الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأساس الأخلاقي لعمليتي الإنتاج والتوزيع
إن الأساس المذهي الذي يقرره (آدم سميث) بوصفه قاعدة للديناميكا الاقتصادية، قد أطلق العنان لإرادة المال وفتح الباب لتصرفات الرأسمالية، على حساب المصلحة العامة في المجال السياسي والمصالح الخاصة بالمنتجين والمستهلكين. فكانت النتيجة ماسة أيضاً بالجو الثقافي العام، عندما أصبحت قاعدة (دعه يعمل دعه يسير) الأساس الذي يقوم عليه سلوك الأفراد باسم الحرية.
بل كانت النتيجة أم من ذلك إذا ما اعتبرنا التطورات الخطيرة والأحداث الكبيرة، التي غيرت وجه القرن العشرين على أنها مجرد انعكاسات، في المجال الثقافي والسياسي لما كان يدور في عالم الاقتصاد.
إن إباحية الرأسمالية كانت التمهيد العملي للمادية الجدلية، أي لحركة الإلحاد في العالم.
فرأس المال قام بالتالي بدور الحاجب الذي فتح الباب أمام الثورة الشيوعية مهما يبدو في هذا التقرير من مناقضة ظاهرة.
هل أراد رأس المال الانتحار أم أنه استسلم فقط لمنطق السهولة؟ إن الوجه الأول لا يعنينا في هذا الفصل، فحسبنا أن نقول: إن المجتمعات تموت غالباً منتحرة.
وإنما يعنينا الوجه الثاني وهو أن من طبيعة المادة القصور إلا في الحيوان، وإذا تحركت المادة فإنها تتبع أيسر السبل: فالماء لا يجري من أسفل إلى فوق إلا إذا سلطنا عليه ضغطاً.
والإنسان مجبول أيضاً على اتباع المنحدر إذا لم تكن وراءه قوة دافعة إلى أعلى. وربما وجدنا توضيحاً وتأكيداً لهذه الملاحظة البسيطة في الآية الكريمة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد 90/ 10، 11].
فالإنسان يفضل بطبيعته المنحدر على العقبة، إلا إذا حفزه أمر يجعله يقتحم العقبة، ولم يكن المسلم عندما دخل المعركة السياسية- يطالب بحقوقه في أواخر القرن الماضي- سوى الإنسان الذي يتبع طريق السهولة، الذي سيؤدي إلى تحقيق بعض الرغبات الرخيصة الثمن، حيناً في الركض وراء استقلال لا تؤيده مقومات، السيادة الحقيقية، لأنه لم يجهد نفسه في التفكير فيها، وحيناً في البحث عن وجود يتناقض مع شروط الاستقرار ومع مصالح عليا، مثلما حدث بباكستان، فقد تقرر وجود هذه الدولة على أسس خيالية وعلى نقيض مصلحة الإسلام.
وقد يسمى هذا الانحراف في المجال السياسي خطأ سياسياً، ولكننا إذا تابعنا البحث عن سببه الحقيقي، سنجده مستقراً في العالم الثقافي، وفي الأساس الأخلاقي بالضبط.
إن المقاييس السياسية، حتى إذا لم تتقرر بوضوح وبطريقة إرادية على أساس قيم أخلاقية، لا تخطئ أو تصيب إلا بسبب طبيعة روابط الواقع السياسي مع القيم الأخلاقية.
فالسياسة التي تنهض أساساً بالطالبة بالحقوق وتهمل جانب الواجبات، لا تعدو أن تكون قد اتجهت هذا الاتجاه على أساس اختيار ضمني أو صريح، بين مفهومين أخلاقيين: الواجب والحق.
وبمجرد اختيارها أو تفضيلها لأحد الطرفين تكون قد وضعت في أساس الحياة الاجتماعية كلها- بما فيها الاقتصاد والثقافة- علاقة جبرية بين الحق
والواجب، فلو اصطلحنا على المدلول العام للمفهومين أن (الواجب) هو ما نعطيه (مثلاً للمجتمع) وأن (الحق) هو ما نأخذه، وأنهما يمثلان على محور القيم الجبرية قيمتين مختلفتي العلاقة على طرفي الصفر، لو اصطلحنا على ذلك لجاءت صياغة العلاقة بينهما في صورة متراجحة هكذا:
واجب + حق <> صفر
ولا نتعدى حدود هذه العلاقة الجبرية الأخلاقية إذا نقلناها إلى مجال الاقتصاد، بعد اصطلاحنا أيضا على أن (الإنتاج) هو ما نعطيه للمجتمع وبأن الاستهلاك هو ما نأخذه، لتضم العلاقة الجبرية هاتين القيمتين الاقتصاديتين في صورة متراجحة ذات احتمالات ثلاثة كأي معادلة متراجحة:
إنتاج + استهلاك <> صفر
ويجدر بنا منذ الآن أن نلاحظ الترابط بين القيم الاقتصادية والأخلاقية، هذا الترابط الذي أهملته الرأسمالية في نظرتها الإباحية إلى الاقتصاد، بينما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل يوماً (لقمة عيش) كان من (حقه) أن يأخذها من المجتمع، بنص من القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى الناس بتطبيقه، كما كان صلى الله عليه وسلم أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها.
ولكن أعمال الني صلى الله عليه وسلم تشريع أو عبرة لأمته، فأشار الرسول على من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب، وأشار على الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده.
فإذا حللنا هذه الأبعاد الخلقية لهذه القصة، نرى كيف يحل الرسول صلى الله عليه وسلم أزمة اجتماعية تعرض عليه صورة متسول من المساكين، فيفضل صلوات الله عليه
حلها في نطاق (الواجب) على (الحق)، أو إذا قدرنا الأبعاد الاقتصادية فإننا نراه صلى الله عليه وسلم يفضل الحل في نطاق (الإنتاج).
وكل مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم الأخرى تدعم هذا الاتجاه، بل هذا التوجيه لأمته إن شئنا في مجال الأخلاق، أو في مجال الاقتصاد.
كما نراه صلى الله عليه وسلم في موقف آخر يعطي لصحابي يطلب ممن كان حاضراً، ثم يتكرر الطلب فيتكرر العطاء، ثم يتكرر الطلب والعطاء للمرة الثالثة، ويأتي التوجيه في صورة بارزة فيقول صلى الله عليه وسلم للطالب: "
…
إن اليد العليا خير من اليد السفلى".
اليد التي تعطي خير من اليد التي تتقبل، هذا هو التوجيه، إن شئنا فسرناه خلقياً أو اقتصادياً سواء.
والآن إذا عدنا إلى العلاقة الجبرية بين الإنتاج والاستهلاك، وعددناها في ضوء ما قدمنا، علاقة أخلاقية اقتصادية نستطيع النظر في احتمالاتها فنراها تدل على حالات ثلاث، يحقق المجتمع إحداها حسب اتجاهه الثقافي.
فحسب تركيزه على مفهوم (الواجب) أو على مفهوم (الحق)، تكون معادلته الاقتصادية إيجابية بفائض الإنتاج على الاستهلاك، أو متعادلة إذا استوى الطرفان. أو سلبية إذا كان الاستهلاك أرجح في الميزانية.
ففي الحالة الأولى يستطيع المجتمع استثمار فائض إنتاجه في العمليات والميزانيات المقبلة فهو مجتمع نام.
وفي الحالة الثانية فإن كفتي ميزانه متعادلتان فلا ترجح واحدة على الأخرى، فهو لا يصعد ولا يهبط، فهو مجتمع راكد.
أما في الحالة الثالثة فكفة استهلاكه أرجح لا يصعد ولا يستقر، فهو مجتمع ينهار.
وتحويل التركيز من (الحق) إلى (الواجب) ليس بالأمر الذي يأتي عفوياً أو بالمصادفة، لأنه تحويل لعادات وطبائع منسجمة مع ما في الإنسان من ميل طبيعي إلى منطق السهولة، مدعماً من ديماغوجيا القرن العشرين التي نصبت من (الأنا) وثناً جديداً يعبده الفرد في المجال السياسي باسم الحرية، وفي المجال الاقتصادي باسم الحقوق. وحتى في المجال الرياضي حيث يعبد (الأنا) المجسم في ملاعب الرياضة. فتحويل التركيز الموروث ليس إذن بالأمر السهل بل لا يتأتى إلا بصراع مع كل التيارات التي تنهي الأنانية بشكليها: الأنا ونحن.
وربما تقوم، في وجه ثورة ثقافية- من أجل تعديل التركيز في صالح الواجبات- ثورة مضادة لتدعيم البناء المنحرف.
فهذا ما حدث بالضبط في الصين عندما قامت فيها محاولة لتخفيف ضغط الحقوق على الإنتاج، فسرعان ما قامت في وجهها مطالبة بمزيد من الحقوق، في حصة الأرز مثلاً وفي الأجور؛ وغالب الظن أن هذه المشاغبة كانت موجهة من الخارج من طرف جهات تريد تعطيل حركة التنمية، فاستعملت ضد العمال القائمين بتنفيذ خطة (الوثبة إلى الأمام) ما في نفوسهم من ميل طبيعي إلى السهولة.
إنه لمن أشد المكر أن يحطم الإنسان، أو يعطل نفسه بيده دون أن يشعر، لأن الماكر استطاع أن يخدعه بلغة الحقوق والحريات.
***