المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة - أم القرى

[الكواكبي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌الِاجْتِمَاع الأول

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر ذِي الْعقْدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّانِي

- ‌يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّالِث

- ‌يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الرَّابِع

- ‌يَوْم السبت الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الْخَامِس

- ‌يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع السَّادِس

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع السَّابِع

- ‌يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّامِن

- ‌يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع التَّاسِع

- ‌ويتبعه الِاجْتِمَاع الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر

- ‌يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّانِي عشر

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌قانون جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين

- ‌الْمُقدمَة

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي تشكيل الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي مباني الجمعية

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي مَالِيَّة الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌فِي وظائف الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌تعتني الجمعية فِي حمل الْعلمَاء وجمعيات الاحتساب على تَعْلِيم الْأمة مَا يجب عَلَيْهَا شرعا من المجاملة فِي الْمُعَامَلَة من غير الْمُسلمين، وَمَا تَقْتَضِيه الإنسانية والمزايا

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌خَاتِمَة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌قَرَار عدد

- ‌لاحقة

الفصل: ‌يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة

‌الِاجْتِمَاع الْخَامِس

‌يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

1316

فِي الْوَقْت الْمعِين فِي الْيَوْم الْمَذْكُور تَكَامل الِاجْتِمَاع واستعدت الْهَيْئَة للمداولة وَالسَّمَاع، وَقَرَأَ كَاتب الجمعية ضبط الجلسة السَّابِقَة حسب الْقَاعِدَة المرعية.

قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: سنبحث بعد يَوْمَيْنِ فِي وضع قانون للجمعية الدائمة، وَإِنِّي أرى أَن نفوض للجنة منا من الَّذين سبق لَهُم دُخُول فِي جمعيات علمية، أَو الَّذين لَهُم وقُوف على مباني الجمعيات القانونية وَلَا سِيمَا الغربية الْمَعْرُوفَة باسم (أكاديميات) لتنظم لنا هَذِه اللجنة سانحة قانون نضعها تَحت الْبَحْث فِي الجمعية.

وَإِنِّي أكلف لهَذِهِ اللجنة أخانا السَّيِّد الفراتي ليقوم بكتابتها، وأخانا السعيد الإنكليزي ليُفِيد اللجنة عَمَّا يُعلمهُ عَن الأكاديميات وَعَن مجربات جمعيات ليفر بَوْل وَرَأس الرَّجَاء، وإخواننا الْعَلامَة الْمصْرِيّ

ص: 105

والصاحب الْهِنْدِيّ والمدقق التركي وَهَذَا يرأسهم لِأَنَّهُ أسنهم، وَهَؤُلَاء خَمْسَة أَعْضَاء، فَهَل تستصوب الجمعية ذَلِك وَترى الْكِفَايَة والكفاءة أم تستدرك شَيْئا.

ثمَّ ابتدر السعيد الإنكليزي: للمقال مُخَاطبا الْأُسْتَاذ الرئيس فَقَالَ: أننا مُسْلِمِي (ليفربول) حديثو عهد بِالْإِسْلَامِ، وَلنَا إشكالات مهمة تتَعَلَّق ببحث الْيَوْم أَعنِي بطريقة الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة، لِأَن أكثرنا قد اهتدينا وَالْحَمْد لله إِلَى الإسلامية منتقلين إِلَيْهَا من (البروتستانتية) أَي الطَّائِفَة الإنجيلية لأمن الكاثوليك أَي الطَّائِفَة التقليدية، فنميل طبعا لإتباع الْكتاب وَالسّنة فَقَط وَلَا نثق بقول غير مَعْصُوم فِيمَا ندين، وَقد تركنَا دين آبَائِنَا وقومنا لنتبع دين مُحَمَّد نَبِي الْإِسْلَام [صلى الله عليه وسلم] ، لَا لنتبع الْحَنَفِيّ أَو الشَّافِعِي أَو الْحَنْبَلِيّ أَو الْمَالِكِي وَإِن كَانُوا ثقاة ناقلين.

وَلنَا جمعية منتظمة لَهَا شعبتان فِي أمريكا وجنوب إفريقيا، وَنحن راغبون أَن نسعى سعيا حثيثا فِي الدعْوَة للدّين السَّامِي الإسلامي الْمُبين. والأقوام الَّذين ندعوهم غالبهم متمدنون أَي أفكارهم متنورة بالعلوم

ص: 106

والمعارف، وأكبر أملنا مَعْقُود بهداية فئتين اثْنَتَيْنِ الأولى البروتستان وَالثَّانيَِة الزَّنَادِقَة.

أما أملنا فِي البروتستان فلأنهم منقلبون حَدِيثا من الكاثوليكية، انقلاباً ناشئاً عَن ترجيحهم الِاقْتِصَار على الْإِنْجِيل ومجموعة الْكتب المقدسة متونا فَقَط، أَي بإهمال الشُّرُوح والتفسيرات والمزيدات الَّتِي لَا يُوجد لَهَا أصل صَرِيح فِي الْإِنْجِيل. والبروتستان فِي أوروبا وأمريكا يزِيدُونَ على مائَة مليون من النُّفُوس كلهم مفطورون على التدين، قليلو العناد فِي الِاعْتِقَاد، مستعدون لقبُول الْبَحْث والانقياد للحق بِشَرْط ظُهُوره ظهوراً عقليا؛ وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْحق ملائماً لأسباب هجرهم الكاثوليكية من نَحْو: إنكارهم الرياسة لدينية والرهبانية، والتوسل بالقديسين وَطلب الشَّفَاعَة مِنْهُم، واحترام الصُّور والتماثيل، وَالدُّعَاء لأجل الْأَمْوَات، وَبيع الغفران، وَالْقَوْل بِأَن للبطارقة قُوَّة قدسية وَقُوَّة تشريعية، وَإِن للبابا صفة الْعِصْمَة عَن الْخَطَأ فِي الدّين، وَإِن للأساقفة وَمن دونهم من القسيسين مَرَاتِب مُقَدَّسَة، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ينْتج فِي النَّصْرَانِيَّة سلطة دينية وتشديدات تعبدية لَا يُوجد لَهَا أصل فِي الْإِنْجِيل.

وَقد يشبه هَؤُلَاءِ البروتستان فِي رَأْيهمْ فِئَة قَليلَة من الْيَهُود تعرف

ص: 107

باسم القرائين، وهم الآخذون بِأَصْل التَّوْرَاة والمزامير النابذون للتلمود أَي لتفسيرات ومزيدات الْأَحْبَار والحاخامين الأقدمين.

أما الفئة الثَّانِيَة فهم الزَّنَادِقَة المارقون من النَّصْرَانِيَّة كليا لعدم ملاءمتها لِلْعَقْلِ، وَهَؤُلَاء فِي أوروبا وأمريكا كَذَلِك يزِيدُونَ على مائَة مليون من النُّفُوس، غالبهم مستعدون لقبُول ديانَة تكون معقولة حرَّة سمحاء تريحهم من نصب الْكفْر فِي الْحَيَاة الْحَاضِرَة فضلا عَن الْعَذَاب فِي الْآخِرَة.

وَمن غَرِيب نتائج التدقيق: إِن أَفْرَاد هَذِه الفئة كلما بعدوا عَن النَّصْرَانِيَّة نفوراً من شركها وخرافاتها وتشديداتها، يقربون طبعا من التَّوْحِيد والإسلامية وحكمتها وسماحتها.

فبناء على هَذِه الآمال ترى جمعية) ليفربول) أهمية عَظِيمَة لتحرير مَسْأَلَة الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة، وتصوير حِكْمَة وسماحة الدّين الإسلامي للْعَالم المتمدن. فأرجو حَضْرَة الْأُسْتَاذ الرئيس أَن يسمح لي بتفهم مَسْأَلَة الاستهداء على أسلوب المحاورة والمساجلة مَعَ بعض الإخوان الأفاضل فِي هَذَا المحفل العلمي الْعَظِيم. فَأَجَابَهُ الْأُسْتَاذ الرئيس بقوله لَهُ: ساجل من شِئْت وخاطب من أردْت فالأخوان كلهم عُلَمَاء أفاضل حكماء.

ص: 108

فَقَالَ السعيد الإنكليزي مُخَاطبا الْعَالم النجدي. أَنَّك يَا مولَايَ قد صورت فِي مُقَدّمَة خطابك فِي التَّوْحِيد من هُوَ الْمُسلم وألزمته الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة، فأرجوك أَن تعرفنِي أَولا مَا هُوَ الْكتاب وَمَا هِيَ السّنة.

فَقَالَ الْعَالم النجدي: أما (الْكتاب) فَهُوَ هَذَا الْقُرْآن الَّذِي وصل إِلَيْنَا بطرِيق لَا تحْتَمل الشُّبْهَة فِيهِ لِاجْتِمَاع الْكَلِمَة واتفاق الْأمة عَلَيْهِ، وتناقلها إِيَّاه جيلاً عَن جيل، وحفظاً فِي الصُّدُور، وضبطاً فِي السطور مَعَ الْحِرْص الْعَظِيم على كَيْفيَّة أَدَائِهِ لفظا وعَلى هَيْئَة إمْلَائِهِ كِتَابَة، وَمَعَ الاعتناء الْكَامِل فِي تَحْقِيق أَسبَاب النُّزُول ومكانه وَوَقته، وَمَعَ حفظ اللُّغَة الْعَرَبيَّة المضرية القرشية الَّتِي نزل بهَا بِاتِّفَاق لَا مزِيد عَلَيْهِ. وَبَقَاء الْقُرْآن مَحْفُوظًا من التحريف والتغيير وموجبات الريب إِلَى الْآن هُوَ أحد وُجُوه إعجازه، حَيْثُ جَاءَ مُصدقا لقَوْله تَعَالَى فِيهِ:{إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} .

أما (السّنة) فَهِيَ مَا قَالَه الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] أَو فعله أَو أقره، وَلم يكن صدر مِنْهُ ذَلِك على سَبِيل الِاخْتِصَاص أَو الْحِكَايَة أَو الْعَادة؛ وَقد اعتنى الصَّحَابَة وَلَا سِيمَا التابعون وتابعوهم رضي الله عنهم بِحِفْظ السّنة حَدِيثهَا وآثارها وسيرها غَايَة الاعتناء؛ وتناقلوها

ص: 109

بالرواية والسند المتسلسل متحرين الوثوق مُنْتَهى مَرَاتِب التَّحَرِّي والتثبت؛ وَقد حازت بعض مدونات السّنة وثوقا تَاما وقبولا عَاما فِي الْأمة فوصلتنا بِكَمَال الضَّبْط خُصُوصا مِنْهَا الْكتب السِّتَّة.

قَالَ السعيد الإنكليزي لَا يشك أحد حَتَّى الْعَدو والمغاند فِي أَنه لم تبلغ وَلنْ تبلغ أمة من الْأُمَم شأو الْمُسلمين فِي اعتنائهم بِحِفْظ الْقُرْآن الْكَرِيم وضبطهم التَّارِيخ النَّبَوِيّ أَو السّنة، وَكَذَلِكَ يُقَال فِي اعتنائهم باللغة الْعَرَبيَّة الَّتِي هِيَ آلَة فهم الْخطاب.

وبالنظر إِلَى ذَلِك كَانَ يجب أَن نحرر الشَّرِيعَة الإسلامية أحسن تَحْرِير، فَلَا يُوجد فِيهَا مَا وجد فِي غَيرهَا بِسَبَب عدم ضبط أُصُولهَا من اختلافات ومباينات مهمة بَين الْعلمَاء الْأَئِمَّة، فأرجوك أَن تبين لي مَا هُوَ منشأ هَذَا التشتت الَّذِي نرَاهُ فِي الْأَحْكَام.

إِجَابَة الْعَالم النجدي: أَن الاختلافات الْمَوْجُودَة فِي الشَّرِيعَة لَيست كَمَا يظنّ شَامِلَة لِلْأُصُولِ، بل أصُول الدّين كلهَا وَالْبَعْض من الْفُرُوع مُتَّفق عَلَيْهَا لِأَن لَهَا فِي الْقُرْآن أَو السّنة أحكاماً صَرِيحَة قَطْعِيَّة الثُّبُوت، قَطْعِيَّة الدّلَالَة، أَو ثَابِتَة بِإِجْمَاع الْأمة الَّذِي لَا يجوز الْعقل فِيهِ أَن يكون عَن غير أصل فِي الشَّرْع.

أما الخلافات فَإِنَّمَا هِيَ فِي فروع تِلْكَ الْأُصُول وَفِي بعض الْأَحْكَام

ص: 110

الَّتِي لَيْسَ لَهَا فِي الْقُرْآن أَو السّنة نُصُوص صَرِيحَة، بل بعض عُلَمَاء الصَّحَابَة رضي الله عنهم وفقهاء التَّابِعين وَمن جَاءَ بعدهمْ من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين اخذوا تِلْكَ الْأَحْكَام الَّتِي تخالفوا فِيهَا إِمَّا تلقياً من بعض الصَّحَابَة، فَكل قلد من صَادف؛ وَأما استنبطوها اجْتِهَادًا من نُصُوص الْكتاب أَو السّنة بالمدلول الْمُحْتَمل، أَو بِالْمَفْهُومِ أَو بالاقتضاء، أَو من قَرَائِن الْحَال أَو قَرَائِن الْمقَال، أَو بالتوفيق أَو بالتخريج أَو التَّفْرِيع أَو الْقيَاس، أَو باتحاد الْعلَّة أَو باتحاد النتيجة أَو بالتأويل أَو الِاسْتِحْسَان. وَهَذِه الْأَحْكَام الخلافية كلهَا ترجع إِلَى دَلَائِل أما قَطْعِيَّة الثُّبُوت ظنية الدّلَالَة، أَو ظنية الثُّبُوت ظنية الدّلَالَة. وَلكُل وَاحِد من الْمُجْتَهدين أصُول فِي التطبيق وقوانين فِي الاستنباط يُخَالف فِيهَا الآخر، ومنشأ معظمها الخلافات النحوية والبيانية.

ثمَّ أَن أَكثر الخلافات هِيَ فِي مسَائِل الْمُعَامَلَات، وعَلى كل حَال جاحدها لَا يكفر بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، بل المتخالفون لَا يفسق بَعضهم بَعْضًا إِذا كَانَ التخالف عَن اجْتِهَاد لَا عَن هوى نفس أَو تَقْصِير فِي التتبع الْمُمكن للمقيم فِي دَار الْإِسْلَام (مرحى) .

قَالَ السعيد الإنكليزي: إِنِّي أشكرك على مَا أجملت وأوضحت، غير أَنَّك لم تذكر فِي جملَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار النَّاسِخ

ص: 111

والمنسوخ بَين آيَتَيْنِ أَو حديثين، أَو آيَة وَحَدِيث، وَإِنِّي أَظن أَن ذَلِك من اعظم أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام.

الْإِجَابَة الْعَالم النجدي: أَن نواسخ الْأَحْكَام قَليلَة ومعلومة، وَالْخلاف فِيهَا أقل، لِأَن النّسخ فِي زمن التشريع لم يحصل إِلَّا عَن حِكْمَة ظَاهِرَة كالتدريج فِي منع السكر حَالَة الصَّلَاة ثمَّ تَعْمِيم مَنعه. وكتغيير الْمُقْتَضى للتوارث بالإخاء وَهُوَ القطيعة الَّتِي حصلت بَين الْمُهَاجِرين وَذَوي أرحامهم فِي بَدْء الْأَمر، ثمَّ لما تَلَاحَقُوا بعد فتح مَكَّة نسخ ذَلِك وَجعل التَّوَارُث بِالنّسَبِ. وكالدعوة فِي الأول للتوحيد وَالدّين بِمُجَرَّد الموعظة بِدُونِ جِدَال، ثمَّ بِهِ بِدُونِ صدع، ثمَّ بِهِ بِدُونِ قتال، ثمَّ بِهِ فِي أهل جَزِيرَة الْعَرَب فَقَط ثمَّ بتعميمه مَعَ قبُول الْجِزْيَة وَالْخَرَاج من غَيرهم (مرحى) .

قَالَ السعيد الإنكليزي: أَن مَا وصفت من أصُول الِاجْتِهَاد وقوانين استنباط الْأَحْكَام قد أنتج خلاف مَا يَأْمر الله بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أقِيمُوا الدّين وَلَا تفَرقُوا فِيهِ} ، وَخلاف مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة فَهَل من وَسِيلَة سهلة لرفع هَذَا التَّفَرُّق.

ص: 112

إِجَابَة الْعَالم النجدي: إِنِّي لَا أهتدي لذَلِك سَبِيلا، وَلَعَلَّ فِي الإخوان من يتَصَوَّر وَسِيلَة لهَذَا الْأَمر المهم.

فابتدر الْعَلامَة الْمصْرِيّ مُخَاطبا السعيد الإنكليزي وَقَالَ: أَن رفع الْخلاف غير مُمكن مُطلقًا وَلَكِن يُمكن تَخْفيف تأثيراته. وَذَلِكَ انه لما كَانَ مُعظم الِاخْتِلَاف كَمَا قَرَّرَهُ أخونا الْعَالم النجدي فِي الْفُرُوع دون الْأُصُول، وَفِي السّنَن والمندوبات والصغائر والمكروهات دون الشعائر والواجبات والكبائر والمنكرات؛ وَكَانَ أَكثر الْأمة هم الْعَامَّة الَّذين لَا يقدرُونَ أَن يميزوا بَين الْوَاجِب وَالسّنة وَالْمَنْدُوب، وَبَين النَّفْل والمباح؛ أَو يفرقُوا بَين الْكفْر وَالْحرَام، وَبَين الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة وَالْمَكْرُوه تَنْزِيها وَالتَّقوى؛ بل تَنْقَسِم الْأَحْكَام كلهَا فِي نظرهم إِلَى نَوْعَيْنِ أصليين فَقَط: مَطْلُوب ومحظور، وبتعبير آخر إِلَى حَلَال وَحرَام، وَكَانَت أَحْكَام الشَّرِيعَة كَثِيرَة جدا، فالعامة يَجدونَ أنفسهم مكلفين بِمَا لَا يُطِيقُونَ الْإِحَاطَة بمعرفته فضلا عَن الْقيام بِهِ،

ص: 113

ويرون أَن لَا مناص لَهُم من التهاون فِي أَكْثَره أَو بعضه، فَيقوم أحدهم بِالْبَعْضِ دون الْبَعْض، فَيَأْتِي بالنفل ويتهاون بِالْوَاجِبِ وَيَتَّقِي الْمَكْرُوه وَيقدم على الْحَرَام، وَذَلِكَ كَمَا قُلْنَا لاستكثاره الْأَحْكَام وجهله بمراتبها فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.

بِنَاء على ذَلِك أرى لَو أَن فُقَهَاء الْأمة كَمَا فرقوا مَرَاتِب الْأَحْكَام على الْمسَائِل، يفرقون الْمسَائِل أَيْضا على مَرَاتِب فِي متون مَخْصُوصَة؛

فيعقدون لكل مَذْهَب من الْمذَاهب كتابا فِي الْعِبَادَات يَنْقَسِم إِلَى أَبْوَاب وفصول تذكر فِي كل مِنْهَا الْفَرَائِض والواجبات فَقَط، وتنطوي ضمنهَا الشَّرَائِط والأركان بِحَيْثُ يُقَال أَن هَذِه الْأَحْكَام فِي هَذِه الْمذَاهب هِيَ أقل مَا تجوز بِهِ الْعِبَادَات.

ويعقدون كتابا آخر يَنْقَسِم إِلَى عين تِلْكَ الْأَبْوَاب والفصول، تذكر فِيهَا السّنَن بِحَيْثُ يُقَال أَن هَذِه الْأَحْكَام يَنْبَغِي رعايتها فِي أَكثر الْأَوْقَات.

ثمَّ كتابا ثَالِثا مثل الْأَوَّلين تذكر فِيهِ سنَن الزَّوَائِد، بِحَيْثُ يُقَال إِن هَذِه الْأَحْكَام رعايتها أولى من تَركهَا.

ص: 114

وعَلى هَذَا النسق يوضع كتاب للمنهيات، يقسم إِلَى أَبْوَاب وفصول تعد فِيهَا المكفرات والكبائر، وَكَذَا الصَّغَائِر والمكروهات، وَمثل ذَلِك تقسم كتب الْمُعَامَلَات على طَبَقَات من الْأَحْكَام الإجماعية أَو الاجتهادية أَو الاستحسانية.

فبمثل هَذَا التَّرْتِيب يسهل على كل من الْعَامَّة أَن يعرف مَا هُوَ مُكَلّف بِهِ فِي دينه، فَيعْمل بِهِ على حسب مراتبة وإمكانه، وبهذه الصُّورَة تظهر سماحة الدّين الحنيف، وَيصير الْمُسلم مطمئن الْقلب، مثله كَمثل تَاجر لَهُ دفاتر وقيود وحسابات وموازنات منتظمة فيعيش مطمئن الْفِكر. وَكم بَين هَذَا التَّاجِر وَبَين تَاجر آخر حساباته فِي أوراق منتثرة ومعاملاته مشتتة متزاحمة فِي فكره، لَا يعرف مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، فيعيش عمره مرتبك البال مُضْطَرب الْحَال (مرحى) .

قَالَ الْمُحدث اليمني: أننا معاشر أهل الْيمن وَمن يلينا من أهل الجزيرة، كَمَا أننا لم نزل بعيدين عَن الصَّنَائِع والفنون فَكَذَلِك لم نزل على مَذْهَب السّلف فِي الدّين، بعيدين عَن التفنن فِيهِ. ومسلكنا مَسْلَك أهل الحَدِيث وأكثرنا يخرج الْأَحْكَام على أصُول اجْتِهَاد الإِمَام زيد ابْن عَليّ بن زين العابدين، أَو أصُول الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل. وَأَنِّي أذكر للإخوان حالتنا الاستهدائية عَسى أَن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ؛

ص: 115

وَعَسَى أَن يعلم الْمُسلمُونَ وَلَا سِيمَا الأتراك وَمن يحكمون أننا من أهل السّنة، لَا كَمَا يوهمون أَو يتوهمون، فَأَقُول أَن الْمُسلمين عندنَا على ثَلَاث مَرَاتِب: الْعلمَاء والقراء والعامة.

فالطبقة الأولى: الْعلمَاء، وهم كل من كَانَ متصفا بِخمْس صِفَات:

1 -

أَن يكون عَارِفًا باللغة الْعَرَبيَّة المضرية القرشية بالتعلم والمزاولة معرفَة كَافِيَة لفهم الْخطاب، لَا معرفَة إحاطة بالمفردات ومجازاتها، وبقواعد الصّرْف وشواذه، والنحو وتفصيلاته وَالْبَيَان وخلافاته، والبديع وتكلفاته، مِمَّا لَا يَتَيَسَّر إتقانه إِلَّا لمن يفني ثُلثي عمره فِيهِ، مَعَ أَنه لَا طائل تَحْتَهُ وَلَا لُزُوم لأكثره إِلَّا لمن أَرَادَ الْأَدَب.

2 -

أَن يكون قَارِئًا كتاب الله تَعَالَى قِرَاءَة فهم للمتبادر من مَعَاني مفرداته وتراكيبه، مَعَ الِاطِّلَاع على أَسبَاب النُّزُول ومواقع الْكَلَام من كتبهَا الْمُدَوَّنَة الْمَأْخُوذَة من السّنة والْآثَار وتفاسير الرَّسُول عليه السلام، أَو تفاسير أَصْحَابه عَلَيْهِم الرضْوَان، وَمن الْمَعْلُوم أَن آيَات الْأَحْكَام لَا تجَاوز الْمِائَة وَالْخمسين آيَة عدا.

ص: 116

3 -

أَن يكون متضلعا فِي السّنة النَّبَوِيَّة الْمُدَوَّنَة على عهد التَّابِعين وتابعيهم، أَو تَابِعِيّ تابعيهم فَقَط، بِدُونِ قيد بِمِائَة ألف أَو مِائَتي ألف حَدِيث، بل يَكْفِيهِ مَا كفى مَا لكافي موطئِهِ واحمداً فِي مُسْنده. وَمن الْمَعْلُوم أَن أَحَادِيث الْأَحْكَام لَا تجَاوز الْألف وَخَمْسمِائة حَدِيث أبدا.

4 -

أَن يكون وَاسع الِاطِّلَاع على سيرة النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَأَصْحَابه وأحوالهم من كتب السّير الْقَدِيمَة والتواريخ الْمُعْتَبرَة لأهل الحَدِيث كالحافظ الذَّهَبِيّ وَابْن كثير وَمن قبلهم، وكابن جرير وَابْن قُتَيْبَة وَمن قبلهم كمالك وَالزهْرِيّ وإضرابهم.

5 -

أَن يكون صَاحب عقل سليم فطري لم يفْسد ذهنه بالْمَنْطق والجدل التعليميين والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورسية، وبأبحاث الْكَلَام وعقائد الْحُكَمَاء ونزعات الْمُعْتَزلَة، وإغرابات

ص: 117

الصُّوفِيَّة، وتشديدات الْخَوَارِج، وتخريجات الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين، وحشويات الموسوسين، وتزويقات المرائين وتحريفات المدلسين (مرحى) .

فَأهل هَذِه الطَّبَقَة يستهدون بِأَنْفسِهِم وَلَا يقلدون إِلَّا بعد الْوُقُوف على دَلِيل من يقلدون، فَإِذا وجدوا فِي الْمَسْأَلَة قُرْآنًا ناطقاً لَا يتحولون عَنهُ لغيره مُطلقًا، وَإِذا كَانَ الْقُرْآن مُحْتملا لوجوه، فَالسنة قاضية عَلَيْهِ مفسرة لَهُ ثمَّ مَا لم يجدوه فِي كتاب الله أَخَذُوهُ من صَحِيح سنة رَسُول [صلى الله عليه وسلم] سَوَاء كَانَ الحَدِيث مستفيضاً أم غير مستفيض، عمل بِهِ اكثر من وَاحِد من الصَّحَابَة الْمُجْتَهدين أم لم يعْمل بِهِ إِلَّا وَاحِد فَقَط، وَمَتى كَانَ فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث صَحِيح لَا يعدلُونَ عَنهُ إِلَى اجْتِهَاد. ثمَّ إِذا لم يَجدوا فِي الْمَسْأَلَة حَدِيثا يَأْخُذُونَ بِإِجْمَاع عُلَمَاء الصَّحَابَة، ثمَّ بقول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا يتقيدون بِقوم دون قوم. فَإِن وجدوا مَسْأَلَة يَسْتَوِي فِيهَا قَولَانِ رجحوا أَحدهمَا بمرجح يقوم فِي الْفِكر، لَا يتبعُون فِيهِ أصولاً مَوْضُوعَة غير مَشْرُوعَة، أَو طرقاً مقررة غير مَرْفُوعَة. وَأهل هَذِه الطَّبَقَة عندنَا، ينورون أذهانهم بأصول استدلالات الإِمَام زيد رضي الله عنه أَو غَيره من الْأَئِمَّة تخريجهم الْأَحْكَام واستنباطها من النُّصُوص بِدُونِ تقيد

ص: 118

بتقليد أحدهم خَاصَّة دون غَيره، لأَنهم لَا يجوزون اتِّبَاع إِمَام إِذا رَأَوْا مَا ذهب إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة بَعيدا عَن الصَّوَاب، فَلَا يقلدون أحدا تقليداً مُطلقًا كَأَنَّهُ نَبِي مُرْسل.

والطبقة الثَّانِيَة هم: الْقُرَّاء، وهم الَّذين يقرأون كتاب الله تَعَالَى قِرَاءَة فهم بالإجمال مَعَ إطلاع على جملَة صَالِحَة من سنة رَسُول [صلى الله عليه وسلم] ، فَهَؤُلَاءِ يستهدون فِي أصُول الدّين بِأَنْفسِهِم لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة غَالِبا على قُرْآن نَاطِق أَو سنة صَرِيحَة، أَو إِجْمَاع عَام مُفَسّر لغير النَّاطِق والصريح.

وَأما فِي الْفُرُوع فيتبعون أحد الْعلمَاء الموثوق بهم عِنْد المستهدي من الأقدمين أَو المعاصرين، بِدُونِ ارتباط بمجتهد مَخْصُوص أَو عَالم دون آخر، مَعَ سَماع الدَّلِيل والميل إِلَى قبُوله كَمَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُور الْمُسلمين قبل وجود التعصب للمذاهب.

والطبقة الثَّالِثَة هم: الْعَامَّة، وَهَؤُلَاء يهْدِيهم الْعلمَاء مَعَ بَيَان الدَّلِيل بِقصد الْإِقْنَاع، فَالْعُلَمَاء عندنَا لَا يجسرون على أَن يفتوا فِي مَسْأَلَة مُطلقًا مَا لم يذكرُوا مَعهَا دليلها من الْكتاب وَالسّنة أَو الْإِجْمَاع، حَتَّى وَلَو كَانَ المستفتي أعجميا أُمِّيا لَا يفهم مَا الدَّلِيل، وطريقتهم هَذِه هِيَ طَريقَة الصَّحَابَة كَافَّة وَالتَّابِعِينَ عَامَّة وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين وَالْفُقَهَاء

ص: 119

الْأَوَّلين من أهل الْقُرُون الْأَرْبَعَة أَجْمَعِينَ (مرحى) .

والتزام عُلَمَائِنَا هَذِه الطَّرِيقَة مَبْنِيّ على مَقَاصِد مهمة أعظمها تضييق دَائِرَة الجراءة على الْإِفْتَاء بِدُونِ علم، وَفِي هَذَا التَّضْيِيق على الْعلمَاء توسعة على الْمُسلمين وسدا لباب التَّشْدِيد فِي الدّين والتشويش على القاصرين، ولهذه الْحِكْمَة الْبَالِغَة بَالغ الله وَرَسُوله فِي النكير على المتجاسرين على التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم والمستسلمين لمحض التَّقْلِيد.

فالعالم عندنَا لَا يَسْتَطِيع أَن يُجيب إِلَّا عَن بعض مَا يسْأَل وَلَا يأنف أَن يقف عِنْد " لَا أَدْرِي "، بل يحذر وَيخَاف من غش السَّائِل وتغريره إِذا إِجَابَة بِأَن فلَانا الْمُجْتَهد يَقُول أَن الله أحل كَذَا وَحرم كَذَا، لِأَن السَّائِل لَا يعلم مَا يعلم هُوَ من أَن هَذَا الْمُجْتَهد الَّذِي لَيْسَ بمعصوم كثيرا مَا يُخَالف فِي قَوْله من هُوَ أفضل مِنْهُ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن أَنه يتَرَدَّد فِي رَأْيه وَحكمه كم إجتهد وَكم رَجَعَ، وَمن أَن أَكثر دلائله أما ظنية الثُّبُوت أَو ظنية الدّلَالَة أَو ظنيتهما، وَمن أَنه لم يدون مَا قَالَه وَلَكِن نَقله عَنهُ الناقلون، وَكم اخْتلفُوا فِي الرِّوَايَة عَنهُ بَين سلب وَإِيجَاب وَنفي وَإِثْبَات. وَكم زيف أَصْحَابه اجْتِهَاده وَرَأَوا غير مَا رَآهُ، وَمن أَنه أَي الْمُجْتَهد إِنَّمَا اجْتهد لنَفسِهِ وَبلغ عذره عِنْد ربه، وَصرح بِعَدَمِ جَوَاز أَن يتبعهُ أحد فِيمَا أجتهد وتبرأ من تبعه الْخَطَأ.

ص: 120

فَهَذَا (الإِمَام مَالك) رضي الله عنه يَقُول: مَا من أحد إِلَّا وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلَامه مَرْدُود عَلَيْهِ إِلَّا رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] وَنقل المؤرخون أَن الْمَنْصُور لما حج وَاجْتمعَ بِمَالك إِرَادَة على الذّهاب مَعَه ليحمل النَّاس على الْمُوَطَّأ كَمَا حمل عُثْمَان النَّاس على الْمُصحف، فَقَالَ مَالك لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك لِأَن الصَّحَابَة افْتَرَقُوا بعد وَفَاة النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فِي الْأَمْصَار، يُرِيد أَن السّنة لَيست بمجموعة فِي موطئِهِ الَّذِي جمع فِيهِ مرويات أهل الْمَدِينَة.

وَحكي فِي اليواقيت والجواهر أَن (أَبَا حنيفَة) رضي الله عنه كَانَ يَقُول: " لَا يَنْبَغِي لمن لَا يعرف دليلي أَن يَأْخُذ بكلامي ". وَكَانَ إِذا أفتى يَقُول: هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت، يَعْنِي نَفسه، وَهُوَ أحسن مَا قَدرنَا عَلَيْهِ، فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ.

وروى الْحَاكِم الْبَيْهَقِيّ أَن الشَّافِعِي) رضي الله عنه كَانَ يَقُول: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي، وَفِي رِوَايَة إِذا رَأَيْتُمْ كَلَامي يُخَالف الحَدِيث فاعملوا بِالْحَدِيثِ واضربوا بكلامي الْحَائِط. وَأَنه قَالَ يَوْمًا للمزني: يَا إِبْرَاهِيم لَا تقلدني فِيمَا أَقُول وَانْظُر فِي ذَلِك لنَفسك فَإِنَّهُ دين. وَكَانَ يَقُول: لَا حجَّة فِي قَول أحد دون رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] .

ص: 121

ويروى عَن (أَحْمد بن حَنْبَل) رضي الله عنه أَنه رأى بَعضهم يكْتب كَلَامه فَأنْكر عَلَيْهِ وَقَالَ: تكْتب رَأيا لعَلي ارْجع عَنهُ. وَكَانَ يَقُول لَيْسَ لأحد مَعَ الله وَرَسُوله كَلَام. وَقَالَ لرجل: لَا تقلدني وَلَا تقلدن مَالِكًا وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الْحَنَفِيّ، وَلَا غَيرهم، وخذوا الْأَحْكَام من حَيْثُ أخذُوا من الْكتاب وَالسّنة وَأسسَ مذْهبه على ترك التَّأْوِيل والترقيع بِالرَّأْيِ وَاتِّبَاع الْغَيْر فِيمَا فِيهِ طَرِيق الْعقل وَاحِد.

وَنقل الثقاة أَن سُفْيَان الثَّوْريّ رضي الله عنه لما مرض مرض الْمَوْت دَعَا بكتبه فغرقها جَمِيعهَا.

وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَزفر رحمهمَا الله تَعَالَى انهما كَانَا يَقُولَانِ لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن قُلْنَا. وَقيل لبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة: انك تكْثر الِاخْتِلَاف إِلَى أبي حنيفَة، فَقَالَ: لِأَنَّهُ أُوتِيَ من الْفَهم مَا لم نُؤْت، فَأدْرك مَا لم ندرك، وَلَا يسعنا أَن نفتي بقوله مَا لم نفهم دَلِيله ونقنع (مرحى) .

ثمَّ قَالَ: أَيهَا الإخوان الْكِرَام قد أطلت الْمقَال فاعذروني، فَإِنِّي من قوم ألفوا ذكر الدَّلِيل وَإِن كَانَ مَعْرُوفا مَشْهُورا، وَقد ذكرت طَريقَة عُلَمَاء الْعَرَب فِي الجزيرة منوها بفضلها لَا بفضلهم على غَيرهم، كلا بل غَالب عُلَمَاء سَائِر الْجِهَات أحد ذهنا وأدق نظرا وأعزر مَادَّة

ص: 122

وأوسع علما، وَلذَلِك لم نزل نَحن فِي تعجب وحيرة من نظر أُولَئِكَ الْعلمَاء المتبحرين فِي أنفسهم الْعَجز عَن الاستهداء وَقَوْلهمْ بسد بَاب الِاجْتِهَاد.

نعم لم يبْق فِي الْإِمْكَان أَن يَأْتِي الزَّمَان بأمثال ابْن عَمْرو ابْن الْعَبَّاس، أَو النَّخعِيّ وَدَاوُد، أَو سُفْيَان وَمَالك، أَو زيد وجعفر، أَو النُّعْمَان وَالشَّافِعِيّ، أَو احْمَد وَالْبُخَارِيّ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَلَكِن مَتى كلف الله تَعَالَى عبَادَة بدين لَا يفقهه إِلَّا أَمْثَال هَؤُلَاءِ النوابغ الْعِظَام؟ أَلَيْسَ أساس ديننَا الْقُرْآن وَقد قَالَ تَعَالَى عَنهُ فِيهِ:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} . وَقَالَ تَعَالَى {كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدَّ كرّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} فَمَا معنى دَعْوَى الْعَجز والتمثل بِمن قَالُوا: {قُلُوبنَا غلف} ، حمانا الله تَعَالَى (مرحى) .

أما السّنة النَّبَوِيَّة أفلم تصل إِلَيْنَا مَجْمُوعَة مدونة بهمة أَئِمَّة الحَدِيث جزاهم الله خيرا، الَّذين جابوا الأقطار والبلاد الَّتِي تفرق إِلَيْهَا الصَّحَابَة رضي الله عنهم بِسَبَب الفتوحات والفتن فَجمعُوا متفرقاتها ودونوها، وسهلوا الْإِحَاطَة بهَا بِمَا لم يتسهل الْوُقُوف عَلَيْهِ لغير إِفْرَاد من عُلَمَاء

ص: 123

الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا ملازمين النَّبِي عليه السلام.

وَكَذَا يُقَال فِي حق أَسبَاب النُّزُول ومواقع الْخطاب ومعاني الْغَرِيب فِي الْقُرْآن وَالسّنة، فَإِن عُلَمَاء التَّابِعين وتابعيهم والناسجين على منوالهم رحمهم الله لم يألوا جهداً فِي ضَبطهَا وبيانها.

وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّة المجتهدون وَالْفُقَهَاء الْأَولونَ علمونا طرائق الاستهداء وَالِاجْتِهَاد، والاستنباط والتخريج والتفريع، وَقِيَاس النظير على النظير، فهم أرشدونا إِلَى الاستهداء وَمَا أحد مِنْهُم دَعَانَا إِلَى الِاقْتِدَاء بِهِ مُطلقًا (مرحى) .

ثمَّ أننا إِذا أردنَا أَن ندقق النّظر فِي مرتبَة علم أُولَئِكَ الْمُجْتَهدين الْعِظَام لَا نجد فيهم علما وهبياً أَو كسبياً خارقا للْعَادَة، فَهَذَا الإِمَام الشَّافِعِي رحمه الله، وَهُوَ اغزرهم مَادَّة وَأول وَأعظم من وضع صولا لفقهه، نجده قد أسس مذْهبه على اللُّغَة فَقَط من حَيْثُ: الْمُشْتَرك والمتباين والمترادف، والحقيقة وَالْمجَاز والاستعارة وَالْكِنَايَة وَالشّرط وَالْجَزَاء، وَالِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل والمنفصل والمنقطع، والعطف الْمُرَتّب وَغير الْمُرَتّب، والفور والتراخي، والحروف ومعانيها، إِلَى قَوَاعِد أُخْرَى لَا تخرج عَن علم اللُّغَة. وَاتبع أَبَا حنيفَة فِي إِدْخَاله فِي أصُول مذْهبه بعض قَوَاعِد منطقية مثل: دلَالَة الْمُطَابقَة، والتضمن والالتزام،

ص: 124

وَمَعْرِفَة الْجِنْس وَالنَّوْع والفصل والخاصة وَالْعرض، والمقدمتين والنتيجة وَالْقِيَاس المنتج. وَاتبعهُ أَيْضا فِي قِيَاس مَا لم يرد فِيهِ قُرْآن أَو حَدِيث على مَا ورد فِيهِ؛ وَهَكَذَا فتح كل من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة الْعِظَام لمن بعده ميداناً وَاسِعًا، فجَاء أتباعهم ومدوا الْأَطْنَاب وَأَكْثرُوا من الْأَبْوَاب، وتفننوا فِي الأشكال وتنويع الْأَحْكَام، وأحدثوا علمي الْأُصُول وَالْكَلَام. وَهَذَا التوسيع كُله لَيْسَ من ضروريات الدّين بل ضَرَره اكثر من نَفعه، وَمَا أشبه الْأُمُور الدِّينِيَّة بالأمور المعاشية: كلما زَاد التأنق فِيهَا بِقصد استكمال أَسبَاب الرَّاحَة سلبت الرَّاحَة.

وَالْقَوْل الَّذِي فِيهِ فصل الْخطاب: أَن الله سُبْحَانَهُ وَله الحكم لم يرض منا أَن نتبع الأعلم الْأَفْضَل، بل كلفنا بِأَن نستهدي من كِتَابه وَسنة رَسُوله على حسب إمكاننا وطاقتنا وَهُوَ يرضى منا بجهدنا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} ، فنسأل الله التَّوْفِيق لسواء السَّبِيل.

قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أَحْمد الله على توفيقه إيانا إِلَى هَذَا الِاجْتِمَاع الْمُبَارك، الَّذِي استفدنا مِنْهُ مَا لم نَكُنْ نعلمهُ من قبل عَن حَالَة إِخْوَاننَا وَأهل ديننَا فِي الْبِلَاد المتباعدة. وَلم يكن يسمع بَعْضنَا عَن بعض شَيْئا إِلَّا من السواح الغرباء الجهلاء الَّذين لَا يعْرفُونَ

ص: 125

مَا يصفونَ؛ أَو من أهل السياسة وَالْعُلَمَاء المتشيعين لَهُم، الَّذين رُبمَا يموهون الْحق بِالْبَاطِلِ بِقصد تَفْرِيق الْكَلِمَة وَمنع الائتلاف (مرحى) .

ثمَّ قَالَ: هَذَا وَالْيَوْم قد انسحب ذيل الظل وَقرب الزَّوَال وَأذن لنا الْوَقْت بالانصراف.

ص: 126