواعق المرسلة (أول الجزء الثاني من المختصر ص3 وما بعدها) .

وانظر في رد ما ادعوا فيه المجاز من صفات (المجيء - الإتيان - الرحمة - الاستواء) : مختصر الصواعق (2/106وما بعدها) ا. هـ من تقريب الطحاوية للشيخ خالد فوزي (1/509) .

(1)

حاصل كلام المؤلف أن الظاهر يختلف بحسب عدة أمور:

أ - السياق.

ب - الإضافة.

ت - التركيب.

وسيأتي المؤلف بأمثلة على ذلك.

(2)

أي يراد بهذه الآية القوم لأن الذي يعذب هو الساكن في القرية لا القرية نفسها.

ولهذا جاء في تفسير الجلالين ص372 أن المراد من القرية هنا أهلها.

وقال الجمل في حاشيته (4/324) أي الطائفة، وبهذا قال الصاوي في حاشيته 2/354)

وأما ما ورد في تفسير ابن عطية (9/121) ، والثعالبي (2/267) إن المراد بذلك أنه ليس مدينة من المدن فلا يعني إنهم يريدون بالقرية المساكن بدليل كلام ابن عطية بعد ذلك أن الضمير يعود على أهل القرية فهذا هو المتبادر للذهن.

والشاهد إن الكلمة الواحدة لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق آخر.

ص: 230

ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت:31] .

وتقول: صنعت هذا بيدي فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص:75] لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له (1) وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به (2) فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل (3) يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس وتقول: ما عند ك إلا زيد (4) وما زيد إلا عندك فتفيد الجملة الثانية (5) معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام (6) :..

(1) أن الإضافة خصصت اليد بالجارحة المناسبة للمخلوق.

(2)

ولا يشارك المخلوق في خصائص هذه اليد.

(3)

العقل الصريح هو الذي خلا من الشبهات التي أتي بها علماء الكلام وخلا من الشهوات كما في تلخيص الحموية للمؤلف ص96.

(4)

الجملة الأولى أفادت قصر الصفة على الموصوف ويكون المعنى أنه لا يوجد عندك إلا زيد ولا يوجد شخص آخر عندك أي قصر الصفة التي هي العندية على الموصوف الذي هو زيد.

(5)

أفادت قصر الموصوف على الصفة فقصرنا زيداً وهو الموصوف على الصفة وهي العندية أي أن زيداً لا يوجد في غير هذا المكان لكن قد يوجد شخص آخر معك س: ما هو الضابط في قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة؟

ج_

مدخول (ما) النافية هو المقصور، والذي يأتي بعد (إلا) هو المقصور عليه.

تطبيق:

ما زيد إلا عندك

ما عندك إلا زيد

دخلت عليه (ما) النافية

مقصور عليه

دخلت (ما) على عند

إذاً هو مقصور.

إذاً هو مقصور.

انظر معجم المصطلحات البلاغية د. أحمد مطلوب ص468

(6)

انظر الحموية ص539.

ص: 231

القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله عز وجل وأبقوا دلالتها على ذلك (1) وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.

وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة " ا. هـ (2) .

(1)

أي على ذلك الذي يتبادر إلى الذهن

(2)

ذكره ابن عبد البر في التمهيد في (7/145) وقال بعد ذلك: وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله ا. هـ

وقوله: (ولا يحدون فيه صفة محصورة) أي لا يجعلون لصفاته نهاية وغاية بخلاف صفات البشر فإنها محدودة فلو وصف فلان بالعلم والكرم لكان لتلك الصفة غاية ونهاية بل قد يكون غيره أعلم وأكرم.

وفي كتاب موقف ابن حزم من الأشعرية للدمشقية ص66 نقد تحديدهم لقدرة الله) .

وقالت الأشعرية كلها: إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ولا يقدر على الكذب ولا على قول إن (المسيح ابن الله) حتى يقول قبل ذلك {قالت النصارى} وأنه لا يقدر على أن يقول: {عزير ابن الله} حتى يقول قبل ذلك {وقالت اليهود} وأنه لا يقدر على أن يتخذ ولداً وأنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدعي النبوة فإن ادعى الألوهية كان الله تعالى قادراً على إظهار المعجزات على يديه.

وأنه تعالى لا يقدر على إحالة الأمور عن حقائقها ولا على قلب الأجناس عن ماهيتها وأنه تعالى لا يقدر على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحداً إلى غير التوحيد.

هذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم فجعلوه تعالى عاجزاً متناهي القوة محدود القدرة يقدر مرة ولا يقدر أخرى ويقدر على شيء ولا يقدر على آخر:

وهذه صفة نقص وهم مع هذا يقولون: إن الساحر يقدر على قلب الأعيان وأن يمسخ إنساناً ويجعله حماراً على الحقيقة وعلى المشي في الهواء وعلى الماء: فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى 0

ص: 232

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: " لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق ولا يعتقد التشبيه فيها لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة "(1) ا. هـ نقل ذلك

عن ابن عبد البر والقاضي وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (87-89) جـ (5) من مجموع الفتاوى لابن القاسم.

وهذا هو المذهب الصحيح والطريق القويم الحكيم وذلك لوجهين:

الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.

الثاني: أن يقال إن الحق إما إن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم والثاني باطل (2) لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده.

= قال أبو محمد) : وخشوا مبادرة أهل الإسلام بالاصطدام فخنسوا على أن يصرحوا بأن الله تعالى لا يقدر: فقالوا: لا يوصف الله بالقدرة على شيء مما ذكرنا. ا. هـ

ملاحظة: وردت في نسخة المؤلف ص 96 وكذا في النسخة التي حققها الشيخ أشرف بن عبد المقصود ص 93 (ولا يحدون فيه صفة محدودة) وجميع النسخ التي تحت يدي وردت كلمة محصورة ومن ذلك:

أ - الفتاوى (5/87) .

ب - الفتوى الحموية بتحقيق التويجري ص480.

ت - الفتوى الحموية بتحقيق شريف هزاع ص130.

ث - التمهيد لابن عبد البر (7/145) .

(1)

الفتوى الحموية ص 488.

(2)

إن كون الحق فيما قاله الخلف باطل، ووجه بطلانه انه يلزم منه:

أ - أن يكون السلف تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً إلى أن جاء الخلف.

ب - لم يتكلموا بالحق.

ص: 233

وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه وكلاهما باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم (1) فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.

القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو التشبيه وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه:

الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها (2) فكيف

يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء}

[الشورى: 11] .

الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟

الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً.

فإن قال المشبه أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه:

{ليس كمثله شيء} (3)[الشورى] ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال أو يجعلوا له

(1) والملزوم هو إما جاهلين أو عالمين وكاتمين.

(2)

فالمراد بها المعنى الذي يليق بالله.

قال السعدي في تفسيره (4/412) :

(3)

[ليس كمثله شيء] أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله لأن أسماءه كلها حسنى وصفاته وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.

ص: 234

أنداداً فقال: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} (1)[النحل: 74] وقال: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} (2)

[البقرة: 22] وكلامه تعالى كله حق يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض.

ثانيها: أن يقال له ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات فسيقول بلى فيقال له فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات فإن القول في الصفات كالقول في الذات ومن فرق بينهما فقد تناقض!! (3) .

(1)

والشاهد قوله {فلا تضربوا لله الأمثال} المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه قاله السعدي (3/71) .

(2)

قال السعدي في تفسيره (1/42) :

{فلا تجعلوا لله أنداداً] أي: أشباهاً ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونه وهو مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا ينفعونكم ولا يضرون.

{وأنتم تعلمون} أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في الألوهية والكمال فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك هذا من أعجب العجب وأسفه السفه.

(3)

قال الشنقيطي في كتابه منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص37:

القول في الصفات جميعها من باب واحد:

أولاً: إن يعلم طالب العلم أن جميع الصفات من باب واحد إذ لا فرق بينها البتة لأن الموصوف بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم البتة فكما إنكم أثبتم له سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع الحوادث وأبصارهم فكذلك يلزم إن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه.

واعلموا أن رب السموات والأرض يستحيل عقلاً أن يصف نفسه بما يلزمه محذور ويلزمه محال أو يؤدي إلى نقص كل ذلك مستحيل عقلاً فان الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، على حد قوله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11]

القول في الصفات كالقول في الذات:

الثاني: أن تعلموا إن الصفات والذات من باب واحد، فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان لا إثبات كيفية مكيفة محددة فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات وإيمان ووجود لا إثبات كيفية وتحديد.

ص: 235

ثالثها: أن يقال ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية فسيقول بلى فيقال له إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.

القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو التشبيه ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات أم خاصاً فيهما أو في أحدهما (1) فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً وسموا بذلك تأويلاً وهو في الحقيقة تحريف.

ومذهبهم باطل من وجوه:

أحدهما: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.

(1)

ذكر المؤلف في هذه العبارة أنواع التعطيل وقد أشكل عليَّ هذا التقسيم فاتصلت بالشيخ الفاضل خالد المزيني الذي قام بعرض السؤال جزاه الله خيراً على المؤلف وأفاد بهذا الجواب وفيما يلي نص رسالته:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الأخت السائلة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

. وبعد،،،

جواب السؤال، سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات قال شيخنا المراد بهم غلاة الجهمية.

أم خاصاً فيهما: أي هناك من ينكر بعض الصفات وهذا واضح وهناك من ينكر بعض الأسماء وهذا واضح. وهناك من ينكر بعض الأسماء كإحدى فرق المعتزلة فإنها تثبت ثلاثة أسماء حي، عليم، قدير، وتنفي ما سوى ذلك.

أو في أحدهما: أي الأسماء كالمعتزلة عموماً أو في الصفات وهم الأشاعرة وغيرهم وأنا أقترح عليكم النظر في كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني فإنه قد ذكر فرق المعتزلة ومثله كتاب الفرق بين الفرق للاسفرائيني

كتبه خالد المزيني

ص: 236

الوجه الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره والله تعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.

الوجه الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بلا علم وهو محرم لقوله تعالى: {قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ولقوله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (1)[الإسراء: 36] .

فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:

الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله ورسوله كذا (2) مع أنه ظاهر الكلام.

الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا (3) لمعنى آخر لا يدل على ظاهر الكلام وإذا كان من المعلوم أن تعيين احد المعنيين المتساويين (4)

في الاحتمال قولا (5) بلا علم فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟ (6) .

(1) سبق بيان معنى الآية.

(2)

أى يقول ليس المراد من الاستواء العلو مع أنه ظاهر الكلام.

(3)

فالمراد بالاستواء الاستيلاء على زعمهم.

(4)

مثاله (القرء) فإنه يحتمل الطهر ويحتمل الحيض فهنا لو عين أحد هذين المعنيين بلا قرينة لكان قائلاً بلا علم.

(5)

كذا في نسخة المؤلف ونسخة عبد المقصود وصوابه بالرفع على انه خبر أن ولا أدري ما وجه النصب.

(6)

كالاستيلاء.

ص: 237

مثال ذلك: قوله تعالى لإبليس: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص:75] فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين (1) وإنما أراد كذا وكذا (2) قلنا له: ما دليلك على ما نفيت وما دليلك على ما أثبت فإن أتى بدليل - وأنى له ذلك - وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته (3) .

الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها فيكون باطلاً لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.

الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:

هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا (4) .

ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم (5) ثم يقال له: هل تعلم كلاماً افصح وأبين (6) من كلام الله تعالى؟ فسيقول: لا.

ثم يقال له: هل تظن أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعمى الحق على الخلق في

(1) وقد فهموا من ذلك الجارحتين ولا شك ان هذا غير مراد.

(2)

كالنعمة والقدرة.

(3)

والحق ان لله يدين تليقان به.

(4)

فان قال نعم: كفر.

(5)

فان قال لا: كفر لأنه مكذب لله.

الفصاحة في اللغة الظهور والبيان، تقول: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره والفصاحة صفة توصف بها اللفظة المفردة والكلام والمتكلم فيقال: لفظة فصيحة وكلام فصيح ورجل فصيح وتتمثل فصاحة اللفظة في خلوها من تنافر الحروف وغرابة اللفظ ومخالفة القياس.

(6)

انظر المعجم المفصل في البلاغة د. أنعام عكاوي ص618 والبلاغة لحفني ناصف ص146.

ص: 238

هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.

أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:

هل أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.

ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله صدق وحق؟ فسيقول: نعم.

ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.

ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.

فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ (1)

(1) ومن هؤلاء الذين كان لهم الشجاعة في ذلك هو والد إمام الحرمين في كتابه النصيحة في صفات الله حين قال في ص18:

وأعرفهم - أيدهم الله بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده - أنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل:

(مسألة الصفات) .

(ومسألة الفوقية) .

(ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد) .

وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها أو الوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل.

فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله، ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت.

ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء: بالقهر والاستيلاء وتأول النزول: بنزول الأمر وتأول اليدين: بالنعمتين والقدرتين وتأول القدم: بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك. ،..... ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله =

ص: 239

وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟ .

وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق به فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟ .

أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: {ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65] .

أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها وتعيين معنى آخر مخاطرة منك فلعل المراد يكون - على تقدير جواز صرفها - غير ما صرفتها إليه

الوجه السادس: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.

= معنى قائماً بالذات، بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.

ومما ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى عرفت منهم فرائض

ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، وليَّ فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم.

ثم أنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، واجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها.

فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو، والاستواء، مخافة الحصر والتشبيه.

ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الوارد في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبراً عن ربه واصفاً له بها وأعلم بالاضطرار أنه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم، والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص التي كان صلى الله عليه وسلم يصف بها ربه لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء - مشايخي الفقهاء المتكلمون - مثل تأويلهم الاستواءُ بالاستيلاء. والنزول: بنزول الأمر وغير ذلك..

ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفة لربه من الفوقية واليدين وغيرهما مثل أن ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخر باطنه غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرتبة، ويد النعمة، وغير ذلك. ا. هـ.

ص: 240

فمن أوجه اللوازم:

أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه (1)

مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه (2) .

(1)

أي ذلك الظاهر.

(2)

فقوله {بل يداه مبسوطتان} اعتقد المعطلة إنهما يدان كأيدي المخلوقين وهذا التشبيه ان قيل بظاهرة فهو كفر والصواب إنهما يدان تليقان بالله.

قال الشنقيطي في كتابه منهج لدراسة الأسماء والصفات ص35:

التعطيل سببه اعتقاد التشبيه أولاً:

فاسمعوا أيها الأخوان نصيحة مشفق واعلموا أن كل هذا الشر إنما جاء من مسألة هي نجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه، كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، وكاستوائه على عرشه، وكمجيئه يوم القيامة، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق، فيكون قلبه متنجساً بأقذار التشبيه لا يقدر الله حق قدره ولا يعظم الله حق عظمته حيث يسبق إلى ذهنه ان صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيكون أولاً نجس القلب متقذره بأقذار التشبيه فيدعوه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا عنه بادعاء انها تشبه صفات المخلوق فيكون أولاً مشبهاً وثانياً معطلاً فصار ابتداء أو انتهاء متهجماً على رب العالمين بنفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق.

واعلموا أن هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا سيما في العقائد ولو مشينا على فرضهم الباطل أن ظاهر آيات الصفات الكفر فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء بـ " الاستيلاء " ولم يؤول شيئاً من هذه التأويلات ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة. فالحاصل أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميع الشبه ويجيب على جميع الأسئلة وهو: أن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فليملأ صدره من التعظيم ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين فيكون القلب منزهاً معظماً له جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمدح بها وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] والشر كل الشر في عدم تعظيم الله وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة الخائنة.

ص: 241

وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر لأنه تكذيب لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: " ومن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً "(1) ا. هـ

ثانياً: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبياناً لكل شيء وهدى للناس وشفاء لما في الصدور ونوراً مبيناً وفرقاناً بين الحق والباطل لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم يثبتون لله ما يشاؤون وينكرون ما لا يريدون وهذا ظاهر البطلان.

ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين (2) أو مقصرين (3) في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسموه تأويلاً.

وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة وكلا الأمرين باطل (4) .

رابعاً: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعاً للناس فيما يعتقدونه في ربهم

(1) رواه الذهبي في العلو ص172، وفي مختصر العلو ص184 وصحح إسناده الألباني

(2)

أي قاصرين وجاهلين عن معرفة الحق وهذا محال كما قال شيخ الإسلام في الحموية ص199:

من المحال ان تكون القرون الفاضلة غير عالمين بالحق.

(3)

أي لم يعجزوا بل علموا لكن قصروا في عدم البيان وهذا محال فكيف يقصر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيان؟!

(4)

انظر الفتوى الحموية ص200.

ص: 242

وإلههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً إن لم يتمكنوا من تكذيبه.

خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقال في قوله تعالى: {وجاء ربك} [الفجر: 22] إنه لا يجيء وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم وأظهر علامات المجاز عند القائلين به (1) صحة نفيه (2)

ونفي ما

(1) إشارة إلى أن في المسألة قولاً ثانياً وقد سبق.

(2)

في كلام المؤلف (ان أظهر علامات المجاز صحة نفيه) أمران:

الأول: ان صحة النفي أظهر علامة وما قاله المؤلف هو الذي قدمه في مختصر التحرير المطبوع مع شرحه (1/180) أما الذي قدمه في جمع الجوامع فخلاف ما قاله المؤلف ولهذا قال الزركشي في تشنيف المسامع (1/472) : يعرف المجاز بوجوه: أولها: وهو الأقوى ولهذا صدر به ان يتبادر غيره إلى الفهم لولا القرينة ا. هـ

الأمر الثاني: الذي في كلام المؤلف ان هناك علامات أخرى للمجاز وهي:

أ - أن يتبادر غير المجاز إلى الذهن لولا القرينة الحاضرة.

ب - عدم وجوب اطراد علاقته فالعلاقة التي في قوله تعالى {واسأل القرية} لا تطرد فلا يقال: اسأل البساط ولا الحصير.

ت - وفرقوا بين الحقيقة والمجاز باختلاف صيغة جمع مفرديهما فإن لفظ الحقيقة إذا جمع على صيغة ثم جمع ذلك اللفظ على صيغة أخرى كان في الحالة الثانية مجازاً

مثاله: لفظ " الأمر " إذا استعمل في القول المخصوص الدال على التكليف فإنه يجمع على: " أوامر " وإذا استعمل في الدلالة على الحال والشأن والفعل جمع على " أمور " فدل ذلك على أنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني

ج-

يعرف أيضاً بالتزام تقييده كجناح الذل، ونار الحرب فان الجناح والنار يستعملان في مدلولهما الحقيقي من غير قيد.

وهناك علامات أخرى، انظر:

شرح الكوكب المنير (1/182) ، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (1/325) ، حاشية التفتازاني والجرجاني على مختصر ابن الحاجب (1/153) ، الإحكام للآمدي (1/31) ، المستصفى للغزالي المطبوع مع فواتح الرحموت (1/342) وفي (3/33) من الطبعة التي حققها د. حمزة زهير، وإرشاد الفحول للشوكاني. =

ص: 243

أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.

ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات (1) أو تعدى إلى الأسماء (2) أيضاً ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض كالأشعرية والماتريدية أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه (3) أو لا يدل عليه.

فنقول لهم نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي.

مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة ونفوا صفة الرحمة.

أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها.

- أما السمع: فمنه قوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة:253]

- وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة (4) .

ونفوا الرحمة وقالوا: لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم وهذا محال في حق الله تعالى.

= (1/123) ، وبطلان المجاز للصياصنة ص33 وانظر الرد على هذه العلامات في مختصر الصواعق لابن القيم ص278 إلى ص290.

(1)

كما فعل المعتزلة.

(2)

كما فعل غلاة الجهمية.

(3)

فنفوا المجيء والنزول ونحوهما بحجة ان العقل لا يدل عليها.

(4)

قال الشيخ ابن عثيمين في شرح التدمرية ص72 من المخطوط:

(والتخصيص دل على الإرادة) يعنى تخصيص الشيء بما هو عليه دال على الإرادة. عندما يخلق الله من هذه النطفة ذكراً ومن النطفة الأخرى أنثى فهذا يدل على أنه أراد أن تكون هذه النطفة ذكراً وأراد أن تكون النطفة الأخرى أنثى.

فتخصيص كل شيء وبوقته يدل على الإرادة. لأنه لولا الإرادة ما كان هذا ذكراً وهذه أنثى. فتخصيص المخلوق بما هو عليه دليل على الإرادة.

ص: 244

وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة (1)

إلى الفعل (2) أو إرادة الفعل (3) ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام.

فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية وأدلة ثبوتها أكثر عدداً وتنوعاً من أدلة الإرادة فقد وردت بالاسم مثل: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة:1] والصفة مثل: {وربك الغفور ذو الرحمة} [الكهف:58] والفعل مثل: {ويرحم من يشاء} [العنكبوت: 21] .

ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله عز وجل ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة لظهور ذلك للخاصة والعامة بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.

وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة فجوابه أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة وهذا يستلزم الحاجة والله تعالى منزه عن ذلك (4) .

فإن أجيب بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.

وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كان تعطيلاً عاماً (5) أم خاصاً (6) .

وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما

(1) فسروا الرحمة إما بـ:

أ - الإرادة فهنا أولوا صفة بصفة.

ب - الإنعام وهذا تفسير باللازم.

وأهل السنة يثبتون الصفة وهي الإرادة ويثبتون الإنعام.

(2)

أي الإنعام أو المنعم.

(3)

أي إرادة الإنعام أو مريد الإنعام

(4)

انظر شرح التدمرية لفالح آل مهدي ص77

(5)

. كنفي الأسماء والصفات، أو نفي جميع الصفات.

(6)

كنفي بعض الصفات، أو نفي بعض الأسماء.

ص: 245

احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة.

الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفى ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقلياً وأولتم دليله السمعي فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقلياً ونؤل دليله السمعي فلنا عقول كما أن لكم عقولاً فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم وإتباع الهوى.

وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا الرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً لا تمثيل فيه ولا تكييف وتنزيهاً لا تعطيل فيه ولا تحريف ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

(تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل وكل ممثل معطل:

أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثل أولاً وعطل ثانياً كما أنه بتعطيله مثله بالناقص.

وأما تمثيل الممثل فظاهر وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه:

الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة حيث جعله دالاً على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل.

الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه.

الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص (1) .

(1) انظر تلخيص الحموية ص97.

ص: 246

الفصل الرابع

ص: 247

الفصل الرابع

شبهات والجواب عنها

اعلم ان بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه (1) وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟

ونحن نجيب - بعون الله تعالى - عن هذه الشبهة بجوابين مجمل (2) ومفصل أما المجمل فيتلخص في شيئين:

أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام والكلام مركب من كلمات وجمل يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض (3) .

ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف عن ظاهرها فإن لهم في

(1) أي السكوت فلا نتكلم عنهم.

(2)

المجمل في اللغة: هو المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم ويطلق على المجموع من أجمل الحساب إذا جمع وجعل جملة واحدة قال الفيومي رحمه الله: " أجملت الشيء إجمالا: جمعته من غير تفصيل ".

انظر أثر الإجمال في الفقه للدكتور الحفناوي ص8 وبيان ما هو مجمل لعبد الله الشنقيطي ص9.

(3)

سبق بيان ذلك في القاعدة الرابعة من قواعد الأدلة 0

ص: 249

ذلك دليلاً من الكتاب والسنة إما متصلاً وإما منفصلاً (1) وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفى ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما المفصل فعلى كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره.

ولنمثل بالأمثلة التالية فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي (2) عن بعض الحنبلية أنه قال: إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض "" وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن "" وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن "

نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص (398) جـ (5) : من مجموع الفتاوى وقال: " هذه الحكاية كذب على أحمد ".

*****

**

(1)

المتصل ما لا يستقل بنفسه كالاستثناء والشرط والصفة من النعت والبدل والحال.

أما المنفصل فهو ما يستقل بنفسه كالحس والعقل والشرع

ملاحظة: انظر المثال على ذلك فيما سيأتي في المثال الثاني عشر من كلام المؤلف وما ذكرناه في الحاشية.

(2)

ذكره في الإحياء (1/179) ، وانظر شرح ذلك في إتحاف السادة المتقين (2/139)

ص: 250

المثال الأول:

" الحجر الأسود يمين الله في الأرض (1) "

والجواب عنه: أنه حديث باطل لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2) : " هذا حديث لا يصح ".

وقال ابن العربي: " حديث باطل فلا يلتفت إليه "(3)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت (4)

ا. هـ

(1) قالوا: فظاهر الأثر أن الحجر نفسه يمين الله في الأرض وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد. وقد ذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة (3/174) ان ابن الفاعوس الحنبلي ت سنة 521هـ كان يسمى بالحجري لأنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة وسننقل في الملحق نص كلامه.

والرد على المعطلة من وجهين ذكرهما المؤلف:

أ-

عدم صحة الحديث وسيأتي ان بعض أهل العلم قد صححه.

ب-

على فرض صحته فقد قيده في الأرض ولم يطلق وسيأتي انه قد أطلق في بعض الأحاديث ومع ذلك فانه لا يدل على ان الحجر صفة لله.

(2)

العلل لابن الجوزي (2/575) ، وانظر تلخيص العلل للذهبي ص191.

(3)

نقله المناوي في فيض القدير (3/409) .

(4)

الفتاوى (6/397) .

تخريج الحديث:

الحديث روى مرفوعاً وموقوفاً.

أما المرفوع فروى من طرق:

أ - جابر بن عبد الله:

رواه الخطيب في تاريخ بغداد (6/328) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق كما نقله الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/129) .

ورواه أيضاً ابن عدي في الكامل (1/342) وقال: انه من رواية إسحاق بن بشر وهو في عداد من يضع الحديث ا. هـ

ورواه أيضاً الديلمي في الفردوس (2/159) .

وقال الذهبي في تلخيص العلل ص191: فيه انسحاق بن بشر - كذاب ا. هـ

وقال خلدون الأحدب في زوائد تاريخ بغداد (5/321) ان الحديث موضوع.

ب - عبد الله بن عمرو:

رواه الحاكم في المستدرك (1/628) .

وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/179) : حديث الحجر يمين الله في الأرض، الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمرو ا. هـ

ورواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه (4/221) والطبراني في المعجم الأوسط (1/178) من طبعة دار الحرمين، و (1/337) من طبعة الطحان.

رواه الديلمي في الفردوس (2/159)

وروى موقوفاً أيضاً من طريق ابن عباس.

فقد رواه ابن قتيبة في غريب الحديث (2/96) ، والأزرقي في تاريخ مكة (1/324) ،

وقال البوصيري في إتحاف المهرة (4/75) : رواه محمد بن يحيى بن أبي عمر موقوفاً بإسناد الصحيح ا. هـ

وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية من النسخة المسندة (2/37) هذا موقوف صحيح ا. هـ

وفي حاشية النسخة المجردة من الإسناد (1/340)، قال: هذا موقوف جيد ا. هـ

وعزاه العجلوني في كشف الخفاء (1/349) إلى القضاعي والحارث ابن أبي أسامة ولم أره في بغية الباحث ولا الاتحاف ولا المطالب.

وقد صحح الحديث موقوفاً السخاوي كما نقله عنه ابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث ص77.

وقال العجلوني: الحديث له شواهد فهو حديث حسن وإن كان ضعيفاً بحسب أصله ومثله مما لا مجال للرأي فيه ا. هـ

والخلاصة أن الحديث صحح موقوفاً ومثله لا مجال للرأي فيه.

وأما مرفوعاً فقد اختلف فيه على أقوال:

1 -

أنه صحيح كما نقله العراقي عن الحاكم وهو قول ابن خزيمة لأنه في صحيحه.

2 -

أنه حسن كما هو قول العجلوني.

3 -

انه باطل وبه قال ابن الجوزي وابن العربي.

ص: 251

وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه ".

لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والمشهور يعنى في هذا الأثر إنما هو عن ابن عباس قال: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " (1) ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه فإنه قال: " يمين الله في الأرض " ولم يطلق (2) فيقول: " يمين الله " وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق ثم قال: " فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى كما هو معلوم عند كل عاقل " ا. هـ ص (398) مجلد (6) مجموع الفتاوى.

4 -

ان إسناده لا يثبت وهو قول ابن تيمية.

5 -

انه موضوع وهو قول خلدون الأحدب.

6 -

انه ضعيف وهو قول الألباني في السلسلة الضعيفة (1/257)

وقال الهيثمي في المجمع (3/245) : وفيه عبد الله ابن المؤمل وثقه ابن حبان وقال: يخطى وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح ا. هـ.

وانظر الكلام على الحديث في:

حاشية الصباغ على الأسرار المرفوعة لملا علي قاري ص134.

وأسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب لمحمد الحوت ص17.

(1) سبق ان ذكرنا ذلك ومن صححه، وانظر الفتاوى (5/398) .

(2)

وقد أطلق في حديث آخر من رواية عبد الله بن عمرو وقد رواه الحاكم وابن خزيمة كما سبق ولفظ الحديث عند ابن خزيمة:

ثنا الحسن الزعفراني، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا عبد الله بن المؤمل، سمعت عطاء، يحدث عن عبد الله بن عمرو:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان، يتكلم عن من استلمه بالنية، وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه " ا. هـ

ولا شك انه مع الإطلاق لا يدل على ان الحجر صفة لله فهو من المضاف المنفصل عنه كالبيت والناقة فيكون مخلوقاً، أو يحمل المطلق على المقيد.

ص: 253

ملحق المثال الأول

ذكرنا أننا سننقل نص كلام الحافظ ابن رجب في ترجمة ابن الفاعوس وهذا نص كلامه:

وقال: كان أبو القاسم بن السمرقندي يقول: إن أبا بكر بن الخاضبة كان يسمى ابن الفاعوس الحجرى لأنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة. قلت: إن صح عن ابن الفاعوس أنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة فأصل ذلك: أن طائفة من أصحابنا وغيرهم نفوا وقوع المجاز في القرآن ولكن لا يعلم منهم من نفي المجاز في اللغة (1) كقول أبي إسحاق الإسفراينى ولكن قد يسمع بعض صالحيهم إنكار المجاز في القرآن فيعتقد إنكاره مطلقاً ويؤيد ذلك: أن المتبادر إلى فهم أكثر الناس من لفظ الحقيقة والمجاز: المعاني والحقائق دون الألفاظ.

فإذا قيل: إن هذا مجاز فهموا أنه ليس تحته معنى ولا له حقيقة فينكرون ذلك وينفرون منه ومن أنكر المجاز من العلماء فقد ينكر إطلاق اسم المجاز لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد ويصير ذريعة لمن يريد جحد حقائق الكتاب والسنة ومدلولاتهما.

ويقول: غالب من تكلم بالحقيقة والمجاز هم المعتزلة ونحوهم من أهل البدع وتطرفوا بذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه فيمنع من التسمية بالمجاز ويجعل جميع الألفاظ حقائق، ويقول: اللفظ ان دل بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى وإن دل بقرينة فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر فهو حقيقة في الحالين.

وإن كان المعنى المدلول عليه مختلفاً فحينئذ يقال: لفظ اليمين في قوله سبحانه وتعالى: (39/67والسماوات مطويات بيمينه) حقيقة وهو دال على الصفة الذاتية. ولفظ اليمين في الحديث المعروف: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه فكأنما صافح الله عز وجل "

(1)

سبق التعليق على هذا الكلام.

ص: 254

وقيل يمينه يراد به مع هذه القرائن المحتفة به - محل الاستلام والتقبيل.

وهو حقيقة في هذا المعنى في هذه الصورة وليس فيه ما يوهم الصفة الذاتية أصلاً بل دلالته على معناه الخاص قطعية لا تحتمل النقيض بوجه ولا تحتاج إلى تأويل ولا غيره.

وإذا قيل: فابن الفاعوس لم يكن من أهل هذا الشأن - أعني: البحث عن مدلولات الألفاظ؟

قيل: ولا ابن الخاضبة كان من أهله وإن كان محدثاً وإنما سمع من ابن الفاعوس، أو بلغه عنه إنكار أن يكون هذا مجازاً، لما سمعه من إنكار لفظ المجاز فحمله السامع لقصوره أو لهواه على أنه إذا كان حقيقة لزم أن يكون هو يد الرب عز وجل التي هي صفته وهذا باطل والله أعلم.

**********

****

ص: 255

المثال الثاني: (1)

" قلوب العباد بين أصبعين (2) من أصابع الرحمن "

والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم (3) في الباب الثاني من كتاب القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن قلوب بنى آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ".

وقد اخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث (4)

وقالوا ان لله تعالى

(1)

هذا هو المثال الثاني الذي أورده أهل التعطيل على أهل السنة بأنهم أولوا ظاهر هذا الحديث فقالوا:

أ - ان ظاهر هذا الحديث ان قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة وأن تكون أصابع الله داخل أجوافنا وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.

ب - ظاهر الحديث ان لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد وسوف يرد المؤلف على زعمهم هذا.

(2)

قال المؤلف: أصبع: مثلث الهمزة والباء ففيه تسع لغات والعاشرة أصبوع كما قيل

وهمزأ نملة ثلث وثالثه

التسع في أصبع واختم بأصبوع

أصبوع بضم الهمزة

وانظر الغرر المثلثة والدرر المبثثة للفيروز آبادي ص266.

(3)

انظر شرح مسلم للنووي (16/204) .

(4)

ظن شراح هذا الحديث ان ظاهر الأصبع الجارحة وهي على الله محال إذ لو كانت جارحة وأعضاء لكان كل جزء منه مفتقراً إلى الآخر فتكون جملته محتاجة وذلك يناقض الألوهية وحكوا أن فيها مذهبين:

الأول: التفويض.

الثاني: التأويل بحسب ما يليق.

قال القرطبي في المفهم (6/672) :

وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في =

ص: 256

أصابع حقيقية نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين أصبعين منها أن تكون مماسه لها حتى يقال إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما (1)

فقلوب بنى آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول (2)

= كفى وفي قبضتي يراد به: أنه متمكن من التصرف فيه والتصريف له كيف شاء، وأمكن من ذلك في المعنى مع إفادة التيسير أن يقال: فلان بين إصبعي أصرفه كيف شئت يعنى: أن التصرف متيسر عليه غير متعذر وقال بعضهم: يحتمل أن يريد بالإصبع هنا النعمة وحكي أنه يقال: لفلان عندي إصبع حسنة أي نعمة كما قيل في اليد فإن قيل: فلأي شيء ثنى الإصبع ونعمه كثيرة لا تحصى؟ قلنا لأن النعم وإن كانت كذلك فهي قسمان نفع ودفع فكأنه قال: قلوب بني آدم بين أن يصرف الله عنها ضراً وبين أن يوصل إليها نفعاً ا. هـ

وانظر شروح مسلم لكل من:

النووي (16/204) ، الأبي والسنوسي (7/88) ، والديباج للسيوطي (6/18) .

(1)

وقد رد المؤلف على أقوالهم بأنه لا يلزم من إثبات الأصبع ما ذكروه. ويقال: سترة المصلي بين يديه وليست مباشرة له ولا مماسة له.

فإذا كانت البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات فكيف بالبينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو بكل شيء محيط.

وقد دل السمع والعقل على أن الله تعالى بائن من خلقه ولا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه وأجمع السلف على ذلك وهذا هو الوجه الأول.

ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسداً وحينئذ يكون مراداً قطعاً فإن لله تعالى أصابع حقيقية تليق به ولا تماثل أصابع المخلوقين وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضيين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات = مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " هذا لفظ البخاري في تفسير سورة الزمر.

فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال إنه غير مراد؟

(2)

قال شيخ الإسلام في التدمرية ص73:

ص: 257

المثال الثالث:

" إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن "

والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند (1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أن الإيمان يمان والحكمة يمانية وأجد نفس ربكم من قبل اليمن " قال في مجمع الزوائد (2) : رجاله رجال الصحيح غير شبيب (3) وهو ثقة قلت: وكذا قال في التقريب (4) عن شبيب: ثقة من الثالثة وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير (5) .

وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر (6) نفس يُنفِّس

= وأما قوله: {قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن} فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها ولا أنها في جوفه ولا في قول القائل: هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه وإذا قيل: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض ا. هـ

(1)

(2/541) .

(2)

للهيثمي (10/59) .

(3)

أي شبيب بن نعيم أبي روح.

(4)

لابن حجر (1/346) وقال: أخطأ من عده في الصحابة ا. هـ

(5)

انظر التاريخ الكبير (4/231) .

وانظر ترجمته في تهذيب الكمال للمزي (13/371) وتهذيب التهذيب لابن حجر (4/309) .

والحديث الذي ذكره المؤلف رواه أيضاً الطبراني في المعجم الكبير (7/52) من حديث سلمة بن نفيل، ورواه البزار في مسنده (9/150) وقال وهذا الحديث لا نعلم أحداً يرويه بهذه الألفاظ إلا سلمة بن نفيل وهذا أحسن طريقاً يروى في ذلك عن سلمة ورجاله رجال معروفون من أهل الشام مشهورون إلا إبراهيم بن سليمان الأفطس ا. هـ

وانظر ترجمة سلمة في الإصابة (3/130) ، وتهذيب الكمال للمزي (11/323) .

(6)

اسم المصدر اصطلاحاً هو: اسم مساو للمصدر في الدلالة على المعنى المجرد دون =

ص: 258

تنفيساً مثل فرج يفرج تفريجاً وفرجاً هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية (1) والقاموس (2) ومقاييس اللغة (3) قال في مقاييس اللغة: " النفس كل شيء يفرج به عن مكروب " فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالى عن المؤمنين يكون من أهل اليمن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة وفتحوا الأمصار فيهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات " ا. هـ جـ (6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم.

******

= تقيد بزمان ولكنه يخالفه بنقص بعض حروفه لفظاً وتقديراً دون تعويض مثل: الفعل " أعطى " مصدره الأصلي: " إعطاء " فإذا قلنا " عطاء " كان مساوياً للفظ " إعطاء " وينقص عنه الهمزة في أوله دون أن يعوض منها بشيء لفظاً وتقديراً فإن كان النقص في اللفظ فقط دون التقدير فاللفظ مصدر وليس باسم مصدر مثل =

: " قاتل قتالاً " والأصل: قيتالاً خلا اللفظ " قتالاً " من " الياء " ولكنها مقدرة وإن خلا الحرف لفظاً وعوض منه بشيء فهو مصدر وليس باسم مصدر فتقول في: " وعد " المصدر الأصلي " وعداً " أو " عدة " فقد حذفت " الواو " وعوض منها بالتاء المربوطة في الآخر فالمصدر الذي حذف منه حرف ولم يعوض منه بشيء يسمى: اسم مصدر مثل: " كلاماً " وتكلماً ا. هـ

انظر المعجم المفصل في النحو العربي للدكتورة عزيزة فوال.

(1)

النهاية لابن الأثير (5/93) .

(2)

للفيروز آبادي ص745، وشرح القاموس للزبيدي (4/259) .

(3)

لابن فارس (5/460) .

ص: 259

المثال الرابع:

قوله تعالى:} ثم استوى إلى السماء { [البقرة: 29]

والجواب: أن لأهل السنة في تفسيرها قولين:

أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء وهو الذي رجحه ابن جرير (1)

قال في تفسيره بعد ان ذكر الخلاف: (وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثم استوى إلى السماء فسواهن} [البقرة:29] علا عليهن وارتفع بقدرته وخلقهن سبع سموات) ا. هـ

وذكره البغوي في تفسيره (2) قول ابن عباس (3) وأكثر مفسري السلف

(1) في تفسيره (1/192) وقال:

والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثم استوى إلى السماء} الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله {استوى] : أقبل أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فان زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير. قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله. ا. هـ

وقال السمين في الدر المصون (1/171) ان من معاني استوى: علا وارتفع واستشهد بقول الشافعي:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة

وقد حلق النجم اليماني فاستوى

وكذا قال القرطبي في تفسيره (1/254) .

واختار هذا القول الربيع بن أنس كما حكاه أبو حيان في البحر المحيط (1/280) وقدم هذا القول ابن عطية في تفسيره (1/223) ، والثعالبي في الجواهر (1/58) والألوسي في تفسيره (1/215) .

(2)

(1/59) .

(3)

وضعف هذا النقل القرطبي في تفسيره (1/254) وما هو بضعيف فقد نقله جمع كثير وانظر الوسيط للواحدي (1/112)

ص: 260

وذلك تمسكاً بظاهر لفظ {استوى} وتفويضاً لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله عز وجل.

القول الثاني: أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة (1) والبغوي في تفسير سورة فصلت (2) قال ابن كثير: " أي قصد إلى السماء والاستواء ههنا ضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى " قال البغوي: " أى عمد إلى خلق السماء".

وهذا القول ليس صرفاً للكلام عن ظاهره وذلك لأن الفعل " استوى " اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء (3)

فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به ألا ترى إلى قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6] حيث كان معناها يروى بها (4) عباد الله لأن الفعل " يشرب " اقترن بالباء

(1)(1/101) .

(2)

(4/109) .

واختار هذا القول جمع من المفسرين منهم:

السمين الحلبي (1/172) ، والنسفي (1/76) والخازن (1/34) ، وصديق حسن خان (1/120) ، وابن الجوزي (1/58) .

وانظر الأقوال الأخرى التي خالفت منهج السلف في:

تفسير الرازي (1/143) ، والبحر المحيط لأبي حيان (1/280) وبحر العلوم للسمرقندي (1/106) ، والسراج المنير للشربيني (1/43) وحاشية محي الدين زاده على البيضاوي (1/235) .

(3)

وهو حرف (إلى) وانظر الكلام عليه في:

الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي ص385.

وموسوعة الحروف د. إميل يعقوب ص106.

وحروف المعاني للزجاجي ص65 وص79.

ورصف المباني في شرح حروف المعاني للمالقي ص166 ومغني اللبيب لابن هشام (1/74) ومختصره للشيخ ابن عثيمين ص24 وحاشية الدسوقي على مغنى اللبيب (1/79) .

(4)

ما ذكره المؤلف هو أحد الأقوال في المسألة وفيها أقوال أخرى هي:

أ - أنها زائدة وهي بمنزلة يشربها واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره (15/235)

ب - ان الباء للتعدية بمعنى الاتصاف وضمن يشرب معنى يروى فعدى بها كما في تفسير الآلوسي (29/174) واختار هذا القول المؤلف.

ت - وقيل بمعنى (من) التبعضية والمعنى يشرب منها عباد الله وهذا اختيار الأصمعي =

ص: 261

فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى فالفعل يضمن (1) معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام.

******

= كما في تفسير الطاهر بن عاشور (29/381) .

وفي المسألة أقوال أخرى، انظر:

الجمل (8/186) البحر المحيط (8/837) ، حاشية شيخ محي الدين زاده على البيضاوي (4/588) ، زاد المسير (8/430) ، الدر المصون (6/440) .

(1)

-

التضمن:

لغة: مصدر تضمن الشيء: التزمه وغرمه.

واصطلاحاً: إعطاء اللفظ معنى لفظ آخر وحكمه ويسمى أيضاً: التضمن النحوي ويقع التضمين في أبواب منها.

في باب حروف المعاني وذلك يكون في ان يؤدي الحرف معنى حرف آخر مثل: " كتبت بالقلم "" الباء " معناها الاستعانة بالقلم ومثل قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} حملت الباء معنى التعدية فتعدى بواسطتها الفعل " ذهب " إلى مفعول به والتقدير: أذهب الله نورهم ومثل: " بعتك الزيت رطلاً بعشرين درهماً " فقد أدت " الباء " معنى التعويض أو التسعير ومثل: أمسكت بيد الأعمى " فقد أدت " الباء " معنى الإلصاق ومثل قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} فقد أدت " الباء " معنى التبعيض أي: منها أو يروى على الخلاف الذي سبق.

انظر المعجم المفصل في النحو د. عزيزة فوال.

ص: 262

**المثال الخامس والسادس: (1)

قوله تعالى في سورة الحديد:} وهو معكم أينما كنتم { [الحديد: 4] وقوله في سورة المجادلة} ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا { [المجادلة: 7]

والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره ولكن ما حقيقته وظاهره.؟

هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطاً بهم أو حالاً في أمكنتهم؟

أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطاً بهم علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وتدبيراً وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه. على عرشه فوق جميع خلقه؟

ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق ولا يدل عليه بوجه من الوجوه وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله عز وجل وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان وإنما تدل على مطلق مصاحبة ثم تفسر في كل موضع بحسبه (2)

(1) مراده ذكر آيتين وليس مثالين متغايرين.

(2)

قال الراغب في المفردات (2/608) :

مع: يقتضي الاجتماع إما في المكان نحو هما معاً في الدار أو في الزمان نحو ولدا معاً، وإما في الشرف والرتبة نحو: هما معاً في العلو ويقتضى معنى النصرة، وأن المضاف إليه لفظ مع هو المنصور نحو قوله:{لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] أي: الذي مع يضاف إليه في قوله الله معنا هو منصور أي ناصرنا وقوله: {ان الله مع الذين اتقوا} [النحل: 128] .

ص: 263

وتفسير معية الله تعالى لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:

الأول: أنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك بل كانوا مجمعين على إنكاره (1) .

الثاني: أنه مناف لعلو الله الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف وما كان منافياً لما ثبت بدليل كان باطلاً بما يثبت به ذلك المنافي وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلاً بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف.

= وقوله: {وهو معكم أينما كنتم} ب الحديد: 4] {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153]، {أن الله مع المتقين} [البقرة: 194] وقوله عن موسى: {إن معي ربي} [الشعراء: 62] ا. هـ

وقال السمين في عمدة الحفاظ (4/115) : {والله مع الصابرين} ونحوه فالمراد الصحبة بالمعونة والإثبات ا. هـ.

وأطلق أئمة اللغة العربية على أن المراد من المعية الصحبة ثم يفسر في كل موضوع بحسبه ويراجع في ذلك:

الجوهري في الصحاح (3/1286) ، وابن سيدة في المحكم (1/55) وابن منظور في اللسان (13/144) والفيروز آبادي في المحيط ص987، وشرحه للزبيدي (5/514) .

(1) وقد أجمع المفسرون على ان المراد بذلك العلم والقدرة أو الحراسة والحفظ ولم يقل أحد أن الله معنا بذاته.

قال الطبري في تفسيره (14/13) : هو فوق العرش وعلمه معهم ا. هـ

وللنظر في أقوال المفسرين يرجع إلى:

النسفي (3/447) ، وأبي حيان (8/217) والرازي (29/187) ، وابن كثير (6/98) والخازن (4/246) وابن عاشور (27/364) ، والشربيني (4/225) ، وابن الجوزي

(8/161) ، والماوردي (5/470) والآلوسي (27/168) ، والبغوي (4/294) ، والثعالبي (3/293) ، وحاشية محي الدين شيخ زاده (4/465) ، والجمل على الجلالين (9/440) ، والقرطبي (17/290) ، والشهاب على البيضاوي (9/121) ، وصديق حسن خان (14/19)

وقال ابن عطية في تفسيره (15/286) ، ان الأمة أجمعت على هذا التأويل ا. هـ

ولا يخفى ان كان مراده من التأويل هنا صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يكون الله معنا بذاته فلا شك أن هذا ليس ظاهراً وقد سبق ان الظاهر هو ما يتبادر إلى الذهن وهو يختلف بحسب السياق، وان كان مراده بالتأويل التفسير فهذا حق.

ص: 264

الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله سبحانه وتعالى ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وقدره حق قدره وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن يقول إن حقيقة معية الله

لخلقه تقتضي أن يكون مختلطاً بهم أو حالاً في أمكنتهم فضلاً عن أن تستلزم ذلك ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة جاهل بعظمة الرب جل وعلا.

فإن تبين بطلان هذا القول تعين أن يكون الحق هو القول الثاني وهو أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطاً بهم علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وتدبيراً وسلطاناً وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه.

وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب لأنهما حق ولا يكون ظاهر الحق إلا حقاً ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبداً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (103) ج (5) من مجموع الفتاوى لابن القاسم: " ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها} [الحديد: 4] إلى قوله {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم وهذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه (1) وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته وكذلك في قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم] إلى قوله: {هو معهم أينما كانوا} [المجادلة:7]

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: " لا تحزن إن الله معنا " كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد ".

ثم قال: " فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع

(1)

كان هذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه لأنه إذا كان معلوماً أن الله تعالى معنا مع علوه لم يبق إلا أن يكون مقتضى هذه المعية أنه تعالى عالم بنا مطلع شهيد مهيمن لا أنه معنا بذاته في الأرض، قاله المؤلف.

ص: 265

يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها " ا. هـ (1)

ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق أن الله تعالى ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة: 7] فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه سبحانه مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض أما في آية الحديد فقد ذكرها الله تعالى مسبوقة بذكر استوائه على عرشه

وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير} [الحديد: 4](2)

فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه لا أنه سبحانه مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض وإلا لكان آخر الآية مناقضاً لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه.

. فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه تعالى مع عباده أنه يعلم أحوالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويدبر شؤونهم فيحيى ويميت ويغنى ويفقر ويؤتي

(1) انظر شرح الواسطية لزيد بن فياض ص203.

(2)

. انظر فتح البيان لصديق حسن خان (13/398) .

ص: 266

الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة (1) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص (142) جـ 3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم في فصل الكلام على المعية قال: " وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة"ا. هـ (2)

(1) وقد سبق ان المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان.

(2)

انظر شروح الواسطية على هذه الآية.

وسئل الشيخ ابن عثيمين:

هل أحد سبق شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أن المعية حقيقية تليق بالله ينزه فيها الباري عن أن يكون مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم؟ وعن الحديث القدسي " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل

"؟ وعن قول ابن القيم في الصواعق - مختصرها - " فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته " هل هو صحيح وهل سبقه أحد من ذلك؟

فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم أحداً صرح بذلك لكن الذي يظهر أن الكلام فيها كغيرها من الصفات تفهم على حقيقتها مع تنزيه الله تعالى عما لا يليق به كما يفهم الاستواء والنزول وغيرهما ولهذا لم يتكلم الصحابة فيما أعلم بلفظ الذات في الاستواء والنزول أي لم يقولوا استوى على العرش بذاته أو ينزل إلى السماء الدنيا بذاته لأن ذلك مفهوم من اللفظ فإن الفعل أضيف إلى الله تعالى إما إلى الاسم الظاهر أو الضمير، فإذا أضيف إليه كان الأصل أن يراد به ذات الله عز وجل لكن لما حدث تحريف معنى الاستواء والنزول احتاجوا إلى توكيد الحقيقة بذكر الذات وكذلك لما حدث القول بالحلول وشَبَّه القائلون به بآيات المعية بَيَّن السلف بطلان تلبيسهم وأنه لا يراد بها أنه معهم بذاته مختلطاً بهم كما فهم أولئك الحلولية وأن المراد بها بيان إحاطته بالخلق علماً وذكروا العلم لأنه أهم الصفات متعلقاً ولأنها جاءت في سياقه.

والمهم أن هذه المسألة كغيرها من مسائل الصفات تجرى على ظاهرها على ما يليق بالله عز وجل وما ورد عن السلف فإنه داخل في معناها لأنه من لوازمه واقتصروا عليه خوف المحذور وإلا فلا يخفى أن حقيقة المعية أوسع من العلم وأبلغ، ولظهور هذه المسألة وأنها لم تخرج عن نظائرها لم يكن فيها كلام عن الصحابة رضي الله عنهم اللهم إلا ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره عنه، قال هو على العرش، وعلمه معهم، ثم اشتهر ذلك بين السلف حين انتشر تفسير الجهمية لها بالحلول. =

ص: 267

وقال في الفتوى الحموية ص (102-103) جـ (5) من المجموع المذكور:

وجماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد إتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبته مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب

= وأما سؤالكم عن الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " فأنت ترى أن الله تعالى ذكر في الحديث عبداً ومعبوداً ومتقرباً ومتقرباً إليه، ومحباً ومحبوباً وسائلاً " ومسئولاً ومعطياً ومعطى ومستعيذاً ومستعاذاً به ومعيذاً ومعاذاً فالحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر فإذا كان كذلك لم يكن ظاهر قوله كنت سمعه وبصره ويده ورجله أن الخالق يكون جزءاً من المخلوق أو صفاً فيه تعالى الله عن ذلك وإنما ظاهره وحقيقته أن الله تعالى يسدد هذا العبد في سمعه وبصره وبطشه ومشيه فيكون سمعه لله تعالى إخلاصاً وبه استعانة وفيه شرعاً وإتباعا وهكذا بصره وبطشه ومشيه.

وأما سؤالكم عن قول ابن القيم في الصواعق (مختصرها) فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته فهل يصح؟ وهل سبقه أحد في ذلك؟

فإن ابن القيم يرحمه الله تعالى قاله أخذاً بظاهر قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} فهذه الضمائر (عبادي)(عني)(فإني)(قريب)(أجيب)(دعان)(لى)(بي) كلها تعود إلى الله عز وجل فكما أنه نفسه المعبود المسئول عنه المجيب لدعوة الداعي الواجب الإيمان به فهو القريب كذلك ولا يلزم من ذلك الحلول لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته فهو قريب في علوه.

وقد سبقه إلى مثل ذلك شيخه شخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله تعالى - حيث قال في شرح النزول ص (508) جـ 5 من مجموع الفتاوى:

" ولهذا لما ذكر الله سبحانه قربه من داعيه وعابديه قال {وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} فهنا هو نفسه سبحانه القريب الذي يجيب دعوة الداع " إلى أن قال ص (510)" وأما قرب الرب قربا يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية، ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك، وكذلك كثير من أهل الكلام " ا. هـ.

ملاحظة: نقلنا فتوى الشيخ زيادة على موطن الشاهد لأن الباقي من الفتوى سيأتي في الأمثلة.

ص: 268

والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله تعالى: {وهو معكم} وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه "(1) .

ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 4] .

فأخبر انه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال (2) : " والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه "(3)

ا. هـ

(1) رواه البخاري كما طبعة في الفتح (1/307) ومسلم كما في طبعة شرح النووي (5/38) .

(2)

الأوعال: جمع وعل: وهو تيس الجبل وأراد بالأوعال: الأشراف والرؤوس شبههم بها لأنها تأوي إلى شعف الجبال، ومنه قول أبي هريرة: لا تقوم الساعة حتى تعلو التحوت وتهلك الوعول قيل وما التحوت؟ قال: سفول الرجال وأهل البيوت الغامضة والوعول: أهل البيوت الصالحة ا. هـ من حاشية الحموية للتويجري ص221

(3)

هذا الحديث المعروف بحديث " الأوعال " قد كثر الكلام حوله وأخرجه الأئمة في دواوينهم ونصه: عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت سحابة فنظر إليها فقال: " ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب. قال " والمزن " قالوا: والمزن قال " والعنان " قالوا والعنان " قال: " هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري. قال: " إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك " حتى عدد سبع سموات: " ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء وسماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء وسماء ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك ".

الحديث رواه داود (5/93) رقم 4723، كتاب السنة، باب في الجهمية. وهذا لفظه

والترمذي (5/424) رقم (332) كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحاقة وقال هذا حديث حسن غريب.

وابن ماجه (1/69) رقم 193، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية.

وأحمد (1/206-207) .

ص: 269

واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما.

وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبره حتى يتبين

لك لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا

= - وابن أبي عاصم في " السنة "(1/254) رقم 578.

- وابن أبي شيبة في كتاب " العرش " ص55.

- ورواه ابن خزيمة في " التوحيد "(1/334) .

- والدرامي في " الرد على الجهمية) ص24.

- والأجري في " الشريعة " ص292.

واللالكائي في: اعتقاد أهل السنة " (3/390) رقم 651.

والحاكم في " المستدرك "(2/287، 500) وقال: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد أسند هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شعيب بن خالد الرازي، والوليد بن أبي ثور، وعمرو بن ثابت بن أبي المقدم عن سماك بن حرب، ولم يحتج الشيخان بواحد منهم، وقد ذكرت حديث شعيب بن خالد إذ هو أقربهم إلى الاحتجاج به ا. هـ

- والبيهقي في " الأسماء والصفات "(2/142) .

- والعقيلي في " الضعفاء "(2/284) .

- وابن عبد البر في " التمهيد "(7/140) .

- والحافظ أبو نعيم في " أخبار أصبهان "(2/2) .

- والمزي في " تهذيب الكمال "(2/719) .

- وأبو العلاء الهمذاني في " ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف " ص67-68 رقم 19.

- وابن الجوزي في " العلل المتناهية "(1/8) وقد رواه من طريقين وقال: هذا حديث لا يصح ا. هـ

وقال الحافظ المنذري بعد أن ذكر الحديث: وفي إسناده بن أبي ثور ولا يحتج بحديثه ا. هـ مختصر سنن أبي داود (7/93) .

ورد شيخ الإسلام على من طعن في هذا الحديث ا. هـ من حاشية الحموية للتويجرى ص 0224

ص: 270

فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا} [أل عمران: 7] وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه واعلم أن القصور في علمك أو في فهمك وأن القرآن لا تناقض فيه.

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق: " كما جمع الله بينهما " وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي ص (410) ط الإمام في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل إنه مجاز قال: " وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستوياً على عرشه وقرنبين الأمرين كما قال تعالى - وذكر آية سورة الحديد - ثم قال: " فأخبر أنه خلق السموات والأرض وأنه استوى على عرشه وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في حديث الأوعال: " والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه " فعلوه لا يناقض معيته ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق" ا. هـ

الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا ولا يعد ذلك تناقضاً ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق ففي حق الخالق المحيط بكل شيء مع علوه سبحانه من باب أولى وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (103) المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم حيث قال: " وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة " ا. هـ

وصدق رحمه الله تعالى فإن من كان عالماً بك مطلعاً عليك مهيمناً عليك

ص: 271

يسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويدبر جميع أمورك فهو معك حقيقة وإن كان فوق عرشه حقيقة لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.

الوجه الثالث: أنه لو فرض اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعاً في حق الخالق الذي جمع لنفسه بينهما لأن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص (143) ج (3) من مجموع الفتاوى حيث قال: " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علىّ في دنوه قريب في علوه " ا. هـ (1)

(تتمة) انقسم الناس في معية الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام:

القسم الأول يقولون: " إن معية الله تعالى لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه " وهؤلاء هم السلف ومذهبهم هو الحق كما سبق تقريره.

القسم الثاني يقولون: " إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفى علوه واستوائه على عرشه ".

وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم ومذهبهم باطل منكر أجمع السلف على بطلانه وإنكاره كما سبق.

القسم الثالث يقولون: " إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه " ذكر هذا (2) شيخ الإسلام ابن تيمية ص (229) ج (5) من مجموع الفتاوى.

(1)

انظر شرح الواسطية لكل من

الشيخ عبد العزيز الرشيد ص217، وزيد بن فياض ص274 وصالح الفوزان ص 134.

(2)

أي هذه الأقوال وليس معنى ذلك أنه اختيار شيخ الإسلام لأن هذا القول غلطه شيخ الإسلام كما في (5/230) وانظر الأقوال في مجموعة الرسائل والمسائل (1/69)

ص: 272

وقد زعم هؤلاء أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو وكذبوا في ذلك فضلوا فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول لأنه باطل ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلاً.

(تنبيه) اعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم بل المعية تقتضي أيضاً إحاطته بهم سمعاً وبصراً وقدرة وتدبيراً ونحو ذلك من معاني ربوبيته (1) .

(1) وقد سبق أن نقلنا أقوال المفسرين في ذلك.

ملاحظة: بقى قسم رابع لم يذكره المؤلف، وهو قول المعطلة الجهمية ونفاتهم وهم الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث، انظر الروضة الندية ص279.

وفي نوازل العلمي (3/293) :

وسئل سيدي أحمد بن جلال عن مسألة وهي: هل نقول المولى تبارك وتعالى لا داخل في العالم ولا خارج؟

قال السائل: هذا سمعته من بعض شيوخنا واعترضه بأن هذا رفع للنقيضين وقال بعض شيوخنا في هذه المسألة هو الكل أي الذي قام به كل شيء وزعم أنه للإمام الغزالي وأجاب بعضهم بأن هذا السؤال معضل ولا يجوز السؤال عنه وزعم ان ابن مقلاش هكذا أجاب عنه في شرحه للرسالة.

فأجاب: بأنا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج عن العالم والعجز عن الإدراك إدراك لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلاً ونقلاً أما النقل فالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فلو كان داخل العالم أو خارجا عنه لكان مماثلاً بيان الملازمة واضح أما الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له

وأما الثاني فلأنه إن كان خارجاً لزم إما اتصاله وإما انفصاله وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك يؤدي إلى افتقاره إلى مخصص وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه " وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين وتواردا عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلاً الحائط لا أعمى ولا بصير فلا تناقض لصدق النفيين فيه لعدم قبوله لهما وكما يقال الباري لا فوق ولا تحت وقس على ذلك ا. هـ

وهذه هي عقيدة متأخري الأشعرية ولن يوصف المعدوم بوصف أبلغ من هذا الوصف الذي وصفوا به الخالق جل وعلا كما قال محمود بن سبكتكين ت في غزنة سنة 422هـ.

ص: 273

(تنبيه آخر) أشرت فيما سبق إلى أن علو الله تعالى ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.

- أما الكتاب: فقد تنوعت دلالته على ذلك (1) .

- فتارة بلفظ العلو والفوقية والاستواء على العرش وكونه في السماء كقوله تعالى: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]{وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18]{الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه كقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]{تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]{إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] .

- وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك كقوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102]{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} [السجدة: 5] .

- وأما السنة: فقد دلت عليه بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر وعلى وجوه متنوعة كقوله صلى الله عليه وسلم في سجوده: " سبحان ربي الأعلى "(2) . وقوله: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي"(3) وقوله: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(4) وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: "اللهم أغثنا"(5) وأنه رفع يده إلى السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا نشهد أنك قد بلغت

(1) انظر ذلك في الروضة الندية لزيد بن فياض ص137 وقد فصلها الإمام ابن القيم في النونية.

(2)

. رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (5/63)

(3)

رواه البخاري المطبوع مع الفتح (13/415) ومسلم المطبوع مع شرح النووي (17/67) .

(4)

. رواه البخاري المطبوع مع الفتح (7/666) .

(5)

رواه مسلم في صحيحه مع شرح النووي (7/192) .

ص: 274

وأديت ونصحت فقال: " اللهم اشهد "(1) وأنه قال للجارية: "أين الله" قالت في السماء فأقرها وقال لسيدها: "اعتقها فإنها مؤمنة"(2)

- وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص والعلو صفة كمال والسفل نقص فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.

- وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة.

واسأل المصلين يقول الواحد منهم في سجوده: " سبحان ربي الأعلى " أين تتجه قلوبهم حينذاك.

- وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله تعالى فوق سمواته مستو على عرشه وكلامهم مشهور في ذلك نصاً وظاهراً قال الأوزاعي: " كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات (3) وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم ومحال أن يقع في مثل ذلك خلاف وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طمس على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية.

(1) رواه البخاري مع الفتح (2/585) ، ومسلم مع شرح النووي (8/184) .

(2)

. رواه مسلم مع شرح النووي (5/24) .

(3)

رواه البيهقي في الأسماء والصفات (2/150) .

- والذهبي في السير (7/120-121) وذكره الذهبي في " العلو " ص102) من رواية الحاكم، وانظر المختصر ص137-138 ورواه في " تذكرة الحفاظ "(1/181-182) وحكم عليه بالصحة وذكره في كتابه " الأربعين " ص81.

- وصححه شيخ الإسلام أيضاً في الحموية ص (299) وانظر: درء تعارض العقل والنقل (6/262) وكذا ابن القيم في اجتماع الجيوش ص31.

- وذكره الحافظ في الفتح (13/406) وجود إسناده ا. هـ من حاشية الحموية للتويجري.

ص: 275

فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلاً وأحق الأشياء وأثبتها واقعاً.

(تنبيه ثالث) اعلم أيها القارئ العزيز أنه صدر منى كتابة لبعض الطلبة تتضمن ما قلته في بعض المجالس في معية الله تعالى لخلقه ذكرت فيها: أن عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن ذلك لا ينافي معيته لأنه تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11] .

وأردت بقولي (ذاتية) توكيد حقيقة معيته تبارك وتعالى. وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض (1) كيف وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى إنه سبحانه منزه أن يكون مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم وأنه العلي بذاته وصفاته وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وقلت فيها أيضاً ما نصه بالحرف الواحد:

" ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة وأئمتها " ا. هـ

ولا يمكن لعاقل عرف الله وقدره حق قدره أن يقول إن الله مع خلقه في الأرض.

(1) وفي هذا رد صريح على ما قاله الشيخ على بن عبد الله الحواس في كتابه النقول الصحيحة الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعية الألهية الحقيقية وهو رد على من قال ان معية الله لخلقه معية ذاتية المطبوع سنة 1404هـ وكان رداً على المؤلف وقد قال في ص6 ان هذا القول وصمة كبيرة وزلة خطيرة وفي ص7 ان هذا قول أهل البدع وكذا قال في ص15 ولا أدري كيف اشتط به القلم مع ان كلام المؤلف صريح في إنكار ذلك وهو ما قرره أيضاً في خاتمة كتاب التويجري (إثبات علو الله على خلقه) ص157

ص: 276

وما زلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل مجلس من مجالسي جرى فيه ذكره. وأسأل الله تعالى أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة هذا وقد كتبت بعد ذلك مقالاً نشر في مجلة (الدعوة) التي تصدر في الرياض نشر يوم الاثنين الرابع من شهر محرم سنة 1404هـ أربع وأربعمائة وألف برقم (911) قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن: معية الله تعالى لخلقه حق على حقيقتها وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط بالخلق فضلاً عن أن يستلزمه ورأيت من الواجب استبعاد كلمة (ذاتية)(1) وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية.

واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله تعالى في الأرض أو اختلاطه بمخلوقاته أو نفي علوه أو نفي استوائه على عرشه أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة يجب إنكارها على قائلها كائناً من كان وبأي لفظ كانت.

وكل كلام يوهم - ولو عند بعض الناس - ما لا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء لكن ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله عز وجل.

*****

(1)

انظر سبب ذلك في المقال المنشور آخر هذا الكتاب.

ص: 277

- المثال السابع والثامن (1)

قوله تعالى:} ونحن أقرب إليه من حبل الوريد { [ق: 16] وقوله:} ونحن أقرب إليه منكم { [الواقعة: 85]

حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة (2) .

(1) من الأمثلة التي استشكلها المؤولة واتهموا أهل السنة بالتأويل فزعموا أن أهل السنة الذين أثبتوا صفات الله على ظاهرها يتناقضون فيؤولون أحياناً بعض النصوص

(2)

اختلف المفسرون في هذه الآية:

أ - ان المراد بذلك الملائكة وهذا اختيار الطبري (13/209) وابن كثير (6/91)

وانظر فتاوى محمد بن إبراهيم أل الشيخ مفتي المملكة رحمه الله (1/211)

ب - أن المراد به العلم أو القدرة.

وهذا اختيار ابن عطية (13/539) وصديق حسن خان (13/387) والبيضاوي مع الشهاب (8/574) والآلوسي (13/387) ، وابن عاشور (26/300) ، والشربيني (4/83) والثعالبي (3/222) والقرطبي (17/9) وأبي حيان في البحر (8/123) والنسفي (3/364) والماوردي (5/347) ، والجمل (7/262) .

ج_

وممن ذكر القولين في المسألة:

ابن الجوزي في زاد المسير (9/155) ، محي الدين شيخ زادة على البيضاوي (4/466) ، والخازن (4/223) ، والبغوي (4/291) ، والثعالبي (3/289) ، والشوكاني (5/230) .

ملاحظة: لم يفسر أحد القرب في هذه الآية بالقرب الذاتي لان ذلك مستحيل في حق الله كما سيذكر المؤلف وأما ما ذكره الشيخ عبد اللطيف كما في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/306) ان هذا القرب لا ينافي علو الله فلم يقصد القرب الذاتي قطعاً بدليل قوله إن القائل ان الله بذاته في كل مكان هو جهمي ا. هـ

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى (5/501) :

" أنفسنا منا وهو بذلك أقرب إلينا من حبل الوريد، وكيف لا يكون كذلك وهو أعلم بما توسوس به أنفسنا منا فكيف بحبل الوريد؟ ! وكذلك قال أبو عمرو الطلمنكي قال: ومن سأل عن قوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} فاعلم أن ذلك كله على معنى العلم به والقدرة عليه والدليل من ذلك صدر الآية فقال الله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) لأن الله لما كان عالماً بوسوسته، كان =

ص: 278

والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفاً للكلام عن ظاهره لمن تدبره.

أما الآية الأولى: فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك (1) حيث قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 16-18] ففي قوله {إذ يتلقى} [ق: 17] دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقين (2) .

وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة لقوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت

توفته

= اقرب إليه من حبل الوريد، وحبل الوريد لا يعلم ما توسوس به النفس

ويلزم الملحد على اعتقاده أن يكون معبوده مخالطاً لدم الإنسان ولحمه، وأن لا يجرد الإنسان تسمية المخلوق حتى يقول: خالق ومخلوق، لأن معبوده بزعمه داخل حبل الوريد من الإنسان وخارجه فهو على قوله ممتزج به غير مباين له.

قال: وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من جميع خلقه وتعالى الله عن قول أهل الزيغ، وعما يقول الظالمون علواً كبيراً.

قال: وكذلك الجواب في قوله فيمن يحضره الموت {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} أي بالعلم به والقدرة عليه إذ لا يقدرون له على حيلة ولا يدفعون عنه الموت وقد قال تعالى: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} وقال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} .

قلت: وهكذا ذكر غير واحد من المفسرين مثل الثعلبي وأبى الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وأما في قوله {ونحن أقرب إليه منكم} فذكر أبو الفرج القولين: إنهم الملائكة وذكره عن أبي صالح عن ابن عباس وأنه القرب بالعلم وهؤلاء كلهم مقصودهم انه ليس المراد ان ذات الباري جل وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت ولما ظنوا ان المراد قربه وحده دون قرب الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية ولا حاجة إلى هذا فإن المراد بقوله {ونحن أقرب إليه منكم} أي بملائكتنا في الآيتين وهذا بخلاف لفظ المعية فإنه لم يقل ونحن معه بل جعل نفسه هو الذي مع العباد وأخبر انه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا وهو نفسه الذي خلق السموات والأرض وهو نفسه الذي استوى على العرش فلا يجعل لفظ مثل لفظ مع تفريق القرآن بينهما. ا. هـ

(1) أي قرب الملائكة.

(2)

لأنه قيد القرب بالظرف أي نحن أقرب إليه وقت تلقي الملكين.

ص: 279

رسلنا (1) وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61] ثم إن في قوله: {ولكن لا تبصرون} [الواقعة: 85] دليلاً بيناً على أنهم الملائكة إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى (2) .

بقى أن يقال فلماذا أضاف الله القرب إليه وهل جاء نحو هذا التعبير مراداً به الملائكة؟ (3) .

فالجواب: أضاف الله تعالى قرب الملائكة إليه لأن قربهم بأمره وهم جنوده ورسله (4) .

وقد جاء نحو هذا التعبير مراداً به الملائكة كقوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} (5)[القيامة: 18] فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى

صحت إضافة القراءة إليه تعالى، وكذلك جاء في قوله تعالى:{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى (6) .

(1) أي الملائكة فهم الذين يحضرون الوفاة.

(2)

أي يستحيل أن يكون الله بذاته عند الميت

(3)

. هنا سؤالان يردان على من فسر القرب في الآية بقرب الملائكة:

لماذا أضاف الله القرب إليه؟

هل ورد مثل هذا التعبير في القرآن؟

(4)

وهو جار في اللغة العربية فإن الملك يأمر جنوده بالغزو فإذا تم الانتصار يقول: انتصرنا وهزمنا العدو وهو لم يخرج من قصره، وكذلك يقول: نحن عمرنا المساجد والملك لم يباشر.

(5)

اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية على ثلاثة أقوال:

أ - فإذا بيناه فاعمل بما فيه.

ب - إذا أنزلناه فاستمع قرآنه.

أن المراد قراءة الملك والرسول عنا وعليه أكثر المفسرين.

(6)

انظر تفسير السعدي (2/379) ، واختلفوا في الذي جادل به الملائكة على ثلاثة أقوال ذكرها الماوردي في تفسيره (2/486) .

ص: 280

** المثال التاسع والعاشر:

قوله تعالى عن سفينة نوح:} تجري بأعيننا { [القمر: 14] وقوله لموسى:} ولتصنع على عيني { [طه: 39]

والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟ (1) .

هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله أو أن موسى عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله تعالى (2) .

أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجرى وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها (3) .

ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين:

الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي (4) والقرآن إنما نزل بلغة العرب.

(1) لقد سبق أن العبرة في فهم ظاهر النص هو السياق والقرائن فلابد أن يتتبع سبب النزول ثم القرائن والسياق.

(2)

هذا المعنى لا يتبادر أبداً لأي قارئ لكتاب الله

(3)

ذكر الماوردي في تفسيره (5/412) ان للمفسرين أربعة أقوال في {تجري بأعيننا} وهي:

ا-

بمرأى منا.

2 -

بأمرنا، قاله الضحاك.

3 -

بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها.

4 -

بأعين الماء التي أتبعناها في قوله: {وفجرنا الأرض عيوناً} ، وقيل إنها تجري بين ماء الأرض والسماء، وقد كان غطاؤها عن أمر الله سبحانه.

وذكر هذه الأقوال أبو حيان في البحر المحيط (8/176) والخازن (4/219) ، والسيوطي (17/133) ، وصديق حسن خان (13/293) .

(4)

إلا ان كان حملهم على ذلك نوع من العجمة وبها عابوا الكلام الفصيح لعجمتهم.

ص: 281

قال الله تعالى: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [يوسف:2] وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193-195] ولا أحد يفهم من قول القائل: فلان يسير بعيني أن المعنى أنه يسير داخل عينه ولا من قول القائل: فلان تخرج على عيني أن تخرجه كان وهو راكب على عينه (1) ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلاً عن العقلاء (2) .

الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن (3)

(1) وإنما أراد أنني كنت أحفظه وأرعاه إلى أن تخرج.

(2)

وإنما يفهم منه أن عينيه تصحبه بالنظر والرعاية لأن الباء هنا للمصاحبة وليست للظرفية وهذا هو بطلان كلامهم من الناحية اللفظية.

أما بطلانه من الناحية المعنوية: فإن من المعلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان في الأرض، وأنه صنع السفينة في الأرض، وجرت على الماء في الأرض كما قال الله تعالى:{ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} وقال: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} .

ولا يمكن لأحد أن يدعي أن ظاهر اللفظ أن السفينة تجري في عين الله عز وجل لأن ذلك ممتنع غاية الامتناع في حق الله تعالى ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره وعلم أنه مستو على عرشه بائن من خلقه ليس حالاً في شيء من مخلوقاته ولا شيء من مخلوقاته حالاً فيه أن يفهم من هذا اللفظ هذا المعنى الفاسد.

وعلى هذا فمعنى الآية الذي هو ظاهر اللفظ أن السفينة تجري والله تعالى يكلؤها بعينه ا. هـ من تقريب التدمرية للمؤلف.

(3)

لفظة (بائن) وان لم ترد في الكتاب والسنة ولم تكن معروفة في عهد الصحابة إلا أنه

لما ابتدع الجهم وأتباعه القول بأن الله في كل مكان اقتضى ضرورة البيان أن يتلفظ الأئمة الأعلام بلفظ (بائن) دون أن ينكره أحد منهم.

وممن نص على ذلك عبد الله بن أبي جعفر الرازي، وعالم الرى هشام وإسحاق بن راهويه عالم خراسان وذكره عن ابن المبارك وغير هؤلاء ممن ذكرهم الذهبي في مختصر العلو ونقله الألباني في مقدمته ص18 وانظر أيضاً التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للمعلمي (2/286) .

ص: 282

من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا هو حال في شيء من مخلوقاته سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها وهذا معنى قول بعض السلف: " بمرأى مني "(1) فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام (2)

. -

(1) وقد نص على ذلك الطبري (13/94) ، والبغوي (4/260) ، والثعالبي (3/265)، وابن كثير (6/41) ونسب هذا المعنى إلى الجمهور الإمام ابن عطية في تفسيره (14/151) وجرى على هذا القول أيضاً: ابن الجوزي (9/93) ، الرازي (29/36) ، والنسفي (3/404 (، والسمين (6/227) ، والبيضاوي مع محي الدين شيخ زادة (4/421) ، والشهاب (9/31) ، والجمل (7/345) ، والشوكاني (5/175) ، والشربيني (4/146) والآلوسي (27/83) .

(2)

وإثبات العين من كون أن الله يحفظه بعينه من دلالة التلازم وقد سبق معناه.

ملاحظة:

أ - يثبت المعطلة لازم المعنى وينفون الصفة

مثاله: ينفي الأشعرية صفة الرحمة ويثبتون لازمها وهو الإنعام وينفون صفة المحبة والغضب ويثبتون لازمها وهو الإحسان، والانتقام فإثبات المعطل لازم الصفة لا يكفي بل لابد أن يثبت الصفة.

فإذا كان من يقول (بمرأى مني) ينفي صفة العين كما نقلنا عن الذي جرى على هذا القول مع ان واقعهم لا يثبتون صفة العين من تفسيراتهم الأخرى فإن هذا من قبيل من ينفى الرحمة ويثبت الإحسان.

ب - نستفيد من ذلك أن الذي يفسر آية باللازم لا يعني أنه معطل للصفة فلا يقال لمن فسر الرحمة بالإحسان أنه معطل حتى نعلم هل هو يثبت صفة الرحمة أم لا وهكذا في بقية الصفات

ص: 283

المثال الحادي عشر:

قوله تعالى (1) في الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعادني لأعيذنه "

والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق.

وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟

هل يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولى وبصره ويده ورجله؟ (2)

أو يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولى في سمعه وبصره ويده.

(1) لم يقل المؤلف قوله صلى الله عليه وسلم وإنما قال: قوله تعالى ثم ساق الحديث القدسي وهذا يدل على أن الحديث القدسي كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن ولهذا يقال فيه: قال الله تعالى فلو كان اللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال: قال الله بل يقال قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول هو الذي ذهب إليه كثير من العلماء وذكروا الفروق بينه وبين القرآن وممن فصل في هذه المسألة واستفاض فيها القاسمي في قواعد التحديث ص64، وأبو شهبة في الوسيط ص216.

والقول الثاني في تعريف الحديث القدسي هو أن اللفظ من عند النبي ومعناه من عند الله وهذا التعريف جرى عليه بعض العلماء ومنهم المؤلف حفظه الله في كتابه مصطلح الحديث ص8.

لكن القول الأول هو الأولى لأنه الظاهر وإنما مشى كثيرون على التعريف الثاني لأنهم لا يثبتون الكلام لله إلا معنى وليس منهم المؤلف قطعاً.

(2)

لم يقل أحد أن الله يكون رجلاً للعبد ويداً للعبد وسمعاً للعبد 0

ص: 284

ورجله بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله؟ (1)

ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين:

الأول: أن الله تعالى قال: " وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه وقال: " ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " فأثبت عبداً ومعبوداً (2) ومتقرباً إليه (3) ومحباً ومحبوباً وسائلا ومسؤولاً ومعطياً ومعطى ومستعيذاً ومستعاذاً به ومعيذاً ومعاذاً فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفاً في الآخر أو جزءاً من أجزائه.

الوجه الثاني: أن سمع الولى وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق (4) حادث بعد أن لم يكن ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعاً وبصراً ويداً ورجلاً لمخلوق بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير فكيف يسوغ أن يقال إنه ظاهر الحديث القدسي وأنه قد صرف عن هذا الظاهر؟ سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولى في سمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه

(1) سيأتي شرح المراد من قوله {لله وبالله وفي الله} بعد ذلك.

(2)

أي قال عبدي: ففيه عبد ومعبود.

(3)

لأنه قال: يتقرب أي أن هناك من يتقرب ومن يتقرب إليه وهكذا.

(4)

كلام المؤلف يحتمل أمرين:

أ - أن الأوصاف خاصة بالسمع والبصر، والأجزاء خاصة باليد والرجل وأن فيها نشراً ولفاً مرتباً.

ب - تحمل أن اليد والرجل أجزاء أما السمع والبصر فيمكن أن تكون أوصافاً ويمكن أن تكون أجزاء باعتبار الأذن والعين والمعنى الأول أقرب.

ص: 285

بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصاً (1) وبالله تعالى استعانة (2) وفي الله تعالى شرعاً وإتباعا (3) فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة وهذا غاية التوفيق وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.

******

***

*

**

(1) هذا هو المراد من قوله فيما سبق (يكون لله) أي إخلاصاً.

(2)

أي المراد من قوله (بالله) أي يستعين بالله.

(3)

أي أن المراد من قوله (وفي الله) أي متابعة الشرع.

ص: 286

المثال الثاني عشر:

قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى (1) أنه قال: " من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشى أتيته هرولة "

وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وروى نحوه من حديث أبي هريرة أيضاً وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر (3) .

وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية (4) بالله تعالى وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (5)

[البقرة: 186] وقوله: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} (6)[الفجر: 22] وقوله: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي

(1) سبق ان عبر المؤلف عن الحديث القدسي بقوله (قال الله تعالى في الحديث القدسي) وهنا عبر بتعبير آخر وكل ذلك صيغ وطرق لرواية الحديث القدسي وإنما أراد المؤلف من هذا التنويع تعليم الطالب.

وانظر وسيط أبي شهبة ص221.

(2)

انظر شروح مسلم:

للنووي (17/12) والسيوطي (6/50) والأبي والسنوسي (7/120) .

(3)

انظر فتح الباري (13/395) ، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (1/259) .

(4)

سبق معنى ذلك.

(5)

الشاهد من الحديث إثبات صفة الإجابة لله وهي صفة فعلية. وكذلك فيها إثبات صفة القرب

انظر الصفات في الكتاب والسنة للسقاف ص40.

(6)

الشاهد إثبات صفة المجيء.

ص: 287

ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158] (1) وقوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5](2) وقوله صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر "(3) وقوله صلى الله عليه وسلم: " ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه "(4) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.

فقوله في هذا الحديث: " تقربت منه وأتيته هرولة "(5)

من هذا الباب.

(1) الشاهد إثبات الإتيان.

(2)

الشاهد إثبات الاستواء.

(3)

الشاهد إثبات النزول وقد سبق الحديث.

(4)

الشاهد إثبات صفة الأخذ.

والحديث رواه البخاري برقم 1410وانظر الفتح (3/326) ومسلم بشرح النووي (7/98) .

(5)

فنصف الله بالقرب والهرولة ولا يلزم من ذلك قطع المسافة أو شيء من لوازم المخلوق.

وقد ورد في الفتوى (رقم 6932) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/142) ما يلي:

س: هل لله صفة الهرولة؟

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه

وبعد

ج: نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به قال تعالى: " إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني ماشياً أتيته هرولة " رواه: البخاري ومسلم.

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ".

وقد وقع على هذه الفتوى كل من المشايخ: عبد العزيز بن باز، عبد الرازق عفيفي، عبد الله بن غديان، عبد الله بن قعود.

وفي " الجواب المختار لهداية المحتار "(ص24) للشيخ محمد العثيمين قوله: " صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي

.. (فذكر الحديث وفيه:) وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه، فوجب علينا قبولها بدون تكييف، لأن التكييف قول على الله بغير علم وهو حرام وبدون تمثيل لأن الله يقول:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} .

ص: 288

والسلف أهل السنة والجماعة يجرون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص (466) جـ (5) من مجموع الفتاوى: " وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر " ا. هـ

فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟ وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟ .

وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالاً لما يريد على الوجه الذي به يليق؟

وذهب بعض الناس (1) إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: "

= ما ذكره المؤلف حفظه الله من ان المعنى الثاني للحديث هو كناية عن المجازاة بأفضل وأعظم مما يفعل العبد فهذا ما ذكره أكثر شراح الحديث مثل:

القرطبي في المفهم (7/15) ، والعيني على البخاري (25/101) والسيوطي في التوشيح (9/4279) ، والقسطلاني على البخاري (15/429) ، والحافظ في الفتح (13/522) وذكر الشيخ ابن عثيمين ان شيخ الإسلام يميل إلى هذا الرأي، وقد اعترض بعض الناس على المؤلف هذا القول واعتبر ان القول الأول هو قول السلف مع أن المؤلف اعتبر ان القولين للسلف بقوله حفظه الله في شرحه للبخاري ص74 من المخطوط هذا الحديث:" وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت له باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " في هذه الجمل الثلاث بيان فضل الله عز وجل وأنه يعطي أكثر مما فعل من أجله أي يعطي العامل أكثر مما عمل وهذه القاعدة في ثواب الله عز وجل أنه يعطي أكثر مما فعل من أجله جاء في القرآن {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} هذه الجمل الثلاث تدل على هذا المعنى العظيم وأن عطاء الله وثوابه أكثر من عمل العبد وكدحه يقول جل وعلا " إن تقرب إلى بشبر تقربت إليه ذراعاً " الشبر مسافة ما بين طرف الخنصر إلى طرف الإبهام عند مد اليد والذراع مسافة ما بين طرف الأصبع الوسطى إلى عظم المرفق وهذا هو الذي كان يقدر به سابقاً الشبر والذراع والباع وما أشبه ذلك =

ص: 289

= وقوله: " إن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً " اختلف العلماء في معنى هذه الجملة وما بعدها:

فقيل إن هذا على حقيقته وأن الإنسان إذا تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه ذراعاً وعلى هذا فيكون هذا القول في العبادات التي تحتاج إلي مشى كالسعي إلى المساجد والسعي إلى الحج وما أشبه ذلك ويخرج العبادات التي لا يكون فيها مشى ولكنها كالتي تحتاج إلى مشى أي أن الله يعطي العامل أكثر مما عمل.

وقيل إن هذا على سبيل المثال وأن الإنسان إذا تقرب إلى الله بقلبه تقرب الله إليه على كيفية لا نعلمها، نحن بأنفسنا نعلم كيف نتقرب إلى الله لكن تقرب الله إلينا لا نعلمه فالمعنى أن الإنسان إذا تقرب إلى الله بقلبه فإن الله تعالى يتقرب إليه على كيفية لا تعلم وذلك أن الإنسان يشعر بتقربه إلى الله بالقلب أحياناً يكون قلبه ذاكراً لله عز وجل فيشعر أنه قريب من الله عز وجل وأحياناً يكون غافلاً فالمعنى إذا تقرب الإنسان إلى ربه بالقلب ومن المعلوم ان العبادات تكون سبباً لتقرب القلب إلى الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " ولهذا وأنت ساجد بأنك قريب من الله وأن الله في السماء فيكون على هذا القول يكون هذا من باب ضرب المثل وليس على الحقيقة وهذا القول أحسن من الأول لأنه يشمل بدلالة المطابقة جميع العبادات والأول يختص بالعبادات ذات السعي والمشي وكذلك أيضاً قوله:" من تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً " أما قوله " وإن أتاني يمشى أتيه هرولة " فهذا أيضاً اختلف فيه العلماء هل هو على حقيقته أم لا؟ فقيل إنه على حقيقته ونحن إذا مشينا نعرف كيف نمشى أما الله عز وجل فإننا لا نعرف كيفية مشيه ولا مانع من أن الله يمشي يقابل المتجه إليه فيقابله إذا أتاه يمشي يقابله بهرولة ويقال ان الذي يأتي سيأتي على صفة ما ولابد فإذا كان الله يأتي حقيقة فإنه لابد أن يأتي على صفة ما هرولة أو غير هرولة فإذا قال عن نفسه أتيته هرولة قلنا ما الذي يمنع أن يكون إتيانه هرولة إذا كنا نؤمن بأنه يأتي حقيقة ونحن نؤمن بأنه يأتي حقيقة فإذا كان يأتي حقيقة لابد أن يكون إتيانه على صفة من الصفات فإذا أخبرنا بأنه يأتي هرولة قلنا آمنا بالله لكن كيف هذه الهرولة؟ لا يجوز أن نكيفها ولا يجوز أن نتصورها هي فوق ما يتصور وفوق ما يتكلم به ولكن هذا القول يخص هذا الحكم بالعبادات التي يأتي إليها الإنسان مشياً

وتبقى العبادات الأخرى التي يفعلها الإنسان وهو قائم في مكانه تبقى غير مذكورة في هذا الحديث لكنها بمعناها.

يقول هذا من باب التمثيل أي من أسرع إلى رضاي وإلى عبادتي أسرعت إلى ثوابه سرعة أكثر من سرعة عمله وهذا القول يشمل جميع العبادات لأن الإنسان يسرع إلى العبادة إسراعاً بالبدن وأحياناً يسرع بالقلب فقط وهو ثابت في مكانه فالمهم أن لعلماء السلف في هذه المسالة قولين هل نبقيها على ظاهرها وإن كان سيخرج عنا بعض =

ص: 290

أتيته هرولة " يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إلى المساجد ومشاعر الحجج والجهاد في سبيل الله ونحوها وتارة بالركوع والسجود ونحوهما. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " (1) بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه كما قال الله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " (2) .

قال: فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله وأن من صدق في الإقبال على ربه وإن كان بطيئاً جازاه الله

(1) رواه مسلم كما في شرح النووي (4/200) .

(2)

انظر فتح الباري (2/684)

ص: 291

= العبادات إلا أنها تثبت بالقياس أو نقول إن هذا كناية عن أن فضل الله عز وجل أكثر من عمل العامل وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى هذا الرأي الأخير أنه من باب ضرب المثال ونؤيد هذا بأنه ليس جميع العبادات تحتاج إلى سعى ومشى وإبقاء الحديث على عمومه المعنوي في جميع العبادات أولى من كوننا نخصه في بعض العبادات التي لا تكون عشر العبادات الأخرى أي العبادات التي تحتاج إلى مشي قليل فكوننا نحمل الحديث على عموم العبادات ونجعل هذا من باب ضرب المثل وما زال الناس يضربون المثل في هذا يقول أنا إذا رأيتك تقبل على فسوف أعطيك بالخطوة خطوتين أو إذا أقبلت مشياً أقبل إليك مسرعاً أو إذا مشيت إلي بالأقدام أمشي إليك بالجفون وهذا أسلوب عربي معروف وما زال إلى يومنا هذا، وبهذا يزول إشكال الحديث إن حملناه على الحقيقة لم يفتنا على هذا الحمل إلا شيء واحد وهو العبادات التي لا تحتاج إلى مشي ولا إلى مسافة وإن حملناه على ضرب المثل عم جميع العبادات وهذا المثل معروف من أساليب اللغة العربية ا. هـ.

تعالى بأكمل من عمله وأفضل وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه.

وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية (1) لم يكن تفسيره به خروجاً به عن ظاهره ولا تأويلاً كتأويل أهل التعطيل فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد.

وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق (2) بمذهب السلف.

ويجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى من أتاني يمشى (3) في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة أو من ماهيتها كالطواف والسعي والله تعالى أعلم.

(1) القرينة الشرعية هي التي فهمت من السياق وقد وضح المؤلف ذلك في شرحه على صحيح البخاري كما سبق.

(2)

في كلام المؤلف ما يدل على ان القول الثاني سليم لكن عدم التأويل اسلم، وانه ظاهر ولائق لكن تركه أولى وأسلم وأليق لأن أفعل التفضيل يفيد المشاركة وزيادة وعلى كل حال ذكرنا السبب في هذا التأويل وهو القرينة وليس ذلك كتأويل المعطلة كما نسب بعض الناس ذلك للمؤلف بل نقول ان القول الثاني كتفسير المؤلف للأمثلة التي سبقت قبل هذا.

(3)

المشي قد يكون:

أ - وسيلة إلى العبادة كالمشي للصلاة.

ب - قد يكون المشي من ماهية العبادة مثل الطواف والسعي.

والخلاصة: ان الحدث خرج مخرج المثال من باب ضرب المثل وإلا فلو تقرب العبد إلى الله واقفاً أو مضطجعاً كان كالمشي 0

ص: 292

** المثال الثالث عشر: (1)

قوله تعالى:} أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً { [يس:71]

والجواب: أن يقال ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال إنها صرفت عنه؟ هل يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟ (2) .

أو يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها لم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروف في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين:

أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل القرآن به ألا ترى قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}

[الشورى: 33] وقوله: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41] وقوله: {ذلك بما قدمت أيديكم} [آل عمران: 182] .

فإن المراد ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه وإن عمله بغير يده (3) بخلاف ما إذا قال: عملته بيدي (4) .

(1) من الأمثلة التي زعم المعطلة ان السلف يؤولون نصوص الصفات.

(2)

هذا السؤال يوجه لمن يثبت اليد أما الذي ينفي اليد فإنه يناقش أولاً في إثبات اليد فإن أبى وقال أنا لا اثبت اليد لكن ألزمك بالتأويل لأنك في هذه الآية صرفتها عن ظاهرها فهنا نجيبه بما ذكره المؤلف.

(3)

من جميع الجوارح فأرجلهم وآذانهم وفروجهم وإنما خرج هذا مخرج الأمثال وان العمل أكثر ما يكون باليد لأنها هي التي يكتب ويضرب بها الإنسان ويقتل بها.

(4)

فلو قال النجار: عملت هذا الكرسي بيدي لكان المعنى انه باشر العمل بيده.

ص: 293

كما في قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} [البقرة: 79] فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد (1) .

الثاني: أنه لو كان المراد أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية خلقنا لهم بأيدينا أنعاماً (2) كما قال الله تعالى في آدم: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (3) [ص: 75] لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية لقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] .

وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني وهو أن ظاهر اللفظ أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها (4) ولم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد كاضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وعدى بالباء فتنبه للفرق فإن التنبه للفروق بين المتشابهات (5) من أجود أنواع العلم (6) وبه يزول كثير من الإشكالات (7) .

**

(1)

فمدار الأمر على حرف الباء فان عدى الفعل بالباء دل على مباشرة اليد وان لم يعد بالباء لم يدل على المباشرة.

انظر شرح التدمرية لفالح آل مهدي ص174.

(2)

أي يضيف الفعل (خلق) لنفسه ثم يتعدى الفعل بالباء.

(3)

ولم يعترض إبليس على الرب عز وجل ولو كان المراد بذلك القدرة لقال إبليس: وأنا خلقتني بقدرتك.

(4)

أي بقدرته.

(5)

هذا من التشابه النسبي الذي يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض أما التشابه الحقيقي فلا يعلمه إلا الله ككيفية صفاته.

انظر تقريب التدمرية للمؤلف ص94 ،

(6)

وهو ليس خاصاً بالعقائد بل في الفقه أيضاً علم الفروق بين المتشابه من المسائل وقد صنف في كل مذهب وأشهره فروق القرافي.

(7)

قال شيخ الإسلام في التدمرية ص73.

ومما يشبه هذا [القول] أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله كما قيل في قوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} فقيل: هو مثل قوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً} فهذا ليس مثل هذا لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله: {فبما كسبت أيديكم} وهناك أضاف الفعل إليه فقال: {لما خلقت} ثم قال: {بيدي} ا. هـ

ص: 294

المثال الرابع عشر: (1)

قوله تعالى:} إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم { [الفتح: 10]

والجواب: أن يقال: هذه الآية تضمنت جملتين:

الجملة الأولى: قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك (2) إنما يبايعون الله}

في أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح:18] .

ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله تعالى: {إنما يبايعون الله} [الفتح:10] أنهم يبايعون الله نفسه (3) ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته (4) لأول الآية والواقع (5) واستحالته في حق الله تعالى (6) .

وإنما جعل الله تعالى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة له لأنه رسوله وقد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله تعالى ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل من أرسله مبايعة لمن أرسله لأنه رسوله المبلغ عنه كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله لقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله] [النساء: 80] .

(1) من الأمثلة التي ادعى المعطلة ان السلف قد أولها.

(2)

يعني بيعة الرضوان بالحديبية.

(3)

أي أن الله يريده لهم فيبايعونه مباشرة بدون واسطة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يمكن ان يفهم أحد هذا الفهم.

(4)

أي هذا الذي ادعوا انه الظاهر.

(5)

لان الواقع أن المبايعة وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6)

لأن هذا ينافي علو الله وهو وصف ذاتي لله وهو سبحانه لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يحل في الأرض فهذا عقيدة الحلولية وأما أهل السنة فيقولون ان الله بائن من خلقه.

ص: 295

وفي إضافة مبايعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد.

الجملة الثانية: قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] وهذه أيضاً على ظاهرها وحقيقتها فإن يد الله تعالى فوق أيدي المبايعين لأن يده من صفاته وهو سبحانه فوقهم على عرشه فكانت يده فوق أيديهم (1)

وهذا ظاهر اللفظ وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي صلى الله عليه سلم مبايعة الله عز وجل ولا يلزم منها أن تكون يد الله جل وعلا مباشرة لأيديهم ألا ترى أنه يقال: السماء فوقنا مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا فيد الله عز وجل فوق أيدي المبايعين لرسوله صلى الله عليه وسلم مع مباينته تعالى لخلقه وعلوه عليهم.

ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] يد النبي صلى الله عليه وسلم (2) ولا أن يدعى أن ذلك ظاهر اللفظ لأن الله تعالى أضاف اليد إلى نفسه ووصفها بأنها فوق أيديهم ويد النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم بل كان يبسطها إليهم فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم.

(1) للمفسرين خمسة أقوال في الآية:

أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم.

والثاني:: يد الله في الثواب فوق أيديهم.

والثالث: يد الله عليهم في المنة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة ذكر هذه الأقوال الزجاج.

والرابع: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ذكره ابن جرير وابن كيسان لكن إذا كان هذا المعنى مع إثبات اليد فإنه يكون من باب مرأى منا في الآية التي سبقت.

الخامس: ما اختاره المؤلف وهو الذي عليه السلف.

انظر الأقوال في تفسير:

ابن الجوزي (7/427) ، الطبري (13/76) ، ابن كثير (5/342) والآلوسي (26/96) والشهاب (9/521) وابن عطية (13/441) والشربيني (4/42) ، صديق حسن خان (13/93) ، والثعالبي (3/199) ، والبغوي (4/190) ، والجمل (7/212) ، وأبي حيان (8/156) ومحي الدين شيخ زاده (4/357) ، والشوكاني (5/68) .

(2)

انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (9/92) ، والنسفي (3/335) .

ص: 296

** المثال الخامس عشر (1)

قوله تعالى في الحديث القدسي: " يا بن آدم مرضت فلم تعدني " الحديث

وهذا الحديث رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب رقم (43) ص (1990) ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي رواه مسلم (2)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال: أما علمت ان عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ".

والجواب: أن السلف أخذوا بهذا الحديث لم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به (3) فقوله

(1) حيث زعموا ان ظاهر الحديث ان الله يجوع ويعطش ويمرض وان السلف أولوا الحديث

(2)

انظر شرح الحديث في:

النووي (16/125) ، والقرطبي (6/551) ، وشرح الأبي والسنوسي (7/24) .

(3)

أشبه اللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله تعالى {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} ونحو ذلك فان الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة.

انظر موقف المتكلمين للغضن (2/821) .

ص: 297

تعالى: " مرضت واستطعمتك واستسقيتك " بينه الله تعالى بنفسه حيث قال: " أما علمت أن عبدي فلاناً مرض وأنه استطعمك عبدي فلان واستسقاك عبدي فلان " وهو صريح في أن المراد به مرض عبد من عباد الله واستطعام عبد من عباد الله واستسقاء عبد من عباد الله (1) والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به وهو اعلم بمراده فإذا فسرنا المرض

المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه والاستسقاء المضاف إليه بمرض العبد واستطعامه واستسقائه لم يكن في ذلك صرف للكلام عن ظاهره لأن ذلك تفسير المتكلم به فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداء وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولاً للترغيب والحث كقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله} [البقرة: 245]

وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يحرفونها بشبه باطلة هم فيها متناقضون مضطربون إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها كما يقولون لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها ممتنعاً على الله - كما زعموا - لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث. ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعاً على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال ،

ولنكتف بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراساً لغيرها (2) وإلا فالقاعدة

(1) قال شيخ الإسلام في التدمرية ص73:

وهذا صريح في (أن) الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه ومرضه مرضه مفسراً ذلك بأنك (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده) فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل.

(2)

ونزيد مثالين على ما ذكر المؤلف كما ورد في كتاب موقف المتكلمين لسليمان الغصن (2/821) .

1 -

قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]

ص: 298

عند أهل السنة والجماعة معروفة وهي إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في قواعد نصوص الصفات والحمد لله رب العالمين.

فقد ورد عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية: " قبلة الله فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها ".

وقد احتج النفاة بهذا على أن التأويل وارد عن السلف وذكروا ذلك في مناظرتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ورد عليهم شيخ الإسلام بأن هذا قد صح عن مجاهد والشافعي وهو حق لكن الآية ليست من آيات الصفات حتى يجعل النافية تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع وبين أن من عدها في آيات الصفات فقد غلط، وإن كان فيها ذكر الوجه فالمقصود به في الآية القبلة فإن الوجه في لغة العرب هو الجهة يقال: أي وجه تريد؟ أي: أي جهة؟ ويقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه أي: إلى هذه الجهة كما قال تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} [سورة البقرة: 148] وسياق الكلام في الآية يدل على المراد فإنه قال: (ولله المشرق والمغرب) والمشرق والمغرب جهات ثم قال: (فأينما تولوا فثم وجه الله) و" أين " من الظروف، و " تولوا " أي: تستقبلوا.

فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله وأخبر ان الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف كأنه قال: جهة الله وقبلة الله.

والغرض أنه إذا قيل: " فثم قبلة الله " لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات ولا هو مما يستدل به على المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه.

2 -

قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق { [ن: 42]

فقد ورد عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: " هو الأمر الشديد المفضع من الهول يوم القيامة " وعن عكرمة نحو هذا التفسير وقد احتج بهذا نفاة الصفات من أهل التأويل وجعلوه من أدلتهم لتسويغ التأويل لآي الصفات. والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه الآية ليست صريحة في إثبات الساق صفة لله عز وجل ولذلك فسرها من فسرها من السلف بالكشف عن أمر شديد كما يقال كشفت الحرب عن ساق، فليس هذا التفسير من باب تأويل الصفات ولذلك نجد السلف رحمهم الله يثبتون صفة الساق كما ورد في التصريح بها في حديث أبي سعيد في الصحيحين وفيه:" فيكشف عن ساقه " يعني الرب سبحانه وتعالى وهذا

ص: 299

= يدل على أنهم لم يقصدوا تأويل الصفة وإنما فسروا الآية بما ظهر من معناها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

" ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال " يوم يكشف عن ساق " نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل، وإنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف "

وبهذا يتبين لنا أنه لا حجة لنفاة الصفات من أهل التأويل فيما زعموه من أن السلف تأولوا بعض نصوص الصفات.

وقد ظهر مما سبق أن تفسيرات السلف لهذه النصوص موافقة لظواهرها اللائقة بالله تعالى وأن تفسيراتهم هذه قد دلت عليها القرائن الصحيحة المتصلة بالنص أو المنفصلة عنه.

وقد عرفنا فيما مضى أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم " إذا كان مجملاً وظاهراً وقد فسر معناه وبينه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه فتفسيره بهذا الكلام الآخر ليس فيه خروج عن كلام الله ورسوله ولا عيب في ذلك ولا نقص "

وليس هو من التأويل المذموم الذي هو مدار النزاع بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل التأويل فإن أهل التأويل المذموم يجعلون ظواهر كثير من الألفاظ الشرعية دالة على ما ليست بمدلولة له من الكفر والإلحاد ثم يريدون صرفها عنه فوقعوا في محذورين:

أحدهما: ظنهم الباطل في ظواهر النصوص الشرعية.

والثاني: تحريفهم لمعاني النصوص الحقيقية.

والمقصود أن التأويل ليس كله باطلاً بل منه ما هو باطل ومنه ما هو حق وهو ما توافرت فيه شروط التأويل الصحيح سواء سمى تأويلاً أو تفسيراً أو غير ذلك ومن أمثلته:

قوله تعالى: {الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [النعام: 82] . = = = = = =

فالتأويل الصحيح للظلم هنا هو الشرك كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن لقمان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13] وكما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال الصحابة: " يعنى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأينا لم يظلم؟ فنزلت: {إن الشرك لظلم عظيم}

ومن هنا نعلم أن النصوص الشرعية يجوز تأويلها وذلك بتخصيص عمومها وتقييد مطلقها وبيان مجملها إذا توافرت في النص شروط التأويل الصحيح واعتمد على أدلة سليمة.

ص: 300

الفصل الخامس

ص: 301

الفصل الخامس

الخاتمة

إذا قال قائل: قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل لأكثر الصفات فكيف يكون مذهبهم باطلاً (1) وقد قيل إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمئة من المسلمين؟

- وكيف يكون باطلاً وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟ (2) .

- وكيف يكون باطلاً وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟ (3) .

- قلنا الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق.

ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر.

ثم نقول: إن إجماع المسلمين قديماً ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة وهم الصحابة الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

(1) هذا هو السؤال الأول.

(2)

هذا هو السؤال الثاني.

(3)

هذا هو السؤال الثالث. = = = = = =

ص: 303

وهم خير القرون بنص الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماعهم حجة ملزمة لأنه مقتضى الكتاب والسنة وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات.

** والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدعون لأنفسهم العصمة من الخطأ بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم وأنزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة قال الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] وقال عن إبراهيم: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} [النحل: 120، 121] .

ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الاقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة المرحلة الأولى - مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاماً يقرره ويناظر عليه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم. (1) .

المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص (471) من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوى لابن قاسم: " والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة " ا. هـ

المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً

(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص72 جـ4، انظر تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص34.

(2)

مجموع الفتاوى ص556 جـ 5.

ص: 304

بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) وهو من آخر كتبه أو آخرها (1) .

قال في مقدمته:

" جاءنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد جمع فيه علم الأولين وأكمل به الفرائض والدين فهو صراط الله المستقيم وحبله المتين من تمسك به نجا ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] إلى أن قال: " فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرهم بالعمل بكتابه فنبذ كثير ممن غلبت شقوته واستحوذ عليهم الشيطان سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم وأبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين " ثم ذكر رحمة الله أصولاً من أصول المبتدعة وأشار إلى بطلانها ثم قال:

" فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله

(1) وينكر بعض الأشعرية نسبة الكتاب جميعه إلى الإمام أبي الحسن

انظر نظرة علمية في نسبة الإبانة جميعه لأبي الحسن لوهبي غاوجي

وانظر ما كتبه الإمام الأشعري في رسالته المسماه برسالة الثغر بتحقيق كل من الدكتور محمد الجلينيد، وعبد الله الجنيدي، وتقسيم المؤلف أطوار أبي الحسن فيه خلاف بين الباحثين، فانظر الكلام عليه في موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور المحمود (1/361) . = = = = = =

ص: 305

وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات ومسائل في القدر والشفاعة وبعض السمعيات وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية

والمتأخرون الذين ينتسبون إليه أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت: = = = = = =

حى عليم قدير والكلام له

إرادة وكذاك السمع والبصر

على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها.

ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما قيل في شأن الأشعرية ص (359) من المجلد السادس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال:

" ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة " وقال قبل ذلك ص (310) : " وأما ألأشعرية فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وكلامه معنى واحد ومعنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والإنجيل واحد وهذا معلوم الفساد بالضرورة " ا. هـ

وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص (312) من شرح الهراس ط الإمام واعلم بأن طريقهم عكس ****الطريق المستقيم لمن له عينان

إلى أن قال:

فاعجب لعميان البصائر أبصروا

كون المقلد صاحب البرهان

ورأوه بالتقليد أولى من سواه

بغير ما بصر ولا برهان

وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا

معناهما عجباً لذي الحرمان

وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ص (319) جـ2 على تفسير آية استواء الله تعالى على عرشه التي في سورة الأعراف:

ص: 306

" اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً قال: ولا يخفي على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وأحرى في العقائد لا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم! ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث قال: " وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر. = = = = = =

والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله لأنه كفر وتشبيه إنما جر إليه ذلك تنجس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا وعدم الإيمان بها مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه فكان هذا الجاهل مشابهاً أولاً ومعطلاً ثانياً فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي معظماً لله كما ينبغي طاهراً من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده

ص: 307

السابق إلى فهمه أو صف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11] ا. هـ كلامه رحمه الله.

والأشعري أبو الحسن رحمه الله كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف

ولا تمثيل ومذهب الإنسان ما قاله أخيراً إذا صرح بحصر قوله فيه (1)

كما هي الحال في أبي

(1) إذا وجد للإنسان قولان مختلفان وعلم المتأخر فله حالان:

أ - أن يصرح بقوله الأخير بالرجوع عن القول الأول فإن الأخير يكون مذهباً له وهذا مراد المؤلف من قوله إذا صرح بحصر قوله فيه، وظاهر كلام الأصوليين ان هذا لا خلاف فيه.

ب - ألا يصرح بالرجوع فجمهور العلماء على ان القول الأخير هو مذهبه وذهب بعض الحنابلة والشافعية إلى أن الأول هو مذهبه ما دام انه لم يصرح بالرجوع

انظر إتحاف ذوي البصائر د. النملة (8/162) .

وقال الطوفي في شرح البلبل (3/625) :

إذا أطلق المجتهد قولين في وقتين فإن علم آخر القولين فهو مذهبه دون الأول فلا يجوز بعد رجوعه عنه أن يفتى به ولا يقلد فيه ولا يعد من الشريعة كالناسخ والمنسوخ في كلام الشارع ويبقى العمل على الناسخ المتأخر ويترك المنسوخ المتقدم من جهة العمل به، لأن نصوص الأئمة بالإضافة إلى مقلديهم كنصوص الشارع بالإضافة إلى الأئمة.

فإن قيل: إذا كان القول القديم المرجوع عنه لا يعد من الشريعة بعد الرجوع إليه فما الفائدة في تدوين الفقهاء للأقوال القديمة عن أئمتهم؟ حتى ربما نقل عن أحدهم في المسألة الواحدة القولان والثلاثة والأربعة.

قيل: قد كان القياس أن لا تدون تلك الأقوال وهو أقرب إلى ضبط الشرع إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه فتدوينه تعب محض لكنها دونت لفائدة أخرى وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء وأن تلك الأقوال قد أدى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات وذلك مؤثر في تقريب الترقي إلى رتبة الاجتهاد المطلق أو المقيد فإن المتأخر إذا نظر إلى مآخذ المتقدمين نظر فيها وقابل بينها فاستخرج منها فوائد وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها وذلك من المطالب المهمة فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة ا. هـ = = = = = =

ص: 308

الحسن كما يعلم من كلامه في الإبانة وعلى هذا فتمام تقليده إتباع ما كان عليه أخيراً وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة لأنه المذهب الصحيح الواجب الإتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه.

** والجواب عن السؤال الثالث من وجهين:

الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال وإنما يوزن الرجال بالحق هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال فالإنسان بشر يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته فقد يكون الرجل ديناً وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك.

الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أجل وأعظم وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة.

وإذا ارتقيت إلى من فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة.

وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف.

ونحن لا ننكر أن لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قدم صدق (1)

(1) كالنووي وانظر كتاب الردود والتعقبات على ما وقع للإمام النووي في شرح صحيح مسلم من التأويل في الصفات تأليف مشهور آل سلمان. = = = = = =

ص: 309

في الإسلام والذب عنه والعناية بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطئوا فيه ولا قبول قولهم في كل ما قالوه ولا يمنع من بيان خطئهم ورده لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق.

ولا ننكر أيضاً أن لبعضهم قصداً حسناً فيما ذهب إليه وخفى عليه الحق فيه ولكن لا يكفي لقبول القول حسن قصد قائله بل لابد أن يكون موافقاً لشريعة الله عز وجل فإن كان مخالفاً لها وجب رده على قائله كائناً من كان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "(1)

ثم إن كان قائله معروفاً بالنصيحة والصدق في طلب الحق اعتذر عنه في هذه المخالفة وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته.

حكم أهل التأويل

فإن قال قائل: هل تكفرون أهل التأويل أو تفسقونهم؟ (2)

قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا بل هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة فيجب التثبت فيه غاية التثبت فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.

والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه لأن في ذلك محذورين عظيمين:

أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به

(1) رواه مسلم في المطبوع مع شرح النووي (12/16) ، ورواه البخاري بلفظ من أحدث كما في نسخة الفتح (5/355) .

(2)

تراجع في هذه المسألة بعض الكتب المهمة المؤلفة فيها مثل منهج ابن تيمية في مسألة التكفير للمشعبي. = = = = = =

ص: 310

الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما " وفي رواية: " إن كان كما قال وإلا رجعت عليه "(1) وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه "(2)

وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.

الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.

ومن أهم الشروط: أن يكون عالماً بمخالفته (3) التي أوجبت أن يكون كافراً أو فاسقاً لقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115] وقوله: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [التوبة: 115، 116] ولهذا قال أهل العلم: " لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام (4) حتى يبين له ".

(1) رواه مسلم في المطبوع مع شرح النووي (2/49) وفي لفظ للبخاري المطبوع مع الفتح (10/531) : إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما: ا. هـ.

(2)

رواه مسلم في المطبوع مع شرح النووي (2/49) .

(3)

وأن يقصد المعين بكلامه المعنى المكفر، وان تقوم عليه الحجة

انظر منهج ابن تيمية ومسألة التكفير (1/207) .

(4)

أما إذا لم يكن حديث عهد بالإسلام فإنه يكفر.

ص: 311

ومن الموانع: أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور (1) :

منها: أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئناناً به فلا يكفر

حينئذ لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106] .

ومنها: أن يغلق عليه فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك.

ودليله ما ثبت في صحيح مسلم (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص (180) جـ (12) مجموع الفتاوى لابن قاسم: " وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقاً وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته " ا. هـ

وقال في ص (229) جـ (3) من المجموع المذكور في كلام له: "هذا

(1) ومن الموانع:

الخطأ، الجهل، العجز، الإكراه كما قال المؤلف.

انظر منهج ابن تيمية في التكفير (1/229) . = = = = = =

(2)

رواه مسلم المطبوع مع شرح النووي (17/63) .

ص: 312

مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك منى (1) أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه

الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية (2) والمسائل العملية (3) وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية " وذكر أمثلة ثم قال: " وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين " إلى أن قال: " والتكفير هو من الوعيد فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين (4) في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فو الله لئن قدر الله على ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ففعلوا به ذلك فقال الله ما حملك على ما فعلت قال خشيتك فغفر له "فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا" ا. هـ

وبهذا علم الفرق بين القول والقائل وبين الفعل والفاعل فليس كل

(1) وهي العقائد. = = = = = =

(2)

هذه جملة معترضة.

(3)

وهي الفروع أي الفقه.

(4)

رواه البخاري مع الفتح (13/479) ، ومسلم مع النووي (17/70) وانظر شرح الحديث فيهما واختلاف العلماء في معناه. = = = = = =

ص: 313

قول أو فعل يكون فسقاً أو كفراً يحكم على قائله أو فاعله بذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص (165) جـ (35) من مجموع الفتاوى: " وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها " إلى أن قال: " فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان " ا. هـ كلامه.

وبهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه ومن تبين له الحق فأصر على مخالفته تبعاً لاعتقاد كان يعتقده أو متبوع كان يعظمه أو دنيا كان يؤثرها فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق.

فعلى المؤمن أن يبني معتقده وعمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجعلهما إماماً له يستضيء بنورهما ويسير على منهاجهما فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 135] .

وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه

ص: 314

النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين وما سواهما إماماً لا تابعاً وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى لا أتباع الهدى وقد ذم الله هذه الطريق في قوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون: 71] .

والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤال الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف.

ومن سأل الله تعالى بصدق وافتقار إليه عالماً بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه فهو حرى أن يستجيب الله تعالى له سؤله يقول الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [البقرة: 186] .

فنسأل الله أن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه ورأى الباطل باطلاً واجتنبه وأن يجعلنا هداة مهتدين وصلحاء مصلحين وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1401هـ

بقلم مؤلفه الفقير إلى الله

محمد الصالح العثيمين

ص: 315

تعقيب

معية الله تعالى لخلقه (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.

أما بعد:

فقد كنا تكلمنا في بعض مجالسنا على معنى معية الله تعالى لخلقه ففهم بعض الناس من ذلك ما ليس بمقصود لنا ولا معتقد لنا فكثر سؤال الناس وتساؤلهم ماذا يقال في معية الله لخلقه؟

وإننا:

أ - لئلا يعتقد مخطئ أو خاطئ في معية الله ما لا يليق به.

ب - ولئلا يتقول علينا متقول ما لم نقله أو يتوهم واهم فيما نقوله ما لم نقصده.

ج_

ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن ووصفه بها نبيه محمد (.

(1) نص الكلمة التي نشرها المؤلف في مجلة الدعوة السعودية في عدد 911 الصادرة يوم الاثنين الموافق 4/1/1404هـ. = = = = = = = = = = = =

ص: 316

نقرر ما يأتي:

أولاً: معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف:

قال الله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وقال عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت "(1) حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وضعفه بعض أهل العلم وسبق قريباً ما قاله الله تعالى عن نبيه من إثبات المعية له.

وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.

ثانياً هذه المعية حق على حقيقتها ولكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق:

لقوله تعالى عن نفسه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] وقوله: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65] وقوله: {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين.

قال ابن عبد البر: " أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة في

(1) رواه أبو نعيم في الحلية (6/124) وقال: غريب من حديث عروة لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر.

والبيهقي في الأربعين الصغرى ص120.

وعزاه الهيثمي في المجمع (1/65) : إلى الطبراني في المجمع الأوسط والكبير وقال: تفرد به عثمان بن كثير قلت: ولم أره من ذكره بثقة ولا جرح ا. هـ

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص142 حديث رقم 1002. = = = = = = = = = = = =

ص: 317

القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة " (1) ا. هـ

نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (87) من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم:

وقال شيخ الإسلام في الفتوى ص (102) من المجلد المذكور: " ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك - يعنى مما جاء في الكتاب والسنة - يناقض بعضه بعضا ألبته مثل أن يقول القائل ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه " (2) ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 4] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال (3) : " والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه " وذلك أن كلمة " مع " في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فانه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة " ا. هـ

ثالثاً: هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً:

(1) في نسخة المؤلف (محدودة) وقد صححناها من نسخ الحموية وقد سبق بيان ذلك. = = = = = =

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه. = = = = = = = = = = = =

ص: 318

وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص بشخص أو وصف كقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] وقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] .

فإن خصت بشخص أو وصف اقتضت مع ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد.

- مثال المخصوصة بشخص: قوله تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .

- ومثال المخصوصة بوصف: قوله تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46] وأمثالها في القرآن كثيرة.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص (103) من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال: ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها} [الحديد: 4] إلى قوله: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم مهيمن عالم بكم وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته قال: ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد وكذلك قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد. ". = = = = = = = = = = = = = = = = = =

ص: 319

وقال محمد بن الموصلي في كتاب (استعجال الصواعق على الجهمية والمعطلة) لابن القيم في المثال التاسع ص (409) ط الإمام: " وغاية ما تدل عليه - مع - المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور وذا الاقتران في كل موضع بحسبه ويلزمه لوازم بحسب متعلقة فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق العموم كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان ذلك خاصاً كقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة فمعية الله تعالى مع عبده نوعان عامة وخاصة وقد اشتمل القرآن على النوعين وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة " ا. هـ

* وذكر ابن رجب في شرح الحديث التاسع والعشرين من الأربعين النووية: " أن المعية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وأن العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم ".

* وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في سورة المجادلة: " ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه قال: ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضاً مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء " ا. هـ

رابعاً: - هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم:

ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه لأن هذا المعنى باطل مستحيل على الله عز وجل ولا يمكن أن يكون معنى كلام الله ورسوله شيئاً مستحيلاً باطلاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص (115) ط ثالثة من شرح محمد خليل الهراس: وليس معنى قوله: {وهو معكم} [الحديد: 4] أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة بل القمر آية من آيات الله

ص: 320

تعالى من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان " ا. هـ = = = = = =

ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان: تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

وقد أنكر قولهم هذا من أدركه من السلف والأئمة لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة المتضمنة لوصفه بالنقائص وإنكار علوه على خلقه.

وكيف يمكن أن يقول قائل عن الله تعالى بذاته في كل مكان أو أنه مختلط بالخلق وهو سبحانه قد {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 255]{والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]

خامساً: - هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه واستوائه على عرشه:

فإن الله تعالى قد ثبت له العلو المطلق علو الذات وعلو الصفة قال الله تعالى: {وهو العلى العظيم} [البقرة: 255] وقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] وقال تعالى: {ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل: 60] .

وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على علو الله تعالى

**أما أدلة الكتاب: فلا تكاد تحصر مثل قوله تعالى: {فالحكم لله العلي الكبير} [غافر: 12] وقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] وقوله: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً} [الملك: 17] وقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] وقوله: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(1) .

(1) قد تقدم تخريجه.

ص: 321

وقوله: " والعرش فوق الماء والله فوق العرش "(1)

وقوله: " ولا يصعد إلى الله إلا الطيب "(2) ومثل إشارته إلى السماء يوم عرفة يقول: " اللهم اشهد "(3) يعني على الصحابة حين أقروا أنه بلغ.

ومثل إقراره الجارية حين سألها: أين الله؟ قالت: في السماء: قال: " اعتقها فإنها مؤمنة "(4) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

**وأما الإجماع: فقد نقل إجماع السلف على علو الله تعالى غير واحد من أهل العلم.

**وأما دلالة العقل: على علو الله تعالى فلأن العلو صفة كمال والسفول صفة نقص والله تعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص.

** وأما دلالة الفطرة: على علو الله تعالى فإنه ما من داع يدعو ربه إلا وجد من قلبه ضرورة بالاتجاه إلى العلو من غير دراسة كتاب ولا تعليم معلم.

وهذا العلو الثابت لله تعالى بهذه الأدلة القطعية لا يناقض حقيقة المعية وذلك من وجوه:

الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض ولو كانا متناقضين لم يجمع القرآن بينهما.

(1) رواه الطبراني في الكبير (9/202) وقال في المجمع (1/91) رجاله رجال الصحيح ا. هـ.

ورواه أيضاً البيهقي في الأسماء والصفات ص507 والدرامي في رده على المريسى ص90، واللالكائي (3/395) ، وأبو الشيخ في العظمة ص107، وابن عبد البر في التمهيد (7/139) ، وابن خزيمة في التوحيد (1/243) ، وابن قدامة في العلو ص152، والذهبي في مختصر العلو ص103 وقال الألباني: إسناده صحيح ا. هـ

(2)

هو جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيباً

. "الحديث وقد تقدم.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 322

وكل شيء في كتاب الله تعالى تظن فيه التعارض فيما يبدو لك فأعد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى يتبين لك قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] .

الوجه الثاني: أن اجتماع المعية والعلو ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا ولا يعد ذلك تناقضاً ومن المعلوم أن السائرين في الأرض والقمر في السماء فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق فما بالك بالخالق المحيط بكل شيء.

قال الشيخ محمد خليل الهراس ص (115) في شرحه العقيدة الواسطية عند قول المؤلف: " بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان " قال: " وضرب لذلك مثلاً بالقمر الذي هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغيره أينما كان قال: فإذا جاز هذا في القمر وهو من أصغر مخلوقات الله تعالى أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علماً وقدرة والذي هو شهيد مطلع عليهم يسمعهم ويراهم ويعلم سرهم ونجواهم بل العالم كله سمواته وأرضه من العرش إلى الفرش بين يديه كأنه بندقة في يد أحدنا أفلا يجوز لمن هذا شأنه أن يقال إنه مع خلقه مع كونه عالياً عليهم بائناً منهم فوق عرشه " ا. هـ

الوجه الثالث: أن اجتماع العلو والمعية لو فرض أنه ممتنع في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ممتنعاً في حق الخالق فإن الله لا يماثله شيء من خلقه: " {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص (116) ط ثالثة من شرح الهراس: " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو عليّ في دنوه قريب في علوه " ا. هـ

** وخلاصة القول في هذا الموضوع كما يلي: -

1 -

أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.

ص: 323

2 -

أنها حق على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى من غير أن تشبه معية المخلوق للمخلوق.

3 -

أنها تقتضي إحاطة الله بالخلق علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة وتقتضي مع ذلك نصراً وتأييداً وتوفيقاً وتسديداً إن كانت خاصة.

4 -

أنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه.

5 -

إذا تدبرنا ما سبق علمنا أنه لا منافاة بين كون الله مع خلقه حقيقة وكونه في السماء على عرشه حقيقة. سبحانه وبحمده لا نحصى ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.

حرره الفقير إلى الله تعالى:

محمد الصالح العثيمين قي 27/11/1403هـ

ص: 324