الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق الدِّيناميكا الاقتصادية على أساس مبدئي
منذ عهد تقسيم العمل أي منذ بداية اقتصاد التبادل، تركزت المجهودات المبذولة في تنشيط وتدعيم حركة مسكرة تقوم على توازن معين بين عليتي الإنتاج والاستهلاك، تتوسطهما حلقة وصل مملية ثالثة هي التوزيع.
وإذا تأملنا شيئاً ما عبر حلقة اقتصادية كاملة ( Circuit) نراه يتسم بوجه خاص بالطابع الذي تضفيه عليه عملية التوزيع، فهي التي تطبع الحياة الاقتصادية، وتميز أسلوبها الخاص لأنها تحدد هدف الإنتاج من ناحية، ورقعة الاستهلاك من ناحية أخرى، لتنشأ بواسطتها حركة التفاعل بين المنتجين والمستهلكين.
فهذا التفاعل هو ما يسمى الديناميكا الاقتصادية.
إننا عندما نحدد طبيعة الحاجة التي يلبيها الإنتاج نحدد طبيعة التوزيع وحجم شبكته. والحاجة من الوجهة الاقتصادية نوعان: الحاجة التي يغطيها مال ( Solvable)، والحاجة التي تغطيها إرادة حضارية، مثل الإرادة التي فرضت الزكاة للفقير وللمسكين وابن السبيل الذين ليس لهم مال يغطون به حاجاتهم اليومية.
ويتقرر على أساس كيفية تلبية الحاجة كل أسلوب الاقتصاد، إما طبقاً لطبيعة المال الذي يقتضي نظماً خاصة بتوزيع محدود يحده الإمكان المالي، أو طبقاً لإرادة حضارية تفرض شبكة توزيع شاملة تشكل السكان كلهم منذ اللحظة الأولى.
فإذا تقرر هذا النوع الأخير لتلبية الحاجة، دون إخضاعها لشرط الإمكان المالي، نستطيع مبدئياً رسم شروط الديناميكا الاقتصادية في صورة مسلمتين:
1 -
لقمة العيش حق لكل فم.
2 -
العمل واجب على كل ساعد.
فالمسلمة الأولى يفرضها الاختيار لمبدأ معين يلتزمه المجتمع ويسجله في دستوره بوصفه أساساً لعقده الاجتماعي (1).
أما المسلمة الثانية فليست اختياراً بل هي ضرورة تفرضها المسلمة الأولى شرطاً لاستمرار التفاعل بين الإنتاج والاستهلاك، تفاعلاً جدلياً نستطيع صياغته في صورة منطقية إذا قلنا: إنه لا إنتاج من دون استهلاك ولا استهلاك من دون إنتاج.
ولكن هذه الصورة النظرية لترابط طرفي الديناميكا الاقتصادية لا تعني أن صورة التطبيق ستكون بسيطة.
إنه ليس يسيراً من الناحية الفنية أن نوفق بين الإنتاج والاستهلاك، على أساس المسلمتين إذا لم نستوعب الشروط النفسية والتقنية الضرورية كافة، لتحقيق عملية الانطلاق أو الإقلاع الاقتصادي ( Décollage) ، في البلاد التي تعاني منذ أمد هذا الكساد للطاقات الاجتماعية الذي يطلق عليه اليوم اسم (التخلف).
يجب أولاً على من يخطط لإطلاق هذه الطاقات الكاسدة، أن يكون مقتنعاً بضرورة إطلاقها وبإمكانه دون شروط إضافية، خارجة عن المسلمتين.
(1)(العقد الاجتماعي)، هو المصطلح الذي استعمله (جان جاك روسو) عنواناً لكتاب كان أثره كبيراً في توجيه الثورة الفرنسية.
بينما تجدر الملاحظة بأن الاعتراض الأول ينشأ تجاه المسلّمة الأولى، في صورة استحالة تطبيقها في البلاد التي تعاني في ظاهر الأمر نقصاً في التغذية، فلا يتصور المنطق الاقتصادي المعتاد أن هذه البلاد تتكفل حق لقمة العيش لكل فم.
وقد حدث لي أن سجلت مثل هذا الاعتراض من قبل أصحاب أفكار متنورة كنت أتحدث إليهم في هذا الموضوع، عندما حللت بمصر سنة 1956، فكان يعترض على وجهة نظري بأن البلاد فقيرة، لا تستطيع أن تتكفل بلقمة العيش لكل فم، بينما كانت من الواضح أنها كانت تتحمل عبء كل الأفواه من دون مقابل في عملية الإنتاج، أي أنها كانت في الواقع (تتكفل) دون أن تعود عليها فائدة، لأن كل فم يتناول حتماً لقمة العيش ولو بالطرق غير المشروعة.
فالقضية ليست في الحقيقة، قضية قصور في الإمكان، بل قصور في التصرف والسياسة والتخطيط.
فالاعتراض لا يزيد، هو الآخر على أن يكون نوعاً من الكساد في المجال الفكري، يجب رفعه لتحريك الطاقات المعطلة الأخرى.
ونقول مرة أخرى إن مجرد رفعه لا يعني في التطبيق أن أمر مخطط اقتصادي شامل على أساس المسلمتين أمر بسيط.
فالانتقال من اقتصاد سائب يسير كيفما اتفق له، أو يسير طبقاً لمخطط يترك على الهامش بعض الطاقات الاجتماعية، إلى اقتصاد يحقق تعبئة كل الطاقات، يقتضي عمليات تقنية ربما تتطلب أولاً تغيير خريطة الإسكان في البلاد، للتوفيق بين متطلبات التموين والعمل.
ولا يبدو هذا غريباً، فهذا ما يحدث عرضاً أو قصداً، في كل تخطيط شامل في مرحلة الطفرة أو فيما يسمى في الصين (الوثبة إلى الأمام).
فألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية غيرت إلى حد ما خريطة الإسكان داخل
حدودها، لتحقق الشروط الأولية لتطبيق مخطط الدكتور (شاخت)، الذي استهدف لأسباب استراتيجية وفنية، إشادة مراكز صناعية كبرى في مناطق جديدة لتيسير التموين بالمواد الخام مع اقتصاد ما يمكن من الوقت ووسائل النقل.
فاستتبع هذا التغيير لخريطة الصناعة، تغييراً لخريطة الإسكان ولخريطة التموين بالغذاء، ولخريطة المواصلات.
وهذا الأمر هو ما يتكرر اليوم في الصين منذ بداية (الوثبة إلى الأمام)، وإنني مع حرصي ككل مسلم على مراعاة شروط الفقه الإسلامي لا أرى مسوغاً لتدخل مذهي في قضية ذات طابع تقني بحت. وهي تحت هذا الطابع لا تناقض الشرع كما لا تناقض الماركسية إلا من الناحية المذهبية، عندما يحدد (ماركس) مرحلة التطبيق الذي نحلله في هذه السطور، غاية أخلاقية للتطور الاقتصادي الاشتراكي عندما يصير العمل والتوزيع قائمين على مبدأ:"من كلِّ بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته".
بينما لا تقرر هذا التوزيع (لقمة العيش لكل فم) لمجرد غاية أخلاقية بل بوصفها نقطة انطلاق فنية وأخلاقية معاً، يقرها ضمناً الإسلام في مبدأ الزكاة وتفرضها اعتبارات اقتصادية استثنائية، ترمي إلى خلق جو اجتماعي تنمو وتتحرك فيه كل الطاقات، في عمل مشترك من شأنه أن يغير الأوضاع النفسية في الفرد، وملامح الحياة حوله.
وبهذا يكون العمل المشترك أولاً وقبل كل شيء المدرسة التي تكوّن المسلم الجديد، الذي يستطيع مواجهة كل الظروف الاستثنائية، مثل التخلف؛ لأن مدرسة العمل المشترك تعلمه أن الإرادة إذا حركت الإنسان تجعله يكتشف الإمكان. فالوطن أو المجتمع المسلم الذي يتحول إلى ورشة، سرعان ما يكتشف أن الإمكان الذي ينتظره مما في يد الآخرين لتغيير مصيره هو في يده منذ الآن.
إن الإرادة تكتشف الإمكان.
هذا القانون في المجال الاقتصادي هو في المجال النفسي ما تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11] وما نعبر عنه في المجال الاجتماعي بقولنا: إن الإرادة الحضارية تصنع الإمكان الحضاري.
فالعالم الإسلامي متى تكونت لديه إرادة واضحة للتخلص من التخلف، سيجد أولاً في المجال النظري أن اختياره ليس محدوداً بالرأسمالية ولا بالماركسية، وأنه بالتالي يستطيع التعويض للاستثمار المالي المفقود لديه بالاستثمار الاجتماعي، الموجود على أساس المسلمتين المعروضتين في هذا الفصل، سواء كان ذلك في نطاق مخطط مرحلي خاص بظروف ما أسميناه الإقلاع ( Décollage)، أم كان المخطط يعني أيضاً الاستمرار، إذا ما رأى المجتمع مصلحته في ذلك.
وإذا كان هذا أو ذاك فالمجتمع العصامي الذي يقلع بمجهوده الخاص، سيدرك أن القصور ( Inertie) الذي يفرضه التخلف في المجال الاقتصادي، إنما هو نتيجة لتصوره الأشياء لا لطبيعة الأشياء ذاتها، وسوف يرى طاقاته الذاتية قادرة على تغيير كل الظروف في جو يسوده الإخاء والطمانينة.
وإذا ما كان لنا درس نستخلصه من تجربة الصين، فإنما هو أن المعارك الاقتصادية عندما تدور رحاها، فهي تدور حول قطب القيم الأخلاقية، وإن وَسَّعْنا المصطلح قلنا: حول القيم الثقافية.
والمجتمع الإسلامي أجدر من يحقق له وللإنسانية التجربة، التي تعيد إلى عالم الاقتصاد أخلاقيته، ويتلافى بذلك الانحرافات الإباحية التي تورطت فيها الرأسمالية، كما ينجو من ورطة الماركسية المادية التي سلبت الإنسان ما يميزه عن الآلات والأشياء.
وأجدر من يقوم بهذه التجربة الرائدة للبلاد هي الجزائر وليبيا ومصر وسوريا، التي دخلت فعلاً المعركة الاقتصادية على نهج معين، تستطيع توسيع أفقه بخبرة جديدة وتطعيمه بروح إسلامي، يعيد المال إلى وظيفته بوصفه خادماً مطيعاً للمجتمع لا سيِّداً له، ويرفع عن الإنسان الأسر الذي قيدته به المادية الماركسية التي أقحمته في عالم الاقتصاد مجرد آلة للإنتاج.
***