المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة - المسلم في عالم الإقتصاد

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة

‌حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة

إذا تأملنا الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة المشكلات الاقتصادية، نرى أنه يضيّق على نفسه مجال اجتهاده، بمقتضى مسلمات ضمنية يمكن حصرها تقريباً فيما يلي:

1) إنه يفكر أولاً على أساس أن الموجود من المناهج الاقتصادية هو ما يمكن إيجاده.

2) إن النشاط الاقتصادي لا يمكن من دون تدخل المال، سواء في صورة استثمار، تنظمه وتشرف عليه قطاعات خاصة أو استثمار تهيمن عليه سلطة سياسية، فيما يسمى القطاع العام.

ومن هنا يبتدئ تعثر الفكر الإسلامي بصعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء، لا من طبيعة الأشياء ذاتها.

فالمسلمة الأولى، مثلاً، تضطره إلى الاختيار بين الرأسمالية وبين الشيوعية.

وإذا به يجد نفسه- مهما كانت ميوله- أمام مشكلات فنية أو مذهبية أو على الأقل أخلاقية، تضيف إلى متاعبه ما شاء الله، لأنه لا يجد لها حلاً في نطاق اختياره في كلا الاتجاهين، إلا على حساب مبادئه الأولية، وبالتالي على حساب شخصيته وهويته من التاريخ.

فإن جنح إلى الرأسمالية فسرعان ما يصطدم بإباحيتها، القائمة على المبدأ الذي عبر عنه (آدم سميث)، في بداية العهد الاقتصادي الحديث، في عبارته الشهيرة "دعه يعمل، دعه يسير".

ص: 42

والآن بعد قرن ونصف، يرى المسلم بكل وضوح أين يؤدي هذا، إلى أي اضطراب اجتماعي يؤدي بالمجتمع الذي يسير هكذا، إلى أي انحرافات ثقافية تنشأ فيه متخذة ردود أفعال ضرورية أمام إفراط في الإنتاج وتفريط في التوزيع، فتنشأ الماركسية مثلاً وتقوم على أساسها الثورات الشيوعية لتعيد المياه لمجاريها في عالم الاقتصاد حسب زعمها.

ولا يصطدم المسلم في هذا الاتجاه، بإباحية الرأسمالية فحسب، أي بروحها فقط، بل سيصطدم أيضاً بشروطها أو بعض شروطها الفنية؛ لأن الرأسمالية تقتضي استثمار المال بوصفه الوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد، وإذا بها تلجأ لعملية تجميع الأموال وتركيزها في مؤسسات معينة كالبنوك، لتقوم هي بتوزيعها وتوظيفها في القطاعات الإنتاجية المختلفة، على أساس الربا في عمليتي التجميع والتوزيع.

وإذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته.

وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حياً وسيقوم بمهماته.

وإن نجح في إيجاد حل نظري في قضية الربا يطابق الفقه الإسلامي، فيكون كأنه وجد روحاً لا يضمه جسد، أو تناقض مع جسده؛ لأن نظام البنوك يرفض هذا الروح وهو يرفضه، فيبقى الحل النظري معلقاً عملياً، لأن صاحبه انطلق على أساس مسلمة استثمار المال بصفته منطلق للديناميكا الاقتصادية، دون أن يراجع هذا المبدأ نفسه.

وربما يلتفت المسلم، بعد خيبة أمله في الرأسمالية، في الاتجاه الأخير، في اتجاه الاقتصاد الشيوعي، وبكلمة ألطف: في اتجاه الاقتصاد الاشتراكي، لا لأنه

ص: 43

يحبذ منطلقاته المذهبية غالباً، بل لأنه بعد أن شاهد مساوئ الرأسمالية وتناقضها أخلاقياً وتقنياً مع الفقه الإسلامي، يشاهد نجاح الخطط (الاشتراكية) في الاقتصاد.

وهنا أيضاً، سرعان ما يصطدم المسلم ببعض جوانب هذه الخطط المتعارضة مع الفقه الإسلامي، مثل تحديد الملكية أو إلغائها، بقطع النظر عن التعارض الأساسي بين المادية والإسلام، تعارضاً أعمق من التعارض مع الليبرالية، أو قضية الربا.

وفي هذا الاتجاه، لم يبق على الاختصاصي أو السياسي المسلم إلا أن يطبق المنهج (الاشتراكي)، دون مراجعة أسسه المذهبية البعيدة، وأسباب نجاحه في البلاد التي طبقته على نسبة تمسكها بالفكرة الماركسية بصفتها عقيدة، كما يراها دارسون مثل (سيرج بردائيف S. Berdaef) أو (فالتر شوبرت W. Shubart)، ودون نظرة في نتائج أو توقعات الفتور عندما يعتري (العقيدة) الماركسية، بدورها، ويجعلها غير قادرة في الميدان الاقتصادي، على تعويض أو تغطية بعض الجوانب السلبية في النظرية الاقتصادية الماركسية، التي أثرت من دون جدال علم الاقتصاد بمفاهيم جديدة مثل فائض القيمة ( Plus-value) أو الإنتاج على أساس الواحد أو الوحدة ( Productivité) دون أن تشعر أنها مست الطاقة الإنتاجية في جوهرها.

عندما مست مبدأ الملكية الفردية، أعني عندما ألغت أو خفّضت من قيمة وازع الامتلاء الذي يتصرف حسب مدرسة (بافلوف) الروسية (السوفييتية كان نعلم)، في الربع- على الأقل- مما أسميه بالطاقة الحيو ية Energie vitale الموزعة في إمكانيات الحيوان عامة والإنسان خاصة عندما حصل ذلك جاء هذا الأخير منتجاً أومستهلكاً على نسبة ما فيه من هذه الطاقة البيولوجية.

بينما الفتور- أو الشيخوخة الاجتماعية- متوقع في المجتمع (الاشتراكي) كما هو

ص: 44

شأن كل المجتمعات، وإذن سينكشف الضباب عن الحقيقة الاقتصادية الماركسية المجردة من جانبها العقيدي الذي يحقق نجاحها اليوم، فينتهي المجتمع الشيوعي الحديث، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة كمجتمع القرامطة الذي انهار في ومضة بصر، بعد أن هدّد الدولة العباسية في عز قوتها، وكالمجتمع الذي سبقه بإيران قبل البعث الإسلامي.

فإذا كانت ظاهرة (الفتور) تصيب كل المجتمعات في عصر شيخوختها، فإنها تستعجل الشيخوخة في المجتمعات التي تفقد مسبقاً عوامل الاستقرار النفسي، ولا تستطيع الاستمرار إلا في حالة تغير متواصل وحركة ديناميكية مستمرة، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة التي لم تستقر أوضاعها إلا في فترة نشوئها وتشييدها.

لذلك لا نرى اختيار المسلم- على أساس مسلمته- إلا محدوداً في الاتجاهين كليهما بعوامل بعضها فني وأخلاقي وبعضها فني ونفسي وعقائدي.

وفي الاتجاهين كليهما نراه في محاولة تركيب روح إسلامية على جسم أجني يرفضها وترفضه؛ لأنه حتى في تجربته (الاشتراكية) المطبقة في بعض البلدان العربية، فهو يحاول تسخير جسم مفصول عن (روحه الشيوعي). ولا يضير المسؤولين العرب الذين يطبقون هذه التجربة في بلادهم، إذا لم يقدر لها النجاح الذي حققته في بلدان أخرى، مثل ألبانيا ورومانيا التي انطلقت من المنطلق نفسه.

فللمجتد أصاب أوأخطأ، أجر بحسن نيته، ولا أحد يشك في حسن نية من حاول تطبيق خطة (اشتراكية) في البلاد العربية. خصوصاً إذا عددنا- في حالة الخطأ- أنه ليس من رجال السياسة، ولا من رجال الفقه، وإنما هو في جوهر الاختيار على أساس مسلمة كان من واجب صاحب الاختصاص الاقتصادي ألا يسلم بها في منطلق تفكيره، ولعلّه يجدر القول هنا، إن من العوامل التي

ص: 45

عطلت نمو الفكر الاقتصادي في العالم الإسلامي ما نراه من طرف بعض علماء الدين من تشدد في الاعتراض على الاجتهاد الاقتصادي، اعتراضاً يُجمّده أحياناً منذ المنطلق.

ولا شك في أن هذا الاعتراض يحدث غالباً حرصاً على صيانة الدين، ولكننا وجدنا أحياناً لهذا الحرص صوراً لا تتسم بالحكمة، عندما يطغى الاعتراض طغياناً يصل إلى درجة التعطيل، فيسأل مثلاً من يقوم بدراسة في الاقتصاد. هل يلتزم فيما يكتب النظرة الفقهية، لا بالنسبة للكليات فحسب، بل بالنسبة لكل تفصيل سيواجه النظرية في المستقبل، كأنما صاحب النظرية ليس مطالباً بالبحث عن أصول تنتج التخلص من التخلف، بل مطالب أيضاً بكل التفاصيل التي قد تنشأ في الطريق كأنه يدعي علم كل شيء.

بينما واقع العالم الإسلامي يفرض على من يتصدى لمحاولة فقهية أن يحدد موقفه على أساس الاهتمام بشروط الانطلاق Décollage أكثر من شروط الاستمرار، حتى إذا كانت ضرورية لمراجعة الأشياء، بعد أن يتحقق الانطلاق، إذا ما اقتضت المرحلة الأولى تعطيل بعض التصرفات الفردية من أجل نجاة أصحاب السفينة.

فاليوم يجب سواء على الفقهاء أو على أصحاب الاختصاص تقدير مسؤولياتهم، على أساس أن القضية المطروحة ليست قضية تحقيق استمرار الحياة الاقتصادية، بل هي قضية دفع العجلة من أجل إنقاذ السفينة وأهلها، ولو تعطلت من أجل ذلك بعض المصالح الفردية.

***

ص: 46