المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة لم يكن المسلم عندما فتح عينيه في - المسلم في عالم الإقتصاد

[مالك بن نبي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة لم يكن المسلم عندما فتح عينيه في

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

لم يكن المسلم عندما فتح عينيه في عالم الاقتصاد، بعد أن نالته الصدمة الاستعمارية، سوى قنّ يُسخَّر لكل عمل يريده الاستعمار، فينتج المطاط في حقول الهند الصينية (فيتنام)، والفول السوداني في إفريقيا الاستوائية، والأرز في بورما، والتوابل والكاكاو في جاوه (إندونيسيا)، والخمور في الشمال الإفريقي.

لم تكن له في هذه الأعمال صلة موضوعية بعالم الاقتصاد، ولا تربطه بعمله صلة ذات طابع مشروع، لم يكن (المنتج) الذي يُرعى حقه، ولا (المستهلك) الذي ترعى حاجته؛ لقد كان أداة عمل مستمر فقط، فلم يتكون لديه (وعي اقتصادي)، ولا تجربة ولا خبرة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه، وبنائه ومصالحه الأجنبية. ثم من ناحية أشمل، ومهما كان حظه في محيطه الاستعماري، كان يجري عليه قانون التقليد كما يجري على كل كائن، فقد صلته بعالمه الأصيل ففقد أصالته. فكان عندئذ أميَل لتقليد (الحاجات) منه إلى تقليد (الوسائل) لأنه فقد وعيه الحضاري أيضاً، فيصير في مرحلة أولى مقلداً بقدر استطاعته للحاجة التي أفرزتها حياة غيره، دون أن يفكر في صنع وسيلة إشباعها، ثم في مرحلة ثانية، إذا تحقق استقلال بلاده، يصير إلى تقليد الحاجات الواردة وتقليد الوسائل المستوردة كيفما اتفق له، ولو على حسابا سيادة البلاد.

ص: 7

وإذا ما تابعنا هذا الوضع في خطوات أخرى، نراه في المجال السياسي يتحول إلى مشكلات سياسية لابد أن تواجهها الحكومات الإسلامية؛ وفي المجال الاقتصادي يتحول إلى قضية نظرية تحاول نخبة مثقفة معالجتها على أسس علم اقتصاد، وضعت على تجارب وخبرات العالم الذي أنجب (آدم سميث) و (كارل ماركس)، وهكذا تبتدئ قصتنا في صورتها الجديدة.

فالإنسان الذي استسلم للتقليد في العادات والأذواق، وبصورة عامة في تقليد ما يكتظ به عالم أشياء شيّده غيره، يصبح في المجال النظري مقلداً للأفكار التي صاغتها تجارب وخبرات غيره. فإذا ما عدنا لموقف نخبتنا المثقفة في المجال الاقتصادي، نرى هذه النخبة تقف مجرد موقف اختيار بين ليبرالية (آدم سميث) ومادية (ماركس)، كأنما ليس للمشكلات الاقتصادية سوى الحلول التي يقدمها هذا أو ذاك، دون وقوف وعبرة عند أسباب الفشل، أو نصف النجاح لخطط التنمية التي طبقت على أساس الليبرالية أو المادية، في العالم الثالث ما عدا الصين، بعد الحرب العالمية الثانية.

بينما نرى تجربة مثل التي أجريت في إندونيسيا قد تضمنت كل شروط النجاح، سواء من ناحية الإمكانيات المادية في أغنى بلاد الله من حيث الثروة الطبيعية والبشرية، أو من الناحية الفنية لأن واضع خطتها الدكتور (شاخت)، الرجل الذي نهض باقتصاد ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية من نقطة الصفر تقريباً، ومع ذلك نراها فشلت فشلاً ذريعاً.

ولو وقفنا على الأقل متأملين أسباب هذا الفشل لاستفدنا منه درساً اقتصادياً، لا تقدمه لنا الدرسة الليبرالية ولا المدرسة المادية، ولأدركنا أولاً أن المخططات الاقتصادية تتضمن شروطاً ضمنية أو شرطاً ضمنياً على الأقل ليس من اختصاص واضعيها الالتفات إليه، فالدكتور (شاخت) كان بلا جدال، أجدر

ص: 8

من يضع مخططاً اقتصادياً مثل الذي وضعه لبلاده قبيل الحرب، ولكنه خطط لإندونيسيا فوضع ضمناً خطته، على قاعدة (معادلة اجتماعية) خاصة بالشعب الألماني، وأجنبية عن الشعب الإندونيسي (1). فما كان إذن لخططه أن ينجح لأنه فقد منذ لحظته الأولى شرطاً أساسياً.

والآن إذا عدنا للحديث عن مثقفينا في المجال الاقتصادي، نرى أنهم وقفوا موقف اختيار وتفضيل بين (آدم سميث) و (ماركس)، بينما كانت القضية ولا زالت قضية تطعيم ثقافي لمجتمع الإسلامي، يمكّنه من استعمال إمكانياته الذهنية والجسمية؛ وبصورة عامة تجعل كل فرد فيه ينشط على أساس (معادلة اجتماعية) تؤهّله لإنجاح أي مخطط اقتصادي.

أو بعبارة أخرى فالديناميكية الاقتصادية ليست هي هذه النظرية أو تلك الخاصة بعلم الاقتصاد، بل هي مرتبطة بجوهر اجتماعي عام قد نجده، على حد سواء، في تجربة اليابان الرأسمالية أو تجربة الصين الشيوعية بعد 1949، خصوصاً بعد أن عدلت ثورتها الثقافية بين 1966 - 1968، (المعادلة الاجتماعية) في الفرد الصيني ذاته.

ثم إذا عدنا مرة أخرى إلى موقف مثقفينا من القضية الاقتصادية نراهم يصنَّفون صنفين، لا على أساس فني بل على أساس أخلاقي، صنف لا يبالي بعقيدته في انحيازه لنظرية اقتصادية معينة، ويلقَّب أو يلقب نفسه بالتقدمي لأنه يدعي الماركسية، وصنف ينحاز مبدئياً إلى الليبرالية لأنه يتجنب المادية والإلحاد بحافز إسلامه.

فهذا الصنف الأخير هو الذي يهمنا بالذات، لا لأنه مسلم فحسب، بل لأنه كان أخصب من الصنف الأول في الدراسات الاقتصادية، كما يدل على ذلك عدد

(1) سنبين في أحد الفصول أثناء الدراسة ما نعني بالمعادلة الاجتماعية.

ص: 9

الأطروحات ودسامتها، مثل الأطروحة التي قدمها أمام جامعة أميركية طالب مسلم، ذكر لكي اسمه وعنوان أطروحته أثناء رحلتي إلى الولايات المتحدة آخر السنة المنصرمة.

فهذا الطالب ذُكر لكي بإعجاب زملائه وبتقدير أساتذته لأنه تفوق في معالجة موضوع (الاستثمار بلا ربا).

وهذا الموضوع الشائك يستحق فعلاً كل الإعجاب والتقدير، وإنما يبقى لنا أن نلاحظ أن هذا الاجتهاد الفذ قد انصرف ضمناً إلى محاولة توفيق بين الإسلام والرأسمالية، ويا حبذا لو بذله صاحبه في اكتشاف طريق آخر ما عدا الاستثمار المالي، لدفع عجلة الاقتصاد.

وبالتالي نرى الاقتصاديين الإسلاميين وكأنهم بعد أن اختاروا ضمناً المبدأ الليبرالي، يريدون وضع المسحة الإسلامية عليه، لنرى الجهود الحميدة تنصرف بصورة عامة، إلى دراسة النظم المالية في الاقتصاد، كأنما هي الأمر الأساسي في الاقتصاد.

بينما نرى أن هذه النظم Banques سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا، ليست إلا جانباً من عالم الاقتصاد الحديث، لأنه لو فقد هذا الجانب أو تضاءل مثلما يحدث الآن في التوجيه الاقتصادي الصيني، فلأن النشاط الاقتصادي يستطيع مواصلة حركته الديناميكية، وسيبقى قائماً أو يعيد قيامه بفضل مقدراته الأخرى، مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية عندما انطلقت تجربة المستشار (إيرهارت) في خطواتها الأولى بلا رصيد من ذهب أو فضة، أعني بلا تدخل مالي قائم أو غير قائم على الربا.

وهذه الظروف الصعبة التي يواجهها مجتمع ناشئ مثل الصين أو مجتمع يعيد بناءه مثل ألمانيا، هي الظروف المواتية التي تقدم أصدق صورة عن الجوانب

ص: 10

الأساسية في عالم الاقتصاد، قبل أن تتم بناءاته المكتملة سواء في صورة اقتصاد ليبرالي أو في صورة اقتصاد ماركسي.

يجب إذن على شبابنا المهتم بالاقتصاد أن يخلي أولاً ذهنه من الجوانب الذهبية الإضافية في المنطلق، أو التنظيمية التي تكتسبها القضية الاقتصادية في الطريق، بصفتها وسائل إدارة أو إشراف ورقابة.

وهذه الدراسة بالذات هي مجرد محاولة تصفية لموضوع الاقتصاد في الأذهان من الجوانب الإضافية التي تطرأ عليه سواء في صورة ضرورة فنية تنشأ في الطريق، أو في صورة ضرورة سياسية تتسلط عليه لرقابة عمليتي الإنتاج والتوزيع طبقاً لمبادئ ومسلمات مذهبية معينة.

فإن وفقنا في هذه التصفية فهو ذلك وما أجرنا إلا على الله، وإن كان غير ذلك فلنا أجر من لفت النظر إلى ضرورة هذه التصفية، سواء بالنسبة لمفاهيم أو لبعض النظم الاقتصادية، ويبقى أجران لن يوفق فيها كل التوفيق.

ولا نختم هذه المقدمة دون أن نقول كلمة، (وربما هي تصفية في مجال آخر يتصل بالاقتصاد) بصدد الحوار الذي نشأ في العالم الإسلامي حيث نرى المختصين بالاقتصاد، يوجهون العتاب أو اللوم إلى الفقهاء ويرمونهم أحياناً بالجمود.

يجب أن ننزه فقهاءنا عن هذا العتاب، ونقول إنه ليس من اختصاصهم أن يدلوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يقدمها أهل الاختصاص، هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية وعلى الله نتوكل وهو حسبنا.

بيروت في 7/ 3/ 1972

م. ب. ن

***

ص: 11