الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لاحقة
يَقُول السَّيِّد الفراتي: انه بعد تفرق الجمعية بِنَحْوِ شَهْرَيْن، ورد إِلَيّ من الصاحب الْهِنْدِيّ كتاب يذكر فِيهِ أَنه بعد مُفَارقَته مَكَّة المكرمة اجْتمع بأمير جليل فَاضل من أعاظم نبلاء الْأمة وَرِجَال السياسة. فاستطلع رَأْي الْأَمِير فِي خُصُوص النهضة الإسلامية ، بعد أَن دَار بَينهمَا حَدِيث طَوِيل تحقق من خلاله سمو فكر الْأَمِير والتهاب غيرته، ذكر لَهُ إطلاعه على سجل جمعية أم الْقرى وَأَشْيَاء من مذاكراتها ومقرراتها، فاظهر الْأَمِير سروره من الْخَبَر وشديد شوقه للإطلاع على السّجل الَّذِي ذكره لَهُ، فعندئذ وعده بإعارته نُسْخَة من السّجل ثمَّ أرسلها لَهُ. وَبعد أَيَّام تلاقيا فدارت بَينهمَا المحاورة الْآتِيَة:
قَالَ الْأَمِير: أشكرك أَيهَا الْمولى الصاحب على هَذِه الْهَدِيَّة العزيزة، وَيَا لَذَّة لَيْلَة أحييتها فِي مطالعة تِلْكَ المذاكرات النفسية الَّتِي لم أتمالك أَن أتركها تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى أتيت على آخرهَا، ثمَّ فِي الْأَيَّام التالية
أعدت النّظر فِيهَا بالتدقيق.
قَالَ الصاحب: يظْهر من عبارَة مولَايَ الْأَمِير استحسانه كَيْفيَّة تشكيل الجمعية وامتنانه من مجْرى مذاكراتها.
قَالَ الْأَمِير: كَيفَ لَا أعجب بذلك، ولطالما كنت أَتَمَنَّى انْعِقَاد جمعية يتضافر أعضاؤها على مثل هَذَا الْمَقْصد، وَتَكون فِيهِ المزية الَّتِي ظَهرت على رجال هَذِه الجمعية الَّذين حلوا المشكلة حلا سياسيا ودينياً مَعًا، وَكنت استبعد وجودا كفاء كهؤلاء! وَأعظم إعجابي هُوَ فِي هَذَا الرجل الملقب بالسيد الفراتي كَيفَ اهْتَدَى فِي رحْلَة قَصِيرَة، مَعَ إِقَامَته أَيَّامًا قَلَائِل فِي مَكَّة، لانتخاب هَؤُلَاءِ الْأَعْضَاء الإجلاء.
قَالَ الصاحب: لَا بُد أَن يكون هَذَا الرجل مخلصا فِي قَصده فأعانه الله عَلَيْهِ، كَمَا ورد فِي الْخَبَر: إِذا أَرَادَ الله أمرا هيأ أَسبَابه. فَلَعَلَّ فِي الأقدار شَيْئا آن أَوَانه.
قَالَ الْأَمِير: نعم للأقدار دَلَائِل ولنعم البشائر.
قَالَ الصاحب: أود أَن اسْتُفِيدَ من مولَايَ الْأَمِير وُجُوه إعجابه بِهَذِهِ الجمعية ومذاكراتها لَا صحّح رَأْيِي فِي بعض انتقادات تختلج فِي فكري الْقَاصِر، فَإِن إِذن لي أعرضها عَلَيْهِ مَسْأَلَة مَسْأَلَة.
قَالَ الْأَمِير: قل، ولعلي أَقف على مَا لم انتبه إِلَيْهِ.
قَالَ الصاحب: يظْهر أَن أَعْضَاء الجمعية لَيْسَ بَينهم بعض من السياسيين المحنكين، فَلَو وجد رُبمَا كَانَت تَأتي لمقررات أَكثر إحكاماً.
قَالَ الْأَمِير: لَا أَظن أَن فِي الْأُمَرَاء والوزراء الْمُسلمين المعاصرين من هم أَعلَى كَعْبًا فِي السياسة من بعض هَؤُلَاءِ الْأَعْضَاء، الَّذين تشف آراؤهم عَن سَعَة إطلاع وسمو فكر وَبعد نظر، مَعَ ملاحظات السياسة الدِّينِيَّة وَالْحَالة العلمية والتدقيقات الأخلاقية.
قَالَ الصاحب: أرى أَن الجمعية أَعْطَتْ لمباحث السياسة الدِّينِيَّة الْموقع الأول، وَقد أَصَابَت على أَن السياسة الإدارية أَيْضا جديرة بالاهتمام فَتركت بِدُونِ تَدْبِير كَاف.
قَالَ الْأَمِير: لَا شكّ أَن السياسة الإدارية مهمة أَيْضا وَقد ابتدأت الجمعية بهَا، وَلَكِن رَأَتْ أفضل وَسِيلَة لحُصُول الْمَطْلُوب هِيَ رفع عِلّة الفتور حَيْثُ أنتجت مباحثاتها: أَن عِلّة الفتور هِيَ الْخلَل الديني. بِنَاء عَلَيْهِ حولت اهتمامها لجِهَة الْعلَّة حَتَّى إِذا زَالَت الْعلَّة زَالَ الْمَعْلُول.
وَمَعَ ذَلِك لم يتْرك السَّيِّد الفراتي فِي فصل الْأَسْبَاب الإدارية شَيْئا من أُمَّهَات أصُول الإدارة إِلَّا وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِمَا يُغني عَن تَفْصِيله.
قَالَ الصاحب: أَلَيْسَ بعض الْأَعْضَاء كالعالم النجدي والمجتهد التبريزي قد أسهب كثيرا بِمَا كَانَ بعضه يَكْفِي عَن بَاقِيه؟
قَالَ الْأَمِير: أَن مَسْأَلَتي التَّوْحِيد والاستهداء ركنان مهمان فِي الدّين، وَقد تطرق إِلَيْهِمَا الْخلَل مُنْذُ قُرُون، كَثِيرَة، فَصَارَ إصلاحهما وردهما إِلَى أَصلهمَا من أصعب الْأُمُور. وَفِي مثل ذَلِك لَا بُد من الأسهاب فِي الْبَحْث والتعمق فِيهِ، أَو لَا يرى، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى، كَيفَ جَاءَ الْقُرْآن الْكَرِيم بِأَلف أسلوب فِي تأييد التَّنْزِيه والتوحيد والحث على اتِّبَاع الْكتاب وَالنَّبِيّ دون التَّقْلِيد.
قَالَ الصاحب: أَنِّي أرى أَيْضا بعض مكررات فِي المذاكرات خلافًا لما قله السَّيِّد الفراتي، وَلذَلِك أرى أَنه لَو اهتم ذُو غَيره فِي اختصارها يكون حسنا.
قَالَ الْأَمِير: أَنِّي لَا أوافقك على هَذَا أَيْضا، لِأَنَّك إِذا دققت النّظر لَا تَجِد مكررات، إِنَّمَا هِيَ آراء فَلَا بُد أَن يُعَاد فِيهَا بعض مَا سبق، وعَلى كل حَال هَذَا سجل قد ضبط فِيهِ مَا وَقع فَلَا يجوز اختصاره وَالتَّصَرُّف فِيهِ. وَإِنِّي أرى من أكبر محَاسِن هَذِه المذاكرات أَن جَاءَت مباحثها متسلسلة مترقية، فَكل مَوْضُوع فِيهَا يتلوه مَا هُوَ أهم
مِنْهُ فَلَا يمل مِنْهَا سامع وَلَا مطالع.
قَالَ الصاحب: مَا هُوَ رَأْي مَوْلَانَا الْأَمِير فِي القانون الْمَوْضُوع لأجل تشكيل جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين، هَل هُوَ قانون مُحكم التَّرْتِيب، وَهل هُوَ قَابل الإجراء والتطبيق على الْأَحْوَال الْحَاضِرَة والمنتظرة.
قَالَ الْأَمِير: القانون هُوَ أهم مَا أثمرته الجمعية، وقابل الإجراء مَعَ الصعوبة.
قَالَ الصاحب: لَا أَدْرِي هَل أَصَابَت الجمعية أم أَخْطَأت فِي تَعْلِيق أكبر أملهَا فِي إعزاز الدّين بالعرب دون دولة آل عُثْمَان وملوكها الْعِظَام.
قَالَ الْأَمِير: لَا يفوتك أَن مطمح نظر الجمعية منحصر فِي النهضة الدِّينِيَّة فَقَط، وتؤمل أَن يَأْتِي الانتظام السياسي تبعا للدّين، وَلَا شكّ أَنه لَا يقوم بِالْهَدْي الديني ويغار على الدّين أمة مثل الْعَرَب.
قَالَ الصاحب: أَلَيْسَ، دولة راسخة الْملك إدارة وعسكرية وسياسة، وافرة القوى مَالا وعدة ورجالا، تكون أقدر على تمحيص الدّين وإعزازه من الْعَرَب الضُّعَفَاء من كل وَجه؟ وَحَيْثُ قد ألفت الْأمة سَماع لقب خدمَة الْحَرَمَيْنِ قَدِيما ولقب الْخلَافَة
أخيراً فِي حَضْرَة السُّلْطَان العثماني، فَلَا تستنكف عَن الأذعان الديني لَهُ بسهولة؟
قَالَ الْأَمِير: أَن حَضْرَة السُّلْطَان الْمُعظم يصلح أَن يكون عضداً عَظِيما فِي الْأَمر، أما إِذا أَرَادَ أَن يكون هُوَ الْقَائِم بِهِ فَلَا يتم قَطْعِيا، لِأَن الدّين شَيْء وَالْملك شَيْء آخر، وَالسُّلْطَان غير الدولة.
قَالَ الصاحب: مَا فهمت المُرَاد من أَن الدّين غير الْملك وان السُّلْطَان غير الدولة، فَهَل يتفضل مولَايَ الْأَمِير بإيضاح ذَلِك؟
قَالَ الْأَمِير: أُرِيد أَن احترام الشعائر الدِّينِيَّة فِي اكثر مُلُوك آل عُثْمَان هِيَ ظواهر مَحْضَة؛ وَلَيْسَ من غرضهم، بل وَلَا من شَأْنهمْ، أَن يقدموا الاهتمام بِالدّينِ على مصلحَة الْملك، وَهَذَا مرادي بِأَن الدّين غير الْملك ، وعَلى فرض إرادتهم تَقْدِيم الدّين على الْملك، لَا يقدرُونَ على ذَلِك، وَلَا تساعدهم الظروف المحيطة بهم؛ حَيْثُ دولهم مؤلفة من لفيف أهل أَدْيَان وَنحل مُخْتَلفَة؛ كَمَا أَن الْهَيْئَة الَّتِي تتشكل مِنْهَا الدولة، اعني الوزراء، هم كَذَلِك لفيف مُخْتَلف الْأَدْيَان والجنسيات، وَهَذَا مرادي بِأَن السُّلْطَان غير الدولة. بِنَاء عَلَيْهِ، خدمَة الْحَرَمَيْنِ ولقب الْخلَافَة ورسوخ الْملك ووفرة القوى، كلهَا لَا تَكْفِي للمرجع فِي الدّين. نعم إِذا بذل آل عُثْمَان الْعِظَام قوتهم فِي تعضيد
وتأييد من يقوم بذلك يأْتونَ بِفضل عَظِيم.
قَالَ الصاحب: قد وجد فِي هَذَا الْبَيْت الْكَرِيم بعض أعاظم خدموا إعزاز الدّين خدمات كَبِيرَة، كالسلطان مُحَمَّد الفاتح وَالسُّلْطَان ياوز سليم وَالسُّلْطَان سُلَيْمَان وَالسُّلْطَان مَحْمُود وَالسُّلْطَان الحالي الْمُعظم، فهم أولى واجدر بالخلافة من غَيرهم.
قَالَ الْأَمِير: أرجوك أَن لَا تنظر للمسألة بِنَظَر الْعَوام، بل بِنَظَر حَكِيم سياسي. فابعد النّظر مَاضِيا مُسْتَقْبلا، وقلب صفحات التَّارِيخ بدقة تَجِد أَن إدارة الدّين وإدارة الْملك لم تتحدا فِي الْإِسْلَام تَمامًا إِلَّا فِي عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط رضي الله عنهم، واتخذتا نوعا فِي الأمويين والعباسيين، ثمَّ افْتَرَقت الْخلَافَة عَن الْملك.
وَأما سلاطين آل عُثْمَان الفخام، فَإِنِّي أذكر لَك أنموذجاً من أَعمال لَهُم أتوها رِعَايَة للْملك، ون كَانَت مصادمة للدّين، فَأَقُول: هَذَا السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح وَهُوَ أفضل آل عُثْمَان قد قدم الْملك على الدّين، فاتفق سرا مَعَ (فرديناند) ملك (الأراغون) الاسبانيولي ثمَّ مَعَ زَوجته (إيزابيلا) على تمكينهما مَعَ إِزَالَة ملك بني الْأَحْمَر، آخر الدول الْعَرَبيَّة فِي الأندلس، وَرَضي بِالْقَتْلِ الْعَام وَالْإِكْرَاه على
التنصر بالإحراق، وضياع خَمْسَة عشر مليونا من الْمُسلمين، بإعانتهما بإشغاله أساطيل إفريقيا عَن نجده الْمُسلمين. وَقد فعل ذَلِك بِمُقَابلَة مَا قَامَت لَهُ بِهِ روما من خذلان الإمبراطورية الشرقية عِنْد مهاجمته مكدونيا ثمَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّة.
وَهَذَا السُّلْطَان سليم غدر بآل الْعَبَّاس واستأصلهم، حَتَّى انه قتل الْأُمَّهَات لأجل الأجنة، وبينما كَانَ هُوَ يقتل الْعَرَب فِي الشرق كَانَ الاسبانيون يحرقون بَقِيَّتهمْ فِي الأندلس. وَهَذَا السُّلْطَان سُلَيْمَان ضايق إيران حَتَّى ألجأهم إِلَى إعلان الرَّفْض الْمُكَفّر. ثمَّ لم يقبل العثمانيون تَكْلِيف نَادِر شاه لرفع التَّفْرِقَة بِمُجَرَّد تَصْدِيق مَذْهَب الإِمَام جَعْفَر، كَمَا لم يقبلُوا من أشرف خَان الأفغاني اقتسام فَارس كي لَا يجاورهم ملك سني.
وَقد سعوا فِي انْقِرَاض خَمْسَة عشر دولة وحكومة إسلامية. وَمِنْهَا انهم أغروا وأعانوا الروس على التاتار المسملين، وَهُوَ لَا ندة على الجاوة والهنديين. وتعاقبوا على تدويخ الْيمن، فأهلكوا إِلَى الْآن عشرات ملايين من الْمُسلمين يقتلُون بَعضهم بَعْضًا، لَا يحترمون فِيمَا بَينهم دينا وَلَا أخوة وَلَا مُرُوءَة وَلَا إنسانية، حَتَّى أَن الْعَسْكَر العثماني باغت الْمُسلمين مرّة فِي صنعاء والزبيد وهم فِي صَلَاة الْعِيد
وَهَذَا السُّلْطَان مَحْمُود اقتبس عَن الإفرنج كسوتهم، وألزم رجال دولته وحاشيته بلبسها حَتَّى عَمت أَو كَادَت، وَلم يَشَأْ الأتراك أَن يُغيرُوا مِنْهَا الأكمام رِعَايَة للدّين لِأَنَّهَا مَانِعَة من الْوضُوء أَو معسرة لَهُ. وَهَذَا السُّلْطَان عبد الْمجِيد رأى من مؤيدات إدارة ملكه إِبَاحَة الرِّبَا وَالْخُمُور وَإِبْطَال الْحُدُود. وَرَأى مصلحَة فِي قهر الإشراف وإذلال السادات بإلغاء نُفُوذ النقابات، فَفعل.
وَفِي هَذَا الْمِقْدَار كِفَايَة إِيضَاح لقاعدة: أَن مؤيدات الْملك عِنْد السلاطين مُقَدّمَة على الدّين. أما صفة خدمَة الْحَرَمَيْنِ وألفة مسامع العثمانيين للقب الْخلَافَة، فَهَذَا كَذَلِك لَا يُفِيد الدّين وَاهِلَة شَيْئا، وَلَيْسَ لَهُ مَا يتَوَهَّم الْبَعْض من الإجلال عِنْد الْأَجَانِب
وَلَو أَن حَضْرَة السُّلْطَان الْمُعظم أَخذ عَلَيْهِ تأييد الدّين بِمَا أمده الله بِهِ من الْقُوَّة المادية بِدُونِ استناد إِلَى صبغة معنوية، لتمكن من أَن يخْدم دينه وَملكه حَقًا خدمات مَقْبُولَة عِنْد الله وَرَسُوله مشكورة عِنْد الْمُؤمنِينَ كَافَّة. ولرفعت لَهُ راية الْحَمد فِي شَرق الأَرْض وغربها
واحترمه الْأَبْيَض والأحمر، وعظمه الْمُسلم وَالْكَافِر. وَأَظنهُ قد قرب الْيَوْم الَّذِي يتَنَبَّه فِيهِ، فيتروى فِي الْأَمر فيعدل عَن الِاعْتِمَاد على غير الماديات، وَيضْرب على فَم بعض الغشاشين المتملقين الخائنين، الَّذين ينسبون حَضرته إِلَى مَا لم ينتسب هُوَ إِلَيْهِ: ويشيعون عَنهُ دَعْوَى مَا ادَّعَاهَا قطّ أحد من أجداده الْعِظَام بِوَجْه رسمي.
وَهَؤُلَاء الغشاشون يغرون حَضْرَة السُّلْطَان على هَذِه الدَّعْوَى بِمَا يهرفون بِهِ عَلَيْهِ، وَبِمَا يؤلفونه هم وأعوانهم من الْكتب والرسائل الَّتِي يعزون بَعْضهَا لأَنْفُسِهِمْ، وَبَعضهَا لغَيرهم من الْمُنَافِقين أَو لأسماء يسمونها أَو كتب يختلقونها، فيجعلون تَارَة آل عُثْمَان الْعِظَام يتصلون نسبا بعثمان بن عَفَّان رضي الله عنه؛ وَأُخْرَى يرفعون نسبهم إِلَى أعالي قُرَيْش ويعطونهم حق الْخلَافَة، مرّة بالتنازل من العباسيين، وَأُخْرَى بِالِاسْتِحْقَاقِ والوراثة، وآونة بالعهد، وَأُخْرَى بالبيعة الْعَامَّة، وحينا بِخِدْمَة الْحَرَمَيْنِ الشريفين. ووقتاً بِحِفْظ المخلفات النَّبَوِيَّة.
وَكَأن هَؤُلَاءِ الغشاشين يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الدسائس أَن يجْعَلُوا حَضْرَة السُّلْطَان نظيرهم: دعِي نسب كَاذِب كدعواهم لأَنْفُسِهِمْ السِّيَادَة، ومتسنم مقَام موهوم كدعواهم الْولَايَة والقطبانية فِي أنفسهم وآبائهم وأجدادهم؛ فيحشون فِي تِلْكَ المؤلفات انسابا انتحلوها
لأَنْفُسِهِمْ مقرونة بِنسَب حَضْرَة السُّلْطَان؛ ويستطردون لحكايات كرامات لأجدادهم ملفقة مخترعة لَا يعترفها لَهُم أحد من الْمُسلمين، يدسونها بَين حكايات ووقائع الْخُلَفَاء والسلاطين.
وَمن الْمَعْلُوم عِنْد أهل الْوُقُوف، أَن التلقب بالخلافة والإمامة الْكُبْرَى أَو إِمَارَة الْمُؤمنِينَ فِي آل عُثْمَان الْعِظَام حدث فِي عهد المرحوم السُّلْطَان مَحْمُود، حَيْثُ صَار بعض وزرائه يخاطبونه بذلك أَحْيَانًا تفنناً فِي الإجلال وغلوا فِي التَّعْظِيم، ثمَّ توسع اسْتِعْمَال هَذِه الألقاب فِي عهد أبنية وحفيدية إِلَى أَن بلغ مَا بلغه الْيَوْم بسعي أُولَئِكَ الغشاشين، الَّذين يدْفَعُونَ ويقودون حَضْرَة السُّلْطَان الحالي لتنازل عَن حُقُوق راسخة سلطانية لأجل عنوان خلَافَة وهمية مُقَيّدَة فِي وَضعهَا بشرائط ثَقيلَة، لَا تلائم أَحْوَال الْملك، ومعرضة بطبعها للقلقلة والانتزاع والخطر الْعَظِيم.
وَلذَلِك، حضرات السلاطين أنفسهم لم يزَالُوا إِلَى الْآن متحفظين عَن التلقب بالخلافة رسمياً فِي منشوراتهم ومسكوكاتهم، إِنَّمَا تمضغها أَفْوَاه الْبَعْض، فيلوكها التركي تَعْظِيمًا لِقَوْمِهِ، والعربي نفَاقًا لسلطانه، والمصري اتبَاعا للمرائين، والهندي اعتزازاً بالوهم، وَالْأَجْنَبِيّ هزؤاً ومكراً؛ بِخِلَاف حضرات سُلْطَان مراكش وأمير عمان وَإِمَام
الْيمن، المتنازعين فِي هَذَا الْمقَام رسما، المتقاطعين لأَجله، على أَنهم قد شعروا أَو كَادُوا يَشْعُرُونَ بضررهم السياسي فِي ذَلِك. وَلَا نعلم مَتى يخلق الله من يسْعَى فِي إقناعهم جَمِيعًا بترك هَذِه الدعْوَة الداعية للانفراد والتخاذل، ويرتب بَينهم قَوَاعِد مُحَافظَة الِاسْتِقْلَال السياسي، ومراسم التشريفات والمخاطبات، وروابط التعاون والاتحاد بِصفة سلاطين وامراء، كَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر على عهد الْخُلَفَاء العباسيين مَعَ السلاطين الخارزمية والديلم والأيوبيين وَغَيرهم.
ثمَّ قَالَ الْأَمِير: وَقد حَملتنِي إشارات السَّيِّد الفراتي فِي كَلَامه على الجامعة الدِّينِيَّة تَحت لِوَاء وأمراء الْخلَافَة، أَن افتكر فِي الْقَوَاعِد الأساسية الَّتِي يَنْبَغِي أَن يبْنى عَلَيْهَا ذَلِك. فلاح لي مَا قيدته فِي هَذِه المفكرة، وَأخرج من جيبه ورقة قَرَأَهَا، وَعند ختام مَجْلِسنَا استنسختها مِنْهُ وَصورتهَا:
1 -
إِقَامَة خَليفَة عَرَبِيّ قرشي مستجمع للشرائط فِي مَكَّة.
2 -
يكون حكم الْخَلِيفَة سياسة مَقْصُورا على الخطة الحجازية، ومربوطاً بشورى خَاصَّة حجازية.
3 -
الْخَلِيفَة ينيب عَنهُ من يترأس هَيْئَة شُورَى عَامَّة إسلامية.
4 -
تتشكل هَيْئَة الشورى الْعَامَّة من نَحْو مائَة عُضْو منتخبين
مندوبين من قبل جَمِيع السلطنات والإمارات الإسلامية، وَتَكون وظائفها منحصرة فِي شؤون السياسة الْعَامَّة الدِّينِيَّة فَقَط.
5 -
تَجْتَمِع الشورى الْعَامَّة مُدَّة شَهْرَيْن فِي كل سنة قبيل موسم الْحَج.
6 -
مَرْكَز الشورى الْعَامَّة يكون مَكَّة عِنْدَمَا يُصَادف الْحَج موسم الشتَاء، والطائف فِي موسم الصَّيف.
7 -
تقترع الشورى يَوْم افْتِتَاح كل اجْتِمَاع على انتخاب نَائِب الرئيس ويعينه الْخَلِيفَة.
8 -
تتَعَيَّن وظائف الشورى الْعَامَّة بقانون مَخْصُوص تضعه هِيَ، وَيصدق عَلَيْهِ من قبل السلطنات والإمارات.
9 -
ترتبط بيعَة الْخَلِيفَة بشرائط مَخْصُوصَة ملائمة للشَّرْع، بِنَاء على أَنه إِذا تعدى شرطا مِنْهَا ترْتَفع بيعَته، وَفِي كل ثَلَاث سِنِين يُعَاد تَجْدِيد الْبيعَة.
10 -
انتخاب الْخَلِيفَة يكون مَنُوطًا بهيئة الشورى الْعَامَّة.
11 -
الْخَلِيفَة يبلغ قرارات الشورى ويراقب تنفيذها.
12 -
الْخَلِيفَة لَا يتداخل فِي شَيْء من الشؤون السياسية والإدارية فِي السلطنات والإمارات قَطْعِيا.
13 -
الْخَلِيفَة يصدق على توليات السلاطين والأمراء الَّتِي تجْرِي احتراماً للشَّرْع على حسب أصولهم الْقَدِيمَة فِي وراثاتهم للولاية.
14 -
الْخَلِيفَة لَا يكون تَحت أمره قُوَّة عسكرية مُطلقًا، وَيذكر اسْمه فِي الْخطْبَة قبل أَسمَاء السلاطين وَلَا يذكر فِي المسكوكات.
15 -
يناط حفظ الْأَمْن فِي الخطة الحجازية بِقُوَّة عسكرية تتألف من أَلفَيْنِ إِلَى ثَلَاثَة الآف من جنود مختلطة ترسل من قبل جَمِيع السلطنات والإمارات.
16 -
تكون القيادة الْعَامَّة للجنود الحجازية منوطة بقائد من قبل إِحْدَى الإمارات الصَّغِيرَة.
17 -
يكون الْقَائِد تَحت أَمر هَيْئَة الشورى مُدَّة انْعِقَادهَا.
18 -
هَيْئَة الشورى تكون تَحت حماية الْجنُود المختلطة.
أما وظائف الشورى الْعَامَّة فَيَقْتَضِي أَن لَا تخرج عَن تمحيص أُمَّهَات الْمسَائِل الدِّينِيَّة الَّتِي لَهَا تعلق مُهِمّ فِي سياسة الْأمة، وتأثير قوي فِي أخلاقها ونشاطها. وَذَلِكَ: مثل فتح بَاب النّظر وَالِاجْتِهَاد
تمحيصاً للشريعة، وتيسيراً للدّين، وسد أَبْوَاب الحروب والغارات والاسترقاق اتبَاعا لمقتضيات الْحِكْمَة الزمانية.
وكفتح أَبْوَاب حسن الطَّاعَة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وَإِن كَانَت غير مسلمة، وسد أَبْوَاب الانقياد الْمُطلق وَلَو لمثل عمر بن الْخطاب رضي الله عنه.
وكفتح بَاب أَخذ الْعُلُوم والفنون النافعة وَلَو عَن الْمَجُوس، وسد بَاب إِضَاعَة الْأَوْقَات بالعبث، وَنَحْو ذَلِك من أُمَّهَات المنجيات والمهالك.
ثمَّ قَالَ الْأَمِير: وبمثل هَذَا التَّرْتِيب تنْحَل مشكلة الْخلَافَة، ويتسهل عقد اتِّحَاد إسلامي تضامني تعاوني يقتبس ترتيبه من قَوَاعِد اتِّحَاد الألمانيين والأمريكانيين مَعَ الملاحظات الْخَاصَّة. وَبِذَلِك تأمن الحكومات الإسلامية الْمَوْجُودَة على حَيَاتهَا السياسية من الغوائل الداخلية والخارجية، فتتفرغ للترقي فِي المعارف والعمران والثروة وَالْقُوَّة، مِمَّا لَا بُد مِنْهُ للنجاة من الْمَمَات. وَمَا اجدر إمارات الجزيرة بِالسَّبقِ إِلَى مثل هَذَا الِاتِّحَاد.
قَالَ الصاحب: يسْتَشف من ظَاهر فكر مولَايَ الْأَمِير، انه لَا يجوز الاتكال على الْمُلُوك العثمانيين الْعِظَام فِي أَمر الْخلَافَة، علاوة على السلطنة.
قَالَ الْأَمِير: أَنِّي احب العثمانيين للطف شمائلهم، وتعظيمهم الشعائر الدِّينِيَّة، وَلَكِن النَّصِيحَة للدّين تَسْتَلْزِم قَول الْحق. وَعِنْدِي أَن حضرات آل عُثْمَان الْعِظَام أنفسهم، إِذا تدبروا، لَا يَجدونَ وَسِيلَة لتجديد حياتهم السياسية أفضل من اجْتِمَاعهم مَعَ غَيرهم على خَليفَة قرشي.
قَالَ الصاحب: أَخْبرنِي، أَيهَا الْأَمِير، أحد أَعْضَاء الجمعية أَنه لما رأى السَّيِّد الفراتي يمِيل للتنقيب عَن سياسة العثمانيين، واستمالة الجمعية عَلَيْهِم لَا لَهُم، ذكر لَهُ ذَلِك مرّة متلوما، وَقَالَ لَهُ: إِلَّا يَنْبَغِي ستر أَحْوَالهم والمدافعة عَنْهُم، لأَنهم أعظم دولة إسلامية مَوْجُودَة. فَأَجَابَهُ:
بَان ذَلِك كَذَلِك لَوْلَا أَن فِيهِ تغرير الْمُسلمين، وتركهم متكلين على دولة مَا توفقت لنفع الإسلامية بِشَيْء فِي عز شبابها، بل أضرتها بمحو الْخلَافَة العباسية الْمجمع عَلَيْهَا، وتخريب مَا بناه الْعَرَب، وإفناء الْأمة بفتوحاتها شَرْقي أوربا ومدافعاتها، وَإنَّهُ لَا يقْصد بكشف الْحَقِيقَة وإظهارها غير إِزَالَة الْغرُور والاتكال المستوليين على جَمَاهِير الْمُسلمين بِسَبَب عدم التَّأَمُّل. ثمَّ قَالَ لَهُ:
أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا الْأمة أَرْبَعَة قُرُون وَلَا خَليفَة، وَتركُوا
الدّين تعبث بِهِ الْأَهْوَاء وَلَا مرجع، وَتركُوا الْمُسلمين صمًّا بكماً عميا وَلَا مرشد؟
أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا الأندلس مُبَادلَة. وَتركُوا الْهِنْد مساهلة، وَتركُوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروسيين، وَتركُوا قارة إفريقيا الإسلامية للطامعين، وَتركُوا المداخلة فِي الصين كَأَنَّهُمْ الأبعدون؟
أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا وُفُود الملتجئين يعودون خائبين، وَتركُوا المستنصرين بهم عرضة للمنتقمين، وَتركُوا ثُلثي ملكهم طعمه للمتغلبين؟
أفما آن لَهُم أَن يستيقظوا ويصبحوا من النادمين على مَا فرطوا فِي الْقُرُون الخالية، فيتركون الْخلَافَة لأَهْلهَا وَالدّين لحماته؛ وهم يحتفظون على بَقِيَّة سلطنتهم، ويكتفون بشرف خدمَة نفس الْحَرَمَيْنِ، وَبِذَلِك يَتَّقُونَ الله فِي الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.
وَقَالَ أَيْضا: انه غير متعصب للْعَرَب، وَإِنَّمَا يرى مَالا بُد أَن يرَاهُ كل حر مدقق يتفحص الْأَمر: من أَن الْغيرَة على الدّين وَأَهله والاستعداد لتجديد عز الْإِسْلَام، منحصران فِي أهل الْمَعيشَة البدوية من الْعَرَب. إِذْ يرى أَن الْمَشِيئَة الآلهية حفظهم من تِلْكَ الْأَمْرَاض
الأخلاقية الَّتِي لَا دَوَاء لَهَا: كفالج الْحُرِّيَّة فِي الحواضر، باعتقاد أَهلهَا أَنهم خلقُوا أنعاماً لِلْأُمَرَاءِ، وكجذام التربية فِي المدن بوضعهم النِّسَاء فِي مقَام ربائط للاستمتاع. وكطاعون الْحيَاء فِي بعض الأقوام بالفتهم اللواط المميت للأخلاق الشَّرِيفَة دفْعَة الَّذِي جزى الله أَهله بخسف الأَرْض بهم تَطْهِيرا لَهَا مِنْهُم ، وكوباء النشاط فِي أهل الْأَرَاضِي الخصبة، حَيْثُ يسهل أَن يغنوا، فيبطروا، فتفسد أَخْلَاقهم فيخسرون الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَالَ الْأَمِير: نعم الرَّأْي وَنعم التدقيق
قَالَ الصاحب: أَن مَا ذكر مولَايَ من حصر صفة الْخلَافَة فِي خَليفَة قرشي فِي مَكَّة، ترتبط بِهِ جَمِيع السلطنات والإمارات الإسلامية ارتباطاً دينياً؛ وَمَا وصف من تشكيل الشورى الْعَامَّة المؤيدة لهَذَا الارتباط الديني، لأمر عَظِيم جدا. وَالْغَالِب أَن الدول المسيحية الَّتِي لَهَا رعايا من الْمُسلمين، أَو الْمُجَاورَة للْمُسلمين، تتحذر من أَن يجر جمع الْكَلِمَة الدِّينِيَّة على رابطة سياسية تولد حروبا دينية، فتعمد هَذِه الدول إِلَى عمل الدسائس والوسائل لمنع حُصُول هَذَا الارتباط أساسا. فَمَا هُوَ التَّدْبِير الَّذِي يَقْتَضِي اتِّخَاذه أَمَام تحذر الدول من ذَلِك.
قَالَ الْأَمِير: لَا يفكر هَذَا الْفِكر غير الفاتيكان وأحزابه الجزويت وأمثالهم، أما رجال السياسة فِي إنكلترا وروسيا وفرانسا، وَهِي الدول الْعِظَام الَّتِي يهمها التفكير فِي هَذَا الشَّأْن، فقد عَلَّمْتهمْ التجارب النتائج الْآتِيَة وَهِي:
1 -
أَن الْمُسلمين لَا ينتصرون أبدا، لَا سِيمَا فِي زمَان يبتعد فِيهِ النَّصَارَى عَن نَصْرَانِيَّتِهِمْ.
2 -
أَن الْمُسلمين المتنورين أفراداً وجموعاً أبعد عَن الْفِتَن من الْجَاهِلين.
3 -
أَن الْعَرَب من الْمُسلمين أقرب من غَيرهم للألفة وَحسن الْمُعَامَلَة والثبات على الْعَهْد.
فَإِذا أرشد أُولَئِكَ السياسيون لِأَن يضموا إِلَى معرفتهم هَذِه، علمهمْ أَيْضا بِالْأَحْكَامِ الإسلامية فِي مَسْأَلَة الْجِهَاد الَّتِي يتهيبونها، علما يستخرجونه مِمَّا عِنْدهم من تراجم الْقُرْآن الْكَرِيم، لَا من مؤلفات متعصبي الطَّرفَيْنِ، حَيْثُ يَجدونَ نَحوا من خمسين آيَة بأساليب شَتَّى، كلهَا تنْهى عَن الإلحاح فِي الْهِدَايَة إِلَى الدّين، فضلا عَن التَّشْدِيد والإلزام بِالْقِتَالِ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} ،
{وجادلهم بِالَّتِي هِيَ احسن} و {لست عَلَيْهِم بمسيطر} ويجدون آيَتَيْنِ فِي التَّشْدِيد إِحْدَاهمَا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} {والآخري} (وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} ؛ وبمراجعة أَسبَاب نزُول هَاتين الْآيَتَيْنِ يعلمُونَ انهما نزلتا فِي حق الْمُشْركين والكتابيين من الْعَرَب، وَلَا يُوجد فِي الْقُرْآن مُلْزم لاعْتِبَار عمومية حكمهمَا.
وَإِذا دققوا الْبَحْث، يَجدونَ أَن لَيْسَ فِي عُلَمَاء الْإِسْلَام مُطلقًا من يحصر معنى الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فِي مُجَرّد محاربة غير الْمُسلمين، بل كل عمل شاق نَافِع للدّين وَالدُّنْيَا، حَتَّى الْكسْب لأجل الْعِيَال، يُسمى جهاداً.
وَبِذَلِك يعلمُونَ أَن قصر معنى الْجِهَاد على الحروب كَانَ مَبْنِيا على إِرَادَة الفتوحات، والتوسل للتشجيع حِين كَانَ مجَال للفتوحات، كَمَا أعطي اسْم الْجِهَاد مُقَابلَة لاسم الحروب الصليبية الَّتِي أصلى نارها المسيحيون.
ثمَّ بعطف نظرهم إِلَى التَّارِيخ، يَجدونَ أَن الْعَرَب مُنْذُ سَبْعَة قُرُون لم يَأْتُوا حَربًا باسم الْجِهَاد. وَمَا كَانَت تعديات أساطيل إمارات الغرب إِلَّا من قبيل (القرصان) الَّذِي كَانَ مألوفا عِنْد جَمِيع إمارات الأرخبيلين الصّقليّ واليوناني وَكلهمْ نَصَارَى. أما غارات التاتار
على شمَالي أوروبا غارات التّرْك على شرقها، فَكَذَلِك لَيست من نوع الْجِهَاد وَلَا من الحروب الدِّينِيَّة، وَإِنَّمَا هِيَ من ملحقات غارات البرابرة الشماليين على أوروبا. ويجدون انهم كَمَا أَغَارُوا على أوروبا أَغَارُوا على الْبِلَاد الإسلامية، ثمَّ اسْلَمْ التاتار وَحسنت أَخْلَاقهم.
أما التّرْك، فَإِذا دقق الأوربيون سياستهم، يجدونهم لَا يقصدون بالاستناد للدّين غير التلاعب السياسي وقيادة النَّاس إِلَى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوروبا باسم الْخلَافَة وَاسم الرَّأْي الْعَام. وَعدم اشْتِرَاك الْبِلَاد الْعَرَبيَّة فِي المذابح الأرمنية الْأَخِيرَة، برهَان كَاف على أَن الإسلامية بمعزل عَن المجافاة، لِأَن الْعَرَب يفهمون معنى الْقُرْآن فيدينون بِهِ. وَقد يندهش الأوربيون إِذا علمُوا أَن السياسة التركية لم يُوَافِقهَا أَن تترجم الْقُرْآن إِلَى اللُّغَة التركية إِلَى الْآن.
ولدى رجال السياسة دَلِيل مُهِمّ آخر على أَن أصل الإسلامية لَا يسْتَلْزم الوحشة بَين الْمُسلمين وَغَيرهم، بل يسْتَلْزم الألفة؛ وَذَلِكَ أَن الْعَرَب أَيْنَمَا حلوا من الْبِلَاد، جذبوا أَهلهَا بِحسن الْقدْوَة والمثال لدينهم ولغتهم، كَمَا أَنهم لم ينفروا من الْأُمَم الَّتِي حلت بِلَادهمْ وحكمتهم، فَلم يهاجروا مِنْهَا كعدن وتونس ومصر بِخِلَاف الأتراك، بل يعتبرون دُخُولهمْ تَحت سلطة غَيرهم من حكم الله لأَنهم يذعنون لكلمة رَبهم
تَعَالَى شَأْنه: {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} .
فَإِذا علم السياسيون هَذِه الْحَقَائِق وتوابعها لَا يحذرون من الْخلَافَة الْعَرَبيَّة، بل يرَوْنَ من صوالحهم الخصوصية، وصوالح النَّصْرَانِيَّة، وصوالح الإنسانية، أَن يؤيدوا قيام الْخلَافَة الْعَرَبيَّة بِصُورَة محدودة السطوة، مربوطة بالشورى على النسق الَّذِي قرأته عَلَيْك.
ثمَّ على فرض أَن بعض الدول وَلَو الْمسلمَة أَرَادَت عرقلة هَذَا الْأَمر، فَهِيَ لَا تقوى عَلَيْهِ، لِأَن أفكار الْأُمَم لَا تقاوم وَلَا تصادم، على أَنِّي لَا أَظن بِمثل فرانسا أَن تنخدع لرأي أنصار الجزويت، لَا سِيمَا بعد أَن تعلمت من الإنكليز كَيفَ تسوس الْمُسلمين، فأبقت لتونس أميرها، فاستراحت مِمَّا عانته قبلا من الجزائر بِسَبَب السياسة التعصبية الخرقاء.
قَالَ الصاحب: استشف من كَلَام مولَايَ الْأَمِير أَن أمله ضَعِيف فِي تشكيل جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين، مَعَ انه معجب بإتقان التَّدْبِير.
قَالَ الْأَمِير: أَن دون تشكيل الجمعية بعض عوائق مَالِيَّة شَتَّى، وأرجوا اله تعال أَن يزيلها.
قَالَ الصاحب: إِنَّنِي جَاهد فِي الْوُقُوف على خبر السَّيِّد الفراتي،
ولعلي اظفر بمعرفته فَاجْتمع بِهِ أَو أكاتبه، فَهَل لمولاي الْأَمِير رَأْي أَو أَمر أبلغه إِيَّاه إِذا ظَفرت بِهِ؟
قَالَ الْأَمِير: نعم إِذا ظَفرت بمعرفته فأقرئه مني السَّلَام، وبلغه عني هَذِه الْجمل: وَهِي أَنِّي أثني على صدق عزيمته، وعَلى حسن إنتخابه رفقاءه، وأوصيه بالثبات والإقدام وَلَو طَال المطال، وَأَن يحرص على إبْقَاء علاقته مَعَ أَعْضَاء جمعية أم الْقرى باستمراره على مكاتبتهم وَإِن لَا يقنط من مساعدة القسطنيطينية أَو مصر اَوْ مراكش أَو طهران أَو كابل أَو حَائِل أَو عمات، لَا سِيمَا بعد انْعِقَاد جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين ورسوخها.
قَالَ الصاحب: إِذا ظَفرت بِهِ عَن شَاءَ الله أُبَشِّرهُ بِتَحِيَّة مولَايَ الْأَمِير، وأبلغه كل مَا أَمر بِهِ. (انْتَهَت المحاورة) يَقُول السَّيِّد الفراتي: قد ألحقت هَذِه المحاورة بسجل المذاكرات، وكتبت بهَا إِلَى بَاقِي الإخوان، وَذَلِكَ تنويها بشأن حَضْرَة الْأَمِير الْمشَار إِلَيْهِ، وشكراً على غيرته وتبصيراته، وافتخاراً بِحسن ظَنّه وَنَظره فِي هَذَا الْعَاجِز، وتبشيراً لجنابه وللمسلمين بِأَن جمعية أم الْقرى قد احكم تصورها وتأسيسها، فَهِيَ بعناية الْحَيّ القيوم الأبدي حَيَّة قَائِمَة أبدا.