الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدود التفسير الاقتصادي البحت لتوزيع الإمكانات
إنه لجدير بنا أن نتأمل الخريطة التي قدمناها في الفصل السابق، ونتساءل عن سبب التوزيع الغريب الذي نجد صورته في شكل قارتين.
ومن طبيعة الحال أن يأتي جوابنا إذا تسرعنا على أساس تقدير الأشياء من الزاوية الاقتصادية البحتة، قد نقول: إن السبب في ذلك يعود إلى وجود الصناعة في القطاع الشمالي من الكرة الأرضية وفقدانها في الجنوب.
فهذا الجواب وجيه إلى حد ما، وتترتب عليه النتيجة النظرية التي تخللت كل الدراسات التي استهدفت النهوض بالجنوب، وكل المخططات السياسية التي طبقت من أجل ذلك في العالم الثالث، بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن.
ولكن الإحصائية التي تناولناها في الفصل السابق تدل دلالة واضحة أنه لم يتغير شيء نسبياً في صورة توزيع الإمكانيات المادية في العالم، على الرغم مما بذلته، في تلك الفترة، البلدان المتخلفة من أجل نهضتها الاقتصادية.
بل يلاحظ بعض المراقبين للشؤون الاقتصادية في البلدان المتخلفة أنها قد ازدادت تخلفاً، في الفترة نفسها، وأن البلدان المتقدمة ازدادت تقدماً، دون أن يشذ على هذه الظاهرة إلا الصين.
إذن يجب علينا أن نعيد النظر في القضية سواء بالنسبة للبلاد المتقدمة أو البلاد المتخلفة، وأن نستفيد من التجارب الأخيرة في العالم، التي تعطي وجوه، لموازنة سليمة بين بلد إسلامي مثل إندونيسيا في الجنوب، وبلد آخر في الشمال مثل ألمانيا، إذ نرى البلدين يشرعان في النهوض الاقتصادي، من نقطة انطلاق
نراها أسوأ بالنسبة لألمانيا إذا ما قدرنا أنها تنطلق من نقطة الصفر، فاقدة كل وسائل الإنتاج الصناعي التي حطمتها الحرب؛ وما تبقّى منها إلى يوم 8 أيار (مايو) 1945، نرى الحلفاء يفككونه وينقلونه خارج البلاد، طبقاً لاتفاقية (بوتسدام)، فبقيت ألمانيا فاقدة كل وسيلة إنتاج صناعي، بل فاقدة سيادتها أيضاً ومضطرة أن تعيش على أرض فقيرة من الناحية الفلاحية، ترزح تحت أكبر احتلال عسكري في التاريخ.
بينها نرى إندونيسيا في الفترة نفسها تستعيد سيادتها الكاملة، حرة في كل تصرفاتها الداخلية والخارجية، وتشرع في تطبيق مخطط أجدر خبير هو الدكتور (شاخت)، الذي وضع لها خطة تنمية قائمة أساساً على موارد أخصب بلاد الله على وجه الأرض.
إن نتيجة الانطلاقتين والموازنة بينهما، ستكون واضحة في برهة وجيزة من الزمن، إذ سنرى:
1) ألمانيا لا تستعيد مركزها الاقتصادي في العالم فحسب، بل تضيف إليه مكتسبات جديدة، تجعلها من الدول الرائدة اقتصادياً، وتضع عملتها في مصف العملات الصعبة التي ينتظر منها أحياناً نجدة الدولار، عندما يفقد النفس في السوق العالمية.
2) بينما تخرج إندونيسيا من تجربتها في تطبيق مخطط (شاخت)، ليس فحسب من دون أي حصيلة في الميدان الاقتصادي، بل متورطة نفسياً في الشعور بالهزيمة أمام واقع مرير.
فهذه الموازنة الجزئية تجعلنا، إذا ما أردنا أن نقرر شيئاً، أن نقرر عن جدارة أن فقدان الصناعة لا يفسر كل شيء في عالم الاقتصاد.
ويبدو إذن منذ الآن أن التفسير الاقتصادي وحده، لا يفسر الظاهرة التي
انطلقنا منها في الفصل السابق، ومن هنا نبدأ ندرك أن حدود هذا التفسير وحده ضيقة جداً، كما سنزيد في توضيح ذلك. فإذا عدنا للسؤال الذي أوردناه في صدر هذا الفصل، نجد أننا قد قدمنا له ما يسمى (جواب البديهة) أي الجواب الذي قلما يصيب وكثيراً ما يخطئ في المجال العلمي، ولكنه أعطانا فرصة التنقيب في تجربتين متعاصرتين ومعاصرتين لنا.
ويبقى السؤال مطروحاً بصدد كيفية توزيع الإمكانيات الاقتصادية في العالم، لماذا وعلى أي أساس يقوم ذلك التوزيع؟
إن جوابنا بـ (التصنيع) لم يقنعنا، لأن سؤالاً آخر يبقى بعده: لماذا انطلق العهد الصناعي في القارة الشمالية منذ بدايته، أي منذ اكتشاف الطاقة البخارية؟
إن ظاهرة البخار تحت الضغط صاحبت تاريخ الإنسانية منذ اكتشاف الآدميين للنار، دون أن يلتفت أحد منهم إلى إمكان استخدام هذه الظاهرة مصدراً للطاقة حتى أتى عصر (دنيس بابان Denis Papin) و (واط Watt) اللذين سخرا تلك الطاقة الهائلة التي دفعت الإنسان في العهد الصناعي.
إن أحداً لا يتصور حدوث هذا الاكتشاف فقط في حدود عقل إنسان اسمه (دنيس بابان) أو (واط)، وإنما وقع بسبب تغيير جدري حدث في المناخ العقلي الأوربي كافة، منذ ما يسمى بـ (النهضة) وخصوصاً منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، أي مباشرة بعد اكتشاف أمريكا وآلة الطباعة.
وإذا كان (ديكارت) في القرن السابع عشر، أو من ترجم هذا التغيير الشامل في المناخ العقلي الأوربي إلى منهج تفكير، فلأنه ولد في هذا المناخ وترعرع فيه، وتأمل فيه فكان من الطبيعي أن تأتي نتيجة تأملاته في كتابه (مقال عن المنهج) كما أتت، في تلك العبارات التي تعلن المنعطف الجديد الذي اتخذه الفكر الأوربي.
يقول (ديكارت) مما يقول في (مقال
…
):
" إنه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقاً نافعاً في الحياة، فتترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستسية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، وكل الأجرام التي تحيطنا، أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة، لنتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها".
إن هذه الكلمات ليست إلا عصارة المناخ العقلي الجديد يعصرها رجل عبقري، ما كان يصفيها قبل أوانها في التطور العالمي الشامل، أحد غيره، وما كان أيضاً لأحد قبل (دنيس بابان) و (واط)، أن يستخرج منها نتائجها التطبيقية، مثل الطاقة البخارية وما استتبعت في عالم الاقتصاد حتى عهد التوزيع لمتوسط الدخل الفردي السنوي، على الشكل الذي قدمنا صورته في الفصل السابق.
وإذن فالتفسير الاقتصادي للأوضاع الموجودة في العالم، من تقدم وتخلف، لا يعطينا فكرة صحيحة عن كيفية معالجة التخلف، لأنه يربط الأشياء بأسباب قاصرة، لا يمكن لتجربة ناجحة أن تقوم على أساسها، لا في إندونيسيا ولا في غيرها من البلاد الإسلامية.
ومن هنا يتضح لنا، كم يجدر بمن يتصدى لقضية التخلف في العالم الإسلامي ألا يطرحها ضمن نطاق اقتصادي يضيق غالباً عن تقديم الطريق الأيسر لحلّها، خصوصاً إذا اقترنت النظرة الاقتصادية بانتظار المال من الخارج، حتى إذا أتى يكون غالباً ورطة سياسية، وإن لم يأت يكن بمثابة معطل لقيام النهضة.
بل يحسن بمن يهتم بهذه القضية أن ينظر فيها النظرة الشاملة، حتى ترتبط الأشياء الاقتصادية بجذورها الاجتماعية الثقافية البعيدة، على الأقل في أذهان
أصحاب الاختصاص كي تشمل نظرتهم في التصنيع، الذي لابد منه، فكرة واضحة عن القيم الإنسانية الضرورية لنجاح المشروع.
فإذا فكرنا، على سبيل المثال، فيما يسمى (تغطية) المشروع ( Amortissement) ندرك مباشرة عن طريق الأرقام أن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان.
ويمكن القول بقدر ما استفدنا من تجارب العالم الثالث في العقود الأخيرة، إن إهمال أو تجاهل قضية الإنسان هي من الأمور التي أفقدت هذه التجارب الشرط الأساسي لنجاحها مثل ما حدث لمخطط (شاخت) بإندونيسيا.
***