المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد - المسلم في عالم الإقتصاد

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد

‌الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد

إن التغيرات التي نشاهد نتائجها بعد مدة طويلة في عالم الاقتصاد، أحياناً، هي في جوهرها تغيرات حضارية تعتري القيم والأذواق والأخلاق في منعطفات التاريخ، فتتغير معالم الحياة بتحول الإنسان نفسه في إرادته واتجاهه عندما يدرك معنى جديداً لوجوده في الكون.

وهذا التحول لا يؤثر في عالم الأشياء، ولا في المعقولات التي يتضمنها عالم الأفكار بوصفه أنماطاً تطبيقية ( Modalités opératoires)، أي لا يؤثر في عالم الاقتصاد بنوعيه- الشيء المصنوع والفكرة الدالة على طريقة صنعه- ما لم يؤثر في محتوى النفوس ذاتها، طبقاً للآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11].

ولو تدبر أهل الاختصاص في الاقتصاد من المسلمين هذه الآية، أدركوا أنها تضع هذه القضية وغيرها مما يخص أوضاع المجتمعات أولاً في مستوى تغير مسوّغات الوجود في المجال النفسي، وفي كلمة واحدة وبصورة أوضح في المستوى الحضاري.

ولو تدبروا أيضاً بعض الدراسات المتعمقة في البحث عن جذور الاقتصاد، لوصلوا إلى النتيجة النظرية نفسها، أي أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات.

إن دراسة من هذا النوع تفيد قطعاً في تطعيم بعض الأفكار الاقتصادية، إن

ص: 59

لم يكن في تعديلها، حتى تكون في الحالتين كلتيهما أقرب من واقع الإنسان الذي نحاول تدعيمه أو تغييره في المجال الاقتصادي، حسب الظروف.

إن مصادفة سعيدة، جعلت تحت يدي، وأنا أحرر هذا الفصل دراسة لـ (جون نيف J. nef) ألفها محاضرات ثم نشرها في كتاب تحت عنوان (الأسس الثقافية للحضارة الصناعية).

إن هذا الأستاذ تناول موضوع الاقتصاد من جذوره، فتراه يعالج في صلب موضوعه قضايا، ربما لا يتفق كثير من أصحاب الاختصاص في بلادنا، بأن لها اتصالاً وثيقاً بموضوع الاقتصاد، لأنه سبق في أذهاننا أنه موضوع (الكم) والإحصائيات، فتراه مثلاً يعقد فصله الأول لـ (حركات الفكر) بين 1570 - 1660، ويعقد فصلاً آخر لـ (الإصلاح الديني

).

ولكنني لست بصدد تعريف المسلم المتورط في عالم الاقتصاد، كيف نشأ هذا الاقتصاد على أسس حضارة غيره. بل أحاول أن أدله على طريق لحل أزمته الراهنة. على الأقل في المجال الفكري، لتكون له بعد ذلك الخيرة بين أفكار واضحة.

إن الدارس الغربي مثل (جون نيف)، يدرس الأشياء من الناحية الوصفية كما هي، لأنها واقع شاخص أمام عينيه، وكل أسباب هذا الواقع سابقة في التاريخ عن جيله، فيكفيني أن يصف الأشياء بصدق، أي أن يحللها بدقة، ليفيدنا بقدر توفيقه في الوصف والتحليل.

ولكننا نواجه القضية من زاوية أخرى، يضطرنا لذلك واقعنا الخاص، أي يجب علينا أن نواجه هذا الواقع لا بأسلوب من يصف شيئاً موجوداً، بل بأسلوب من ينشئ شيئاً مفقوداً، أو يحاول إنشاءه طبقاً لأسباب ما زالت فاقدة التأثير في مجتمعنا.

ص: 60

إن الاقتصاد- مهما كانت توعيته المذهبية- هو تجسيم لحضارة، على شرط أن نحددها بصفتها مجموعة الشروط المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يقدم جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه.

فهذا التحديد الوظيفي يجعلنا نرى في الحضارة جانبين: الجانب الذي يتضمن شروطها المعنوية، في صورة إرادة تحرك المجتمع نحو تحديد مهماته الاجتماعية والاضطلاع بها، والجانب الذي يتضمن شروطها المادية، في صورة إمكان، أي أنه يضع تحت تصرف المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهماته، أي بالوظيفة الحضارية.

فالحضارة هي هذه الإرادة وهذا الإمكان. وبهذا نستطيع الآن التعبير عن الاقتصاد على أنه الصورة المحَسّة، لهذه الإرادة ولهذا الإمكان، في ميدان خاص هو ميدان الاقتصاد.

كما نستطيع أيضاً تقديم متوسط الدخل الفردي السنوي، الذي أعطانا مدخلاً لهذا البحث، على أنه مجرد تعبير عن الإمكان الحضاري، أو على الضمانات الاجتماعية بطريقة الأرقام.

وهنا يجدر بنا الوقوف عند العلاقة النسبية بين الإرادة الحضارية والإمكان الحضاري في الظروف الموضوعية، أي في الظروف الواقعية التي تواجه مجتمعاً منذ نقطة الانطلاق، أو في الحالات الشاذة التي تشبه نقطة انطلاق.

فلدينا تجربتان، الواحدة في تاريخ الأمة الإسلامية العربية، والأخرى في تاريخ أمة معاصرة هي ألمانيا.

فالأمة العربية في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت من نقطة الصفر من حيث الإمكان، لم يكن لديها شيء للاضطلاع بمهماتها الجسيمة، في المجال الاجتماعي والسياسي والعسكري، على حد سواء.

ص: 61

ولكننا نراها، ولا أحد ينكر هذا، تقوم بهذه المهمات دون إهمال ولا إرجاء حتى يكتمل إمكانها، نراها منذ اللحظة الأولى، وبالإمكان البسيط الذي بيدها في تلك اللحظة، وكأنها قادرة على كل شيء، وإذا بها تنفذ فعلاً كل خططها في كل المجالات، كأنما معامل ضرب Coefficient تدخّل في فعالية وسائلها البسيطة، فجعلها كافية لإنجاز المهمات من ناحية وجعلها تكتمل في آن واحد من ناحية أخرى.

يجدر بنا إذن، أن نقف عند هذا المعامل المضاعف، بوصفه شيئاً أساسياً في سر عمليات الإنجاز، فلا تتوقف هذه العمليات على شروط مادية مفرطة، كأنما تخلص إنجازها من شرط الإمكان.

نرى هذه الظاهرة أيضاً في عالمنا الحديث، فنرى دولة محطمة مثل ألمانيا تعيد بناءها من نقطة الصفر، أي بلا إمكان يعد بالنسبة إلى ما أنجز فعلاً.

وهنا أيضا نرى تدخل معامل مضاعف للإمكان، جعله منذ اللحظة الأولى في مستوى المهمات المنجزة. فهذا المعامل المضاعف هو الإرادة الحضارية بالذات، حتى إنه لو فقد في نشاط مجتمع، نراه وكأنما تجمدت وسائله مهما كان كلّها، وكأنما تعطل إمكانه مهما كان حجمه المادي.

فالعلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية علاقة سببية، تضع (الإرادة) في رتبة السبب بالنسبة للإمكان.

ولو عدنا إلى عالم الاقتصاد بهذه الاعتبارات، فإننا لا نراه عالم الكميات وعالم الأرقام إلا في الرتبة الثانية، أي بعدما تبعث فيه الإرادة الحضارية الحركة والحياة.

وإنما تتدخل الكميات والأرقام عندما تنطلق عمليات الإنجاز، ويتطلب إنجازها إشرافاً وتنظيما ورقابة، أي بقدر ما يكتمل الإمكان.

ص: 62

ولكن هذا الإشراف والتنظيم والرقابة، مع اعتبارها شروطاً ضرورية بقدر ما يتضخم الإمكان، لا تحقق على أية حال النجاح المضمون للاقتصاد إن افتقد إلى عامل نفسي أو روحي ينهض به على أنه التجسيم لإرادة حضارية.

ومن هنا تبدو لنا أهمية كتاب (جون نيف) في خاتمته، حيث يقول:

" إن اقتصاد الوفرة الذي يقاس بالكميات، والذي بدأ يسود خلال القرن التاسع عشر، في أجزاء من أوربا؛ الامبراطورية البريطانية وأمريكا، لم يكن، كما يعتقد علماء العصر الحديث عامة، السببَ الأساسي للتقدم الروحي والأدبي الذي حصل في الأزمنة الحديثة، إذ يبدو أن التقدم الروحي والأدبي الذي بدأ أثناء احتدام الحروب الدينية كان عاملاً رئيسياً في نشوء اقتصاد الوفرة هذا، إذ كان يتعذر حصول مثل هذا التقدم لولا المساعدة الإلهية التي منحت للروح، لكن كان لا بد لإرادة الإنسان، هذه الإرادة الحرة، من أن تطلب هذه المساعدة، وأن تجندها طوعا لمواجهة المسائل في تلك الميادين من التجربة الدنيوية- أي ميادين الدين والفن والأخلاق- التي أثبتت الأساليب العلمية الجديدة عجزها فيها. وسعى أجدادنا إبان الثورة العلمية التي بدأت عند ملتقى القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى الوصول بالإنسان كله إلى الكمال، لا إلى مجرد تحسين معرفته عن العالمين المادي والحياتي، ولو أن هؤلاء الأجداد ركزوا جهودهم بلا استثناء على تلك الجوانب من الطبيعة البشرية التي تقع في مجال التفكير العلمي والاقتصادي الجديد، لوجدت الأجيال التي ولدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أمر تأسيس اقتصاد الوفرة (

) أصعب حتى مما كان قد حدث بالفعل

".

إنني تعمدت اقتطاف هذا المقطع من خاتمة كتاب (جون نيف)، لأنه يدل بأوضح ما يمكن التعبير به على الجذور البعيدة لا يسميه اقتصاد الوفرة، دون أن نبيح لأنفسنا سوى تعديل بسيط في المصطلحات لمراعاة وحدة البحث.

ص: 63

فما يسميه (إرادة الإنسان) ينبغي ضبطه بالتاريخ، أي بالقرن السادس عشر والسابع عشر، أي هي (إرادة الحضارة) الجديدة في منطلقها.

وما يسميه (اقتصاد الوفرة) ما هو سوى (الاقتصاد) الذي يستند على (إمكان) يكتمل بفضل الوسائل الجديدة التي تهيأت لاكتشافها السبل، منذ العصور السابقة عن الحضارة الأوربية.

ومهما يكن فإننا نرى كيف يرتبط عالم الاقتصاد بالقيم الحضارية ارتباطاً لا يمكن معه أن نتصور نجاح خطة اقتصادية، تقتنع بأرقام وإحصائيات وأدوات مادية، إن لم يكن إنجازها آخذاً في الاعتبار قيمة الإنسان ذاته في رتبة القيمة الاقتصادية الأولى، على شرط أن تكون إرادته شرارة مقتبسة من (إرادة حضارية).

***

ص: 64