الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الِاجْتِمَاع السَّادِس
يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة
1316
فِي الضُّحَى الأول من الْيَوْم الْمَذْكُور تألفت الجمعية حسب معتادها، وَقُرِئَ الضَّبْط السَّابِق، واستعدت الأذهان لتلقي مَا يفيضه الله على أَلْسِنَة أهل الْإِيمَان من الإخوان.
قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس مُخَاطبا " الشَّيْخ السندي ": إِنَّك يَا مَوْلَانَا لم تشاركنا فِي الْبَحْث إِلَى الْآن، فنرجوك أَن تتكرم على إخوانك بنبذة من عرفانك تنور بهَا أفكارنا. ونرجوك أَن لَا تحتشم من التلعثم فِي بعض التعبيرات اللُّغَوِيَّة لغَلَبَة العجمة عَلَيْك، فَإِن لَك أُسْوَة بالفيروز أبادي والسعد وَالْفَخْر وَغَيرهم.
فَقَالَ الشَّيْخ السندي: أَنكُمْ أَيهَا السَّادة الإخوان، سراة أفاضل الزَّمَان، وسباق فرسَان كل ميدان، قد أفدتم وأجدتم، وَلم تتركوا لقَائِل من مجَال، وَلَا لمثلي غير الإصغاء والامتثال. وَإِنِّي احب أَن
أذكر لكم حالتي وفكرتي قبل هَذِه الاجتماعات، وَمَا أثرته فِي هَذِه المفاوضات، فَأَقُول:
أنني من خلفاء الطَّرِيقَة النقشبندية. إِذْ كَانَ وَالِدي المرحوم هُوَ ناقل هَذِه الطَّرِيقَة للأقاليم الشرقية والجنوبية فِي الْهِنْد، وَقد صرت بعد وَالِدي مرجعا لعامة خلفائها، ثمَّ جرت لي سياحات مكررة فِي تِلْكَ الأرجاء وَفِي أيالات كاشغر وقازان حَتَّى سيبيريا وَتلك الإنحاء، وبسبب حرصنا على تَعْمِيم طريقتنا، صَار لَهَا شيوع مُهِمّ وانتشار عَظِيم بَين مُسْلِمِي هاتيك الديار.
وَمن الْمَعْلُوم أَن طريقتنا من أقرب الطرائق للإخلاص وأقلها انحرافا عَن ظَاهر الشَّرْع؛ وَهِي مؤسسة على الذّكر القلبي وَقِرَاءَة ورد خواجكان، ومراقبة المرشد والاستمداد من الروحانيات، وَإِنِّي لم اكن أفكر قطّ فِي أَن الذّكر وَقِرَاءَة الْورْد على وَجه راتب فِيهِ مَظَنَّة الْبِدْعَة أَو الزِّيَادَة فِي الدّين، وَلَا أَن المراقبة والاستفاضة والاستمداد من أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فِيهَا مَظَنَّة الشّرك، إِلَى أَن حضرت هَذِه الاجتماعات الْمُبَارَكَة فَسمِعت وقنعت وأقلعت وَالْحَمْد لله.
على أَنِّي عزمت أَيْضا على أَن أتلطف فِي الْأَمر بِالنَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، عَسى أَن أوفق لهداية جَمَاهِير النقشبندية فِي تِلْكَ
الْبِلَاد، وَإِلَى تَصْحِيح وجهتهم بِأَن يذكرُوا الله قلباً وَلِسَانًا بِدُونِ عدد مَخْصُوص معِين، قيَاما وقعوداً وعَلى جنُوبهم بِدُونِ هَيْئَة أَو كَيْفيَّة مُعينَة، مَتى شاؤا وَأَرَادُوا بِدُونِ وَقت مُرَتّب، فُرَادَى ومجتمعين بِدُونِ تداع. وَأَن يتْركُوا المراقبة ويستعيضوا عَنْهَا بِالدُّعَاءِ بالغفران وَالرَّحْمَة لكل من الشَّيْخ بهاء لدين النقشي مرشدهم الْأَعْلَى ولخليفته مرشدهم الْأَدْنَى الَّذِي هم مبايعوه.
وَقد فتح الله عَليّ ببركة جمعيتنا هَذِه فهم أَسبَاب ميل الْمُسلمين فِي هاتيك الْبِلَاد، صَالحهمْ وفاسقهم، للانتساب إِلَى إِحْدَى الطرائق الصُّوفِيَّة، وَكنت قبلا أحمل ذَلِك على مُجَرّد إخلاص المرشدين، والآن اتَّضَح لي أَن السَّبَب هُوَ: أَن السَّادة الْفُقَهَاء عندنَا من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة قد ضيقوا على الْمُسلمين الْعِبَادَات تضييقاً لَا يعلم أَن الله تَعَالَى يَطْلُبهُ من عباده، وكثروا الْأَحْكَام فِي الْمُعَامَلَات تكثيراً ضيع النَّاس وشوش الْإِفْتَاء وَالْقَضَاء، حَتَّى صَار الْمُسلم لَا يكَاد يُمكنهُ أَن يصحح عِبَادَته أَو مُعَامَلَته مَا لم يكن فَقِيها.
فتوسيع الْفُقَهَاء دَائِرَة الْأَحْكَام انتج تضييق الدّين على الْمُسلمين تضييقاً أوقع الْأمة فِي ارتباك عَظِيم، ارتباكا جعل الْمُسلم لَا يكَاد يُمكنهُ أَن يعْتَبر نَفسه مُسلما ناجياً لتعذر تطبيق جَمِيع عباداته ومعاملاته
على مَا يتطلبه مِنْهُ الْفُقَهَاء المتشددون الأخذون بالعزائم، فبذلك أصبح الْجُمْهُور الْأَكْبَر من الْمُسلمين يَعْتَقِدُونَ فِي أنفسهم التهاون أضراراً، فيهون عَلَيْهِم التهاون اخْتِيَارا كالغريق لَا يحذر البلل.
لِأَنَّهُ كَيفَ يطمئن الْحَنَفِيّ الْعَاميّ حق الاطمئنان فِي الإستبراء لنصح طَهَارَته، وَكَيف يحسن مخارج الْحُرُوف كلهَا وَقد أفسدت العجمة لِسَانه لتصح صلَاته؟ وَكَذَلِكَ كَيفَ يصحح الشَّافِعِي الْعَاميّ نِيَّته على مَذْهَب أَمَامه فِي الصَّلَاة، أَو يعرف شدات الْفَاتِحَة الثَّلَاث عشرَة وينتبه لإظهارها كلهَا ليَكُون أدّى فريضته.
بل أَي عَامي يعرف وصف الْكَلَام، وَمعنى الاسْتوَاء، وَتَأْويل الْوَجْه وَالْيَد وَالْيَدَيْنِ، وَتَعْيِين الْجُزْء الِاخْتِيَارِيّ، وَإِضَافَة الْأَعْمَال لَهُ أَو لله، إِلَى غير ذَلِك، ليَكُون عِنْد الْحَنَفِيَّة الماتريدية وَالشَّافِعِيَّة إِلَّا شاعرة مُسلما مُقَلدًا يُرْجَى لَهُ قبُول الْإِيمَان. وَمن من الْعَامَّة يُحِيط علما بِكُل مَا ثَبت بِالنَّصِّ الْقَاطِع حَتَّى صفرَة بقرة بني إِسْرَائِيل مثلا، لكيلا يعْتَقد خِلَافه فيكفر فيحبط عمله وَمن جملَته انْفِسَاخ نِكَاحه.
وَكم من مُسلم يحكم عَلَيْهِ الْفَقِيه الشَّافِعِي بِأَنَّهُ نسل سفاح ومقيم
على السفاح وراض لمحارمه بالسفاح، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُنَافِي سماحة الدّين ومزية التدين بِهِ فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة.
فَبِهَذَا التَّضْيِيق صَار الْمُسلم لَا يرى لنَفسِهِ فرجا إِلَّا بالالتجاء إِلَى صوفية الزَّمَان، الَّذين يهونون عَلَيْهِ الدّين كل التهوين. (مرحى) .
وهم الْقَائِلُونَ: أَن الْعلم حجاب، وبلمحة تقع الصلحة، وبنظرة من المرشد الْكَامِل يصير الشقي وليا، وبنفخة فِي وَجه المريد أَو تفلة فِي فَمه تُطِيعهُ الأفعى وتحترمه الْعَقْرَب الَّتِي لدغت صَاحب الْغَار عَلَيْهِ الرضْوَان، وَتدْخل تَحت أمره قوانين الطبيعة، وهم المقررون: بَان الْولَايَة لَا ينافيها ارْتِكَاب الْكَبَائِر كلهَا إِلَّا الْكَذِب، وَإِن الِاعْتِقَاد أولى من الانتقاد، وَإِن الِاعْتِرَاض يُوجب الحرمان، أَي أَن تَحْسِين الظَّن بالفساق والفجار أولى من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. إِلَى غير ذَلِك من الْأَقْوَال المهونة للدّين والأعمال الَّتِي تَجْعَلهُ نوعا من اللَّهْو الَّذِي تستأنس بِهِ نفوس الْجَاهِلين.
على أَن النَّاس لَو وجدوا الصُّوفِيَّة الحقيقيين؛ وَأَيْنَ هم؟ لفروا مِنْهُم فرارهم من الْأسد، لِأَن لَيْسَ عِنْد هَؤُلَاءِ إِلَّا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النُّفُوس من أمراض إفراط الشَّهَوَات،
وتصفية الْقُلُوب من شوائب الشره فِي حب الدُّنْيَا، وَحمل الطبائع بوسائل الْقَهْر والتمرين على الِاسْتِئْنَاس بِاللَّه وبعبادته عوضا عَن الملاهي الْمضرَّة، وَذَلِكَ طِبًّا للراحة الفكرية والعيشة الهنية فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا والسعادة الأبدية فِي الْآخِرَة، وَأَيْنَ التهوين السالف الْبَيَان لصوفية الزَّمَان من هَذِه المطالب التهذيبية الشاقة؟ وَمن حقائق الْعرْفَان المعنوية الَّتِي لَا يعرفهَا ويتلبس بهَا إِلَّا من وَفقه الله وكشف عَن بصيرته. وَذَلِكَ نَحْو الْعرْفَان عَن يَقِين وإيمان: أَن من اعز كلمة الله أعزه الله، وَمن نصر الله نَصره الله، وَمن توقع الْخَيْر أَو الشَّرّ جَازِمًا نَالَ مَا توقع. وَمن تصفو نَفسه يلهم رشده، وَمن اتكل على الله حَقًا كَفاهُ الله مَا أهمه، وَمن دَعَا الله مُضْطَرّا أجَاب دعاءه. إِلَى غير ذَلِك من الْحَقَائِق المقتبسة من الْقُرْآن وأسرار حِكْمَة سيد ولد عدنان [صلى الله عليه وسلم] . (مرحى) .
قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: قد أحسن أخونا الشَّيْخ السندي توصيفه المتفقهة المتشددة والمتصوفة المخففة، وَإِنِّي مُلْحق تَقْرِيره بِمَا يُنَاسب أَن يكون مُقَدّمَة تاريخية لبحث التصوف فَأَقُول:
قد كَانَ التنسك فِي الْمُسلمين شِيمَة لأكْثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، ثمَّ أَن التَّوَسُّع فِي الدُّنْيَا قلل عدد المتنسكين، فَصَارَ لأَهله حرمه
مَخْصُوصَة بَين النَّاس. وَصَارَ بعض المتفرغين يقصدون نيل هَذِه الْحُرْمَة بالتلبس بالتنسك وإلزام النَّفس بالتمرن عَلَيْهِ؛ وَحَيْثُ كَانَ من لَوَازِم استحصال تِلْكَ الْحُرْمَة إِظْهَار التقشف اتَّخذُوا الصُّوف دثاراً وإسم الْفقر شعاراً، فغلب عَلَيْهِم اسْم الصُّوفِيَّة وَاسم الْفُقَرَاء. ثمَّ أَن بعض الْعلمَاء من هَؤُلَاءِ المعتزين بالتنسك، أحبو التميز بالرياسة أَيْضا، فصاروا يدعونَ النَّاس إِلَى التنسك ويرشدونهم إِلَى طرائق النمرن عَلَيْهِ، وَمن هُنَا جَاءَ اسْم الْإِرْشَاد وَاسم الطَّرِيق.
وَحَيْثُ كَانَت إِرَادَة الاعتزاز بِالدّينِ إِرَادَة حَسَنَة لِأَن فِيهَا إعزازاً لكلمة الله، فَلَا يُؤْخَذ شَيْء على المرشدين الْأَوَّلين، وَلَا على الْبَعْض النَّادِر من الْمُتَأَخِّرين وَلَو من أهل عهدنا هَذَا كالسادات السنوسية فِي صحراء إفريقيا. أما دُخُول الْفساد على التصوف وإضراره بِالدّينِ وبالمسلمين مِمَّا ذكره أخونا الشَّيْخ السندي وَغَيره من الإخوان الْكِرَام، فقد نَشأ من أَن بعض المرشدين من أهل الْقرن الرَّابِع، لما رَأَوْا توسع الْفُقَهَاء فِي الشَّرْع وتفنن الْمُتَكَلِّمين فِي العقائد، فهم كَذَلِك اقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتلامذته فِي الألهيات قَوَاعِد، وانتزعوا من لاهوتيات الكتابيين والوثنيين جملا، وألبسوها لباسا
إسلاميا فجعلوه علما مَخْصُوصًا ميزوه باسم علم التصوف، أَو الْحَقِيقَة، أَو الْبَاطِن.
وَهَكَذَا بعد أَن كَانَ التصوف عملا تعبدياً مَحْضا جَعَلُوهُ فَنًّا نظريا اعتقاديا بحتا.
ثمَّ جَاءَ مِنْهُم فِي الْقرن الْخَامِس وَمَا بعده بعض غلاة دهاة، رَأَوْا مجالاً فِي جهل أَكثر الْأمة لِأَن يحوزوا بَينهم مقَاما، كمقام النُّبُوَّة بل الألوهية، باسم لولاية والقطبانية أَو الغوثية؛ وَذَلِكَ بِمَا يدعونَ من الْقُوَّة القدسية وَالتَّصَرُّف فِي الملكوت، فوسعوا فلسفة التصوف بِأَحْكَام تشبه الحكم، بنوها على زخرف التأويلات والكشف والتحكمات والمثال والخيال والأحلام والأوهام، وألفوا فِي ذَلِك الْكتب الْكَثِيرَة والمجلدات الْكَبِيرَة، محشوة بحكايات مكذوبة، وتقريرات مخترعة، وقضايا وتركيبات لَا مَفْهُوم لَهَا الْبَتَّةَ حَتَّى وَلَا فِي مخيلة قائليها، كَمَا أَن قارئيها أَو سامعيها لَا يتصورون لَهَا معنى مُطلقًا وَإِن كَانَ بَعضهم يتظاهر بِحَالَة الْفَهم، ويتلمظ بِأَن للْقَوْم اصْطِلَاحَات لَا تدْرك إِلَّا بالذوق الَّذِي لَا يعرفهُ إِلَّا من شرب مشربهم.
وَبَعض هَؤُلَاءِ الغلاة قتلوا كفرا وَمَعَ ذَلِك شاعت كتبهمْ ومقالاتهم، وحازوا الْمقَام الَّذِي ادعوهُ بعد مماتهم، لِأَن فِي تَعْظِيم
شَأْنهمْ ترويج مَقَاصِد المقتفين لآثارهم كالإباحيين. وَبَعْضهمْ لم يكن من الغلاة، وَلَكِن إخلافه إعظاماً لأَنْفُسِهِمْ فِي نظر حمقاء الْأمة نسبوا إِلَيْهِ الغلو، وعزوا إِلَيْهِ كتبا ومقالات لَا يعرفهَا، وَمِنْهُم الأفاعيون يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى فِي عهدنا هَذَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه.
ثمَّ قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس للخطيب القازاني: إِن الأخوان يترقبون مِنْهُ أَيْضا أَن يفيدهم بِمَا يلهمه الله مِمَّا يُنَاسب مَوْضُوع مبَاحث الجمعية.
فَقَالَ الْخَطِيب القازاني: إِن الإخوان الأفاضل لم يتْركُوا قولا لقَائِل، وَلذَلِك لَا أجد مَا أَتكَلّم فِيهِ، وَإِنَّمَا أقص عَلَيْهِم مساجلة جرت فِي الاستهداء بَين مفتي قازان وإفرنجي روسي من الْعلمَاء المستشرقين العارفين باللغة الْعَرَبيَّة، المولعين باكتشاف وتتبع الْعُلُوم الشرقية وَلَا سِيمَا الإسلامية، وَقد هداه الله إِلَى الدّين الْمُبين، فَاجْتمع بمفتي قازان وَقَالَ لَهُ: أَنه قد أسلم جَدِيدا، وَهُوَ بَالغ من معرفَة لُغَة الْقُرْآن وَالسّنة مبلغا كَافِيا، وعالم بموارد ومواقع الْخَطَأ علما وافياً، فيريد أَن
يتتبع الْقُرْآن وَمَا يُمكنهُ أَن يتَحَقَّق وُرُوده عَن رَسُول الله، فَيعْمل بِمَا يفهمهُ ويمكنه تَحْقِيقه على حسب طاقته، لِأَنَّهُ لَا يرى وَجها معقولاً للوثوق بزيد أَو عَمْرو أَو بكر أَصْحَاب الْأَقْوَال المتضاربة المتناقضة، لِأَن حكم الْعقل فِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين التساقط، وَفِي البرهانين المتباينين التهاتر، فَهَل من مَانع فِي الإسلامية يمنعهُ من ذَلِك.
فَأَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": إِن أكثرية الْأمة مطبقة مُنْذُ قُرُون كَثِيرَة على لُزُوم اعْتِمَاد مَا حَرَّره أحد الْمُجْتَهدين الْأَرْبَعَة المنقولة مذاهبهم، فاطباق الأكثرية دَلِيل على الصِّحَّة فَلَا يجوز الشذوذ.
فَقَالَ " المستشرق ": لَو كَانَ الصَّوَاب قَائِما بِالْكَثْرَةِ والقدم، وَإِن خَالف الْمَعْقُول، لاقتضى ذَلِك صوابية الوثنية ورجحان النَّصْرَانِيَّة، ولاقتضى كَذَلِك عكس حكم مَا صَحَّ وُرُوده عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] : من أَن أمته تفترق إِلَى ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة، هِيَ الَّتِي كَانَ هُوَ وَأَصْحَابه عَلَيْهَا. وَقد وَقع مَا اخبر بِهِ، وكل فرقة تَدعِي أَنَّهَا هِيَ تِلْكَ الْوَاحِدَة النَّاجِية، وَلَا شكّ أَن الاثنتين وَسبعين فرقة أَكثر من أَي وَاحِدَة كَانَت مِنْهَا، فَأَيْنَ يبْقى حكم الأكثرية؟
فَأَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أَنه قد سبقنَا من أهل التَّحْقِيق والتدقيق الَّذين
تشهد آثَارهم بمزيد علمهمْ أُلُوف من الْفُضَلَاء، وَكلهمْ اعتمدوا لُزُوم اتِّبَاع أحد تِلْكَ الْمذَاهب الْقَدِيمَة، حَتَّى بِدُونِ مُطَالبَة أَهلهَا بدلائلهم، لِأَن مداركنا قَاصِرَة عَن أَن توازن الدَّلَائِل وتميز الصَّحِيح وَالرَّاجِح، ومثلنا فِي ذَلِك كالطبيب لَا يلْزمه أَن يجرب طبائع الْمُفْردَات كلهَا ليعتمد عَلَيْهَا، بل يَأْخُذ علمه بطبائعها عَمَّا دونه أَئِمَّة الطِّبّ.
فَقَالَ " المستشرق ": نعم أَن الطَّبِيب يعْتَمد على مَا حَقَّقَهُ الْأَولونَ وَلَكِن فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَأما مَا اخْتلفُوا فِيهِ على طرفِي نقيض بَين نَافِع أَو سَام فَلَا يعْتَمد فِيهِ أحد الْقَوْلَيْنِ، بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة وَالتَّحْقِيق، لِأَن اعْتِمَاده على أَحدهمَا يكون تَرْجِيحا بِلَا مُرَجّح. هَذَا وأننا لنرى ببادئ النّظر أَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الأقدمين لَا يقدرُونَ أَن يطلعوا على مَا لَا يقدر الْمُتَأَخّرُونَ أَن يطلعوا عَلَيْهِ، وَيَكْفِينَا برهانا على ذَلِك:
(أَولا) تخالفهم فِي كل الْأَحْكَام، إِلَّا فِيمَا قل وندر، تخالفا مهما مَا بَين مُوجب وسالب ومحلل ومحرم، حَتَّى لم يُمكنهُم الِاتِّفَاق فِي نَحْو مسَائِل الطَّهَارَة وَستر الْعَوْرَة وَمَا يحل أكله وَمَا لَا يحل.
(ثَانِيًا) : ترددهم فِي الْأَحْكَام وتقلبهم فِي الآراء، وَذَلِكَ كَحكم أحدهم فِي الْمَسْأَلَة ثمَّ عدوله عَنهُ إِلَى غَيره؛ كَمَا يَقُول أَصْحَاب الشَّافِعِي
أَنه كَانَ لَهُ مذهبان، رَجَعَ بِالثَّانِي مِنْهُمَا عَن الأول.
(ثَالِثا) : اخْتِلَاف أتباعهم فِي الرِّوَايَة عَنْهُم كأصحاب أبي حنيفَة الَّذين قَلما يتفقون على رِوَايَة عَنهُ، ويؤول ذَلِك لَهُم بعض الْمُتَأَخِّرين بِتَعَدُّد مذاهبه فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة.
وَالْحَاصِل أَن الْإِنْسَان الَّذِي يتَقَيَّد بتقليد أحد أُولَئِكَ الْأَئِمَّة، وَلَا سِيمَا الإِمَام الْأَعْظَم مِنْهُم، لَا يتَخَلَّص من قلق الضَّمِير، أَو يكون كحاطب ليل: بِنَاء على ذَلِك لَا بُد للمتحري فِي دينه من أَن يَهْتَدِي بِنَفسِهِ لنَفسِهِ، أَو يَأْخُذ عَمَّن يَثِق بِعِلْمِهِ وَدينه وصواب رَأْيه وَلَو من معاصريه، لِأَن الدّين أَمر عَظِيم لَا يجوز الْعقل وَالنَّقْل فِيهِ المماشاة وَاتِّبَاع التَّقْلِيد.
أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": نَحن لَا نحتم بَان الصَّوَاب مَقْطُوع فِيهِ فِي جَانب أحد تِلْكَ الْمذَاهب، بل الْمُقَلّد منا أما أَن يَقُول بِإِصَابَة الْكل أَو يرجح الْخَطَأ فِي جَانب من ترك مَعَ احْتِمَال الصَّوَاب.
فَقَالَ " المستشرق ": هَذَا القَوْل يسْتَلْزم تعدد الْحق عِنْد الله. أَو القَوْل بالترجيح بِلَا مُرَجّح، لأنكم تتحامون المفاضلة بَين الْأَئِمَّة. واعترافكم بِاحْتِمَال الْجَمِيع للخطأ يَقْتَضِي جَوَاز تَركهَا كلهَا مَعَ أَنكُمْ توجبون اتِّبَاع أَحدهَا. أفليست هَذِه قضايا لَا تتطابق وَلَا تعقل،
فلماذا لَا تجوزون وانتم على هَذَا الارتباك أَن يستهدي المبتلي لنَفسِهِ، فَإِن تحقق عِنْده شَيْء عَن يَقِين أَو غَلَبَة ظن اتبعهُ وَلَا كَانَ مُخْتَارًا وَهل يُكَلف الله نَفسهَا إِلَّا وسعهَا؟
أَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أننا لبعد الْعَهْد لم يبْق فِي إمكاننا التَّحْقِيق، فَمَا لنا من سَبِيل غير اتِّبَاع أحد الْمُتَقَدِّمين وَلَو كَانَ تَحْقِيقه يحْتَمل الْخَطَأ.
قَالَ " المستشرق ": مَا الْمُوجب لتكليف النَّفس مَا لم يكلفها بِهِ الله؟ أَلَيْسَ من الْحِكْمَة أَن يحفظ الْإِنْسَان حُرِّيَّته واختياره، فيستهدي بِنَفسِهِ لنَفسِهِ حسب وَسعه، فَإِن أصَاب كَانَ مأجورا وان أَخطَأ كَانَ مَعْذُورًا، وَيكون ذَلِك أولى من أَن يأسر نَفسه للخطأ الْمُحْتَمل من غَيره.
أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": أَن هَذَا الْغَيْر أعرف منا بِالصَّوَابِ وَأَقل منا خطأ، فتقليده أقرب للحق.
قَالَ " المستشرق " هَذَا مُسلم فِيمَا اتّفق عَلَيْهِ الأقدمون، أما فِي الخلافات فالعقل يقف عِنْد التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَلَا سِيمَا إِذا كُنْتُم لَا تجوزون أَيْضا الْبَحْث عَن الدَّلِيل ليحكم المبتلي عقله فِي التَّرْجِيح، بل تَقولُونَ نَحن إسراء النَّقْل وَأَن خَالف
ظَاهر النَّص.
أَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أننا إِذا أردنَا أَن لَا نعد من شرعنا إِلَّا مَا نتحقق بِأَنْفُسِنَا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة أَو الْإِجْمَاع تضيق حِينَئِذٍ علينا أَحْكَام الشَّرْع، فَلَا تفي بِحل إشكالاتنا فِي الْعِبَادَات وَلَا لتعيين أَحْكَام حاجاتنا فِي الْمُعَامَلَات، فَيحْتَاج كل منا أَن يعْمل بِرَأْيهِ فِي غَالب دقائق الْعِبَادَات والمعاملات، وَيصير الْقَضَاء غير مُقَيّد بإيجابات شَرْعِيَّة. وَهل من شكّ فِي أَن اطراد الآراء وانتظام الْمُعَامَلَات أليق بالحكمة من لَا اطراد وَلَا نظام.
قَالَ " المستشرق ": لَا شكّ فِي ذَلِك، وَلَكِن أَيْن الاطراد والانتظام مِنْكُم، وَلَا يكَاد يُوجد عنْدكُمْ مَسْأَلَة فِي الْعِبَادَات أَو الْمُعَامَلَات غير خلافية، أَن لم تكن فِي الْمَذْهَب الْوَاحِد فَبين مذهبين أَو ثَلَاث. هَذَا وَرُبمَا يُقَال أَن توفيق الْعَمَل على قَول من اثْنَيْنِ أَو أَكثر، أقرب للاطراد من الفوضى الْمَحْضَة فِي تَفْوِيض الْأَمر لرأي المبتلي، أَو تَفْوِيض الحكم لحرية القَاضِي. فيجاب على ذَلِك أَن الْأَمر أَمر ديني لَيْسَ لنا أَن نتصرف فِيهِ برأينا ونعزوه إِلَى الله وَرَسُوله كذبا وافتراءً وإفساداً لدين الله على عباده، وَلَو أَن الْأَمر نظام وضعي لما كَانَ أَيْضا من الْحِكْمَة أَن يلْتَزم أهل زَمَاننَا آراء من سلفوا من عشرَة
قُرُون، وَلَا أَن يلْتَزم أهل الغرب بقانون أهل الشرق. وَعِنْدِي أَن هَذَا التَّضْيِيق قد استلزم مَا هُوَ مشَاهد عنْدكُمْ من ضعف حُرْمَة الشَّرْع الْمُقَدّس.
ثمَّ قَالَ " المستشرق " وأعيد قولي أَنكُمْ تحبون أَن تكلفوا أَنفسكُم بِمَا لم يكلفكم بِهِ الله، وَلَو أَن فِي الزِّيَادَات خيرا لاختارها الله لكم وَلم يمنعكم مِنْهَا بقوله تَعَالَى:{مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} أَي مِمَّا يتَعَلَّق بِالدّينِ، وَقَوله تَعَالَى:{الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} . وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} . وَلَكِن، علم الله، الْخَيْر فِي الْقدر الَّذِي هدَاكُمْ إِلَيْهِ، وَترك لكم الْخِيَار على وَجه الْإِبَاحَة فِي بَاقِي شئونكم لتوفقوها على مقتضيات الزَّمَان أبي الْغَيْر وموجبات الْأَحْوَال الَّتِي لَا تَسْتَقِر، فبناء عَلَيْهِ، إِذا أتيتم أَكثر أَعمالكُم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها، يكون خيرا من أَن تأتوها وَأَنْتُم حيارى لَا تَدْرُونَ هَل أصبْتُم فِيهَا أم خالفتم أَمر الله، فتعيشون وأفئدتكم هَوَاء، تحاذرون فِي الدّين شُؤْم الْمُخَالفَة وَفِي الْآخِرَة عذَابا
عَظِيما. وَلَيْسَ هَذَا من مُخَالفَة الله الَّتِي هِيَ رَأس الْحِكْمَة، وَلَا من مراقبة الْوَازِع الَّتِي هِيَ مزية الدّين، بل هَذَا من الارتباك فِي الرَّأْي وَالِاضْطِرَاب فِي الحكم ونتيجة ذَلِك فقد الحزم والعزم فِي الْأُمُور.
ثمَّ قَالَ: أعلم أَيهَا الْمُفْتِي الْمُحْتَرَم، أَن هَذِه الْحَالة الَّتِي أَنْتُم عَلَيْهَا من التَّشْدِيد والتشويش فِي أَمر الدّين، هِيَ اكبر أَسبَاب انحطاط الْمُسلمين بعد الْقُرُون الأولى فِي شؤون الْحَيَاة، كَمَا انحط قبلهم الإسرائيليون بِمَا شدده وشوشه عَلَيْهِم أهل التلمود، وكما انحطت الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة لما كَانَت (أرثوذكسية) مُغَلّظَة أَو (كاثوليكية) متشددة، يتحكم فِيهَا البطارقة والقسيسون بِمَا يشاؤن تَحت اسْم الدّين، فَكَانُوا يكلفون النَّاس أَن يتبعوا مَا يلقنونهم من الْأَحْكَام بِدُونِ نظر وَلَا تدقيق؛ حَتَّى كَانُوا يحظرون عَلَيْهِم أَن يقرأوا الْإِنْجِيل أَو يستفهموا معنى التَّثْلِيث الَّذِي هُوَ أساس النَّصْرَانِيَّة كَمَا أَن التَّوْحِيد أساس الإسلامية. وَبَقِي ذَلِك كَذَلِك إِلَى أَن ظَهرت (البروتستان) ، أَي الطَّائِفَة الإنجيلية الَّتِي رجعت بالنصرانية إِلَى بساطتها الْأَصْلِيَّة، وأبطلت المزيدات والتشديدات الَّتِي لَا صَرَاحَة فِيهَا فِي الأناجيل، وَإِلَى أَن اتَّسع من جِهَة أُخْرَى عِنْد الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة نطاق الْعُلُوم
والفنون رغماً عَن مُعَارضَة رجال الكهنوت لَهَا، فتلطفت أَيْضا الكاثوليكية والأرثوذكسية عِنْد الْعَوام واضمحلتا بِالْكُلِّيَّةِ عِنْد الْخَواص. لِأَن الْعلم والنصرانية لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا، كَمَا أَن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين تضلل الْعُقُول وتشوش الأفكار.
أما الإسلامية السمحاء، الْخَالِصَة من شوائب الزَّوَائِد وَالتَّشْدِيد، فَإِن صَاحبهَا يزْدَاد إِيمَانًا كلما ازْدَادَ علما ودق نظرا، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار كَون الإسلامية هِيَ أَحْكَام الْقُرْآن وَمَا ثَبت من السّنة وَمَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي الصَّدْر الأول، لَا يُوجد فِيهَا مَا يأباه عقل أَو يناقضه تَحْقِيق علمي.
وَكفى شرفا لِلْقُرْآنِ الْعَزِيز أَنه على اخْتِلَاف مواضيعه من تَوْحِيد وَتَعْلِيم وإنذار وتبشير وأوامر ونواه وقصص وآيات آلَاء، قد مضى عَلَيْهِ ثَلَاثَة عشر قرنا تمخضه أفكار الناقدين المعادين وَلم يظفروا فِيهِ وَلَو بتناقض وَاحِد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ:{وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} . بل الْأَمر كَمَا تنبه إِلَيْهِ المدققون الْمُتَأَخّرُونَ انه كلما اكتشف الْعلم حَقِيقَة وجدهَا الباحثون مسبوقة التلميح أَو التَّصْرِيح فِي الْقُرْآن. أودع الله ذَلِك فِيهِ ليتجدد إعجازه ويتقوى الْإِيمَان بِهِ أَنه من عِنْد الله، لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَأْن مَخْلُوق
أَن يقطع بِرَأْي لَا يُبطلهُ الزَّمَان.
فَهَذِهِ القضايا الَّتِي قررها حكماء اليونان وَغَيرهم على أَنَّهَا حقائق، وَلم تَتَرَدَّد فِيهَا عقول عَامَّة الْبشر ألوفاً من السنين، أَصبَحت مَحْكُومًا على أَكْثَرهَا بِأَنَّهَا خرافات. وَكَذَا يُقَال: كفى السّنة النَّبَوِيَّة شرفاً، انه لم يُوجد فِي أعاظم الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، من يَرْبُو عدد مَا يعزى إِلَيْهِ من الحكم الَّتِي قررها غير مَسْبُوق بهَا على عدد الْأَصَابِع، مَعَ أَن فِي السّنة المحمدية على صَاحبهَا أفضل التَّحِيَّة من الحكم والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والعلمية ألوفا من المقررات المبتكرة، ويتجلى عظم قدرهَا مَعَ تجدّد الزَّمَان وترقي الْعلم والعرفان.
وَكفى بذلك ملزماً لأهل الْإِنْصَاف بِالْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَاف لصَاحِبهَا عليه السلام بِالنُّبُوَّةِ والأفضلية على الْعَالمين عقلا، وعلماً، وَحِكْمَة وحزماً، وأخلاقاً، وزهداً، واقتداراً، وعزماً، وَكفى أَيْضا بِهَذِهِ المزايا الْعُظْمَى ملزماً بتصديقه فِي كل مَا جَاءَ بِهِ واتباعه فِي كل مَا أَمر أَو نهي، لِأَن الدَّهْر لم يَأْتِ بمرشد للبشر أكمل وَأفضل مِنْهُ (مرحى) .
ثمَّ قَالَ " المستشرق " للمفتي: وَهَذَا مَا دَعَاني لِلْإِسْلَامِ فلبيت وَالْحَمْد لله،
وَعِنْدِي أَن لَو قَامَ فِي الْإِسْلَام سراة حكماء دعاة مقدمون لما بَقِي على وَجه الأَرْض عَاقل يكفر بِاللَّه.
ثمَّ قَالَ: وَإِنِّي أرى انه لَا يمْضِي قرن إِلَّا وَيكثر المهتدون من المستشرقين ويرسخون فِي الدّين، فيتولون تَحْرِير شَرِيعَة الْإِسْلَام، ويفيضون بهَا على الْأَنَام، حَتَّى على أهل الرُّكْن وَالْمقَام. وَلَا يبعد أَن تَأتي الْأَيَّام بالبرنس مُحَمَّد الْمُهْتَدي الروسي أَو الإنكليزي مثلا، قَائِما مقَام الإِمَام، معيداً عز الْإِسْلَام بأكمل نظام.
أجَاب " الْمُفْتِي ": لَا مَانع مِمَّا ذكرت، ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء، وَدين الله دين عَام لَا يخْتَص بِقوم من الأقوام.
ثمَّ قَالَ " المستشرق ": أَيهَا الْمُفْتِي الْمُحْتَرَم، لَا يطاوعني لساني أَن أَدعِي الْغيرَة على الْملَّة الْبَيْضَاء الأحمدية أَكثر مِنْك، إِنَّمَا أناشدك بِاللَّه وبحبك لدينك أَن تتْرك هَذِه الأوهام التقليدية الْقَائِمَة فِي فكرك، وتعينني على تأليف كتاب يصور حِكْمَة دين الْإِسْلَام وسماحته، ليَكُون سعينا هَذَا ذخْرا عَظِيما ننال بِهِ فَخر وثواب هِدَايَة عشرات الملايين بل مئات الملايين من النَّاس لهَذَا الدّين الْمُبين. وَلَا يكبرن مَا أَقُول على فكرك، فَإِن أهل هَذَا الزَّمَان المتنورين الْأَحْرَار لَا يقاسون بِأَهْل الْأَزْمِنَة الْمظْلمَة الغابرة. نعم، وننال أَيْضا ثَوَاب حفظ الملايين الْكَثِيرَة من أَبنَاء
الْمُسلمين العريقين، تلامذة الْمدَارِس المصرية، من هجر الإسلامية على صورتهَا الْحَاضِرَة المشوهة باختلاط الحكم بالخرافات، المعطلة بثقل التشديدات المبتدعة، فالبدار البدار لِأَن نفوز بِهَذِهِ الْخدمَة الَّتِي يكَاد يعادل أجرهَا أجر نَبِي مُرْسل وَالله الْمعِين الْمُوفق.
أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": أُصِيبَت فِيمَا افتكرت ولنعم مَا أَشرت بِهِ، وَلَكِن هَذَا عمل مُهِمّ، يحْتَاج الْقيام بِهِ لعناية جمعية يتكون من تضلع أعضائها فِي فروع الْعُلُوم الدِّينِيَّة علم كَاف للإحاطة وَحُصُول الثِّقَة ولسوء الْحَظ لَا يُوجد من فيهم الْكَفَاءَة فِي هَذِه الْبِلَاد، وَلذَلِك يتحتم علينا أَن نَتْرُك هَذِه الفكرة آسفين، وندعو الله تَعَالَى أَن يلهم عُلَمَاء مَكَّة أَو صنعاء أَو مصر أَو الشَّام الْقيام بإيفاء هَذَا الْوَاجِب.
وَلما انْتهى الْخَطِيب القازابي إِلَى هُنَا قَالَ: هَذِه هِيَ المساجلة، وَقد سَمِعت الْمُفْتِي يَقُول أَنه اجْتمع بِكَثِير من المستشرقين، فَوَجَدَهُمْ كلهم يحسنون الْعَرَبيَّة أَكثر من عُلَمَاء الْإِسْلَام غير الْعَرَب، مَعَ أَنهم يشتغلون فِي عُلُوم اللُّغَة عمرهم كُله، وَمَا ذَلِك إِلَّا من ظفر مدارس اللُّغَات الشرقية الإفرنجية بأصول لتعليم الْعَرَبيَّة اسهل من الْأُصُول الْمَعْرُوفَة عندنَا.
قَالَ الْمُجْتَهد التبريزي: إِنِّي أرى أَن الْإِسْلَام أَصَابَهُ فتنتان عظيمتان،
وَلَوْلَا قُوَّة أساسه الْبَالِغَة فَوق مَا يتصوره الْعقل لما ثَبت الدّين إِلَى الْآن.
أما الْفِتْنَة الأولى: فقد قدرهَا الله مَضَت على وَجههَا، وَهِي حِين تشاجروا فِي الْخلَافَة وَالْملك، وانقسموا على أنفسهم بأسهم بَينهم، يقتل بَعضهم بَعْضًا، وَتَفَرَّقُوا فِي الدّين لتفرقهم فِي السياسة.
وَأما الْفِتْنَة الثَّانِيَة فَلم تزل مستمرة، وَهِي أَن الْخُلَفَاء العباسيين مالوا إِلَى تعميق النّظر فِي العقائد فخدمهم من خدمهم من عُلَمَاء الإعجام تقرباً إِلَيْهِم فِي علم الْكَلَام، وَأَكْثرُوا من القيل والقال. ثمَّ سرت الْعَدْوى إِلَى المناظرة فِي الْفِقْه وَبَيَان الأولى من الْمذَاهب، فاقبلوا على التدقيق والجدل فِي الخلافات بَين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وأثاروا بَينهمَا فتْنَة عمياء وحربا صماء، وَتركُوا بَقِيَّة الْمذَاهب فاندرست، وَلم يبْق مِنْهَا سوى مَذْهَب زيد وَاحْمَدْ فِي جَزِيرَة الْعَرَب، وَمذهب مَالك فِي الغرب وَمذهب جَعْفَر فِي بِلَاد الخزر وَفَارِس. فاكثروا التَّأْلِيف والتصنيف فِي هَذِه الْمذَاهب، كل مؤلف يحب أَن يُبْدِي مَا عِنْده ليشتهر فَضله وينال حَظه من دُنْيَاهُ، زاعما أَن غَرَضه استنباط دقائق الشَّرْع وَتَقْرِير علل الْمذَاهب. فتزاحموا وتجادلوا وناقض بَعضهم بَعْضًا، وَكَانَ من الْعلمَاء بعض الصلحاء المغفلين شاركوهم فِي الْفِتْنَة وهم
لَا يَشْعُرُونَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون أَلا إِنَّهُم هم المفسدون وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ} . وَقَوله تَعَالَى: {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} .
وَهَكَذَا اتسعت دَائِرَة الْأَحْكَام فِي الشَّرْع، فَصَارَ الْخلف عاجزين عَن الْتِقَاط الْفُرُوع فضلا عَن الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول، فاطمأنت الْأمة للتقليد، وَاقْبَلْ الْعلمَاء على التعمقات فِي الدّين: يغرب الْمُفَسّر، ويتفنن وَلَو بحكايات قَاضِي الْجِنّ لِأَنَّهُ غير مطَالب بِدَلِيل. ويتفحص الْمُحدث عَن نَوَادِر الْأَخْبَار والْآثَار وَلَو مَوْضُوعَة لِأَنَّهُ غير مسئول عَن سَنَده. ويستنبط الْفَقِيه الحكم وَلَو بالشبه من وَجه للازم اللَّازِم لِلْعِلَّةِ لِأَن مجَال التحكم وَاسع. وَهَذِه الْفِتْنَة لم تزل مستمرة إِلَى أَن أوقفها قُصُور الهمم عِنْد الْأَكْثَرين.
على أَن هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرين اخلدوا إِلَى التَّقْلِيد الصّرْف حَتَّى فِي مَسْأَلَة التَّوْحِيد الَّتِي هِيَ أساس الدّين، ومبدأ الْإِيمَان وَالْيَقِين، والفارق بَين الْكفْر وَالْإِسْلَام. وَجعلُوا أنفسهم كالعميان لَا يميزون الظلمَة من النُّور وَلَا الْحق من الزُّور، وصاروا يحسنون الظَّن فِي كل مَا يجدونه مدونا بَين دفتي كتاب، لأَنهم رَأَوْا التَّسْلِيم أَهْون من التبصر،
والتقليد اسْتُرْ للْجَهْل. وَصَارَ أهل كل إقليم أَو بلد يتعصبون لمؤلفات شيوخهم الأقدمين، ويتخذون الخلافيات مدارا لتطبيق الْأَحْكَام على الْهوى، لَا يبالون بِحمْل أثقال النَّاس فِي الدّين على عواتقهم، يَزْعمُونَ أَن التَّسْلِيم أسلم، وَأَنَّهُمْ إسراء النَّقْل وان خَالف ظَاهر النَّص، ويتوهمون أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة رَحْمَة للْأمة.
نعم أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة يكون رَحْمَة إِذا حسن اسْتِعْمَاله، وَيكون نقمة إِذا صَار سَببا للتفرقة الدِّينِيَّة والتباغض: كَمَا هُوَ الْوَاقِع بَين أهل الجزيرة السلفيين، وَبَين أهل مصر والغرب وَالشَّام وَالتّرْك وَغَيرهم من المستسلمين، وَبَين أهل عراق الْعَجم وَفَارِس، والصنف الممتاز من أهل الْهِنْد الشيعيين، وَبَين أهل زنجبار وَمن حَولهمْ من الأباضيين. فَهَذِهِ الْفرق الْكُبْرَى يعْتَقد كل مِنْهُم أَنهم وحدهم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وان سواهُم مبتدعون أَو زائغون. فَهَل وَالْحَالة هَذِه يتَوَهَّم عَاقل أَن هَذَا التَّفَرُّق والانشقاق رَحْمَة لَا نقمة، وَسَببه، وَهُوَ التَّوَسُّع فِي الْأَحْكَام، سَبَب خير لَا سَبَب شَرّ؟
وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الْمُجْتَهدين فِي كل فرقة من تِلْكَ الْفرق، لَا يتَصَوَّر الْعقل أَن يكون رَحْمَة إِلَّا بِقَيْد حسن اسْتِعْمَاله، وَإِلَّا فَيكون نقمة حَيْثُ يُوجب تَفْرِقَة ثَانِيَة بَين مالكي وحنفي
وشافعي مثلا.
وَالْمرَاد من حسن اسْتِعْمَال الْخلاف، هُوَ أَن كل قوم من الْمُسلمين قد اتبعُوا مذهبا من الْمذَاهب تَرْجِيحا أَو وراثة أَو تعصبا، وَلَا بُد أَن يكون فِي الْمَذْهَب الْآخِذ بِهِ كل قوم بعض الْأَحْكَام الاجتهادية، الَّتِي لَا تناسب أَخْلَاق أُولَئِكَ الْقَوْم أَو لَا تلائم أَحْوَالهم المعاشية وطبائع بِلَادهمْ، فيضطرون إِلَى الْإِقْدَام على أحد أَمريْن: أما التَّمَسُّك بِتِلْكَ الْأَحْكَام وَإِن أضرت بهم، أَو الجنوح إِلَى تَقْلِيد مَذْهَب اجتهادي آخر فِي تِلْكَ الْأَحْكَام فَقَط. وَقد كَانَ أَكثر عُلَمَاء وفقهاء الْمُسلمين إِلَى الْقرن الثَّامِن بل التَّاسِع يختارون الشق الثَّانِي، فيقلدون فِي هَذِه الْحَالة الْمذَاهب الْأُخْرَى، وَلَكِن بعد النّظر والتدقيق فِي الْأَدِلَّة كَمَا كَانَ شانهم فِي نفس مذاهبهم الْأَصْلِيَّة، لِئَلَّا يَكُونُوا مقلدين تقليداً أعمى لَا يجوزه الدّين أساسا إِلَّا للجاهل بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهَذِه الطَّرِيقَة هِيَ الطَّرِيقَة المتبعة إِلَى الْيَوْم فِي بِلَاد فَارس، وَالْعُلَمَاء المتصدرون لذَلِك هم أَفْرَاد من نوابغ الْعلمَاء المتضلعين فِي عُلُوم مآخذ الدّين، أَكْثَرهم وَلَا سِيمَا الإيرانيون مِنْهُم متفقهون ومتخرجون على مَذْهَب الإِمَام " جَعْفَر الصَّادِق " رَضِي لله عَنهُ المدون عِنْدهم. وَيُطلق
أهل فَارس على هَؤُلَاءِ الْعلمَاء اسْم " مجتهدين " تجوزا واتباعا لعادة الأعجام فِي التغالي فِي التبجيل ونعوت الاحترام، وَمن ذَلِك يعلم أَن مَا يَظُنّهُ فيهم إخْوَانهمْ الْمُسلمُونَ البعيدون عَنْهُم غير الواقفين على أَحْوَالهم إِلَّا من تفوهات السياسيين غير صَحِيح، فَمَا هم كَمَا يَقُولُونَ عَنْهُم مجتهدون فِي أصُول الدّين، مجوزون الرَّأْي فِي الاجماعيات، مخرجون الْأَحْكَام أخذا من الدَّلَائِل الظنية وَلَو لم يقل بهَا أحد من عُلَمَاء الصَّحَابَة أَو التَّابِعين وأعاظم أَئِمَّة الْهِدَايَة الْأَوَّلين. فَمَا أَحْرَى أَن يُسمى مجتهدو فَارس بمرجحين أَو مخرجين أَو فُقَهَاء مدققين.
ثمَّ أَن بَعضهم وصفوا الْمُقَلّد لأحد الْمذَاهب، إِذا أَخذ فِي بعض الْأَحْكَام بِمذهب آخر، مُلَفقًا وَأَخذه تلفيقاً، واستعملوا لَفظه تلفيق فِي مقَام التلاعب فِي الدّين أَو الترقيع الْقَبِيح. وَالْحَال، لَيْسَ مَا سموهُ بالتلفيق إِلَّا عين التَّقْلِيد من كل الْوُجُوه، وَلَا بُد لكل من أجَاز التَّقْلِيد أَن يُجِيزهُ، لِأَنَّهُ إِذا تَأمل فِي الْقَضِيَّة يجد الْقيَاس هَكَذَا: يجب على كل مُسلم عَاجز عَن الاستهداء فِي مَسْأَلَة دينية بِنَفسِهِ أَن يسْأَل عَنْهَا من أهل الذّكر، أَي يُقَلّد فِيهَا مُجْتَهد، وكل مقلد عَاجز طبعا عَن التَّرْجِيح بَين مَرَاتِب الْمُجْتَهدين، فبناءً عَلَيْهِ يجوز لَهُ أَن يُقَلّد فِي كل مَسْأَلَة دينية مُجْتَهدا مَا.
وَمَا الْمَانِع على هَذَا الِاعْتِبَار للْمُسلمِ الْمُقَلّد أَن يتَعَلَّم كل مَسْأَلَة من الطَّهَارَة وَالْغسْل وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة من مُجْتَهد أَو فَقِيه تَابع لمجتهد، فَإِذا اغْتسل بِمَاء دون قُلَّتَيْنِ لحقته قَطْرَة خمر واعتبره طَاهِرا كَمَا علمه عَالم مالكي، غسلا بِدُونِ دلك كَمَا علمه عَالم حَنَفِيّ؛ وَبعد حدث مُوجب تَوَضَّأ وَمسح شَعرَات من الرَّأْس كَمَا علمه عَالم شَافِعِيّ، وَصلى بعد خُرُوج دم قَلِيل مِنْهُ كَمَا علمه عَالم حنبلي، صَلَاة الصُّبْح بعد طُلُوع الشَّمْس كَمَا علمه عَالم زيدي، وَوصل الْفَرْض بِصَلَاة أُخْرَى بِدُونِ خُرُوج من الأولى كَمَا علمه عَالم جعفري.
أَفلا يكون هَذَا الْمُقَلّد صلى صَلَاة تُجزئه عِنْد الله؟ بلَى ثمَّ بلَى، تجزئة بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لَا يقوم دَلِيل على أَن ذَلِك خلاف الأولى، كَمَا يُقَال فِي حق الْخُرُوج من الخلافات لِأَنَّهُ لَا يعقل أَن يُكَلف هَذَا الْمُقَلّد بِأخذ دينه كُله من عَالم وَاحِد، لِأَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم مَعَ اجتهادهم وتخالفهم فِي الْأَحْكَام كَانَ يُصَلِّي بَعضهم خلف بعض، مَعَ حكم الْمُؤْتَم مِنْهُم على حسب اجْتِهَاده بِعَدَمِ صِحَة صَلَاة إِمَامه، وإشتراطه صِحَة صَلَاة الْمَأْمُوم بِصِحَّة صَلَاة الإِمَام، وَهل يتَوَهَّم مُسلم أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يمْتَنع أَن يأتم بِمَالك أَو يَأْبَى أَن يَأْكُل ذَبِيحَة جَعْفَر؟ كلا، بل كَانُوا أجل قدرا من أَن يخْطر لَهُم هَذَا التعصب على بَال،
وَمَا كَانَ تخالفهم إِلَّا من احْتِيَاط كل مِنْهُم لنَفسِهِ.
وَيُوجد فِي كل مَذْهَب من الْمذَاهب جمَاعَة من تلاميذ الإِمَام أَو الْفُقَهَاء المعروفين بالمرجحين، كل مِنْهُم كَانَ مُجْتَهدا لم يتَقَيَّد بِمذهب إِمَامه تَمامًا، وَخَالفهُ فِي كثير أَو قَلِيل من الْأَحْكَام مُخَالفَة اجْتِهَاد، بِسَبَب إطلاعه على أَدِلَّة مُجْتَهد آخر، أَو الْفَتْح عَلَيْهِ بِمَا لم يفتح بِهِ على إِمَامه.
وَلِأَن الدّين يلْزم الْمُسلم بَان يتبع فِي كل مَسْأَلَة مِنْهُ الشَّارِع لَا الإِمَام، وَإِن يعْمل فِي مواقع الِاجْتِهَاد بِاجْتِهَادِهِ، لَا بِاجْتِهَاد غَيره وَإِن كَانَ أفضل مِنْهُ.
وَهَذَا أَبُو حنيفَة وَأَمْثَاله رَحِمهم الله تَعَالَى، كَانُوا أفضل من أَن يعتقدوا فِي أنفسهم الْأَفْضَلِيَّة على أبي بكر وَعمر رضي الله عنهما، وَمَعَ ذَلِك خالفوهما فِي كثير من الْأَحْكَام الاجتهادية. وفقهاء كل مَذْهَب من الْمذَاهب، لم يزَالُوا إِلَى الْآن يجوزون الْأَخْذ تَارَة بقول الإِمَام وَتارَة بقول أحد أَصْحَابه مَعَ أَن ذَلِك هُوَ عين التلفيق. فلماذا لَا يجوز الْحَنَفِيَّة مثلا التلفيق بَين أَقْوَال أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَو غَيره، وَلَيْسَ فيهم من يَقُول أَن أَصْحَاب إمَامهمْ أفضل من الشَّافِعِي وَمَالك وَابْن عَبَّاس، فَمَا هَذَا إِلَّا تَفْرِيق بِلَا فَارق وَحكم بعكس
الدَّلِيل.
وَقد نتج من التَّفْرِيق بَين الْمُسلمين وَالتَّشْدِيد عَلَيْهِم فِي دينهم ومصالحهم بِدُونِ مُوجب غير التعصب الْمُخَالفَة لأَمره تَعَالَى: {أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} مرحى.
ثمَّ ختم الْمُجْتَهد التبريزي مقاله بقوله: وَلَيْسَ مقامنا الْآن مقَام اسْتِيفَاء لهَذَا الْبَحْث، وَإِنَّمَا أوردت هَذَا الْمِقْدَار مِنْهُ بِقصد بَيَان جَوَاز التلفيق إِذا كَانَ عَن غَرَض صَحِيح كَمَا جوزه كثير من فُقَهَاء كل الْمذَاهب.
وَلَا شكّ أَن ضَرُورَة التلفيق أهم من الضَّرُورَة الَّتِي لأَجلهَا جوز الْفُقَهَاء الْحِيَل الشَّرْعِيَّة مَعَ أَنَّهَا وصمة عَار على الشَّرْع. حَيْثُ لَا يعقل أَن يُقَال مثلا أَن الشُّفْعَة مَشْرُوعَة دفعا للضَّرَر عَن الشَّرِيك أَو الْجَار، وَلَكِن يجوز هَذَا الْإِضْرَار للمحتال. أَو أَن الرِّبَا حرَام وَلَكِن إِذا أضيف للقرض ثمن مَبِيع خسيس بنفيس جَازَ اسْتِبَاحَة مقصد الرِّبَا. أَو أَن إيتَاء الزَّكَاة فرض، وَلَكِن إِذا اخْرُج رب المَال مَاله قبل الْحول ثمَّ استعاده سَقَطت عَنهُ الزَّكَاة. إِلَى غير ذَلِك من إبِْطَال الشَّرْع وَجعل التَّكْلِيف تخييراً والتقيد إطلاقاً؛ وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا غير مَا رخص الله بِهِ لأيوب عليه السلام من التَّوَصُّل للبر بِالْيَمِينِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} ، وَمَا أبعد الْقيَاس بَين الْحِنْث وَبَين إبِْطَال الشَّرْع، وَلَا شكّ أَن بذلك صَار الْمُسلمُونَ كَأَنَّهُمْ لَا شرع لَهُم. وَقد غضب الله على الْيَهُود لتحيلهم على صيد السبت فَقَط. وَنحن نجوز ألف حِيلَة مثلهَا بضرورة وَبلا ضَرُورَة.
بِنَاء عَلَيْهِ، من الْحِكْمَة أَن نلتمس للضرورات أحكاما اجتهادية، فيأمر بهَا الإِمَام إِن وجد وَإِلَّا فالسلطان ليرتفع الْخلاف، فتعمل بهَا الْأمة مَا دَامَ الْمُقْتَضى بَاقِيا. فَإِذا ألجأ الزَّمَان إِلَى تبديلها بقول اجتهادي آخر فَكَذَلِك يَأْمر بِهِ الإِمَام أَو السُّلْطَان رفعا للْخلاف. وبمثل هَذَا التَّدْبِير الَّذِي لَا يأباه شرعنا وَلَا تنافيه الْحِكْمَة نستعوض تِلْكَ الْحِيَل المعطلة للشَّرْع، الْمسلمَة لترقيعات كل فَقِيه ومتفقه، بِأَحْكَام شَرْعِيَّة إيجابية لازيغ فِيهَا.
وَبِنَحْوِ ذَلِك يسلم شرعنا من التلاعب والتضارب، ويتخلص الْقَضَاء والإفتاء من التَّوْفِيق على الْأَهْوَاء، وَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق أَن الْخلاف فِي الْفُرُوع رَحمَه. وَالْحَاصِل انه يَقْتَضِي على عُلَمَاء الْهِدَايَة أَن يقاوموا فكر التعصب لمَذْهَب دون آخر، فَيكون سَعْيهمْ هَذَا منتجاً للتأليف وَجمع الْكَلِمَة فِي الْأمة.
قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَنا نشكر أخانا الْمُجْتَهد التبريزي على بَيَانه لنا حَالَة إِخْوَاننَا أهل فَارس، وعَلى غيرته للدّين وقصده التَّأْلِيف بَين الْمُسلمين. أما تَقْرِيره بِخُصُوص أَن حكم الإِمَام إِن وجد وَإِلَّا فالسلطان يرفع الْخلاف، وبخصوص أَن التلفيق هُوَ عين التَّقْلِيد، فتقرير يحْتَاج إِلَى نظر وتدقيق، وستقوم بِمثل هَذِه التدقيقات فِي الْمسَائِل الدِّينِيَّة الَّتِي بحث فِيهَا الإخوان الْكِرَام الجمعية الدائمة الَّتِي ستتشكل إِن شَاءَ الله. وَالْيَوْم قد قرب وَقت الظّهْر وآن أَوَان الِانْصِرَاف.