الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الِاجْتِمَاع الثَّانِي
يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة
1316
فِي صباح الْيَوْم الْمَذْكُور انْعَقَد الِاجْتِمَاع، وَبعد قِرَاءَة ضبط الجلسة الأولى افْتتح الْكَلَام الْأُسْتَاذ الرئيس فَقَالَ:
أَنا نجد الباحثين فِي الْحَالة النَّازِلَة بِالْمُسْلِمين يشبهونها بِالْمرضِ فيطلقون عَلَيْهَا اسْم الدَّاء مُجَردا، أَو مَعَ وَصفه بالدفين أَو المزمن أَو العضال، وَلَعَلَّ مَأْخَذ ذَلِك مَا ورد فِي الْأَثر وألفته الإسماع من تَشْبِيه الْمُسلمين بالجسد إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تداعى لَهُ سائره بالسهر والحمى. ويلوح لي أَن إِطْلَاق الفتور الْعَام أليق بِأَن يكون عنواناً لهَذَا الْبَحْث لتَعلق الْحَالة النَّازِلَة بالأدبيات أَكثر مِنْهَا بالماديات، وَلِأَن آخر مَا فِيهَا ضعف الْحس فيناسبه التَّعْبِير عَنهُ بالفتور.
كَمَا أَن هَذَا الفتور فِي الْحَقِيقَة شَامِل لكافة أَعْضَاء الْجِسْم الإسلامي، فيناسب أَن يُوصف بِالْعَام، وَرُبمَا يتَوَقَّف الْفِكر فِي الوهلة الأولى عِنْد الحكم بَان الفتور عَام يَشْمَل كَافَّة الْمُسلمين، وَلَكِن
بعد التدقيق والاستقراء نجده شَامِلًا للْجَمِيع فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لَا يسلم مِنْهُ إِلَّا أَفْرَاد شَاذَّة.
فيا أَيهَا السَّادة: مَا هُوَ سَبَب مُلَازمَة هَذَا الفتور مُنْذُ قُرُون للْمُسلمين، من أَي قوم كَانُوا وأينما وجدوا، وكيفما كَانَت شؤونهم الدِّينِيَّة أَو السياسية أَو الإفرادية أَو المعاشية؛ حَتَّى أننا لَا نكاد نجد إقليمين متجاورين أَو ناحيتين فِي إقليم أَو قريتين فِي نَاحيَة أَو بَيْتَيْنِ فِي قَرْيَة، أهل أَحدهمَا مُسلمُونَ وَالْآخر غير مُسلمين، إِلَّا ونجد الْمُسلمين أقل من جيرانهم نشاطا وانتظاما فِي جَمِيع شؤونهم الحيوية الذاتية والعمومية؛ وَكَذَلِكَ نجدهم أقل اتقاناً من نظرائهم فِي كل فن وصنعة، مَعَ أننا نرى أَكثر الْمُسلمين فِي الحواضر، وجميعهم فِي الْبَوَادِي، محافظين على تميزهم عَن غَيرهم من جيرانهم ومخالطيهم فِي أُمَّهَات المزايا الأخلاقية مثل الْأَمَانَة والشجاعة والسخاء.
فَمَا هُوَ وَالْحَالة هَذِه سَبَب تعمم هَذَا الفتور، وملازمته لجامعة هَذَا الدّين كملازمة الْعلَّة للمعلول، بِحَيْثُ أَيْنَمَا وجدت الإسلامية وجد هَذَا الدَّاء، حَتَّى توهم كثير من الْحُكَمَاء أَن الْإِسْلَام والنظام لَا يَجْتَمِعَانِ؛ هَذَا هُوَ الْمُشكل الْعَظِيم الَّذِي يجب على جمعيتنا الْبَحْث فِيهِ أَولا بحث
تدقيق واستقراء، عَسى أَن نهتدي إِلَى جرثومة الدَّاء عَن يَقِين، فنسعى فِي مقاومتها، حَتَّى إِذا ارْتَفَعت الْعلَّة بَرِيء العليل أَن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ الْفَاضِل الشَّامي: أَنِّي أوافق الْأُسْتَاذ الرئيس على تَعْرِيفه وتوصيفه الْحَالة النَّازِلَة بالفتور، كَمَا أَنِّي لَا أعلم مَا يُعَارض كَون هَذَا الفتور عَاما محيطاً بِجَمِيعِ الْمُسلمين.
قَالَ الصاحب الْهِنْدِيّ: أَنِّي وَأَن كنت أقل الإخوان فَضِيلَة ولكنني جوال، وَقد خبرت الْبِلَاد وأحوال الْعباد، وَلَا شكّ عِنْدِي فِي أَن هَذَا الفتور عَام وَإِن كَانَ لَا يظْهر فِي بعض الْمَوَاضِع الَّتِي لَيْسَ فِيهَا غير الْمُسلمين، كأواسط جَزِيرَة الْعَرَب وَبَعض جِهَات إفريقيا، وَلَا يظْهر أَيْضا فِي بعض مواقع أُخْرَى مجاورو الْمُسلمين فِيهَا ومخالطوهم من أهل النَّحْل الوثنية الغريبة الْوَضع، المتناهية فِي الشدَّة، كبقايا الصابئة حول دجلة الَّذين يضيعون كثيرا من أوقاتهم منغمسين فِي المَاء تعبداً، وكالكونغو من الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أَن كل مصائبهم حَتَّى الْمَوْت الطبيعي من تأثيرات أَعمال السَّحَرَة عِنْدهم، فَإِن أَمْثَال هَؤُلَاءِ اكثر فتوراً من الْمُسلمين، على أَن ذَلِك لَا يرفع صفة الفتور وعموميته عَن الْمُسلمين.
فَقَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَن الصاحب الْهِنْدِيّ مُصِيب فِي تَفْصِيله وتحريره، وَلذَلِك رجعت عَن قولي بِأَن الْمُسلمين أحط من غَيرهم مُطلقًا إِلَى الحكم بِأَنَّهُم أحط من غَيرهم، مَا عدا أهل النَّحْل المتشددة فِي التدين.
قَالَ الْحَافِظ الْبَصْرِيّ: يلوح لي أَنه - يلْزم اسْتثِْنَاء الدهريين والطبيعيين وأمثالهم مِمَّن لَا دين لَهُم، لأَنهم لَا بُد أَن يَكُونُوا على غير نظام وَلَا ناموس فِي أَخْلَاقهم، معذبين منغصين فِي حياتهم منحطين عَن أهل الْأَدْيَان، كَمَا يعْتَرف بذلك الطبيعيون فَيَقُولُونَ عَن أنفسهم أَنهم أَشْقَى النَّاس فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
فَأَجَابَهُ الصاحب الْهِنْدِيّ: أَنِّي كنت أَيْضا أَظن أَنه يُوجد فِي الْبشر أَفْرَاد مِمَّن لَا دين لَهُم، وان من كَانُوا كَذَلِك لَا خلاق لَهُم؛ ثمَّ أَن خبرتي الطَّوِيلَة قد برهنت لي أَن الدّين بِمَعْنَاهُ الْعَام وَهُوَ إِدْرَاك النَّفس وجود قُوَّة غالبة تتصرف فِي الكائنات، والخضوع لهَذِهِ الْقُوَّة على وَجه يقوم فِي الْفِكر، هُوَ أَمر فطري فِي الْبشر؛ وَإِن قَوْلهم فلَان دهري أَو طبيعي هُوَ صفة لمن يتَوَهَّم أَن تِلْكَ الْقُوَّة هِيَ الدَّهْر أَو الطبيعة فيدين لما يتَوَهَّم.
بِنَاء على ذَلِك ثَبت عِنْدِي مَا يقرره الأخلاقيون: من أَنه
لَا يَصح وصف صنف من النَّاس بِلَا دين لَهُم مُطلقًا بل كل إِنْسَان يدين بدين، أما صَحِيح. أَو فَاسد عَن أصل صَحِيح، وَإِمَّا بَاطِل أَو فَاسد عَن اصل بَاطِل، والفاسدان يكون فسادهما أما بِنُقْصَان أَو بِزِيَادَة أَو بتخليط وَهَذِه أَقسَام ثَمَانِيَة.
فالدين الصَّحِيح كافل للنظام والنجاح فِي الْحَال، والسعادة والفلاح فِي الْمَآل. وَالْبَاطِل والفاسدان بِنُقْصَان قد يكون أَصْحَابهَا على نظام ونجاح فِي الْحَيَاة على مَرَاتِب مُخْتَلفَة؛ وَأما الفاسدان بِزِيَادَة أَو بتخليط فمهلكة مَحْضَة. ثمَّ أَقُول رُبمَا كَانَ تقريري هَذَا غَرِيبا فِي بَابه فالتمس أَن لَا يقبل وَلَا يرد إِلَّا بعد التدقيق والتطبيق، لِأَنَّهُ أصل مُهِمّ لمسألة الفتور الْعَام المستولي على الْمُسلمين.
قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أجلكم أَيهَا السَّادة الأفاضل عَن لُزُوم تعريفكم آدَاب الْبَحْث والمناظرة، غير أَنِّي أنبه فكركم لأمر لَا بُد هُوَ قَائِم فِي نفوسكم جَمِيعًا، أَو تحبون أَن يُصَرح بِهِ، أَلا وَهُوَ عدم الْإِصْرَار على الرَّأْي الذاتي وَعدم الِانْتِصَار لَهُ، وَاعْتِبَار أَن مَا يَقُوله ويبديه كل منا إِن هُوَ إِلَّا خاطر سنح لَهُ، فَرُبمَا كَانَ صَوَابا أَو خطأ، وَرُبمَا كَانَ مغايراً لما هُوَ نَفسه عَلَيْهِ اعتقاداً أَو عملا، وَهُوَ إِنَّمَا يُورِدهُ فِي الظَّاهِر مُعْتَمدًا عَلَيْهِ، وَفِي الْحَقِيقَة مستشكلاً أَو مستثبتاً
أَو مستطلعاً رَأْي الْغَيْر. بِنَاء على ذَلِك فَمَا أحد منا مُلْزم بِرَأْي يبديه وَلَا هُوَ بملوم عَلَيْهِ، وَله أَن يعدل أَو يرجع عَنهُ إِلَى ضِدّه؛ لأننا إِنَّمَا نَحن باحثون لَا متناظرون، فَإِذا أعجبنا رَأْي الْمُتَكَلّم منا أثْنَاء خطابه إعجابا قَوِيا فَلَا بَأْس أَن نجهر بِلَفْظ (مرحى) ، تأييداً لإصابة حِكْمَة وأشعاراً باستحسانه، وعَلى هَذَا النسق فلنمض فِي بحثنا فِيمَا هِيَ أَسبَاب الفتور الْعَام.
قَالَ الْفَاضِل الشَّامي: إِنِّي أرى أَن منشأ هَذَا الفتور هُوَ بعض الْقَوَاعِد الإعتقادية والأخلاقية: مثل العقيدة الجبرية، الَّتِي من بعد كل تَعْدِيل فِيهَا جعلت الْأمة جبرية بَاطِنا قدرية ظَاهرا (مرحى) . وَمثل الْحَث على الزّهْد فِي الدُّنْيَا والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية: كحب الْمجد والرياسة، والتباعد عَن الزِّينَة والمفاخر، والأقدام على عظائم الْأُمُور، وكالترغيب فِي أَن يعِيش الْمُسلم كميت قبل أَن يَمُوت. وَكفى بِهَذِهِ الْأُصُول مفترات، مخدرات، مثبطات، معطلات، لَا يرتضيها عقل وَلم يَأْتِ بهَا شرع، ولمثلها نفى عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أَبَا ذَر الْغِفَارِيّ الربذَة.
فَأَجَابَهُ البليغ الْقُدسِي: أَن هَذِه الْأُصُول الجبرية والتزهيدية الممتزجة بعقائد الْأمة، وَمَا هُوَ اشد مِنْهَا تعطيلا للأخذ بالأسباب ولنشأة الْحَيَاة، مَوْجُودَة فِي كَافَّة الديانَات لتعدل من جِهَة شَره الطبيعة البشرية فِي طلب الغايات وتدفعها إِلَى التَّوَسُّط فِي الْأُمُور، ولتكون من جِهَة أُخْرَى تَسْلِيَة للعاجزين وتنفيساً عَن المقهورين البائسين، وتوسلاً لحُصُول التَّسَاوِي بَين الْأَغْنِيَاء والفقراء فِي مظَاهر النَّعيم.
أَلا يرى إِجْمَاع كل الْأَدْيَان على اعْتِقَاد الْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى، أَو خَيره مِنْهُ وشره من النَّفس أَو من الشَّيْطَان؛ وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ فِي الْبشر من ينْسب أمرا إِلَى الْقدر إِلَّا عِنْد الْجَهْل بِسَبَبِهِ سترا لجهله، أَو عِنْد الْعَجز عَن نيل الْخَيْر أَو دفع الشَّرّ سترا لعَجزه، وَحَيْثُ غلب أخيراً على الْمُسلمين جهل أَسبَاب المسببات الكونية وَالْعجز عَن كل عمل، إلتجأوا إِلَى الْقدر والزهد تمويها لَا تدينا.
وَهَذَا التبتل وَالْخُرُوج عَن المَال من اعظم القربات فِي النَّصْرَانِيَّة، فَهَل كَانَ قصد شَارِع الرهبانية أَن ينقرض النَّاس كَافَّة بعد جيل وَاحِد؟ أم كَانَ قَصده أَن يشرعها على أَن لَا يتلبس بهَا إِلَّا الْبَعْض النزر؟ كلا، لَا يعقل فِي هَذَا الْمقَام إِلَّا التَّعْمِيم، وينتج من ذَلِك أَنه
لَا يَصح اعْتِبَار هَذِه الْأُصُول الجبرية والتزهيدية سَببا للفتور؛ بل هِيَ سَبَب لاعتدال النشاط وسيرة سير انتظام ورسوخ.
وَفِي النّظر إِلَى المشاق والعظائم الَّتِي اقتحمها الصَّحَابَة وَالْخُلَفَاء الراشدون رضي الله عنهم لنيل الْغنى والرياسة والفخار فضلا عَن الثَّوَاب كِفَايَة برهَان، مَعَ أَن الْأمة إِذْ ذَاك كَانَت زاهدة فعلا، لَا كالزهد الَّذِي ندعيه الْآن كذبا ورياء. (مرحى) .
إِذا تتبعنا كل مَا ورد فِي الإسلامية حاثاً على الزّهْد، نجده موجها إِلَى التَّرْغِيب بالأثرة الْعَامَّة، أَي بتحويل الْمُسلم ثَمَرَة سَعْيه للمنفعة العمومية دون خُصُوص نَفسه، حَتَّى أَن كل مَا ورد فِي الْحَث على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله مُرَاد وَبِه سعي الْمُؤمن بِكُل الْوَسَائِل، حَتَّى ببذل حَيَاته، لإعزاز كلمة الله وَإِقَامَة دينه، لَا فِي خُصُوصِيَّة محاربة الْكفَّار كَمَا تتوهم الْعَامَّة؛ كَمَا أَن المُرَاد من محاربة الْكفَّار هِيَ من جِهَة إعزاز الجامعة الإسلامية، وَمن أُخْرَى خدمَة الجامعة الإنسانية من حَيْثُ إلجاء الْكفَّار إِلَى مُشَاركَة الْمُسلمين فِي سَعَادَة الدَّاريْنِ؛ لِأَن للأمم المترقية علما ولَايَة طبيعية على الْأُمَم المنحطة، فَيجب عَلَيْهَا إنسانية أَن تهديها إِلَى الْخَيْر وَلَو كرها باسم الدّين أَو السياسة.
ثمَّ قَالَ: أما عِنْدِي فيخيل إِلَيّ أَن سَبَب الفتور هُوَ تحول نوع السياسة الإسلامية، حَيْثُ كَانَت نيابية اشتراكية أَي (ديمقراطية) تَمامًا، فَصَارَت بعد الرَّاشِدين بِسَبَب تمادي المحاربات الداخلية ملكية مُقَيّدَة بقواعد الشَّرْع الأساسية، ثمَّ صَارَت أشبه بالمطلقة. وَقد نَشأ هَذَا التَّحَوُّل من أَن قَوَاعِد الشَّرْع كَانَت فِي الأول غير مدونة وَلَا محررة، بِسَبَب اشْتِغَال الصَّحَابَة المؤسسين رضي الله عنهم بالفتوحات، وتفرقهم فِي الْبِلَاد، فَظهر فِي أَمر ضَبطهَا خلافات ومباينات بَين الْعلمَاء، وتحكمت فِيهَا آراء الدخلاء، فرجحوا الْأَخْذ بِمَا يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية فَاتخذ الْعمَّال السياسيون وَلَا سِيمَا المتطرفون مِنْهُم هَذَا التخالف فِي الْأَحْكَام وَسَائِل للانقسام والاستقلال السياسي، فَنَشَأَ عَن ذَلِك أَن تَفَرَّقت المملكة الإسلامية إِلَى طوائف متباينة مذهبا متعادية سياسة، متكافحة على الدَّوَام. وَهَكَذَا خرج الدّين من حضَانَة أَهله وَتَفَرَّقَتْ كلمة الْأمة، فطمع بهَا أعداؤها وَصَارَت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية مَعًا، لَا تصادف سوى فترات قَليلَة تترقى فِيهَا فِي الْعُلُوم والحضارة على
حسبها، وَقد أثر اسْتِمْرَار الْأمة فِي هَذِه الحروب أَن صَارَت بِاعْتِبَار الأكثرية أمة جندية صَنْعَة وأخلاقا، بعيدَة عَن الْفُنُون والصنائع وَالْكَسْب بالوجوه الطبيعية. ثمَّ بِسَبَب فقدان القواد والمعدات لم يبْق مجَال للحروب الرابحة، فاقتصرت الْأمة على المدافعات، خُصُوصا مُنْذُ قرنين إِلَى الْآن، أَي مُنْذُ صَارَت الجندية عِنْد غَيرهم صَنْعَة علمية مفقودة عندنَا، فصرنا نستعمل بأسنا بَيْننَا فنعيش بالتغالب والتحايل لَا بالتعاون والتبادل؛ وَهَذَا شَأْن يُمِيت الانتباه والنشاط ويولد الخمول والفتور (مرحى) .
ابتدر الحكم التّونسِيّ وَإجَابَة: أَن غَيرنَا من الأقوام، جرمانياً مثلا، وجدوا فِي حكومات مُطلقَة كليا وَفِي اختلافات مذهبية وَفِي انقسامات إِلَى طوائف سياسية وَفِي حروب مستمرة، وَلم يشملهم الفتور بِوَجْه عَام؛ فَلَا بُد للفتور فِي الْمُسلمين من سَبَب آخر.
ثمَّ قَالَ: وَفِيمَا أتصور أَن بلاءنا من تأصل الْجَهْل فِي غَالب أمرائنا المترفين، الأخسرين أعمالاً، الَّذين ضلوا وأضلونا سَوَاء السَّبِيل وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا، حَتَّى بلغ جهل هَؤُلَاءِ منزلَة أحط من جهل العجماوات الَّتِي لَهَا طبائع ونواميس؛ فَمِنْهَا الَّتِي تَحْمِي وزمارها، وتمنع عَن حُدُودهَا، وتدفع عَمَّا إستحفظت عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاء لَيْسَ لَهُم
طبائع ونواميس، يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وهم لَا يَشْعُرُونَ. وَمِنْهُم الْبَعْض ضالون على علم، وهم الَّذين يَشكونَ ويبكون حَتَّى يظنّ انهم مغلوبون على أَمرهم، ويتشدقون بالإصلاح السياسي مَعَ انهم وأيم الْحق يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم؛ يظهرون الرَّغْبَة فِي الْإِصْلَاح، ويبطنون الْإِصْرَار والعناد على مَا هم عَلَيْهِ من إِفْسَاد دينهم ودنياهم، وَهدم مباني مجدهم وإذلال أنفسهم وَالْمُسْلِمين، وَهَذَا دَاء عياء لَا يُرْجَى مِنْهُ الشِّفَاء لِأَنَّهُ دَاء الْغرُور، وَلَا يقر صَاحبه لفاضل بفضيلة وَلَا يجاري حازما فِي مضمار، وَقد سرى من الْأُمَرَاء، إِلَى الْعلمَاء، إِلَى الكافة.
أجَاب الْمولى الرُّومِي: أَن تحميل التبعة على الْأُمَرَاء فَقَط غير سديد، خُصُوصا لِأَن أمراءنا إِن هم إِلَّا لفيف منا، فهم أمثالنا من كل وَجه؛ وَقد قيل " كَمَا تَكُونُوا يُولى عَلَيْكُم " فَلَو لم نَكُنْ نَحن مرضى لم يكن أمراؤنا مدنفين.
وَعِنْدِي أَن البلية فَقدنَا الْحُرِّيَّة، وَمَا أدرانا مَا الْحُرِّيَّة؛ هِيَ مَا حرمنا مَعْنَاهُ حَتَّى نسيناه، وَحرم علينا لَفظه حَتَّى
استوحشناه، وَقد عرف الْحُرِّيَّة من عرفهَا:" بَان يكون الْإِنْسَان مُخْتَارًا فِي قَوْله وَفعله لَا يَعْتَرِضهُ مَانع ظَالِم ". وَمن فروع الْحُرِّيَّة تَسَاوِي الْحُقُوق ومحاسبة الْحُكَّام بِاعْتِبَار انهم وكلاء، وَعدم الرهبة فِي الْمُطَالبَة وبذل النَّصِيحَة. وَمِنْهَا: حريَّة التَّعْلِيم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية؛ وَمِنْهَا الْعَدَالَة بأسرها حَتَّى لَا يخْشَى إِنْسَان من ظَالِم أَو غَاصِب أَو غدار مغتال؛ وَمِنْهَا الْأَمْن على الدّين والأرواح، والأمن على الشّرف والأعراض، والأمن على الْعلم واستثماره. فالحرية هِيَ روح الدّين وينسب إِلَى حسان بن ثَابت الشَّاعِر الصَّحَابِيّ رضي الله عنه قَوْله:
(وَمَا الدّين إِلَّا أَن تُقَام شرائع
…
وتؤمن سبل بَيْننَا وهضاب)
فلننظر كَيفَ حصر هَذَا الصَّحَابِيّ الدّين فِي إِقَامَة الشَّرْع والأمن.
هَذَا وَلَا شكّ أَن الْحُرِّيَّة اعز شَيْء على الْإِنْسَان بعد حَيَاته،
وَأَن بفقدانها تفقد الآمال، وَتبطل الْأَعْمَال، وَتَمُوت النُّفُوس، وتتعطل الشَّرَائِع، وتختل القوانين. وَقد كَانَ فِينَا راعي الخرفان حرا لَا يعرف للْملك شنئانا، يُخَاطب أَمِير الْمُؤمنِينَ بيا عمر وَيَا عُثْمَان، فصرنا رُبمَا نقْتل الطِّفْل فِي حجر أمه ونلزمها السُّكُوت فتسكت، وَلَا تجسر أَن تزعج سمعنَا ببكائها عَلَيْهِ.
وَكَانَ الجندي الْفَرد يُؤمن جَيش الْعَدو فَلَا يخفر لَهُ عهد، فصرنا نمْنَع الْجَيْش الْعَظِيم صَلَاة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، ونستهين دينه لَا لحَاجَة غير الفخفخة الْبَاطِلَة (مرحى) . فلمثل هَذَا الْحَال لَا غرو أَن تسأم الْأمة حَيَاتهَا فيستولي عَلَيْهَا الفتور، وَقد كرت الْقُرُون وتوالت الْبُطُون وَنحن على ذَلِك عاكفون، فتأصل فِينَا فقد الآمال وَترك الْأَعْمَال والبعد عَن الْجد والارتياح إِلَى الكسل والهزل، والانغماس فِي اللَّهْو تسكيناً لآلام أسر النَّفس، والإخلاد إِلَى الخمول والتسفل طلبا لراحة الْفِكر المضغوط عَلَيْهِ من كل جَانب. إِلَى أَن صرنا ننفر من كل الماديات والجدّيات حَتَّى لَا نطيق مطالعة الْكتب النافعة وَلَا الإصغاء إِلَى النَّصِيحَة الْوَاضِحَة، لِأَن ذَلِك يذكرنَا بمفقودنا الْعَزِيز، فتتألم أَرْوَاحنَا وتكاد تزهق إِذا لم نلجأ إِلَى التناسي بالملهيات والخرافات المروحات
وَهَكَذَا ضعف إحساسنا وَمَاتَتْ غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنَا بالواجبات الَّتِي تقتضيها الْحَيَاة الطّيبَة، لعجزنا عَن الْقيام بهَا عَجزا واقعياً لَا طبيعياً.
هَذَا ونعترف أَن فِينَا بعض أَقوام قد ألفوا أُلُوف سِنِين الاستعباد والاستبداد، والذل والهوان، فَصَارَ الانحطاط طبعا لَهُم تؤلمهم مُفَارقَته؛ وَهَذَا هُوَ سَبَب أَن السوَاد الْأَعْظَم من الهنود والمصريين والتونسيين لَا سِيمَا بعد أَن نالوا رغم أنوفهم الْأَمْن على الْأَنْفس وَالْأَمْوَال، وَالْحريَّة فِي الآراء والأعمال، وَلَا يَرِثُونَ وَلَا يتوجعون لحالة الْمُسلمين فِي غير بِلَادهمْ، بل ينظرُونَ للناقمين على أمرائهم الْمُسلمين شذرا، وَرُبمَا يعتبرون طالبي الْإِصْلَاح من المارقين من الدّين، كَأَن مُجَرّد كَون الْأَمِير مُسلما يُغني عَن كل شَيْء حَتَّى عَن الْعدْل، وَكَأن طَاعَته وَاجِبَة على الْمُسلمين، وَإِن كَانَ يخرب بِلَادهمْ وَيقتل أَوْلَادهم ويقودهم ليسلمهم لحكومات أَجْنَبِيَّة، كَمَا جرى ذَلِك قبلا مَعَهم، وَالْحَاصِل أَن فَقدنَا الْحُرِّيَّة هُوَ سَبَب الفتور والتقاعس عَن كل صَعب وميسور.
أجَاب الْمُجْتَهد التبريزي: أَن هَذَا الْحَال لَيْسَ بعام، مَعَ أَن الفتور لم يزدْ إزدياداً عَاما، بل هُوَ فِي ازدياد واستحكام فَلَا بُد لذَلِك من
سَبَب آخر.
ثمَّ قَالَ: ويلوح لي أَن انحطاطنا من أَنْفُسنَا، إِذْ أننا كُنَّا خير أمة أخرجت للنَّاس نعْبد الله وَحده، أَي نخضع ونتذلل لَهُ فَقَط، ونطيع من أطاعه مَا دَامَ مُطيعًا لَهُ، نأمر بِالْمَعْرُوفِ وننهى عَن الْمُنكر، امرنا شُورَى بَيْننَا، نتعاون على الْبر وَالتَّقوى وَلَا نتعاون على الْإِثْم والعدوان، فتركنا ذَلِك كُله مَا صَعب مِنْهُ وَمَا هان.
وَقد يظنّ أَن أصعب هَذِه الْأُمُور النَّهْي عَن الْمُنكر، مَعَ أَن إِزَالَة الْمُنكر فِي شرعنا تكون بِالْفِعْلِ، فَإِن لم يكن فبالقول، فَإِن لم يكن فبالقلب، وَهَذِه الدرجَة الثَّالِثَة هِيَ الْأَعْرَاض عَن الخائن وَالْفَاسِق والنفور مِنْهُ وإيطال بغضه فِي الله؛ وَمن علائم ذَلِك تجنب مجاملته ومعاملته، وَلَا شكّ أَن ايفاء هَذَا الْوَاجِب الديني كَاف للردع، وَلَا يتَصَوَّر الْعَجز عَنهُ قطّ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} ؛ فَهَذَا هُوَ سَبَب استرسال الْأمة لعبادة الْأُمَرَاء والأهواء والأوهام، وَلَا طَاعَة العصاة اخْتِيَارا، ولترك التناصح، وللركون إِلَى الفسّاق والأذعان للاستبداد وللتخاذل فِي الْخَيْر وَالشَّر، قَالَ:{ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون} وَعنهُ [صلى الله عليه وسلم]
: (لتأمرون بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليستعملن الله عَلَيْكُم شِرَاركُمْ فيسومونكم سوء الْعَذَاب) . إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات الْبَينَات وَالْأَحَادِيث المنذرات القاضيات بالخذلان على تاركي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَهَذَا هُوَ السَّبَب الناشيء عَنهُ الفتور.
أَجَابَهُ المرشد الفاسي: أننا كُنَّا على عهد السّلف الصَّالح شريعتنا سمحاء وَاضِحَة المسالك، مَعْرُوفَة الْوَاجِبَات والمناهي، فَكَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَظِيفَة لكل مُسلم ومسلمة، وَكُنَّا فِي بساطة من الْعَيْش، متفرغين لذَلِك، ثمَّ شغلنا شَأْن التَّوَسُّع فخصصنا لذَلِك محتسبين، ثمَّ دخل فِي ديننَا أَقوام ذَوُو بَأْس ونفاق أَقَامُوا الِاكْتِسَاب مَكَان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم فِي الجباية وآلتها الَّتِي هِيَ الجندية فَقَط، فَبَطل الاحتساب وَبَطل الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر طبعا، فَهَذَا يصلح أَن يكون سَببا من جملَة الْأَسْبَاب، وَلكنه لَا يَكْفِي وَحده لَا يراث مَا نَحن فِيهِ من الفتور.
على أَن انحصار همة الْأُمَرَاء الدخلاء فِي الجباية والجندية أدّى بهم لإهمال الدّين كلياً، وَلَوْلَا أَن فِي الْقُرْآن آيَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ لهجروه ظهرياً، إِحْدَاهمَا قَوْله تَعَالَى: (وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي
الْأَمر مِنْكُم} مَعَ الْغَفْلَة عَن المُرَاد بأولي الْأَمر، وَمَا تَقْتَضِيه صِيغَة الْجمع، وَمَا يَقْتَضِيهِ قيد (مِنْكُم)، وَالثَّانيَِة قَوْله تَعَالَى:{وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} مَعَ إغفال: هَل الْجِهَاد الْمَأْمُور بِهِ مَا يستحصل بِهِ إعزاز كلمة الله، أم مَا نؤيد بِهِ سلطة الْأُمَرَاء العاملين على الْإِطْلَاق؛ فإهمال الاهتمام بِالدّينِ قد جر الْمُسلمين إِلَى مَا هم عَلَيْهِ حَتَّى خلت قُلُوبهم من الدّين بِالْكُلِّيَّةِ، وَلم يبْق لَهُ عِنْدهم أثر إِلَّا على رُؤُوس الألسن، لَا سِيمَا عِنْد بعض الْأُمَرَاء الْأَعَاجِم، الَّذين ظواهر أَحْوَالهم وبواطنها تحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم لَا يتراؤون بِالدّينِ إِلَّا بِقصد تَمْكِين سلطتهم على البسطاء من الْأمة، كَمَا أَن ظواهر عقائدهم وبواطنها تحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم مشركون وَلَو شركا خفِيا من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
فَإِذا أضيف إِلَى شركهم هَذَا مَا هم عَلَيْهِ من الظُّلم والجور، يحكم عَلَيْهِم الشَّرْع وَالْعقل بَان مُلُوك الْأَجَانِب أفضل مِنْهُم وَأولى بِحكم الْمُسلمين، لأَنهم أقرب للعدل ولإقامة الْمصَالح الْعَامَّة، وأقدر على إعمار الْبِلَاد وترقية الْعباد، وَهَذِه هِيَ حِكْمَة الله فِي نزع الْملك من أَكْثَرهم، كَمَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُوم: لَا يهْلك الله الْقرى وَأَهْلهَا مصلحون.
وَقد افتخر النَّبِي عليه السلام بِأَنَّهُ ولد فِي زمن كسْرَى
أنوشروان عَابِد الْكَوَاكِب فَقَالَ: (ولدت فِي زمن الْملك الْعَادِل) .
وَحكى ابْن طَبَاطَبَا فِي الْآدَاب السُّلْطَانِيَّة والدول الإسلامية أَنه لما فتح السُّلْطَان هلاكو (وَهُوَ مَجُوسِيّ) بَغْدَاد سنة 656، أَمر أَن يستفتي علماؤها أَيهمَا أفضل السُّلْطَان الْكَافِر الْعَادِل أم السُّلْطَان الْمُسلم الجائر، فَاجْتمع الْعلمَاء فِي المستنصرية لذَلِك، فَلَمَّا وقفُوا على الْفتيا احجموا عَن الْجَواب، حَيْثُ كَانَ رَضِي الدّين عَليّ بن طَاوُوس حَاضرا، وَكَانَ مقدما مُحْتَرما، فَتَنَاول الْفتيا وَوضع خطه فِيهَا بتفضيل الْعَادِل الْكَافِر على الْمُسلم الجائر، فَوضع الْعلمَاء خطوطهم بعده.
ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَظن أَن السَّبَب الْأَعْظَم لمحنتنا هُوَ انحلال الرابطة الدِّينِيَّة، لِأَن مبْنى ديننَا على أَن الْوَلَاء فِيهِ لعامة الْمُسلمين؛ فَلَا يخْتَص بِحِفْظ الرابطة والسيطرة على الشئون العمومية رُؤَسَاء دين سوى الإِمَام أَن وجد؛ وَإِلَّا فَالْأَمْر يبْقى فوضى بَين الْجَمِيع، وَإِذا صَار الْأَمر فوضى بَين الْكل فبالطبع تختل الجامعة الدِّينِيَّة وتنحل الرابطة السياسية كَمَا هُوَ الْوَاقِع.
وَمن أَيْن لنا حَكِيم (كبسمرك) أَو مُلْزم (كغاريبالدى)
يوفق بَين أمرائنا أَو يلْزمهُم وَيجمع كلمتنا. وَقد زَاد على ذَلِك فَقدنَا الرابطة الجنسية أَيْضا فَإِن الْمُسلمين فِي غير جَزِيرَة الْعَرَب لفيف إخلاط دخلاء، وبقايا أَقوام شَتَّى لَا تجمعهم جَامِعَة غير التَّوَجُّه إِلَى هَذِه الْكَعْبَة المعظمة.
وَمن الْمُقَرّر الْمَعْرُوف انه لَوْلَا رُؤَسَاء الدّين فِي سَائِر الْملَل وروابطهم المنتظمة المطردة، أَو من يقوم مقَام الرؤساء من الدعاة أَو مديري أَو معلمي الْمدَارِس الجامعة المتحدة المبادئ، لضاعت الْأَدْيَان وتشعبت أَخْلَاق الْأُمَم، ونالهم مَا نالنا من أَن كل فَرد منا أصبح أمة فِي ذَاته.
أَجَابَهُ الْمُحَقق الْمدنِي: أَن فقد الرابطة الدِّينِيَّة والوحدة الخلقية لَا يكفيان أَن يَكُونَا سَببا للفتور الْعَام، بل لَا بُد لذَلِك من سَبَب أَعم وأهم.
ثمَّ قَالَ: أما أَنا، فَالَّذِي يجول فِي فكري، أَن الطامة من تشويش الدّين وَالدُّنْيَا على الْعَامَّة بِسَبَب الْعلمَاء المدلسين وغلاة المتصوفين الَّذين استولوا على الدّين فضيعوه، وضيعوا أَهله، وَذَلِكَ أَن الدّين إِنَّمَا يعرف بِالْعلمِ، وَالْعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال الْعلمَاء قيامهم فِي الْأمة مقَام الْأَنْبِيَاء فِي الْهِدَايَة إِلَى خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَلَا شكّ
أَن لمثل هَذَا الْمقَام فِي الْأمة شرفا باذخا يتعاظم عل نِسْبَة الهمم فِي تحمل عنائه وَالْقِيَام بأعبائه. فبعض ضعيفي الْعلم وفاقدي الْعَزْم تطلعوا إِلَى هَذِه الْمنزلَة الَّتِي هِيَ فَوق طاقتهم، وحسدوا أَهلهَا المتعالين عَنْهُم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور مظهر الْعلمَاء العظماء بالأغراب فِي الدّين وسلوك مَسْلَك الزاهدين؛ وَمن الْعَادة أَن يلجأ ضَعِيف الْعلم إِلَى التصوف، كَمَا يلجأ فَاقِد الْمجد إِلَى الْكبر، وكما يلجأ قَلِيل المَال إِلَى زِينَة اللبَاس والأثاث (مرحى) .
فَصَارَ هَؤُلَاءِ المتعالين يدلسون على الْمُسلمين بِتَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا لَا يحْتَملهُ مُحكم النّظم الْكَرِيم، فيفسرون مثلا الْبَسْمَلَة أَو الْبَاء مِنْهَا بسفر كَبِير، تَفْسِيرا مملوءاً بِلَفْظ لَا معنى لَهُ، أَو بِحكم لَا برهَان عَلَيْهِ. ثمَّ جَاءُوا الْأمة بوراثة أسرار أدعوها، وعلوم لدنيات ابتدعوها، وتسنم مقامات اخترعوها، وَوضع أَحْكَام لفقوها وترتيب قربات زخرفوها، وبالإمعان نجدهم قد جَاءُوا مصداقا لما ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح:(لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ شبْرًا بشبر وذراعا بِذِرَاع) ، وَفِي رِوَايَة (حَذْو القذة بالقذة، حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب تبعتموهم) ، (قُلْنَا يَا رَسُول الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى، قَالَ هُوَ: فَمن) ؛ وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ المدلسين اقتبسوا مَا هُنَالك كُله أَو جله عَن أَصْحَاب التلمود
وتفاسيرهم، وَمن المجامع المسكونية ومقرراتها، وَمن البابوية ووراثة السِّرّ وَمن مضاهاة مقامات البطاركة والكردينالية وَالشُّهَدَاء واسقفية كل بلد، وَمظَاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها، وَحَالَة الأديرة وبادريتها، والرهبنة أَي التظاهر بالفقر ورسومها، وَالْحمية وتوقيتها، وَرِجَال الكهنوت ومراتبهم وتميزهم فِي ألبستهم وشعورهم، وَمن مراسم الْكَنَائِس وَزينتهَا، وَالْبيع واحتفالاتها، والترنحات ووزنها، والترنمات وأصولها، وَإِقَامَة الْكَنَائِس على الْقُبُور وَشد الرّحال لزيارتها والإسراج عَلَيْهَا، والخضوع لَدَيْهَا وَتَعْلِيق الآمال بسكانها. وَأخذُوا التَّبَرُّك بالآثار كالقدح وَالْحريَّة والدستار من احترام الذَّخِيرَة وقدسية العكاز. وَكَذَلِكَ إمرار الْيَد على الصَّدْر عِنْد ذكر بعض الصَّالِحين من امرارها على الصَّدْر لإشارة التصلب؛ وانتزعوا الْحَقِيقَة من السِّرّ، ووحدة الْوُجُود من الْحُلُول، والخلافة من الرَّسْم، والسقيا من تنَاول القربان، والمولد من الميلاد وحفلته من الأعياد؛ وَرفع الْأَعْلَام من حمل الصلبان، وَتَعْلِيق أَلْوَاح الْأَسْمَاء المصدرة بالنداء على الجدران من تَعْلِيق الصُّور والتماثيل؛ والاستفاضة والمراقبة من التَّوَجُّه بالقلوب انحناء أَمَام الْأَصْنَام، وَمنع الاستهداء من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة
من حظر الكهنة الكاثوليك قِرَاءَة الْإِنْجِيل على غَيرهم، وسد الْيَهُود بَاب الْأَخْذ من التَّوْرَاة وتمسكهم بالتلمود إِلَى غير ذَلِك مِمَّا جَاءَ بِهِ المدلسون تقليداً لهَؤُلَاء شبْرًا شبْرًا، واقتفاء لأثرهم حجرا حجرا، وَهَكَذَا إِذا تتبعنا الْبدع الطارئة نجد أَكْثَرهَا مقتبسا وقليلها مخترعا.
وَقد فعل المدلسون ذَلِك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابا لقلوب الضُّعَفَاء: كالنساء وَذَوي الْأَهْوَاء والأمراض القلبية أَو العصبية من الْعَامَّة، والأمراء الليني القياد طبعا إِلَى الشّرك، لِأَن التَّعَبُّد رَغْبَة أَو رهبة لما بَين أَيْديهم وَتَحْت أنظارهم أقرب إِلَى مداركهم من عبَادَة آله لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وَلَيْسَ كمثله شَيْء، وَلِأَن التَّعَبُّد باللهو واللعب أَهْون على النَّفس والطبع من الْقيام بتكليفات الشَّرْع، كَمَا وصف الله تَعَالَى عبَادَة مُشْركي الْعَرَب فَقَالَ:(وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية) أَي صفيرا وتصفيقاً، وَهَؤُلَاء جعلُوا عبَادَة الله تصفيقاً وشهيقاً وخلاعة ونعيقاً (مرحى) .
وَالْحَاصِل، أَن بذلك وَأَمْثَاله نجح المدلسون فِيمَا يقصدون، وَلَا سِيمَا بِدَعْوَى فِئَة مِنْهُم الْكَرَامَة على الله وَالتَّصَرُّف بالمقادير، وباستمالتهم الْعَامَّة بالزهد الْكَاذِب والورع الْبَاطِل والتقشف الشيطاني؛ وبتزينهم
لَهُم رسوما تميل إِلَيْهَا النُّفُوس الضعيفة الخاملة، سَموهَا آدَاب السلوك، مَا انْزِلْ الله بهَا من سُلْطَان وَلَا عمل بهَا صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ، ظَاهرهَا أدب وباطنها تشريع وشرك؛ وبجذبهم البلة الْجَاهِلين بتصعيب الدّين من طَرِيق الْعلم وَالْعَمَل بِظَاهِر الشَّرْع، وتهوينه كل التهوين من طَرِيق الِاعْتِقَاد بهم وبأصحاب الفتور. وَقد تجاسروا على وضع أَحَادِيث مكذوبة أشاعوها فِي مؤلفاتهم، حَتَّى الْتبس أمرهَا على كثير من الْعلمَاء المخلصين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، مَعَ أَنَّهَا لَا أصل لَهَا فِي كتب الحَدِيث الْمُعْتَبرَة. وجلبوا النَّاس بالترهيب وَالتَّرْغِيب، ترغيباً بالاستفادة من الدُّخُول فِي الرابطات والعصبيات المنعقدة بَين أشياعهم، وترهيباً بتهديدهم معاكسيهم أَو مسيئي الظَّن بهم أَو بإضرارهم فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ، ضَرَرا يتعجلهم فِي دنياهم قبل آخرتهم (مرحى) .
وَقد قَامَ لهَؤُلَاء المدلسين أسواق فِي بَغْدَاد ومصر وَالشَّام وتلمسان قَدِيما، وَلَكِن لاكسوقها فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة مُنْذُ أَرْبَعَة قُرُون إِلَى الْآن، حَتَّى صَارَت فِيهَا هَذِه الأوهام السحرية والخزعبلات كَأَنَّهَا هِيَ دين مُعظم أَهلهَا، لَا الْإِسْلَام؛ وَكَأَنَّهُم لما ورثوا عَن الرّوم الْملك، حرصوا على أَن يرثوا طبائعهم أَيْضا حَتَّى التَّوَسُّع فِي هَذِه
المصارع السَّيئَة؛ فاقتبس لَهُم المدلسون كثيراًُ مِمَّا بَيناهُ، وطبقوه على الدّين وَإِن كَانَ الدّين يأباه، وزينه لَهُم الشَّيْطَان بِأَنَّهُ من دقائق الدّين وآدابه، وَمن هَذِه العواصم سرى ذَلِك إِلَى الْآفَاق بالعدوى من الْأُمَرَاء إِلَى الْعلمَاء الأغبياء إِلَى الْعَوام.
فَهَؤُلَاءِ المدلسون قد نالوا بسحرهم نفوذاً عَظِيما، بِهِ أفسدوا كثيرا فِي الدّين، وَبِه جعلُوا كثيرا من الْمدَارِس تكايا للبطالين الَّذين يشْهدُونَ لَهُم زوراً بالكرامات المرهبة، وَبِه حولوا كثيرا من الْجَوَامِع مجامع للطبالين، الَّذين ترتج من دوِي طبولهم قُلُوب المتوهمين وتكفهر أعصابهم، فيتلبسهم نوع من الخبل يَظُنُّونَهُ حَالَة من الْخُشُوع؛ وَبِه جعلُوا زَكَاة الْأمة ووصاياها رزقا لَهُم، وَبِه جعلُوا مداخيل أوقاف الْمُلُوك والأمراء عطايا لاتباعهم، مِمَّا يُسمى فِي الْبِلَاد العثمانية (دعاكو وطعامية)(مرحى) .
وَبِذَلِك ضَاقَ على الْعلمَاء الخناق، لَا رزق وَلَا حُرْمَة، وَكفى بذلك مضيعا للْعلم وللدين؛ لِأَنَّهُ قد الْتبس على الْعَامَّة عُلَمَاء الدّين الْفُقَرَاء الأذلاء من هَؤُلَاءِ المدلسين الْأَغْنِيَاء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وَضعف يقينهم. فضيع الاكثرون حُدُود الله وتجاوزوها، وَفقدُوا قُوَّة قوانين الله ففسدت أَيْضا دنياهم واعتراهم هَذَا الفتور.
أجَاب الْمولى الرُّومِي: أَن كل الديانَات معرضة بالتمادي لأنواع من التشويش وَالْفساد، وَلَكِن لَا تفقد من أَهلهَا حكماء ذَوي نشاط وعزم، ينبهون النَّاس ويرفعون الالتباس، أَو يعوضون قَوَاعِد الدّين إِذا كَانَ أَصْلهَا واهيا فوهنت بقوانين مَوْضُوعَة تقوم بنظام دنياهم؛ ويتحملون فِي سَبِيل ذَلِك مَا يتحملون من المشاق خدمَة لأفكارهم السامية، ويفدون مَا عز وَهَان حفظا لشرفهم، الْقَائِم بشرف قَومهمْ، بل حفظا لحياتهم وحياة قَومهمْ من أَن يصبحوا أَمْوَاتًا متحركين فِي أَيدي أَقوام آخَرين.
وَلَقَد أثبت الْحُكَمَاء المدققون بعد الْبَحْث الطَّوِيل العميق، أَن المنشأ الْأَصْلِيّ لكل شقاء فِي بني حَوَّاء هُوَ أَمر وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ: إِلَّا
وَهُوَ وجود السلطة القانونية منحلة وَلَو قَلِيلا لفسادها، أَو لغَلَبَة سلطة شخصية أَو اشخاصية عَلَيْهَا.
فَمَا بَال الزَّمَان يضن علينا بِرِجَال ينبهون النَّاس ويرفعون الالتباس؟ يفتكرون بحزم ويعملون بعزم، وَلَا ينفكون حَتَّى ينالوا مَا يقصدون، فينالون حمداً كثيرا وفخراً كَبِيرا وَأَجرا عَظِيما.
وَعِنْدِي أَن داءنا الدفين: دُخُول ديننَا تَحت ولَايَة الْعلمَاء الرسميين، وَبِعِبَارَة أُخْرَى تَحت ولَايَة الْجُهَّال المتعممين.
نبه السَّيِّد الفراتي الْأُسْتَاذ الرئيس إِلَى قرب وَقت الِانْصِرَاف، وعندئذ جهر الْأُسْتَاذ الرئيس بشعار (لَا نعْبد إِلَّا الله) استلفاتًا للإخوان، وَقَالَ لَهُم: أَن أخانا الْمولى الرُّومِي لفارس مغوار نحب مِنْهُ مَا عودنا من التَّفْصِيل والإشباع، والآن قد آن وَقت الظّهْر وحان أَن نتفرق لندرك الصَّلَاة، وموعدنا غَدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.