المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي - المسلم في عالم الإقتصاد

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي

‌الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي

لو دمرت مدينة كبرى مثل نيويورك، على أثر زلزال شديد، فإننا سوف نرى بكل تأكيد إعادة بنائها.

ولو سألنا أحد: هل الولايات المتحدة تستطيع ذلك؟ فلا نتردد في الجواب بنعم، دون أن نقدر في ذلك على أي أساس قررنا جوابنا، بينما لو تأملنا في السؤال المطروح حسب المقتضيات الاقتصادية التي يفرضها مشروع ضخم كإعادة بناء مدينة نيويورك لترددنا قليلاً وما تسرعنا في جواب يحتمل صورتين:

1) هل تستطيع الولايات المتحدة القيام بالمشروع الذي نعنيه بمجرد طاقتها المالية؟

2) أم تستطيع ذلك بفضل وسيلة أخرى؟

يجب للتوضيح أن نصوغ الاحتمال الأول صياغة أخرى تفيدنا أكثر من الناحية العملية.

فنقول:

- هل تستطيع أميركا شراء مدينة مثل نيويورك بكل محتوياتها الإسكانية، والصناعية والفنية لتعوض بها ماحطمه الزلزال؟

فالسؤال في هذه الصورة، يفرض علينا بعض التريث حتى لا نتورط في جواب لا يقره الواقع.

إن واقع الولايات المتحدة بالنسبة للقضية المطروحة، هو أن رصيدها

ص: 73

لا يتعدى منذ سنة 1969، عشرة مليارات دولار من الذهب، أي إن طاقتها المالية المقدرة بما لديها من ذهب، لا تفي بمبالغ المشروع ولا تغطيها، لأن تثمين مدينة نيويورك، مع محتوياتها الاجتماعية، سوف يكون فوق هذا الإمكان المالي مقدراً بالذهب.

ومن هنا يتبدى لأذهاننا أمران:

1) إن أميركا لا تستطيع بإمكانها المالي أن (تشتري) مدينة نيويورك.

2) بينما تستطيع بإمكانها الاجتماعي بناء أو إعادة بناء مئات مدن مثل نيويورك.

إننا نقرر الأمر الأول على أساس الأرقام التي قدمناها بخصوص الرصيد الذهبي الأمريكي، أما الأمر الثاني فإننا نقرره على أساس تجارب متنوعة، وبوجه خاص تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

إن الشعب الألماني وجد نفسه بعد عام 1945، في وضع يجعله يعود إلى الحياة من دون أي سلطان مالي، أو لا يعود إن كان المال هو الوسيلة الوحيدة لإعادة بناء وطن كثيف الصناعة، قد دمرته الحرب تدميراً شاملاً.

وإذا بنا نراه قد عاد، وأعاد بناء كل مدنه المدمرة وصناعاته الضخمة وكل نشاطه الاقتصادي، وذلك بما تبقى لديه من وسائل بسيطة تمثل الإمكان الاجتماعي في الظروف العصيبة، أو ظروف الشر على حد سواء.

وعليه وعلى أساس تجربة واقعية، تجربة ألمانيا، أو على أساس تقديم الرصيد المالي الأمريكي بالنسبة إلى إمكان إعادة بناء مدينة نيويورك، فرضاً، نرى - بالأرقام أو بما رأينا في ألمانيا- أن الإمكان الاجتماعي هو الذي يقرر مصير الشعوب والمجتمعات والدول.

ص: 74

ومن هنا تبتدئ ملاحظاتنا على موقف البلدان، في العالم الثالث على العموم، وفي العالم الإسلامي خاصة، تجاه هذه القضية.

إننا رأينا بعض المشروعات تقوم، بعد الحرب العالمية الثانية، في عدد من هذه البلدان، من أجل النهوض بها اقتصادياً؛ ورأينا على الرغم من فقر هذه البلدان من الناحية المالية، أن المشروعات قامت فيها، في الحقيقة، على أساس الاستثمار المالي، حتى في البلاد التي تبنت المبدأ الاشتراكي.

والمناقضة التي تلفت نظرنا في هذه القضية ليست من الناحية النظرية، بوصفها تعارضاً بين تقرير مبدأ مذهبي كالاشتراكية مثلاً، وبين اختيار وسيلة تطبيق تخالف هذا المبدأ، وإن كانت هذه المناقضة أيضاً تلفت النظر، وإنما تهمنا قبل كل شيء المناقضة العملية- البراجماتية- عندما نرى بلاداً فقيرة ترسم خطة نهضتها الاقتصادية على أساس المال، وهي تفقده فلا يمكنها إلا السير البطيء في إنجاز مشروعاتها، أو الاستسلام إلى إرادة الرأسمال كي يقدم لها القروض المناسبة على شروطه، لتسلم المبادرة في تحديد طبيعة الخطة إلى إرادة خبراء أجانب، غير مرتبطين بمصير البلاد التي يخططون لها، مثل أولئك الذين أنيطت بهم (النقطة الرابعة) بعد الحرب العالمية الثانية فطبقوها في العالم الثالث بطريقة لم تحقق أي نتيجة في المجال الاقتصادي، لأنها لم تحرك الإمكانيات الطبيعية في البلاد، وليس هذا فحسب، بل جمدت حتى الإمكان المالي المتخصص لمشروعاتها، لأنها صرفته في جوانب إدارية لا تسمن ولا تغني من جوع، عندما ينطلق النشاط الاقتصادي من نقطة الصفر.

لذلك لم تكن بالتالي لهذه المشروعات نتيجة تعد، سواء بالنسبة إلى بداية نشاط اقتصادي يرفع بالتدريج كابوس التخلف عن هذه البلاد، أو بالنسبة إلى تكوين خبرة ما، تكون في صورة وعي اقتصادي ينمّي حتى في التجارب

ص: 75

الفاشلة، رصيداً نفسياً تنطلق منه تجارب أخرى يتأكد فيها أكثر فأكثر، النجاح.

إن الصين تقدمت اقتصادياً بسرعة مرموقة، لأنها طبقت منذ اللحظة الأولى في خطط تنميتها، مبدأ الاتكال على الذات، أي بالتعبير الاقتصادي مبدأ الاستثمار الاجتماعي من الإنسان الصيني، والتراب الصيني، والزمن المتوفر في كل أرض.

كما طبقت من ناحية أخرى مبدأ الاستفادة حتى من التجارب الفاشلة، مثل تجربة التعدين ( Métallurgie) الريفي، في نطاق ما أسموه (الوثبة إلى الأمام)، فقد استفادت الصين من هذه الخطوة الخاطئة على الأقل مزيداً من المعلومات الفنية في تكنولوجية الحديد، كما استفادت من الناحية النفسية، ما كوّن بين أهالي الريف وأهالي المدن المصنعة، شبه قاسم مشترك في مجال التصنيع، فارتبطت المزرعة والمصنع في نشاط ينهض بالريف والمدينة على حد سواء.

وإنما كانت المزرعة الصينية، ولا تزال فيما أعتقد في المرحلة الحالية، رائدة النهضة الاقتصادية في البلاد، فقد استطاعت بفضلها الصين أن تستثمر 16% من المحصول الوطني السنوي ( PNB) في التصنيع، ولا ندرك تماماً ما يعبر عن هذا الرقم إلا إذا قرنّاه بما استثمرت الهند، مثلاً، في الفترة نفسها أي 20%.

ولن نستفيد، كل الاستفادة، من هذه الموازنة إلا إذا أخذنا في الاعتبار نوعية الاستثمار الذي يتصل به الرقمان كلاهما: فالصين خططت طريقة تنميتها على أساس الاستثمار الاجتماعي، بينما الهند خططت على الأساس المالي.

فالصين وضعت كل تبعيات التنمية على كاهل الشعب، فعوضت بطاقاته الحيوية الموجودة بقدر الإمكان، الطاقات الميكانيكية المفقودة، حتى في المشروعات الكبيرة الحجم، أي أنها عوضت، بقدر الإمكان، الإمكان المالي

ص: 76

بالإمكان الاجتماعي تعويضاً جعلها رائدة العالم الثالث بلا جدال، وجعلها عامة، تحصل على خبرة فريدة في العالم في مجال توظيف الإنسان والتراب والزمان.

والعبرة في هذا ليست فحسب من الجانب الاقتصادي، بل ومن الجانب التربوي، لأن الإنسان الذي يمارس هذا العمل المشترك يدرك من خلال ما يتحقق على يده في المزرعة أو في المصنع أو في ورشات التشييد، أنه يستطيع فعلاً تحويل الجبال مثل جدّه الاسطوري (يوكنج Yukong) ليذوب في مفهومه المستحيل، وتزول من نفسه العقد التي تعطل النشاط منذ المنطلق، ومن فكره المسلمات الوهمية التي تضع على عمله نوعاً من الرصد، يجعله عملاً مشروطاً، أي مقيداً بشروط غير طبيعية.

فالعالم الإسلامي ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية، وتخلصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، من خرافاتها وعقدها ومسلماتها الوهمية.

يجب أن تتضمن النهضة الاقتصادية هذا الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى، بوصفه وسيلة تتحقق بها خطة التنمية، ونقطة تلاقٍ تلتقي عندها كل الخطوط الرئيسية في البرامج المعروضة للإنجاز.

وتجدر هنا الملاحظة بأن برامج الاستثمار في البلاد الإسلامية، لا زالت بعيدة على وضع الإنسان في هذه الرتبة، بوصفه وسيلة تتغير هي ذاتها في فعاليتها بقدر ما تحدث، من تغيرات في نطاق النمو الاقتصادي.

ويكفينا لتأييد هذه الملاحظة، أن نلفت النظر إلى المشروعات التي تنشأ فكرتها تحت شعار الاشتراكية أحياناً، بينما نراها تدخل حيز الإنجاز على أساس الاستثمار المالي، كأنما أفكارنا لا تستطيع بعدُ التفاعلَ مع الواقع.

ص: 77

وربما يفسَّر هذا، على نحو التفسير الذي قدمناه في كتاب سابق (1) لحالات شبيهة، أي أن عمرنا النفسي لا يزال يضع فاصلاً بين عالم أفكارنا وبين واقعنا الاجتماعي، فتفقد حتى أفكارنا المقررة في السياسة وظيفتها في التطبيق والعمل.

وإن كان هذا التفسير صحيحاً نُضف: إن الأمر طبيعي. لأن مجتمعات أخرى- مثل الهند- تعاني العرض المرضي نفسه (2).

ولكننا لا نجد في ذلك عذراً للبقاء على ما نحن عليه، وإنما نريد فقط ألا يوضع المسلم تحت كابوس، عندما نكشف على بعض جوانبنا المرضية.

بل يجب علينا، خصوصاً في هذا المجال الاقتصادي، أن تكون أفكارنا متصلة بواقعنا: فلا نقول بأفواهنا إن اثنين واثنين أربعة، ثم في التطبيق نتصرف كأنما تساوي ثلاثة.

لا يكفي كذلك أن نشيد في عالم الاقتصاد بأفكار معينة- مثل الاستثمار الاجتماعي- إذا كانت مشروعاتنا تطبق ما يخالفها، مثل استسلامها إلى سلطان المال.

(1) كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).

(2)

تدل على ذلك بعض التحقيقات تحت إشراف هيئة الأمم على طرق الفلاحة في الهند 1968

ص: 78