المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة - أم القرى

[الكواكبي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌الِاجْتِمَاع الأول

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر ذِي الْعقْدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّانِي

- ‌يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّالِث

- ‌يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الرَّابِع

- ‌يَوْم السبت الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الْخَامِس

- ‌يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع السَّادِس

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع السَّابِع

- ‌يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّامِن

- ‌يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع التَّاسِع

- ‌ويتبعه الِاجْتِمَاع الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر

- ‌يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌الِاجْتِمَاع الثَّانِي عشر

- ‌يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة

- ‌قانون جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين

- ‌الْمُقدمَة

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي تشكيل الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي مباني الجمعية

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي مَالِيَّة الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌فِي وظائف الجمعية

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌تعتني الجمعية فِي حمل الْعلمَاء وجمعيات الاحتساب على تَعْلِيم الْأمة مَا يجب عَلَيْهَا شرعا من المجاملة فِي الْمُعَامَلَة من غير الْمُسلمين، وَمَا تَقْتَضِيه الإنسانية والمزايا

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌خَاتِمَة

- ‌‌‌‌‌قَضِيَّة

- ‌‌‌قَضِيَّة

- ‌قَضِيَّة

- ‌قَرَار عدد

- ‌لاحقة

الفصل: ‌يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة

‌الِاجْتِمَاع الثَّالِث

‌يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة

1316

فِي الْوَقْت الْمعِين، وَهُوَ بعد طُلُوع الشَّمْس بساعة، تمّ توارد الإخوان لمحفل الجمعية؛ غير أَن الْأُسْتَاذ الرئيس تَأَخّر نَحْو نصف سَاعَة ثمَّ حضر وَاعْتذر بِأَنَّهُ إعاقه عَن الْحُضُور أَن حَضْرَة الشريف الْأَمِير قد طلبه لزيارته، فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِجَابَة باكراً، وَمَا يظنّ أَن يسترسل بَينهمَا الحَدِيث فَيتَأَخَّر عَن الميعاد، وَلَكِن صَادف أَن الحَدِيث كَانَ طَويلا.

ثمَّ قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أننا متشوقون لتَمام بحث الْمولى الرُّومِي، وَأمر السَّيِّد الفراتي، كَاتب الجمعية، فَقَرَأَ ضبط مذاكرات الِاجْتِمَاع السَّابِق، حَتَّى بلغ آخِره من عبارَة الْمولى الرُّومِي، وَهُوَ قَوْله: وَعِنْدِي أَن داءنا الدفين دُخُول ديننَا تَحت ولَايَة الْعلمَاء الرسميين، وَبِعِبَارَة أُخْرَى تَحت ولَايَة الجهلة.

ص: 47

المتعممين.

فَحِينَئِذٍ أَفَاضَ الْمولى الرُّومِي فِي الْكَلَام فَقَالَ: وهم المقربون من الْأُمَرَاء على انهم عُلَمَاء وارتباط الْقَضَاء والإمضاء بهم، فَإِن هَؤُلَاءِ المتعممين فِي الْبِلَاد العثمانية كَانُوا اتَّخذُوا لأَنْفُسِهِمْ قانونا سموهُ (طَرِيق الْعلمَاء) ، وَجعلُوا فِيهِ من الْأُصُول مَا انتج، مُنْذُ قرنين إِلَى الْآن، أَن يصير الْعلم منحة رسمية تُعْطى للجهال، حَتَّى للأميين، بل وللأطفال.

ويترقى صَاحبهَا فِي مَرَاتِب الْعلم وَالْفضل والكمال، بِمُجَرَّد تقادم السنين أَو ترادف العنايات، لَا سِيمَا إِذا كَانَ من زمرة (زَاد كَانَ) ، أَي الاصلاء، فَإِنَّهُ يكون طفْلا فِي المهد، وينعت فِي منشوره الرسمي من قبل حَضْرَة السُّلْطَان بِأَنَّهُ:(أعلم الْعلمَاء الْمُحَقِّقين) ؛ ثمَّ يكون فطيما فيخاطب بِأَنَّهُ: (أفضل الْفُضَلَاء المدققين) ؛ ثمَّ يصير مراهقاً فَيعْطى المولوية، وَيشْهد لَهُ بِأَنَّهُ:(أقضى قُضَاة الْمُسلمين، مَعْدن الْفضل وَالْيَقِين، رَافع إِعْلَام الشَّرِيعَة وَالدّين، وَارِث عُلُوم الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ) ثمَّ وَثمّ حَتَّى يصدر فيوصف: (بِأَعْلَم الْعلمَاء المتبحرين، وَأفضل الْفُضَلَاء المتورعين، ينبوع الْفضل وَالْيَقِين) إِلَى آخر مَا فِي المناشير من الْكَذِب المشين!

ص: 48

وَلَا يظنّ ظان أَن هَذَا الإطراء من حَضْرَة السُّلْطَان للمتعممين هُوَ بِقصد أَن يقابلوه بِالْمثلِ، وَصفهم إِيَّاه ومخاطبتهم لَهُ بِنَحْوِ:(الْمولى الْمُقَدّس، ذِي الْقُدْرَة، صَاحب العظمة والجلال، المنزه عَن النظير والمثال، واهب الْحَيَاة، ظلّ الله، خَليفَة رَسُول الله، مهبط الإلهامات، مصدر الكرامات، سُلْطَان السلاطين، مَالك رِقَاب الْعَالمين، ولي نعْمَة الثقلَيْن، ملْجأ أهل الْخَافِقين) . إِلَى غير ذَلِك من مصَارِع الشّرك والكبرياء والمهالك.

هَذَا، وَلَا ريب، أَن التسعين فِي الْمِائَة من الْعلمَاء المتبحرين لَا يحسنون قِرَاءَة نعوتهم المزورة، كَمَا أَن الْخَمْسَة وَالتسْعين من أُولَئِكَ المتورعين، رافعي إِعْلَام الشَّرِيعَة وَالدّين، يُحَاربُونَ الله جهارا، ويستحقون مَا يسْتَحقُّونَ من الله وَمَلَائِكَته وَالْمُؤمنِينَ.

وَيَكْفِي حجَّة عَلَيْهِم بذلك، تمييزهم جَمِيعًا بلباس عروسي، محلى بِكَثِير الْفضة وَالذَّهَب، مِمَّا هُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع وَلَا يحْتَمل التَّأْوِيل؛ وَقد اقتبسوا هَذَا اللبَاس من كهنة الرّوم الَّذين يلبسُونَ القباء والقلنسوات المذهبة عِنْد إِقَامَة شعائرهم، وَفِي احتفالاتهم الرسمية. وَهَذَا الْخَطِيب فِي بعض جَوَامِع السلاطين يَسْتَوِي على الْمِنْبَر وَيَقُول: اتَّقوا الله، وعَلى رَأسه وصدره ومنكبيه هَذَا اللبَاس

ص: 49

الْمُنكر، (مرحى) . وَهَؤُلَاء قُضَاة الْقُسْطَنْطِينِيَّة على عهدنا، أَكْثَرهم لَا يعرضون لحضرة السُّلْطَان الْمُعظم نصب خطيب لإِقَامَة الْجُمُعَة، وَلَا ينصبون وَصِيّا على إبِله، أَو مختل الْعقل، أَو مُسْرِف فَاسد التَّدْبِير؛ وَلَا يعزلون مُتَوَلِّيًا أَو وَصِيّا لخيانة فِي مَال الْوَقْف أَو الْيَتِيم؛ وَلَا يقضون فِي مَسْأَلَة خلع زَوْجَة، وَلَا يسمعُونَ بَيِّنَة تَوَاتر؛ إِلَى غير ذَلِك من قضايا وَأَحْكَام شَرْعِيَّة كَثِيرَة لَا يجوز شرعا وَلَا إدارة إهمالها، وَلَا حجَّة لَهُم فِي ارْتِكَاب إِثْم تعطيلها غير مجاراة الأوهام.

ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ المتعممين مَا كفاهم هَذَا القانون، فألحقوه بقانون آخر سموهُ قانون (تَوْجِيه الْجِهَات) ؛ جعلُوا فِيهِ التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وَسَائِر الخدم الدِّينِيَّة، كالعروض، تبَاع وتشرى، وتوهب وتورث، وَمَا ينْحل مِنْهَا نَادرا عَن غير وَارِث، يَبِيعهَا الْقُضَاة لمن يُرِيدُونَ؛ ويتكرمون بهَا على المتملقين؛ وَبِهَذَا القانون انحصرت الخدم الدِّينِيَّة فِي الجهلاء وَالْمُنَافِقِينَ.

ثمَّ لما وضع قانون (تشكيل الولايات) ، لم يرض المتعممون حَتَّى جعلُوا فِيهِ قَاضِي الْمُسلمين، وَكَذَلِكَ مفتي الْمُؤمنِينَ فِي كل بلد، عضوين فِي مجْلِس الإدارة، يحكمان بأَشْيَاء كَثِيرَة مِمَّا يصادم الشَّرْع

ص: 50

كالربا والضريبة على الْخُمُور، والرسوم الْعُرْفِيَّة، وَغَيرهَا مِمَّا كَانَ الْأَلْيَق والأنسب بالإسلامية أَن يبْقى الْعلمَاء بعيدين عَنهُ. كَمَا أَن القسيس بل الشماس لَا يحضر مَجْلِسا يعْقد فِيهِ زواج أَو تَفْرِيق مدنيان، وَلَا يشْهد فِي صك دين دَاخله رَبًّا، فضلا عَن أَن يقْضِي أَو يمْضِي بِصفة رسمية كهنوتية، أَمْثَال ذَلِك من الْأَعْمَال الَّتِي تصادم دين النَّصْرَانِيَّة.

ثمَّ لما وضع (قانون العدلية) ، تهافت المتعممون على جعل قَاضِي الْمُسلمين رَئِيسا للمحكمة النظامية، الَّتِي تحكم بِمَا لم ينزل الله وَبِمَا يتبرأ الدّين الحنيف مِنْهُ، من نَحْو: رَبًّا صَرِيح، وَمن إبِْطَال حُدُود الله الَّتِي صرح بهَا الْقُرْآن كلياً أَو باستبدالها بعقوبات سياسية، أَو بتغريمات مَالِيَّة؛ وَمن نَحْو: معاقبة الْعباد بِمُجَرَّد الظَّن، والرأي، وَشَهَادَة الْوَاحِد، وَشَهَادَة الْفَاسِق، وَشَهَادَة العاهرة المجاهرة، مِمَّا لَا يلائم الشَّرْع قَطْعِيا. وَمن نَحْو: تَنْفِيذ كل حكم عرفي، حق أَو بَاطِل، بِدُونِ نظر فِيهِ. وَمن تَحْصِيل ضَرَائِب وغرامات. وَمن تَوْقِيف الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة على اسْتِيفَاء الرسوم من الأخصام وأموال الْأَيْتَام.

وَمن أهم دسائس المتعممين، أَنهم ينفثون فِي صُدُور الْأُمَرَاء

ص: 51

لُزُوم الِاسْتِمْرَار على الِاسْتِقْلَال فِي الرَّأْي، وَإِن كَانَ مضراً، ومعاداة الشورى وَإِن كَانَت سنة، والمحافظة على الْحَالة الْجَارِيَة، وَإِن كَانَت سَيِّئَة، ويلقون عَلَيْهِم بِأَن مُشَاركَة الْأمة فِي تَدْبِير شؤونها، وَإِطْلَاق حريَّة الانتقاد لَهَا، يخل بنفوذ الْأُمَرَاء، وَيُخَالف السياسة الشَّرْعِيَّة؛ ويلقنونهم حجَجًا واهنة، لَوْلَا أَن أمامها جهل الْأمة، ووراءها سطوة الْإِمَارَة، لما تحركت بهَا شفتان، وَلَا تردد فِي ردهَا إِنْسَان.

وَالْأَمر الْأَمر أَن أُولَئِكَ الْأُمَرَاء يقتبسون من هَذِه الْحجَج، مَا يتسلحون بِهِ فِي مُقَابلَة من يعْتَرض على سياستهم من الدول الْأَجْنَبِيَّة، بقَوْلهمْ: إِن قَوَاعِد الدّين الإسلامي لَا تلائم أصُول الشورى، وَلَا تقبل النظام والترقيات المدنية، وانهم مغلوبون على أَمرهم، ومضطرون لرعاية دين رعاياهم، ومجاراة ميل الْفِكر الْعَام.

ولنرجع لبحث الْعلمَاء الرسميين، فَنَقُول: بِهَذِهِ القوانين عِنْد العثمانيين، وباشباهها عِنْد اكثر حكومات الْمُسلمين، ضل المتعممون وصاروا أضرّ على الدّين من الشَّيَاطِين.

وبهذه القوانين اسْتَأْثر الجهلاء الْفَاسِقُونَ بمزايا الْعلمَاء العاملين، واغتصبوا أَرْزَاقهم من بَيت المَال وَمن أوقاف الأسلاف؛ فبالضرورة

ص: 52

قلت الرغبات فِي تَحْصِيل الْعُلُوم، وثبطت الهمم، وَصَارَ طَالب الْعلم يضْطَر للاكتفاء ببلغة مِنْهُ، ويشتغل بالاحتراف للارتزاق؛ وَهَكَذَا فسد الْعلم، وَقل أَهله، فاختلت التربية الدِّينِيَّة فِي الْأمة، فَوَقَعت فِي الفتور وعمت فِيهَا الشرور.

أجَاب الرياضي الْكرْدِي: أَن هَذَا الدَّاء خَاص بِبَعْض الْأُمَم الإسلامية، فَلَا يصلح سَببا للفتور الْعَام الَّذِي نبحث فِيهِ، ونتساءل عَنهُ؛ وَعِنْدِي أَن السَّبَب الْعَام، هُوَ أَن علماءنا كَانُوا اقتصروا على الْعُلُوم الدِّينِيَّة وَبَعض الرياضيات، وأهملوا بَاقِي الْعُلُوم الرياضية والطبيعية، الَّتِي كَانَت إِذْ ذَاك لَيست بِذَات بَال وَلَا تفِيد سوى الْجمال والكمال، ففقد أَهلهَا من بَين الْمُسلمين، واندرست كتبهَا، وانقطعت علاقتها، فَصَارَت منفوراً مِنْهَا، على حكم:(الْمَرْء عَدو مَا جهل) ؛ بل صَار المتطلع إِلَيْهَا مِنْهُم يفسق ويرمى بالزيغ والزندقة، على حِين أخذت هَذِه الْعُلُوم تنمو فِي الغرب؛ وعَلى كرّ الْقُرُون، ترقت وَظهر لَهَا ثَمَرَات عَظِيمَة فِي كَافَّة الشئون المادية والأدبية، حَتَّى صَارَت كَالشَّمْسِ، لَا حَيَاة لذِي حَيَاة إِلَّا بنورها؛ فَأصْبح الْمُسلمُونَ مَعَ شاسع بعدهمْ عَنْهَا مُحْتَاجين إِلَيْهَا لمجاراة جيرانهم، احتياجاً يعم الجزئيات والكليات: من تربية الطِّفْل إِلَى سياسة الممالك، وَمن استنبات الأَرْض إِلَى استمطار

ص: 53

السَّمَاء، وَمن عمل الإبرة والقوارير إِلَى عمل المدافع والبوارج، وَمن اسْتِخْدَام الْيَد وَالْحمار إِلَى اسْتِخْدَام الْبَرْق والبخار.

وَلَا شكّ أَن الْمُسلمين أَصْبحُوا بعد الاكتشافات الجديدة، يستفيدون من الْعُلُوم الطبيعية والحكمية فَوَائِد عَظِيمَة جدا، بِالنّظرِ إِلَى كشفها بعض أسرار كتاب الله وَبَالغ الْحِكْمَة المنطوية فِيهِ، مِمَّا كَانَ مَسْتُورا إِلَى الْآن، وَقد خبط فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ خبط عشواء، كظهور حَيَاة الجمادات بِمَاء التبلور؛ وكازدواج النباتات عَامَّة؛ وكقبول الأَرْض الانتقاص وانشقاق الْقَمَر مِنْهَا؛ وكانفتاق الأَرْض من السَّمَاء؛ وكحدوث الجدري الَّذِي نَشأ فِي أَصْحَاب الْفِيل بالمكروب، وكظهور سلسلة خلق الْحَيَوَان من تُرَاب

ص: 54

وطين وصلصال، بقاعدة الترقي الَّتِي أثبتها الْعَلامَة دارون؛ وكظهور صفة الْحَرَكَة الدائمة من الشخوص والهبوط المستمرين فِي الكائنات كلهَا؛ وكظهور سر ضبط الْمَقَادِير فِي التركيبات الكيماوية؛ وكظهور انقسام طَبَقَات الأَرْض إِلَى سَبْعَة على الرَّأْي الْأَصَح؛ وكظهور أَن السَّمَاء فضاء بِالْإِجْمَاع؛ وَبِذَلِك تنْدَفع مشكلة قبُولهَا الفتق والرتق؛ وكظهور امتلاء الْكَوْن بالأثير وَأَنه أصل مَادَّة الكائنات؛ وكالأخبار عَن المركوبات الْبَريَّة البخارية والكهربائية وَغير ذَلِك من الْحَقَائِق الَّتِي كشفها الْعلم أخيراً، واعظم بهَا من براهين قَطْعِيَّة على إعجاز الْقُرْآن، وتجدد إعجازه مَا كرّ الجديدان. بل أضحى الْمُسلمُونَ مُحْتَاجين للحكمة الْعَقْلِيَّة، الَّتِي كَادَت تجْعَل الغربيين أدرى منا حَتَّى فِي مباني ديننَا؛ كاستدلالهم

ص: 55

بالمقايسة على أَن نَبينَا، عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، أفضل الْعَالمين عقلا وأخلاقاً؛ وكإثباتهم بالمقابلة أَن ديننَا أسمى الديانَات حِكْمَة ومزية.

وَعِنْدِي انه لَوْلَا هَذَا الْقُصُور مَا وَقع الْمُسلمُونَ فِي هَذَا الفتور؛ والأمل بعناية الله انهم بعد زمَان قصير أَو طَوِيل، لَا بُد أَن يلتفتوا لهَذِهِ الْعُلُوم النافعة، فيستعيدوا نشأتهم، بل يجلبوا إِلَى دينهم الْعَالم المتمدن، لِأَن نور المعارف، على قدر أبعاده الْعُقَلَاء عَن النَّصْرَانِيَّة وأمثالها، يقربهُمْ من الإسلامية لِأَن الدّين المملوء بالخرافات وَالْعقل المتنور لَا يَجْتَمِعَانِ فِي دماغ وَاحِد (مرحى) .

ثمَّ أَن تبعه هَذَا التَّقْصِير، وَإِن كَانَت تلْحق عُلَمَاء الْأمة الْمُتَقَدِّمين، إِلَّا أَن علماءنا الْمُتَأَخِّرين اكثر قصوراً؛ لأَنهم فِي زمَان ظَهرت فِيهِ فَوَائِد هَذِه الْعُلُوم، وَلم يحصل فيهم ميل لاقتباسها؛ بل نراهم مقتصرين على تدريس اللُّغَة وَالْفِقْه فَقَط، أَو بعلاوة شَيْء من الْمنطق إتماما للعقائد، وَشَيْء من الْحساب إكمالاً للفرائض والمواريث قَلما يُفِيد.

وَكَذَلِكَ نرى وعاظنا مقتصرين على الْبَحْث فِي النَّوَافِل والقربات المزيدة فِي الدّين، وَرِوَايَة الحكايات الْإسْرَائِيلِيات؛ وَمثلهمْ المرشدون أهل الطرائق، مقتصرون على حكايات نَوَادِر الزهاد، من صَحِيح وموضوع، وَرِوَايَة كرامات الإنجاب والنقباء والإبدال،

ص: 56

وعَلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد؛ وَلَا ننسى خطباءنا واقتصارهم على تكْرَار عِبَارَات فِي النَّعْت، وَالدُّعَاء للغزاة والمجاهدين، وتعداد فَضَائِل الْعِبَادَات.

وَالْحَاصِل أَن تقصيرات الْعلمَاء الأقدمين، واقتصارات الْمُتَأَخِّرين، وتباعد الْمُسلمين إِلَى الْآن عَن الْعُلُوم النافعة الحيوية، جعلتهم أحط بِكَثِير عَن الْأُمَم. وَلَا شكّ أَنه إِذا تَمَادى تباعدهم هَذَا خمسين عَاما أُخْرَى، تبعد النِّسْبَة بَينهم وَبَين جيرانهم كبعدها مَا بَين الْإِنْسَان وَبَاقِي أَنْوَاع الْحَيَوَان. فبناء عَلَيْهِ، يكون ناموس الارتقاء هُوَ الْمُسَبّب لهَذَا الفتور، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ) .

فَأَجَابَهُ الْكَامِل الإسكندري: أَن هَذَا سَبَب من الْأَسْبَاب، وَلَا يَكْفِي وَحده لحل الأشكال، لِأَن فقد الْعُلُوم الْحكمِيَّة والطبيعية لَا يصلح سَببا لفقد الإحساس الملي والأخلاق الْعَالِيَة، لِأَنَّهَا تُوجد فِي أعرق الْأُمَم جَهَالَة ، وَإِنَّمَا سَبَب فتور حياتنا الأدبية هُوَ يأسنا من المباراة، وَذَلِكَ أننا كُنَّا عُلَمَاء راشدين، وَكَانَ جيراننا متأخرين عَنَّا، فَعرفنَا الْبَقَاء فنمنا، واجتهدوا فلحقونا، ولبثنا نياما فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وَرَاء؛ وَطَالَ نومنا، فَبعد الشوط حَتَّى صَار

ص: 57

مَا بعد وَرَائِنَا وَرَاء، فصغرت نفوسنا، وفترت همتنا، وَضعف إحساسنا، فيئسنا من اللحاق والمجاراة؛ وَخَرجْنَا من ميدان المنافسة والمباراة وألسنتنا تفيض بقولنَا:" سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا مَا لنا من محيص. "؛ فعدنا إِلَى كَهْف النّوم مستسلمين للْقَضَاء، نطلب الْفرج بِمُجَرَّد التَّمَنِّي وَالدُّعَاء، ذاهلين عَن أَن الله تَعَالَى جلت حكمته، رتب هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا على أَسبَاب ظاهرية، وَلم يَشَأْ أَن يَجْعَلهَا كالآخرة عَالم أقدار؛ فَهَذَا الْيَأْس هُوَ سَبَب الفتور، فنسأل الله تَعَالَى اللطف من الْمَقْدُور.

أَجَابَهُ الْعَارِف التاتاري: أَن هَذِه شكاية حَال، وَلَا تفي بِالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ مَا السَّبَب فِي هَذَا النّوم الَّذِي غشي الْمُسلمين، وَلم يزل يَغْشَاهُم دون كثير غَيرهم من الْأُمَم الَّتِي إنتبهت، وسارت، ولحقها ظعن الْأَحْيَاء، وَمَا الْمُسلمُونَ إِلَّا بعدين المنقطعين كَأَهل الصين، وَلَا هم بالمتوحشين العريقين كَأَهل أمريكا الأصليين.

ثمَّ قَالَ: أَنا أرى أَن عَارَضنَا فَقدنَا السراة والهداة: فَلَا أَمِير عَام حَازِم مطالع ليسوق الْأمة طَوْعًا أَو كرها إِلَى الرشاد؛ وَلَا حَكِيم معترف لَهُ بالمزية وَالْإِخْلَاص، لتنقاد إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وَالنَّاس؛ وَلَا تربية قويمة المبادئ، ينْتج مِنْهَا رَأْي عَام لَا يطرقه تخاذل وانقسام؛

ص: 58

وَلَا جمعيات منتظمة تسْعَى بِالْخَيرِ وتتابع السّير. وَلذَلِك حل فِينَا الفتور، وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور.

أَجَابَهُ الْفَقِيه الأفغاني: أَن مَا وَصفته من أَمِير وَحَكِيم لَا يوجدان فِي الْأُمَم المنحطة إِلَّا اتِّفَاقًا، أما الرَّأْي الْعَام والجمعيات فَلَا يفقدان إِلَّا بِسَبَب فقد الإحساس، وَهَذَا مَا نتساءل عَنهُ.

وَذكر أَن الدَّاء الْعَام فِيمَا يرَاهُ هُوَ الْفقر الْآخِذ بالزمام، لِأَن الْفقر قَائِد كل شَرّ، ورائد كل نحس؛ فَمِنْهُ جهلنا، وَمِنْه فَسَاد أَخْلَاقنَا، بل مِنْهُ تشَتت آرائنا حَتَّى فِي ديننَا، وَمِنْه فقد إحساسنا، وَمِنْه إِلَى كل مَا نَحن فِيهِ، أَو نتوقع أننا سنوافيه.

فَهَذِهِ فطرتنا، لَا نقص فِيهَا عَن غَيرنَا، وعددنا كثير، وبلادنا متواصلة، وَأَرْضنَا مخصبة، ومعادننا غنية، وشرعنا قويم، وفخارنا قديم، فَلَا ينقصنا عَن الْأُمَم الْحَيَّة غير الْقُوَّة الْمَالِيَّة، الَّتِي أَصبَحت لَا تحصل إِلَّا بالعلوم والفنون الْعَالِيَة، وَهَذِه لَا تحصل إِلَّا بِالْمَالِ الطائل؛ فوقعنا فِي مُشكل الدّور، وَعَسَى أَن نهتدي لفكه سَبِيلا، وَإِلَّا فيحيق بِنَا ناموس فنَاء الضَّعِيف فِي الْقوي وبيننا الْجَاهِل والعالم.

وَمن اعظم أَسبَاب فقر الْأمة: أَن شريعتنا مَبْنِيَّة على أَن فِي

ص: 59

أَمْوَال الْأَغْنِيَاء حَقًا مَعْلُوما للبائس والمحروم، فَيُؤْخَذ من الْأَغْنِيَاء ويوزع على الْفُقَرَاء؛ وَهَذِه الحكومات الإسلامية، قد قلبت الْمَوْضُوع، فَصَارَت تجبي الْأَمْوَال من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وتبذلها للأغنياء، وتحابي بهَا المسرفين والسفهاء.

أجَاب السعيد الإنكليزي: أَن الْمُسلمين من حَيْثُ مجموعهم أَغْنِيَاء لَا يعوزهم المَال اللَّازِم للتدرج فِي الْعُلُوم، حَتَّى للسياحات البحرية والقطبية، لِأَن فَرِيضَة الزَّكَاة على مالكي النّصاب وَالْكَفَّارَات الْمَالِيَّة، جاعلة لفقراء الْأمة وَبَعض المصاريف العمومية نَصِيبا غير قَلِيل فِي مَال الْأَغْنِيَاء؛ بِحَيْثُ إِذا عَاشَ الْمُسلمُونَ مُسلمين حَقِيقَة أمنُوا الْفقر، وعاشوا عيشة الِاشْتِرَاك العمومي المنتظم الَّتِي يتَمَنَّى مَا هُوَ من نوعها أغلب الْعَالم المتمدن الإفرنجي، وهم لم يهتدوا بعد لطريقة نيلها، مَعَ أَنه تسْعَى وَرَاء ذَلِك مِنْهُم جمعيات وعصبيات مكونة من ملايين باسم (كومون، وفنيان، ونيهلست، وسوسيالست) ، كلهَا تطلب التَّسَاوِي أَو التقارب فِي الْحُقُوق وَالْحَالة المعاشية؛ ذَلِك التَّسَاوِي والتقارب المقررين فِي الإسلامية دينا بوسيلة أَنْوَاع الزَّكَاة وَالْكَفَّارَات، وَلَكِن تَعْطِيل إيتَاء الزَّكَاة وإيفاء الْكَفَّارَات سَبَب بعض الفتور المبحوث فِيهِ، كَمَا سَبَب إهمال الزَّكَاة فقد الثمرات الْعَظِيمَة

ص: 60

من معرفَة الْمُسلم ميزانية ثروته سنويا، فيوفق نفقاته على نِسْبَة ثروته ودخله، وَلَا شكّ أَن الْوَاحِد من الْأَرْبَعين يَكْفِي أَن يبْذل لأجل هَذِه الثَّمَرَة وَحدهَا.

والشريعة الإسلامية هِيَ أول شَرِيعَة ساقت النَّاس والحكومات لأصول البودجة المؤسس عَلَيْهِ فن الاقتصاد المالي، الإفرادي والسياسي.

ويخيل لي أَن سَبَب هَذَا الفتور، الَّذِي أخل حَتَّى فِي الدّين، هُوَ فقد الاجتماعات والمفاوضات؛ وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين فِي الْقُرُون الْأَخِيرَة قد نسوا بِالْكُلِّيَّةِ حِكْمَة تشريع الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وجمعية الْحَج؛ وَترك خطبائهم ووعاظهم، خوفًا من أهل السياسة، التَّعَرُّض للشؤون الْعَامَّة. كَمَا أَن علماءهم صَارُوا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث فِي الْأُمُور العمومية والخوض فِيهَا من الفضول والاشتغال بِمَا لَا يُغني، وَإِن إتْيَان ذَلِك فِي الْجَوَامِع من اللَّغْو الَّذِي لَا يجوز، وَرُبمَا اعتبروه من الْغَيْبَة أَو التَّجَسُّس أَو السَّعْي بِالْفَسَادِ؛ فسرى ذَلِك إِلَى إِفْرَاد الْأمة، وَصَارَ كل شخص لَا يهتم إِلَّا بخويصة نَفسه وَحفظ حَيَاته

ص: 61

فِي يَوْمه، كَأَنَّهُ خلق أمة وَاحِدَة، وسيموت غَدا، جَاهِلا أَن لَهُ حقوقا على الجامعة الإسلامية والجامعة البشرية، وَإِن لَهما عَلَيْهِ مثلهَا، ذاهلاً عَن أَنه مدنِي الطَّبْع، لَا يعِيش إِلَّا بالاشتراك، نَاسِيا أَو جَاهِلا أوَامِر الْكتاب وَالسّنة لَهُ بذلك (مرحى) .

ثمَّ بتوالي الْقُرُون والبطون على هَذِه الْحَال، تأصل فِي الْأمة فقد الإحساس، إِلَى دَرَجَة انه لَو خربَتْ هَذِه الْكَعْبَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى لما تقطبت الْحَيَاة أَكثر من لَحْظَة، وَلَا أَقُول لما زَاد تلاطم النَّاس على سَبْعَة أَيَّام، كَمَا ورد فِي الإثر، لِأَن المُرَاد بأولئك النَّاس أهل خزينة الْعَرَب إِذْ ذَاك.

وَإِذا دققنا النّظر فِي حَالَة الْأُمَم الْحَيَّة المعاصرة، وَهِي لَيْسَ عِنْدهَا مَا عندنَا من الْوَسَائِل الشَّرِيفَة للاجتماعات والمفاوضات، نجدهم قد احْتَالُوا للاجتماعات ولاسترعاء السّمع والاستلفات بوسائل شَتَّى:

1 -

مِنْهَا تخصيصهم يَوْمًا فِي الْأُسْبُوع للبطالة والتفرغ من الأشغال الْخَاصَّة، لتحصل بَين النَّاس الاجتماعات، وتنعقد الندوات، فيتباحثون ويتناجون.

2 -

وَمِنْهَا تخصيصهم أَيَّامًا، يتفرغون فِيهَا لتذاكر مهمات الْأَعْمَال لأعاظم رِجَالهمْ الماضين، تشويقا للتمثل بهم.

ص: 62

3 -

وَمِنْهَا إعدادهم فِي مدنهم ساحات ومنتديات، تسهيلا للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الْخطب وإبداء التظاهرات.

4 -

وَمِنْهَا إيجادهم المنتزهات الزاهية العمومية، وإجراء الاحتفالات الرسمية والمهرجانات بِقصد السُّوق للاجتماعات.

5 -

وَمِنْهَا إيجادهم محلات التشخيص الْمَعْرُوف (بالكوميديا) و (التياترو) ، بِقصد أراءة العبر واسترعاء السّمع للْحكم والوقائع، وَلَو ضمن أَنْوَاع من الخلاعة الَّتِي اتَّخذت شباكا لمقاصد الْجمع والإسماع، ويعتبرون أَن نَفعهَا أكبر من ضَرَر الخلاعة.

6 -

وَمِنْهَا اعتناؤهم غَايَة الاعتناء بتعميم معرفَة تواريخهم الملية، المفصلة المدمجة بالعلل والأسباب، تمكينا لحب الجنسية.

7 -

وَمِنْهَا حرصهم على حفظ العاديات المنبهة، وادخار الْآثَار الْقَدِيمَة المنوهة، واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر.

8 -

وَمِنْهَا إقامتهم النصب، المفكرة بِمَا نصبت لَهُ من مهمات

ص: 63

الوقائع الْقَدِيمَة.

9 -

وَمِنْهَا نشرهم فِي الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية.

10 -

وَمِنْهَا بثهم فِي الأغاني والنشائد الحكم والحماسات؛ إِلَى غير ذَلِك من الْوَسَائِل الَّتِي تنشئ فِي الْقَوْم نشأة حَيَاة اجتماعية، وتولد فِي الرؤوس حمية وحماسة، وَفِي النُّفُوس سموا ونشاطاً.

أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم كَمَا سبق بَيَانه، أهملوا اسْتِعْمَال تِلْكَ الْوَسَائِل الشَّرِيفَة، المؤسسة عِنْدهم للشورى والمفاوضات والتناصح والتداعي، أَعنِي بذلك الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وجمعية الْحَج؛ حَتَّى كَأَن الشَّارِع لم يقْصد مِنْهَا أَدَاء الْفَرِيضَة فَقَط بِصُورَة تعبدية بسيطة، وَالْحَال حِكْمَة الشَّارِع أبلغ من ذَلِك، وَعِنْدِي أَن هَذَا أعظم أَسبَاب الفتور (مرحى) .

فَأَجَابَهُ الإِمَام الصيني: أَن هَذَا أشبه بالعوارض مِنْهُ بالأسباب، فَهُوَ أليق بِأَن يكون دَوَاء للداء، وَنحن مهتمون ابْتِدَاء بِمَعْرِِفَة سَبَب الفتور.

ثمَّ قَالَ: أَنِّي أرى أَن السَّبَب الْأَكْبَر للفتور هُوَ تكبر الْأُمَرَاء،

ص: 64

وميلهم للْعُلَمَاء المتملقين الْمُنَافِقين، الَّذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لَهُم، ويحرفون أَحْكَام الدّين ليوفقوها على أهوائهم؛ فَمَاذَا يُرْجَى من عُلَمَاء يشْتَرونَ بدينهم دنياهم، ويقبلون يَد الْأَمِير لتقبل الْعَامَّة أَيْديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على أُلُوف من الضُّعَفَاء، اكبر هَمهمْ التحاسد والتباغض والتخاذل والتفاشل، لَا يحسنون أمرا من الْأُمُور حَتَّى وَلَا الْخُصُومَة، فتراهم لَا يتراغمون إِلَّا بتكفير بَعضهم بَعْضًا عِنْد الْأُمَرَاء والعامة.

وَهَذَا دَاء عياء صَعب المداواة جدا، لِأَن كبر الْأُمَرَاء يمنعهُم من الْميل إِلَى الْعلمَاء العاملين، الَّذين فيهم نوع غلظة لَا بُد مِنْهَا، ولنعما هِيَ مزية لولاها لفقد الدّين بِالْكُلِّيَّةِ (مرحى) .

فَلَا شكّ أَن فِي هَذَا الزَّمَان، أفضل الْجِهَاد فِي الله الْحَط من قدر الْعلمَاء الْمُنَافِقين عِنْد الْعَامَّة، وتحويل وجهتهم لاحترام الْعلمَاء العاملين؛ حَتَّى إِذا رأى الْأُمَرَاء انقياد النَّاس لهَؤُلَاء أَقبلُوا هم أَيْضا عَلَيْهِم رغم أنوفهم. وأذعنوا لَهُم طَوْعًا أَو كرها؛ على أَنه يجب على حكماء الْأمة الْمُجَاهدين فِي الله أَن يعتنوا بالوسائل اللينة لتثقيف عقول الْعلمَاء العاملين، لِأَن الْعلم رَافع للْجَهْل فَقَط، وَلَا يُفِيد عقلا وَلَا كياسة؛ فَيلْزم تعليمهم وتعريفهم كَيفَ تكون سياسة الدّين، وَهَكَذَا

ص: 65

يفعل الْحُكَمَاء عندنَا معاشر إِسْلَام الصين، وَلَا تفقد أَيَّة بَلْدَة كَانَت رجَالًا حكماء نبلاء يمتازون طبعا على الْعَامَّة، لَهُم نوع من الْوَلَاء حَتَّى على الْعلمَاء.

وَهَؤُلَاء الَّذين نسميهم عندنَا بالحكماء هم الَّذين يُطلق عَلَيْهِم فِي الإسلامية اسْم أهل الْحل وَالْعقد، الَّذين لَا تَنْعَقِد شرعا (الْإِمَامَة) إِلَّا ببيعتهم؛ وهم خَواص الطَّبَقَة الْعليا فِي الْأمة، الَّذين أَمر الله عز شَأْنه نبيه بمشاورتهم فِي الْأَمر، الَّذين لَهُم شرعا حق الاحتساب والسيطرة على الْأَمَام والعمال، لأَنهم رُؤَسَاء الْأمة ووكلاء الْعَامَّة، والقائمون فِي الْحُكُومَة الإسلامية مقَام مجَالِس النواب والإشراف فِي الحكومات الْمقيدَة، ومقام الأسرة الملوكية الَّتِي لَهَا حق السيطرة على الْمُلُوك فِي الحكومات الْمُطلقَة كالصين وروسيا؛ ومقام شُيُوخ الأفخاد فِي إزاء أُمَرَاء العشائر الْعَرَبيَّة، أُولَئِكَ الْأُمَرَاء الَّذين لَيْسَ لَهُم من الْأَمر غير تَنْفِيذ مَا يبرمه الشُّيُوخ.

وَإِذا دققنا النّظر فِي أدوار الحكومات الإسلامية من عهد الرسَالَة إِلَى الْآن، نجد ترقيها وانحطاطها تابعين لقُوَّة أَو ضعف احتساب أهل الْحل وَالْعقد واشتراكهم فِي تَدْبِير شؤون الْأمة.

وَإِذا أرجعنا الْبَصَر إِلَى التَّارِيخ الإسلامي، نجد أَن النَّبِي عَلَيْهِ

ص: 66

السَّلَام كَانَ أطوع الْمَخْلُوقَات للشورى امتثالا لأمر ربه فِي قَوْله تَعَالَى: (وشاورهم فِي الْأَمر) ، حَتَّى أَنه ترك الْخلَافَة لمُجَرّد رَأْي الْأمة.

ثمَّ كَانَ أول الْخُلَفَاء رضي الله عنه أشبه النَّاس بِهِ حَتَّى أَنه أَخذ رَأْي سراة الصَّحَابَة فِيمَن خلف؛ ثمَّ الْخَلِيفَة الثَّانِي اتبع أثر الأول، وَإِن اسْتَأْثر فِي تَرْتِيب الشورى فِيمَن يخلفه؛ ثمَّ الْخَلِيفَة الثَّالِث اجْتهد فِي مُخَالفَة رُؤَسَاء الصَّحَابَة فِي بعض الْمُهِمَّات، فَلم يستقم لَهُ الْأَمر، وَظَهَرت الْفِتَن كَمَا هُوَ مَعْلُوم؛ ثمَّ مُعَاوِيَة رحمه الله كَانَ قَلِيل الِاسْتِقْلَال بِالرَّأْيِ فحسنت أَيَّامه عَن قبل. وَهَكَذَا كَانَت دولة الأمويين تَحت سيطرة أهل احل وَالْعقد لَا سِيمَا من سراة بني أُميَّة، فانتظمت على عَهدهم الْأَحْوَال، كَمَا كَانَ ذَلِك كَذَلِك على عهد صدر العباسيين، حَيْثُ كَانُوا مذعنين لسيطرة رُؤَسَاء بني هَاشم، ثمَّ لما استبدوا فِي الرَّأْي وَالتَّدْبِير، فخالفوا أَمر الله وَاتِّبَاع طَريقَة رَسُول الله، ساءت الْحَال حَتَّى فقد الْملك.

هَكَذَا عِنْد التدقيق فِي كل فرع من الدول الإسلامية الْمَاضِيَة والحاضرة، بل فِي تَرْجَمَة كل فَرد من الْمُلُوك والأمراء، بل فِي حَال كل ذِي عائلة أَو كل إِنْسَان فَرد، نجد الصّلاح وَالْفساد دائرين مَعَ سنة الاستشارة أَو الِاسْتِقْلَال فِي الرَّأْي.

ص: 67

فَإِذا تقرر هَذَا، علمنَا أَن سَبَب الفتور الْعَام المبحوث فِيهِ هُوَ استحكام الاستبداد فِي الْأُمَرَاء شِيمَة وتكبرا، وَترك أهل الْحل وَالْعقد والاحتساب جهلا وجبانة؛ وَهَذَا عِنْد بعض الأقوام الْمُسلمين كإيران، وَأما الْأَكْثَر فقد أَمْسوا لَا عُلَمَاء هداة وَلَا سراة أباة، بل هم فوضى فِي الدّين وَالدُّنْيَا. وَلَا بدع فِيمَن يكونُونَ على مثل هَذَا الْحَال، أَن لَا يُرْجَى لَهُم دَوَاء إِلَّا بعناية بعض الْحُكَمَاء، الَّذين ينجبون من أَي طبقَة كَانَت من الْأمة، وَقد قَضَت سنة الله فِي خلقه أَن لَا تَخْلُو أمة من الْحُكَمَاء.

فَأجَاب الْعَالم النجدي: أَن شؤون السياسة فِي الصين تخْتَلف كثيرا عَنْهَا فِي غَيرهَا، وَلَيْسَ فِي الصين مُلُوك كَثِيرَة وأمراء جبابرة كَمَا عِنْد غَيرهم، فالحكماء فِي الصين آمنون؛ وَمن جِهَة أُخْرَى لم يزل الْإِسْلَام فِي الصين حَنِيفا خَفِيفا، لم يُفْسِدهُ التفنن وَالتَّشْدِيد، وَمَعَ ذَلِك نرى الفتور شاملهم أَيْضا. وَنحن الْآن نبحث عَن السَّبَب الْعَام لهَذَا الدَّاء، وَلَيْسَ كل السَّبَب أَحْوَال الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء.

ثمَّ قَالَ أَنِّي أَجْزم، وَلَا أَقُول أَظن أَو أخال، أَن سَبَب الفتور الطَّارِئ الملازم لجامعة هَذَا الدّين هُوَ هَذَا الدّين الْحَاضِر ذَاته، وَلَا

ص: 68

برهَان أعظم من الْمُلَازمَة، وَمَا جَاءَ الخفاء إِلَّا من شدَّة الوضوح؛ فَهَل بَقِي من شكّ بعد هَذِه الأبحاث الَّتِي سبقت فِي جمعيتنا، وَلَا سِيمَا مَا بَينه الْمُحَقق الْمدنِي، فِي أَن الدّين الْمَوْجُود الْآن بِالنّظرِ إِلَى مَا ندين بِهِ لَا بِالنّظرِ إِلَى مَا نقرره، وَبِاعْتِبَار مَا نفعله لَا بِاعْتِبَار مَا نقُوله، لَيْسَ هُوَ الدّين الَّذِي تميز بِهِ أسلافنا مئين من السنين على الْعَالمين، كلا بل طرأت على الدّين طوارئ تَغْيِير غيرت نظامه. " وَذَلِكَ أَن الإخلاف تركُوا أَشْيَاء من أَحْكَامه: كإعداد الْقُوَّة بِالْعلمِ وَالْمَال، وَالْجهَاد فِي الدّين، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَإِزَالَة الْمُنكر، وَإِقَامَة الْحُدُود، وإيتاء الزَّكَاة؛ وَغير ذَلِك مِمَّا أوضحه الإخوان الْكِرَام، وَزَاد فِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ بدعا وتقليدات وخرافات لَيست مِنْهُ، كشيوع عبَادَة الْقُبُور، وَالتَّسْلِيم لمُدعِي علم الْغَيْب وَالتَّصَرُّف فِي الْمَقْدُور.

وَهَذِه الطوارئ من تغييرات أَو متروكات أَو مزيدات أَكْثَرهَا يتَعَلَّق بأصول الدّين، وَبَعضهَا بِأَصْل الْأُصُول أَعنِي التَّوْحِيد، وَكفى بِأَن يكون سَببا للفتور، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:{إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} . (مرحى) .

وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا سلمنَا أَن الدّين تغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَمَا

ص: 69

تَأْثِير ذَلِك فِي الفتور الْعَام الَّذِي هُوَ من شئون الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَهَا نَحن نجد أَكثر الْأُمَم الْحَيَّة الَّتِي نغبطها قد طَرَأَ على دينهَا التَّغْيِير والتبديل فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع، وَلم يُؤثر ذَلِك فِي الفتور؛ بل زعم كثير من حكماء تِلْكَ الْأُمَم انهم مَا أخذُوا فِي الترقي إِلَّا بعد عزلهم شئون الدّين عَن شئون الْحَيَاة، وجعلهم الدّين أمرا وجدانياً مَحْضا لَا علاقَة لَهُ بشؤون الْحَيَاة الْجَارِيَة على نواميس الطبيعة.

فَالْجَوَاب على ذَلِك بِأَنَّهُ كَمَا يُطَالب كل إِنْسَان بَان يكون صَاحب ناموس، أَي مُتبعا على وَجه الاطراد فِي أخلاقه وأعماله قانونا مَا، مُوَافقا وَلَو فِي الْأُصُول فَقَط لقانون الْهَيْئَة الاجتماعية الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَإِلَّا فَيكون لَا ناموس لَهُ، منفوراً مِنْهُ مضطهداً؛ فَكَذَلِك كل قوم مكلفون بِأَن يكون لَهُم ناموس عَام بَينهم، ملائم نوعا لقوانين الْأُمَم الَّتِي لَهَا مَعَهم علاقات جوارية أَو تجارية أَو مناسبات سياسية، وَإِلَّا فيكونون قوما متوحشين لَا خلاق لَهُم وَلَا نظام، منفوراً مِنْهُم مضطهدين.

وَذَلِكَ أَن الناموس الطبيعي فِي الْبشر هُوَ ناموس وَحشِي لَا خير فِيهِ، لِأَن مبانيه هِيَ تنَازع الْبَقَاء، وَحفظ النَّوْع، والتزاحم على الأسهل، والاعتماد على الْقُوَّة، وَطلب الغايات، وَحب الرِّئَاسَة،

ص: 70

وحرص الإدخار، ومجاراة الظروف، وَعدم الثَّبَات على حَال، إِلَى غير ذَلِك. وَكلهَا قَوَاعِد شَرّ ومجالب ضرّ، لَا يلطفها غير ناموس شرِيف وَاحِد، مودوع فِي فطْرَة الْإِنْسَان، وَهُوَ: إذعانه الفكري للقوة الْغَالِبَة، أَي معرفَة الله بالإلهام الفطري، الَّذِي هُوَ الْهَام النَّفس رشدها، وإلهامها فجورها وتقواها (مرحى) .

وَلَا ريب فِي أَن لهَذِهِ الْفطْرَة الدِّينِيَّة فِي الْإِنْسَان علاقَة عظمى فِي شؤون حَيَاته، لِأَنَّهَا أقوى وَأفضل وازع يعدل سَائِر نواميسه الْمضرَّة، ويخفف مرَارَة الْحَيَاة الَّتِي لَا يسلم مِنْهَا ابْن أُنْثَى، وَذَلِكَ بِمَا يؤمله الْمُؤمن من المجازاة والمكافأة، والانتقام مِنْهُ وَله (مرحى) .

وَعند تدقيق حَالَة جَمِيع الْأَدْيَان والنحل تدقيقاً تاريخياً، تُوجد كلهَا ناشئة عَن اصل صَحِيح بسيط سماوي، لَا ترى فِيهِ عوجا وَلَا أمتا، يُوجد أَن كل دين كَانَ فِي أوليته باثا فِي أَهله النظام والنشاط، وراقياً بهم إِلَى أوج السَّعَادَة فِي الْحَيَاة، إِلَى أَن يطْرَأ عَلَيْهِ التَّأْوِيل والتحريف والتفنن والزيادات رُجُوعا إِلَى اصلين اثْنَيْنِ:(الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَالتَّشْدِيد فِي الدّين) . فَيَأْخُذ فِي الانحطاط بالأمة، وَلم يزل نازلا بهَا إِلَى أَن تبلغ حَالَة أقبح من الْحَالة الْأَصْلِيَّة الهمجية، فتنتهي

ص: 71

بالانقراض أَو الاندماج فِي أمة أُخْرَى. أَو يتدارك الله تِلْكَ الْأمة بعناية بَالِغَة، فيبعث لَهُم رَسُولا يجدد دينهم، أَو يخلق فيهم أَنْبيَاء أَو حكماء يصلحون لَهُم مَا فسد من دينهم، كَمَا حصل ذَلِك فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة: كعاد وَثَمُود، وكالسريان وَإِسْرَائِيل وكنعان وَإِسْمَاعِيل، وكما قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} .

وَعند التَّأَمُّل يُوجد الشّرك وَالتَّشْدِيد كَأَنَّهُمَا أَمْرَانِ طبيعيان فِي الْإِنْسَان، يسْعَى وراءهما جهده بسائق النَّفس وقائد الشَّيْطَان؛ لِأَن النَّفس تميل إِلَى عبَادَة الْمَشْهُود الْحَاضِر أَكثر من ميلها إِلَى عبَادَة الْمَعْقُول الْغَائِب، ومفطوره على التَّشْدِيد رَغْبَة فِي التميز؛ والشيطان يسعف النَّفس بالتسويل والتأويل، والتحويل والتضليل، إِلَى أَن يفْسد الدّين (مرحى) .

ثمَّ إِذا دققنا حَالَة الإسلامية فِي الْقُرُون الخالية، نجدها عِنْد أَكثر أهل الْقبْلَة قد أَصَابَهَا بعض مَا أصَاب قبلهَا غَيرهَا من الْأَدْيَان؛ كَمَا أخبرنَا الله تَعَالَى بقصصها فِي كِتَابه الْمُبين، ووعدنا بوقوعنا فِيهِ سيد الْمُرْسلين، وأرشدنا إِلَى طرائق التَّخَلُّص مِنْهُ إِن كُنَّا راشدين.

ص: 72

أَعنِي بذلك ماطراً على الإسلامية من التَّأْوِيل والتحريف فِي بعض أُصُولهَا وَكثير من فروعها، حَتَّى استولى عَلَيْهَا التَّشْدِيد والتشويش، وتطرق لَهَا الشّرك الْخَفي والجلي من يَمِينهَا وشمالها، فأمست محتاجة إِلَى التَّجْدِيد بتفريق الغي من الرشد، وَعِنْدِي أَن هَذِه الْحَال أَعم وَأعظم سَبَب للفتور المبحوث فِيهِ، قَالَ الله تَعَالَى:(وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا) . (مرحى) . وَأَنْتُم أَيهَا السَّادة الأفاضل، فِي غناء عَن إِيضَاح ذَلِك لكم بِوَجْه التَّفْصِيل.

قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أرى أَن الْبَحْث فِي أَعْرَاض الدَّاء وأسبابه وجرائمه وَمَا هُوَ الدَّوَاء وَكَيف يسْتَعْمل قد نضج أَو كَاد؛ وَقد قَررنَا فِي اجتماعنا الأول أننا سنبحث فِي: مَا هِيَ الإسلامية؟ وَمَا يتبع ذَلِك مِمَّا أدرجناه فِي برنامج المباحث، وَإِنِّي أرى أَن تَقْرِير أخينا الْعَالم النجدي نعم الْمدْخل لنقل الْبَحْث، وَلَا سِيمَا إِذا تكرم بتفصيل مَا أجمله؛ لِأَن مسَائِل منشأ الديانَات، وَسنَن الله فِي مسراها، وَأَسْبَاب طوارئ التَّغْيِير والتحريف عَلَيْهَا، كلهَا مسَائِل مهمة تَقْتَضِي تدقيق النّظر واستقصاء التَّحْقِيق، وَيحسن فِيهَا الإطالة والاستيعاب. بِنَاء عَلَيْهِ، نرجو من الْعَالم النجدي أَن يتكرم بِإِعَادَة مَا قَرَّرَهُ بِصُورَة مفصلة فِي اجتماعنا الْآتِي، إِذْ الْيَوْم قد أذن لنا الْوَقْت بالانصراف.

ص: 73

فارغ

ص: 74