الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضرورة الاكتفاء الذاتي
والتطور من الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد جهوي
لتحقيق الاكتفاء
( Autarcie)
اكتشف العالم، مع الاستعمار، كل أنواع السيطرة من جانب القوي على الضعيف، فهو يقيد حرية تصرفاته بقيود عسكرية واقتصادية، ويحاول أحياناً إحكام شبكتها حتى من الجانب الروحي، ببعثات تبشيرية لا همّ لها إلا تدعيم السيطرة بوسائل تخفى على الأبصار.
فاليوم، في عهد تصفية الاستعمار تحت إشراف لجنة من هيئة الأمم تحمل هذا الاسم، لم يبق على العموم، مجال للسيطرة العسكرية على مصير شعوب العالم الثالث، أي على أغلبية شعوب العالم الإسلامي؛ ولكن الاستعمار استنبط طريقة تعويض للسيطرة العسكرية بسيطرة اقتصادية تخوله البقاء في مناطق نفوذه السابقة، بل تخوله بسط نفوذ جديد لا يقابل بالرفض بل بالقبول والرضا والتعاقد.
هكذا نرى أن المظهر قد تغير، لأن الرجل المستعمر استبدل بالسيف الذي كان بيده عرقاً من زيتون رمز السلام، بينما نشعر من خلال ما شاهدناه في حبك العلاقات الجديدة بين قارتي الاقتصاد، أن شيئاً لم يتغير في أعماف ضمير رجل الشمال، فهو ما زال على مذهب (ليبنيتز Leibnitz)، الذي كان - وهو يضع الأسس الجديدة لعلم الرياضيات- يفكر أيضاً في احتلال مصر، ويقدم من أجل
ذلك تقريراً مفصلاً للويس الرابع عشر، وما زال على مذهب (ارنست رينان) الذي كان يرى "أن الأوربي خلق للقيادة، كما خلق الصيني للعمل في ورشة العبيد وكل ميسر لما خلق له".
فتعويض السيف بعرق من زيتون لم يغير سوى المظهر.
إن أوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي، وتكتلت في القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري تحت إشراف (بسمارك) ببرلين سنة 1881 من أجل الزحف الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة (السوق المشتركة) في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي والياباني والصيني، وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي سابقاً لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد بوسائل الاقتصاد.
وعليه يترتب على كل من يهمه أمر النهوض الاقتصادي في بلد إسلامي أو في العالم الإسلامي على العموم، أن يأخذ في الاعتبار الضرورات الداخلية، كما بينا بعض ملامحها في الفصول السابقة، كما يترتب عليه أن يأخذ أيضاً في الاعتبار الضرورات الخارجية، كان نشير إليها في هذا الفصل.
يجب أن نصفي أولاً منطق القضية فنتساءل: ما هي حدود الإمكانيات الفردية- نعني بالنسبة إلى وطن بمفرده- لمواجهة الضرورات الداخلية والخارجية؟
إننا نعني حدود حرية التصرف في الداخل، في نطاق دفع الطاقات الاجتماعية على أساس المسلمتين المذكورتين في فصل سابق بوصفهما شرطين ضروريين لدفع عجلة الديناميكا الاقتصادية، ومن ناحية أخرى من أجل الصمود في وجه الزحف الاقتصادي من الخارج.
يجب أن نلاحظ أن شروط الاقتصاد التكاملي ( L'autarcie) لا تتوافر إلا في أوطان معدودة مثل الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي والصين.
فالولايات المتحدة مثلاً تستهلك 95% من إنتاجها داخل حدودها، أي أنها تستطيع إلغاء علاقتها الاقتصادية مع الخارج دون أن يتصدع اقتصادها إلا بنسبة 5% ودون أن يشعر العامل بقطع العلاقات إلا على النسبة نفسها.
وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة تتمتع بالحرية الاقتصادية المطلقة، على وجه التقريب، وذلك بسبب اتساع رقعتها وقاعدتها الإسكانية (الديموغرافية)، أي يُسرها من ناحية الثروة الطبيعية والعدة البشرية.
والصين، بعد الثورة الثقافية، أصبحت هي الأخرى، تستطيع قطع العلاقات الاقتصادية مع الخارج دون تضرر، على أساس من التقشف تفرضه ضروراتها الداخلية الحالية في مرحلة الإقلاع التي لا زالت تمر بها.
وكذلك الاتحاد السوفييتي، على نسبة من اليسر أقل من أمريكا وأكثر من الصين اليوم، أما الأوطان الأخرى كلها، فهي لا تستطيع حل مشكلاتها الاقتصادية كلها، داخل حدودها الخاصة.
فاليابان على الرغم من أنها الدولة الاقتصادية الثالثة، لا تستطيع أن تقطع علاقاتها مع الخارج، أي أن تكوّن داخل حدودها حلقة اقتصادية مغلقة، إلا في حالات شاذة مثل ألمانيا التي استطاعت، على الأقل في السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية أن تعيش في اقتصاد مغلق، أي مستقل ( Autarcie) على أساس مخطط الدكتور (شاخت).
والبلد الإسلامي الوحيد الذي يستطيع مواجهة الضرورات الداخلية والخارجية داخل حدوده، هو دون أي شك إندونيسيا، ومع ذلك رأيناها تفشل في تطبيق مخطط (شاخت)، لأنه طبق على أسس غير موضوعية، أي على
أسس موجودة في ألمانيا مفقودة في إندونيسيا، كما بيّنا.
فيجب أن نمضي خطوة أخرى في تصفية منطق القضية: إن كل وطن، مسلم أو غير مسلم، يستطيع حل بعض مشكلاته داخل حدوده، مثلاً كل ما يتعلق بالعدل والإدارة والأمن، كما يستطيع حل مشكلات أخرى في نطاق تنظيم جهوي، مثل إنتاج وتسويق البترول بالنسبة للدول العربية لو يتم اتفاقها بهذا الصدد، ثم هناك مشكلات لا تحل إلا على مستوى عالمي مثل قضية السلم، وتنسيق البريد إلخ.
فاتجاه الأوطان الأوربية نحو فكرة تأسيس السوق المشتركة الأوربية، ما هو إلا تقرير واقع، يمليه تطور العلاقات الاقتصادية في العالم، بعد تصفية الاستعمار، أي بعد أن فقدت الدول الأوربية، مثل فرنسا وإنجلترا وهولاندا، الرقعة التي كانت في إفريقيا أو آسيا، تكمل اقتصادها، فاتخذت هذه الدول اتجاه الاقتصاد التكاملي لمواجهة ضرورات داخلية وخارجية جديدة.
وإذا ماحللنا العوامل التي شجعت رؤساء دول أوربية، مثل الجنرال (دوغول) على احتضان فكرة السوق المشتركة، وعلى النضال في سبيلها على حساب بعض القيم التي كانت مقدسة قبل قرن، مثل الوطنية المفرطة ( Chauvinisme) فسنجد أن أوربا وجدت هذا التشجيع أولاً وقبل كل شيء في تراثها العتيد، أيام كان (شارلمان)، معاصر هارون الرشيد ينشئ على أساس العقيدة المسيحية الموحدة، ما يسمى (الامبراطورية المقدسة).
وبالتالي نرى كيف أن أوربا العلمانية المادية، لا تخشى في سبيل تنظيم اقتصادها تنظيماً جديداً أن تعود إلى عهدها القديم، إلى عالم مقدساتها لتعزيز عالم مصالحها المادية.
كذلك نرى أن الدول المتقدمة لا تخشى أن ترجع أحياناً خطوة إلى الوراء من
أجل تصحيح خطأ أو تدارك إسراف، بينما نرى أوطاناً متخلفة يعتري مسؤوليها ومثقفيها الخجل إذا ما سمعوا كلمة عن ضرورة تلافي تفريط أو إفراط، كأنهم من القوم الذين يشير إليهم القرآن الكريم:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة 5/ 79].
فاليوم نرى كثيراً من إخواننا في البلاد العربية الإسلامية يسمون المراجعة رجعية، دون أن يشعروا بأن تقدميتهم شاخت وهرمت، قد أكل عليها الدهر وشرب، لأنها فقدت ثقة الناس في مهدها، في البلاد الغربية.
بينما الأوطان العربية والإسلامية على العموم، أحوج من غيرها إلى إعادة النظر في اقتصادها حتى لا تتبع قدوة أوربا القرن التاسع عشر، ثم تكتشف خطأها بعد قرن، لتعود مرة أخرى، بعد قرن، لقدوة أوربا القرن العشرين.
يجب على البلاد العربية بوجه خاص أن تعيد النظر في تنظيم حياتها الاقتصادية، على شروط تحقيق حلقة اقتصادية كاملة داخل حدودها، متخذة أساساً شروط الاستثمار الاجتماعي التي قدمناها في صورة مسلمتين ربما يكون تطبيقهما في حدود الوطن الواحد، على درجة من الصعوبة، ولكنها تنخفض بمقدار ما تتسع رقعة التطبيق.
فأمريكا لا تستطيع تحقيق شروط الحلقة الاقتصادية الكاملة بنسبة 95% لو افترضنا أنها فقدت بعض ولاياتها: فأي تغيير في الخريطة الطبيعية- الإسكانية لوطن يغير قطعاً شروط تطبيق المسلمتين: 1) كل فم يأكل و 2) كل ساعد يعمل.
وإذن التغيير يحدث إلى أسوأ (حسب فرضنا بخصوص أمريكا) فإنه يحدث إلى أحسن حسب فرض مناقض، مثلاً بالنسبة إلى الرقعة العربية إذا ما توحدت وبقدر ما تتوحد هذه الرقعة أي بقدر ما تجمّع إمكانياتها وحاجاتها.
ولكن قضية مثل هذه لا يمكن الفصل فيها بالارتجال وإنما بالدراسة على الخريطة.
إن ليبيا، على سبيل المثال، لها متسع من التراب، ومصر لديها فائض من العدة البشرية، وللكويت فائض من المال المعطل؛ فلو اجتمعت هذه العوامل الثلاثة في خطة تجريبية لأدرك العالم العربي كله أن شروط الإقلاع والاكتفاء الذاتي هي تحت يده، عندما يريد النهوض الاقتصادي بتعميم التجربة الثلاثية التي أشرنا إليها، حتى تصير هذه التجربة لبنة عربية في أساس الحضارة الإسلامية الجديدة.
إن العالم العربي يتمتع بإمكانيات اقتصادية مهملة، مثل هذه الأراضي التي أنبتت الحضارة الإنسانية الأولى على ضفتي الدجلة والفرات، حيث ترعرعت أيضاً الحضارة الإسلامية الأولى بفضل الخيرات التي كان يمدها بها، منذ خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، التراب المطعم بطمي الآلاف من السنين، ذلك (السواد) الذي عاد مرة أخرى مستنقعات تنبت الحمى، بعد أن كان ينبت الأقوات.
إن في استطاعة العالم العربي أن يعيد للتراب وظيفته الاقتصادية، وذلك منذ اليوم، بوسائله الموجودة بيده منذ الآن، حتى في الميدان الفني إذا قرر من ناحية أخرى استعادة العقول العربية المغتربة لأسباب مختلفة، منها الأسباب الثقافية التي تتصل بفقدان المسوغات الكفيلة بشد العزائم ورفع الهمم، إلى مستوى المسؤوليات المنوطة بالعلماء والمثقفين، في نطاق مشروع شامل تتحد فيه الأيدي والعقول والأموال في الرقعة العربية، أو في أكبر جزء ممكن منها بقدر ما تكتمل فيه شروط الاقتصاد التكاملي، حتى يستأنس الناس، والقادة بوجه خاص، بأن الأوطان التي لا تستطيع مواجهة الظروف الاقتصادية العالمية بمفردها، تستطيع الصمود لها والنمو، إذا تكاتفت عقولها وأيديها وأموالها في ورشة عمل مشترك من أجل اقتصاد متحرر لا يخضع لضغط خارجي.
ومهما تكن من صعوبات في طريق إنشاء حلقة اقتصادية كاملة، عربية في خطوة أولى، إسلامية بالتالى، فيكون تحقيقها أحسن دليل على الاعتدال في التفكير وفي التطبيق، على نحو مما كان يشير إليه (خروثوف) في قوله:"إن أحسن دليل على صحة أفكارنا لهو نجاحنا الاقتصادي"، على شرط أن نغير في هذا الحكم كلمة (صحة) بكلمة (صلاحية).
ففي نطاق هذه الأفكار التي تخضع إلى تطبيق اجتماعي فالنتائج لا تترتب على (صحة) الأفكار المطبقة بقدر ما تترتب على (صلاحيتها).
فحتى الشيوعية قد يكون لها آثار اجتماعية أعمق من أفكار هي أكثر صحة منها إذا أسيء تطبيقها، فإذا استطاعت أن تؤسس في الاتحاد السوفييتي حلقة اقتصادية تستطيع الانغلاق على نفسها، بينما لا نرى العالم الإسلامي يسعى إلى تحقيق اقتصاد تكاملي، فلا يعني هذا إلا أن الشيوعيين يطبقون الفكرة الماركسية بجدية أكثر مما يطبق المسلمون إسلامهم.
فالنتائج خصوصاً في الحقل الاقتصادي، تتحقق على أساس عوامل اجتاعية صرفة تضفي على الأفكار المطبقة أكثر أو أقل صلاحية.
وحسبنا أن نقول إن الأسباب التي تطبع سلوك المسلمين لتكون أفكارهم أقل فعالية في الحقل الاقتصادي من أفكار غيرهم، نقول إنها أسباب مرحلية، أعني ملازمة للمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع الإسلامي اليوم.
وعلى المسلمين أن يتخلصوا منها في أوجز مدة ممكنة، بالطرق التي يفرضها عصر تسريع التاريخ، وهذا يعني، في مجال الاقتصاد، أن يوحدوا إمكانياتهم وحاجاتهم حتى يحققوا في أسرع ما يمكن شروط الاكتفاء الذاتي ( Lantarcie) أي الحلقة الاقتصادية التي تستطيع الانغلاق على نفسها، إذا ما اقتضت الضرورات الداخلية والخارجية ذلك.