المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسصفة الكلام - المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنية

[عبد القاهر التبريزي]

الفصل: ‌المبحث الخامسصفة الكلام

مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم) (1) فالخوض شامل لكل مفسدة، فلنطهر ألسنتنا من هذا الداء الوبيل.

‌المبحث الخامس

صفة الكلام

9 -

فإنه كلامه أعيى الورى نظامه

وبهرت أحكامه الغرّ جميع الشيع

أورد الناظم رحمه الله هذا البيت لوصف القرآن الكريم كلام الرب سبحانه وتعالى، وما فيه من كمال الأسلوب، وعدالة المنهج والحكم، فهو أعدل الكلام وأصدقه وأجمله وأبلغه وأحلاه، بهر أرباب الفصاحة، وملّاك البلاغة، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (2) وقد روي في وصفه قول علي رضي الله عنه: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه

(1) أخرجه الترمذي حديث (2749) وقال: حسن صحيح.

(2)

الآية (42) من سورة فصلت.

ص: 51

الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) (2).

فإنه كلامه أعيى الورى نظامه:

أي القرآن الكريم، هو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق فقد وقع في الضلال، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فالله عز وجل يتكلم، ويقول، ويتحدث، وينادي، كلامه بصوت وحرف، والقرآن كلامه، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية: ذاتية باعتبار الأصل، وفعلية باعتبار الآحاد، ومرد هذا القول عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله يقول الله تعالى:

(1) الآيتان (1، 2) من سورة الجن.

(2)

أخرجه الترمذي (3070) وفي إسناده كلام، ومعناه صحيح.

ص: 52

وموسى عليهما السلام، من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟ فحجَّ آدم موسى)(1) وما ورد في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)(2) وما ورد في الصحيحين من قول عائشة رضي الله عنها في شأن الإفك: لَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يتلى، ومثل هذا كثير.

وبهرت أحكامه الغرّ جميع الشيع:

أشار الناظم رحمه الله إلى ما فيه من الإعجاز، وأنه لا يجارى، وقد تحدى به الرب سبحانه وتعالى أرباب الفصاحة والبلاغة من العرب، الذين سبقوا كل الأمم في ميدان الإعجاز اللغوي والبلاغي، أنزله الله تعالى بلسانهم وبالأحرف التي يتكون منها كلامهم، وغاية ما قالوا فيه إنه مفترى، فقال تعالى متحديا لهم: {أَمْ

(1) أخرجه البخاري حديث (7077) واحتج به اللالكائي (شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/ 250) ..

(2)

أخرجه البخاري حديث (6165).

ص: 54

يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) فالقرآن مجموع سوره (114) مائة وأربع عشرة سورة، تحداهم رب العزة والجلال، هم وكل من يقدر على معاونتهم على أن يأتوا بعشر سور يفترونها من عند أنفسهم، شريطة أن تماثل القران في إحكامه وإعجازه، وأنى لهم ذلك، فقال تعالى لهم زيادة في التحدي وقد عجزوا عن الإتيان بعشر سور مفتريات:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) فثبت عجزهم هم ومن استطاعوا الاستعانة بهم، وكذلك شهداؤهم، عجزوا جميعا عن إتيانهم بسورة واحدة يفترونها، وتماثل أقل سور القرآن، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} بل هم عاجزون عن

(1) الآية (13) من سورة هود.

(2)

من الآية (23) من سورة البقرة.

ص: 55

محاكاة بعض آية واحدة منه كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) وإذا ثبت عجزهم عن أقل القليل فهم عن المثل أعجز وأقعد، ولذلك قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (2) أعيى الورى، وبهر كل الشيع، لأنه صادر عن الخالق سبحانه وتعالى ومتسحيل أن يصدر عن المخلوق ما يماثله، أو يحاكيه.

10 -

منه كما جاء بدا وكن به معتضدا

ولا تجادل أحدا في آية وارتدع

هذا توكيد لما تقدم من القول في كلام الله عز وجل، مِن الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأَ، وإليه يعود، وأَن الله تكلم به حقيقة، وأَن هذا القرآن الذي أَنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيرِه، ولا يجوز إطلاق القَول بأَنه حكاية عن كلام الله، أَو عبارة عنه، بل إِذا قَرأَه الناس أَو كتبوه في

(1) من الآية (179) من سورة البقرة.

(2)

الآية (88) من سورة الإسراء ..

ص: 56

المصاحف؛ لَم يخرج بذلك عن أَن يكون كلام الله تعالى حقيقَة، فَإِن الكلام إِنما يضاف حقيقة إِلى من قَاله مبتدئا، لا إلى من قَاله مبلغا مؤديا، وهو كلام الله، حروفه، ومعانيه، ولَيس كلام الله الْحروف دون المعاني، ولا المعانِي دون الحروف، ولذلك وجب الاعتصام به، قال الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1).

ولا تجادل أحدا في آية وارتدع:

هذا توجيه إلى أن ما مضى من القول يقتضي التسليم المطلق لكلام الله عز وجل، جملة وتفصيلا، وأنه لا مجال للمراء في شيء منه ولو آية واحدة، ومن فعل ذلك فقد خالف نهج أهل السنة والجماعة.

(1) من الآية (103) من سورة آل عمران.

ص: 57