المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شرح المنظومة 1 - كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع … - المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنية

[عبد القاهر التبريزي]

الفصل: ‌ ‌شرح المنظومة 1 - كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع …

‌شرح المنظومة

1 -

كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع

من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي

بدأ الناظم رحمه الله هذه المنظومة بما درج عليه الكثيرون من الشعراء قبل الإسلام وبعده من طرق باب الغزل، وأرى أن فيه براعة استهلال، واستجلاب لنظر الحاضر وسمعه في آن واحد، فإن الناظر إلى غيرك قد لا يكون سامعا لك، فالنظر يصرف السمع في الغالب إلى المنظور، وإن سمع شيئا آخر، فضبطه لما سمع، قد يكون خفيفا، ويضاف إلى هذا زيادة استشراف السماع لما يتلو من القول، وهو أقوى في الضبط، وأوعى للسمع، وقد سلك هذا الصحابي كعب بن زهير في قصيدته والتي استهلها بقوله:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البيت إذ رحلوا

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

والتي يقال إنه أنشدها في المسجد النبوي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كساه بردته، وقيل إن معاوية طلبها منه بعشرة آلاف

ص: 20

درهم، فأبى وقال: ما كنت لأوثر بها أحدا، فلما مات باعها الورثة على معاوية بعشرين ألف درهم.

كم بين بان الأجرع، ورامية، ولعلع:

ليس المراد الاستفهام، بل المراد الإخبار بكثرة هذا النوع من القلوب، والبان شجر مستقيم الأغصان طويلها كثيرا ما تغنى به الشعراء، والأجرع: هو علم على موضع باليمامة (1) ورامية: إما أن تكون رامن: بليدة بينها وبين همذان سبعة فراسخ، وهي من بلاد إيران اليوم، أو أنها رامة: منزل في طريق البصرة إلى مكة، وهي آخر بلاد بني تميم، وبين رامة وبين البصرة اثنتا عشرة مرحلة، أو رامة: من قرى بيت المقدس بها مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الأقرب في نظري (2) ولعلع: موضع على طريق الحاج من البصرة، بينه وبين أقر ثلاثون ميلا (3).

من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي:

أي من قلوب كثيرة أصابها العشق الشديد، فالصب: هو العاشق، والصبابة غاية العشق، ولذلك قال: موجع، أي أصابه

(1) معجم البلدان 1/ 102.

(2)

معجم البلدان 3/ 17، 18.

(3)

معجم البلدان 3/ 18.

ص: 21

الألم من شدة الوله، وأرّقه ما نزل به من ذلك (1) حتى أصبح شبيها بمن ولغ المسكر المحرم فأفقده صوابه، وإن كان ذلك من حرام، لكن سكر المشبه هنا من نوع آخر، وهو فقدان الوعي من ولع شديد بشيء مباح، كما هو معلوم من غاية هذه المنظومة، والوجد: الحب الشديد، ومنه ما ورد في حديث ابن عمر، وعيينة بن حصن:"والله ما بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد"(2).

2 -

تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل

فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيّع

تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل:

أي: تنظر إليه في حلل بهيجة، تدل على مكانة كريمة، وملك وغنى، والحلل مفردها حلة: وهي الفاخر من الثياب، وكانوا لا يسمون اللباس حلة إلا إذا اشتمل على إزار ورداء من نوع واحد، وهي أنواع بحسب العادات والأعراف، مما هو لباس العظماء، من الأغنياء وغيرهم (3)، فإذا كان هذا حاله، وهو مع ذلك مضرّج جريح، صرعه ما حل به من طعن المقل، جمع مقلة: وهي الحدقة: الناظر من العين، لكنه هنا أراد العين (4)،

(1) لسان العرب 1/ 518.

(2)

النهاية 5/ 156.

(3)

النهاية 1/ 432.

(4)

النهاية 4/ 348، ولسان العرب 11، 627.

ص: 22

بلحظها وجمالها، ولم يرد جزءا منها، وقد شبه اللحظ منها بالأسياف الشديدة المضاء والفتك.

فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيّع:

لأن من كان هذا حاله يرفل في حلل، وهو في الوقت ذاته صريع مضرّج، فالأدعى لحاله أن تزيد الشفقة به، فما أوصله إلى هذه الحال إلا أمر جلل، شبه بمن يفقد قلبه، وما حال من فقد قلبه يا ترى؟ ! ! .

3 -

ود الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا

فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع

ودّ الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا:

أي أخلص الود لأهل الحي، والود: المحبة الخالصة (1)، ولا يكون الود إلا في مداخل الخير، ولذلك أكد، خلوص الود للحمى قدرا لمن حل به ممن عشق، وقد كان حق هذا الحي قد وجب، ولا مفر من إخلاص الود له فقد نزل به محبوبه، وقد سمى الحي حمى تشبيها بالحمى المصان الممنوع، سواء كان ماديا كأحمية الديار، أو معنويا كما ورد في حديث الإفك من قوله:"أحمي سمعي وبصري"

(1) النهاية 5/ 164، ولسان العرب 3/ 453.

ص: 23

أي أمنعهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه، وبه أصونهما من العذاب (1).

فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع:

أي مرغوبه ومقصوده من هذا الحب أن يكون نظيفا نقيا من الأدران التي تنزل بصاحبها إلى الحضيض: وهو قرار الشيء وأسفله، وأراد الصفات الموغلة المهانة والضعة (2) وهنا يبرز مراد الناظم من هذه المقدمة الغزلية، وهو غزل في المكارم والعلا، وليس طلبا للشهوة والهوى.

4 -

إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي

والمربع السامي العلي سقيا له من مربع

إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي:

لعل الناظم حنّ إلى مرابع الآباء والأجداد من بلاد الإسلام، بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر، وقد خرج منها علماء في كل فن يجاوزون الحد، من أبرزهم أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح، وقد فتحت بخارى مرتين: الأولى في عهد معاوية رضي الله عنه، سنة (55) خمس وخمسين من الهجرة، بقيادة سعيد بن عثمان بن عفان، والثانية سنة (87) سبع وثمانين من الهجرة،

(1) لسان العرب 14/ 199.

(2)

النهاية 1/ 400، ولسان العرب 7/ 136.

ص: 24

بقيادة قتيبة بن مسلم (1) أو إلى حران مسقط رأسه، ومقر نشأته ولذلك وقع في النفس كبير، وحران بلدة من الجزيرة، نسبت إلى حران بطن من همدان، كان بها جماعة من الفضلاء والعلماء، وهي من ديار ربيعة أو مضر، ظهر بها الصابئة وهم الحرانيون المذكورون في كتب الملل والنحل (2) ولا أظنه أراد سوى الأولى، ولا يبعد حنينه لمسقط رأسه، وما في البيت من كلمات توحي بجواز الأمرين.

والمربع السامي العلي سقيا له من مربع:

المربع مكان الإقامة، والربع هو المنزل، والدار بعينها، والوطن متى كان، وبأي مكان كان، ومنه قول رسول لله صلى الله عليه وسلم:(وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ وفي رواية: من رباع) وهي المنزل ودار الإقامة (3) وقد وصفه بالسمو والعلو في المكارم، والصفات الحسنة، لأنه لا يوصف بذلك سواها، وطلب السقيا والغيث للمرابع، من أحسن الدعاء لما يتبع ذلك من خير وحسن وجمال تكتسي به المرابع من الديار.

(1) الأنساب 2/ 100، ومعجم البلدان 1/ 353 - 255.

(2)

الأنساب 2/ 240، 4/ 96، ومعجم البلدان 2/ 235.

(3)

لسان العرب 8/ 102

ص: 25

5 -

رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا

فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع

رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا:

أي: انتقل عن مرابعه وديار نشأته، بسبب ما قضى الله من صروف الحياة، فالقدر نافذ بغير اختيار من العبد، لكنه قد يؤول به إلى الخير إما في دنياه أو في آخرته.

فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع:

فيه إشارة إلى أن ما مضى لا يعود، وإن تمنى المتمني، فكأن الناظم يقول: أتمنى عودة الأيام التي عشتها في تلك المرابع، ولما لم يكن ذلك حاصلا، عدل عنه إلى ما هو واقع من عدم الرجوع، للرد على ما تتمناه نفسه بأن الماضي لا يعود، وذلك آكد في يأسها، وأقوى في إقناعها.

6 -

واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا

وعدّ في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع

هنا يكشف الناظم رحمه الله عن مراده من تلك الأمنية العديمة التحقق، فالزمان الماضي لا يعود، لا كلا ولا جزءا، وهذا يستدعي الحرص الشديد على استثمار الوقت فيما ينفع، وإلى ما تجب العناية به في استثمار

ص: 26