الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد في التجارب الحديثة
يعرض لمجتمع أن يُعدّ، من أجل مشكلة، ما يراه صاحب اختصاص ملازماً وكافياً لحلها، ثم يفاجأ بأنها لم تحل على هذا الأساس.
ونستطيع أن نقول إن المجتمع الإندونيسي عاش في أواخر الأربعينات مثل هذا الظرف، وعاشه معه خبير يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور (شاخت).
ولا شك أن فشل مخططه في النهوض باقتصاد إندونيسيا كان أمراً لم يتوقعه، لما التزم فيه من دقة فنية من ناحية، ولما توافر في نظره من وسائل مادية وبشرية كفيلة بتحقيقه. في رقعة منّ عليها الله بأخصب تربة تنبت من كل أنواع الخيرات، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها مئة مليون من العباد يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف.
ومع كل هذه المعطيات فشل المخطط، فشلاً ربما جعل صاحبه يراجعه ولكن لم يترك لنا الدكتور (شاخت)، فيما أعلم، نتيجة هذه المراجعة.
فيبقى لنا الحق إذن في طرح سؤال: ما هو الأمر الذي تعثّر به مشروع شاخت حتى فشل؟
إننا، في الحقيقة، نراجع تكوين شاخت بوصفه عالم اقتصاد تكونت خبرته في نهوضه بالاقتصاد الألماني خلال الفترة مابين 1933 - 1936، إذ كان المخطط
مستمداً من تراب ألمانيا الفقير ومن استعدادات الشعب الألماني ليفي بشروط النجاح كلها، وقد نجح فعلأ النجاح الذقي خؤلط ألمانيا أن تواجه اقتصادياَ أقسى الظروف العسكر ية والدنية أثناء الحرب العالمية الثانية، وتصد فيها.
ولا شك أن (شاخت) وضع نحططه على الشروط التي يقدمها الشعب الألماني مباشرة وبطريقة آلية أثناء مرحلة التطبيق، ثم لاشك في أنه طبق هذه الشروط آلياً في التجربة الإندونيسية، أي أنه وضع نحططه على معادلته الشخصية بوصفه فرداً من المجتمع الألماني؛ بينما ستجري التجربة الإندونيسية بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الإندونيسي فتعثرت التجربة الإندونيسية بسبب خطأ مخططها (شاخت) في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي، لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.
بينما الواقع الإنساني لا يفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين:
1) معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، ليستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد عن الآخرين.
2) ومعادلة اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر وفي مجتمع واحد تختلف من عصر إلى آخر حسب الاختلاف في درجة النمو أو التخلف.
فأما المعادلة الأولى فهي موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وميزه على العالمين بالتكريم، فهي منحة منه، عز وجل، إلى البشر كافة.
أما المعادلة الثانية فهي هبة المجتمع إلى أفراده كافة، بصفتها القاسم المشترك يطبع سلوكهم ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات تحديداً يميزهم عن أفراد مجتمع
آخر، أو عن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافياً لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلة اجاعية أخرى.
ويجب القول إن مصادر المعادلة الاجتماعية، من الناحية الاقتصادية، اثنان: 1 - المجتمع الذي أسميناه القارة الاقتصادية الشمالية 2 - والمجتمع الذي أسميناه القارة الجنوبية، كلاهما يطبع سلوك الأفراد فيه بدرجة معينة من الفعالية، وبذلك نستطيع أن نعدّ هذه الفعالية مقياساً لقدرة الفرد، بحسب بيئته، على الهيمنة على أسباب الحياة الاجتماعية، قدرة تختلف اليوم من محور واشنطن- موسكو (القارة الشمالية) حيث يسود الإمكان الحضاري، إلى محور طنجة - جاكرتا حيث يفقد هذا الإمكان، كأنما تتدخل ضمناً مجموعة شروط أولية في تحديد مواقف الفرد أمام المشكلات، وبالتالي في تحديد نتائج هذه المواقف.
فهذه المجموعة من الشروط تكوّن ما نسميه المعادلة الاجتماعية، التي تشرط بطريقة ضمنية مواقف الفرد ونتائجها، لتخضع هذه النتائج إلى نوع من الحتمية ربما تمجها حساسيتنا.
ولكن لعلنا إذا أدركنا طبيعة هذه الحتمية، ندرك مدى سلطانها على تصرفنا في الوقت الراهن، ومدى حريتنا معها إذا ما صممنا على تغيير معادلتنا الاجتماعية على الطريقة التي أتاحت تغييرها لمجتمعات أخرى، مثل اليابان في أواخر القرن الماضي والصين في منتصف هذا القرن.
فلنفترض فرضين:
1) إن مولوداً أتى على محور واشنطن - موسكو: سيخضع قطعاً، منذ اللحظة الأولى، إلى قانون الأعداد الكبرى، أي إلى القانون الإحصائي. إنه سيكون له- في التعليم ورعاية الصحة طفلاً، وفي العمل رجلاً- حظ من نسبة نشر التعليم، ورعاية الصحة والعمل على محور ولادته، أي فوق 90%.
2) إن مولوداً أتى على محور طنجة - جاكرتا: سيخضع أيضاً إلى القانون الإحصائي: أي إن مصيره سيتحقق على نسبة ما دون 40% من التعليم ورعاية الصحة والعمل، أي أنه سيتحقق على مستوى مواهبه المطابقة لمعادلته البيولوجية، ولكن على نسبة المعادلة الاجتماعية لمن سبقه في مجتمعه، فإذا ولد في الهند، مثلاً، فإن له 25% من الحظ أن يكون منبوذاً و 75% من الحظ أن يكون عاطلاً عن العمل، مهما كانت مواهبه الشخصية، لذلك يتبين من خلال هذين الفرضين بأن تصرف الفرد مقيد بشروط اجتماعية سبقته إلى الوجود، وبالتالي إن فعاليته مشروطة بمعادلة اجتماعية يجدها في مهده، وهي تفرض على سلوكه نوعاً من الحتمية لا يتخلص منه إلا بعملية تغيير لمعادلته الاجتماعية، كما حدث ذلك في اليابان أثناء ما يسمونه بالعهد الميجي، وفي الصين أثناء الثورة، والثورة الثقافية بوجه خاص.
فالشعوب التي تعيش على محور الشمال قد سوّت مشكلة المعادلة الاجتماعية بطريقة تلقائية، مع التجارب التي تتابعت منذ بداية العصر الصناعي، حتى أدت إلى ظهور (تايلور)، الذي وضع مذهبه (التايلورية) تتميماً لما صنعته الأيام في جوهر المعادلة الاجتماعية التي كان هو نفسه وأفكاره في تنظيم الإنتاج، إحدى نتائجها.
ولم يكن الدكتور (شاخت)، هو الآخر، إلا إحدى هذه النتائج، قد تلقى تلقائياً المعادلة نفسها كأي فرد ألماني، وأصبح يطبقها تلقائياً حتى في غير مكانها، مثلاً في مخططه الإندونيسي، دون أن يفكر أن المجتمع الإندونسي لا زال في حاجة إلى من يصنع له معادلة اجتماعية تخوله القيام بإنجاز أي عمل يقتضي نسقاً وتنسيقاً فردياً أو جماعياً.
فنستطيع القول إن مخطط (شاخت) قد فشل في إندونيسيا، مع توافر
الشروط الفنية والمادية كلها، لأنه فقد شرطاً ضمنياً ليس من اختصاص رجل الاختصاص في الاقتصاد أن يفكر فيه.
وإنما يبدو أن الدراسات التي قامت منذ العقد الأخير في مجال التنمية الاقتصادية في العالم الثالث، بدأت خصوصاً بباريس، كأنها تعنى بهذا الجانب الذي نسميه المعادلة الاجتماعية، مهما يكن الاسم الذي تخصصه لهذا الجانب، ومهما كانت طريقة تفسيره عندهم.
ومما يجدر بالذكر أن بعض الجهود من أبناء العالم الثالث بدأت تسهم في هذا الاجتهاد الجديد وتثريه بنتائج تجارب تفيد بفشلها أو بنصف نجاحها، كالتجربة التي يذكرها بالتفصيل رجل اختصاص في الزراعة في الهند؛ يذكر كيف عمل مع مستشارين فنيين من هيئة الأمم المتحدة، طوال خمس سنوات، تحققت فيها بعض النتائج الإيجابية على أساس الطرق الفنية التي طبقت أثناء إشراف المستشارين بينما تعود التجربة- حسب تقرير الاختصاصي الهندي الذي نشير إليه- إلى الطرق التقليدية فور انسحاب الخبراء الأجانب.
وإذا كانت هذه التجربة تعني شيئاً من الناحية التي تعنينا، فإنما تعني أنها سارت على أساس معادلة اجتماعية خاصة بالخبراء الأجانب المشرفين عليها، وأنها عادت تسير طبقاً لمعادلة أخرى، معادلة المجتمع الهندي، مجرد أن انسحب الخراء.
وقد تتكرر هذه الظاهرة في صور مختلفة، في كل مجالات النشاط، حتى في المجال العلمي، كما ذكر لي ذلك أحد إخواننا المهندسين الجزائريين وهو يحضر رسالة دكتوراه بأوربا، وكانت بيني وبينه صلة فكرية، وقد سبق أن كان بيني وبينه حديث في الموضوع، فأراد أن يذكر لي ما عنده شخصياً في مختبره إذ كان يلاحظ، على الرغم من تفوقه من الناحية النظرية على زملائه، أنه كان في الناحية التطبيقية، أي من ناحية استخدام أدوات التجربة العملية، يعاني شيئاً
من عدم الثقة في تلك الأدوات، فكانت عقدته أو عقده تعطل النتيجة أو النتائج التي يصل إليها عقله قبل الآخرين.
فهذه القصة هي أخت القصة التي يذكرها الاختصاصي الهندي، على الرغم من الاختلاف الظاهر بين المجالين؛ فالقصتان لا تختلفان إلا في الشكل، هذه كتجربة في مختبر مواد بلاستيك، وتلك في مجال الالكترون المطبق في الفلاحة، ولا تختلفان في المصدر الاجتماعي- النفساني، لأن كل واحدة تدل على أن تكوين الخبير الهندي والخبير الجزائري لم يمنحهما الهيمنة الكاملة على أدوات عملهما العلمي، بينما مستواهما العلمي النظري- على الأقل فيما يخص الخبير الجزائري- يبدو رفيعاً جداً.
ويجدر الذكر هنا بأنني كنت معجباً بالخبير الجزائري، وهو يقص لي قصته، إذ كنت أراه يشعر كامل الشعور بالعقدة التي كان يعانيها، كمن يعيش محنة.
وعلى أية حال فالقصتان تعبر كلتاهما على أن العمل العلمي أيضاً يتطلب معادلة اجتماعية لا تتكون تلقائياً في الدرجات الجامعية، بل يهبها المجتمع نفسه للأفراد، بين العادات والتقاليد التي يفطر عليها الطفل منذ مهده، ويحرم منها الطفل الذي يولد في مجتمع آخر لم تتكون فيه بعد معادلة اجتماعية، أو فقدها لأسباب تاريخية- اجتماعية معينة مثل المجتمع الإسلامي اليوم.
إذا طرحنا مشكلة كيفية تكوينها، نراها تتكون بطريقتين: إما أن تصنعها الأيام بتكرار التجارب التي تتحول بالتدريج إلى عادات مستقرة تطبع تلقائياً السلوك الفردي والجماعي بطابع الفعالية، وإما أن تتكون تحت إشراف إرادة هادفة تريد ما تفعل وتفعل ما تريد لمواجهة ظروف وضرورات قاسية.
فلا شك أن المجتمع الغربي يتمتع بمعادلة اجتماعية صاغتها بالتدريج الأيام،
بل القرون، وربما تكملها أفكار جديدة مثل أفكار (تايلور) في القرن الماضي.
أما المجتمع الصيني فإنه يصنعها اليوم بيده، تحت إشراف إرادة متوترة، أعني تحت ظروف قاسية تضع الضمير في كل فرد فيما نسميه (حالة إنقاذ).
وقد سبق في هذا المضمار المجتمع الياباني، الذي صنع هو الآخر بيده معادلته الاجتماعية لمواجهة (حالة إنقاذ) كان واجهها منذ قرن، عندما دق بابه (الكمودوربيري) سنة 1853م.
فالمجتمع الإسلامي في حيرة بين أمرين:
1) إما أن يترك الأيام تصوغ معادلته الاجتماعية أو تعيد صياغتها لتمكينه من مواجهة التحدي الذي يوجهه له عالم اقتصادي غريب عنه، وهذا طريق طويل تعبّده تجارب ومحن مثل التي عاشها الخبير الجزائري في مخبره، أو مثل التي عاشها الشعب الإندونيسي أيام تطبيق مخطط (شاخت).
فهذه التجارب، حتى الفاشلة منها، تكوّن بتكرارها وبالتدريج العادات المستقرة التي تصير بالتالي (معادلة اجتماعية)، تطبع النشاط بالفعالية الضرورية في عالم اقتصاد خاضع لمقاييس الضبط والإنتاج.
2) وإما أن تطرح المشكلة صورة منهجية مثلما فعلت اليابان والصين، أو مثلما فعل (تايلور) ومدرسته في الغرب الذي اكتملت معادلته الاجتماعية في صورة النظرية (التايلورية).
فالعالم الإسلامي يواجه اليوم "حالة إنقاذ" أو- كما يقال في مصطلح العسكريين- يواجه (حالة طوارئ) تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في المجال الاقتصادي، كما تتخذ قيادة عسكرية قراراتها لمواجهة ظروف استثنائية.
***