الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول:
في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
لا شك أن نشوء علوم الحديث قديم قدم بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم !
فأول علم نشأ منها علم الرواية، وأول رواية من هذا العلم سماع ورواية خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها لحديث بدء الوحي وقصة مجيء جبريل عليه السلام بأوائل سورة (أقرأ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء (1) .
هذا أول حديث من وحي السنة، فهو أول ما نشا من علومها. ومن ذلك الحين، حين إنباء النبي صلى الله عليه وسلم وإرساله، وإسلام السابقين الأولين، بزغ نور السنة مع القرآن، وسطعت شمس الإسلام بالآيات
والحكمة (2) ، وبدأت ملحمة الصلاع بين الحق والباطل.
(1) حديث عائشة في بدء الوحي: أخرجه البخاري (رقم 3 ـ وفيه أطرافه ـ) ، ومسلم (رقم 160) .
(2)
ذكر الإمام الشافعي في الرسالة (77- 78 رقم 251- 252) قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً) ] الأحزاب: 34 [، فقال:((فذكر الله الكتاب، وهو القران، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقران يقول: الحكمة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قال الشافعي:) وهذا يشبه ما قال، والله أعلم)) .
وخلال هذه الفترة، فترة سنوات البعثة المحمدية (على صاحبها أفضل صلاةٍ وأتم تسليم) التي امتدت لثلاثةٍ وعشرين عاماً = كانت السنة النبوية ق
أنزلت منزلتها في مصادر التشريع الإلهي. وعلم من ذلك الحين أنه لا سبيل إلى رضى الله عز وجل، وإلى الفوز بسعادة الدارين، إلا بكلام الله تعالى المنزل، وبيانه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم: القولية والفعلية والتقريرية.
ولن أطيل في ذكر عظيم حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاقتباس من نور الملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وإصغائهم إليه بالألباب قبل الأسماع، ومد القلوب للنظر قبل الأبصار، واحتفافهم به صلى الله عليه وسلم بالأرواح قبل الأجساد.
فما تركوا من أقواله قولاً إلا وفي القلوب نقشوه، ولا فعلاً إلا وضبطوه، ولا تقريراً إلا وأحاطوا به علماً. علموا أنه رسول الله فتتلمذوا عليه، وأيقنوا أنه وحي بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم فاقتدوا به، وأدركوا أنه سيد ولد آدم فلم يفوتوا فرصة حياته (طاب حياً وميتاً بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، وآمنوا أن حبه أحب الأشياء إليهم ـ بعد حب الله تعالى ـ فتفانوا وبذلوا حتى رضي الله عنهم وأرضاهم.
فلله درهم
ولم يزل النور متصلاً بالوحي من السماء حياته صلى الله عليه وسلم ن فلقلوب بالإيمان تزخر، والنفوس بالخير تزكو، والعقول بالعلم تثقف ن والبصيرة بالنور السني تنفذ ن والجوارح بالقدوة تتطهر، والأرواح إلى الجنات ورضى الله تتسابق ز
فلما كمل الدين ن وتمت النعمة، ورضي الله لنا الإسلام ديناً، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة،
وجاهد في الله حق جهاده = أتاه اليقين، ولحق بالرفيق الأعلى، وانقطع الوحي
عندها ختم على السنة بما كان في صدور الصحابة رضي الله عنهم، وفقدت الأسوة إلا بما تمثله الجيل الأول رضي الله عنه.
فعلم الصحابة رضي الله عنهم عظم الأمانة التي عليهم للأمة عبر العصور، وأدركوا ثقل هذا الحمل الذي سيسائلهم الله تعالى عنه، ثم رغبوا أيضاً بالأجر العظيم الذي سينالونه إذا أدوا هذه الأمانة، وبالثواب الممتد الجزيل إذا حملوا ذلك الثقل الأجيال من بعدهم كما تحملوها هم، وعقلوا أن عليهم: من واجب نشر الدين، وتبليغ الدعوة ونصرة الإسلام، وانتشال العباد من عبادة العبباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى
سعة الدنيا والآخرة = من لن يكون إلا بينشر العلوم السنية، وتبليغ الآثار المصطفوية، وتأديب الخلق بالأخلاق المحمدية.
لكنهم كانوا يعملون تمام العلم خطورة الأمر، وأنه تشريف وتكليف ـ وأي تكليف؟ ـ أن تكون الأمة إلى قيام الساعة، ليس لها طريق إلى العلم بدين الله، إلا عن طريق هذا الجيل، من تلامذة محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
ثم إن الله تعالى قد أدبهم ورسوله صلى الله، على التوثق في الأخبار، والتحري في قبول ناقليها. ومن ذلك قوله تعالى (يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا
…
) ] الحجرات: 6 [وقوله سبحانه: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} .
وقال عز وجل {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً} .
(1)
ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم ك ((كفى بالمرء كذباً] وفي رواية: إثماً [أن يحدث بكل ما سمع)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) (3) .
لذلك فقد اجتمع في هذا الجيل، من دوافع نشر السنة وتعليمها، ومن أسباب التوثق والتورع؛ ما جعله يقوم بأداء الأمانة خير أداء، من غير زيادةٍ ولا نقصان، على الوجه الذي تكفل بتحميل تلك الأمانة للأجيال من بعدهم، وإخلاء المسؤلية عنهم بعد ذلك الكمال والشمول والدقة المتناهية في التبليغ والأداء.
وقد جاءت أخبار متكاثرة في بيان توثق الصحابة رضوان
(1) جه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (رقم 5) ، وأبو داود (رقم 4993) ، وابن حبان في صحيحه ـ الإحسان (رقم 30) ، والحاكم (1/112) ، وغيرهم. وقد اختلف في هذا الحديث على وصله وإرساله، فرجح الدارقطني في العلل إرسلاله (3/175/أ) ، بينما صححه ابن حبان والحاكم كما رأيت، مع عرض الحاكم للاختلاف فيه. وقد نبهني فضيلة الشيخ سعد الحميد على أنه وقع إقحام (في الطباعة) في أحد
طريقي الإمام مسلم، جعل الحديث من وجهيه متصلاً، مع أن الصواب أن الإمام مسلماً أخرجه مبيناً الخلاف في وصله وإرساله.
(2)
هو حديث صحيح ثابت، مما وصف بأنه متواتر: انظر قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي (رقم 1) ، ولقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي (رقم 61) ، ونظم المتناثر في الحديث المتوتر للكتاني (رقم 2) ، وانظر مبحث (المتواتر) هنا= ص (91ـ 132) .
(3)
أخرجه الإمام أحمد (4/252، 255) ، ومسلم في مقدمة صحيحه (1/9) ، والترمذي (رقم 2662) وقال ك ((حسن صحيح)) ، وابن ماجه (رقم 41) ، وغيرهم = من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهو صحيح عنه، كما قال الرمذي ز وأخرجه الإمام أحمد (4/19ـ 20) ن ومسلم في مقدمة الصحيح (1/9) ، وابن ماجه (رقم 39) ، وابن حبان في صحيحه ت الإحسان ـ (رقم 29) = من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وهو صحيح عنه، كما ذكر ابن حبان.
الله عليهم في نقل السنة، في حياته صلى الله عليه وسلم، فضلاً عما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ومن أمثلة توثق الصحابة رضي الله عنهم للسنة في حياته صلى الله عليه وسلم، ما ثبت في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وما شاع حينها بين الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم طلقهن، فجاءه عمر رضي الله عنه يستأذن عليه، ليستثبته عن الخبر، فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم:((أطلقت نساءك؟)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا)) ، فكبر عمر رضي الله عنه، وقال: ((يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:، عم، إن شئت
…
)) (1) .
ومن ذلك أيضاً حديث أنس رضي الله عنه، في وفود ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، ليتوثق من نقل الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه؛ حيث قال ضمام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال = آلله أرسلك؟ قال: نعم
…
)) الحديث (2) .
أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد ازداد شعور الصحابة بالضرورة
(1) اخرجه البخاري (رقم 89، 2468، 4913، 4914، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263) ، ومسلم (2/1105ـ 1113رقم 1479) ، وغيرهما.
(2)
أخرجه البخاري (رقم 63) ، ومسلم (رقم 12) ، والفظ لمسلم.
القصوى للتوثق للسنة، إذ لم يمكنهم الرجوع إلى معدنها واصلها، بعد أن فقدوا شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وواروه التراب!!
ومن ذلك ما وقع للخلفية الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فعن أبي سعيد الخدري، قال:((كنا في مجلسٍ عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً] وفي رواية: فزعاً أو مذعوراً [حتى وقف، فقال: أنشدكم الله! هل سمع أحدُ منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الا ستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع) ؟ قال أبي: وما ذاك؟ ! قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت. ثم جئت. ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثاً، ثم انصرفت. قال: قد سمعناك، ونحن حينئذٍ في شغل، فلو استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن شهد لك على هذا (1) .
فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا صناً! قم يا أبا سعيد. فقمت حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا)) (2)
(1) لم يكن هذا من عمر رضي الله عنه، لأنه لم يكن يحتج بخبر الآحاد، كما زعموا!! فإنه لما قبل حديث أبي سعيد، لم يزل الخبر بعدها آحاداً. ولم يكن هذا أيضاً، لأ، هـ لم يكن يثق بأبي موسى، حاشاه، وإنما فعل ذلك زيادة في التثبت، طلباً لاطمئنان القلب، كما جاء صريحاً عن عمر نفسه في بعض الروايات، وكما بينه العلماء أيضاً، فانظر فتح الباري (11/32شرح الحديث رقم 624) .
(2)
أخرجه البخاري (رقم 6245) ، ومسلم (رقم 2153) ، واللفظ لمسلم.
بل لقد كان عمر رضي الله عنه، كما سقول الإمام الذهبي:((هو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل)) (1) . يعني: أنه حرص على إشاعة هذه السنة وتعليهما، وأخذ الرعية على التزامها، والتشديد في ذلك؛ وهي سنة التوثق والتحري للسنة.
قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ((بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري،] وإلى أبي ذر [، فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
فحبسهم بالمدينة (2) ، حتى استشهد)) (3)
(1) تذكرة الحافظ (1/6) .
(2)
قال أبو عبد الله ابن بري شيخ الرامهرمزي ـ كما في المحدث الفاصل (553رقم 745) ـ: ((يعني منعهم من الحديث، ولم يكن لعمر حبس)) . قلت تنبيه حسن. ظاهر أن معنى (حبسهم)، أي: منعهم الخروج من المدينة.
(3)
إسناده صحيح، فإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قد سمع من عمر رضي الله عنه على الصحيح، كما يأتي بيانه. أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 372) ، وابن سعد في الطبقات (2/336) ، وابن أبي شيبه في المصنف (8/756) ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1479)، والبلاذري في أنساب الأشراف ـ ترجمة الشيخين: أبي بكر وعمر ـ (151)، والطحاوي في بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخراج ما فيها من الأحكام ونفي التضاد عنها ـ المطبوع باسم: شرح مشكل الآثار! انظر نماذج المخطوطات في مقدمة تحقيقه (1/105ـ 119) ، وفهرسة أبي بكر الإشبيلي (200) ـ (15/311ـ 312) ، والطبراني في المعجم الأوسط ـ كما في مجمع البحرين للهيثمي (رقم 304) ، والرامهرزي في المحدث الفاصل (رقم 745) ، والحاكم وصححه في المستدرك (1/110) ، وأبو نعيم في الإمامة (رقم 130) ، وابن حزم في الإحكام (2/139) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (87 رقم 190) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المطبوع ت (39/108) ـ والمخطوط ـ (13/749-750، 750) . وله أسانيد متعددة، تلتقي: في شعبة بن الحجاج أو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف
به.
والأسانيد بذلك صحيحه، كما سبق.
لكن بعض الأئمة أعله بالانقطاع بين إبراهيم وعمر رضي الله عنه، منهم: ابن حزم في الإحكام (2/239-140) ، وشنع في رده. ونحوه الهيثمي في مجمع البحرين (1/263)، حيث قال:((هذا باطل، لا يصح عن عمر..)) ، ثم أعله بالانقطاع، ورد قول الواقدي بإثبات سماع إبراهيم من عمر رضي الله عنه.
وإليك بسط مسألة سماع إبراهيم بن عبد الرحمن من عمر رضي الله عنه:
فنفى السماع ـ كما سبق ـ: ابن حزم، والهيثمي. وقال البيهقي في السنن الكبرى (8/277) :((لم يثبت له سماع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما يقال رآه)) .
وخالفهم جماعة: فقال الإمام أحمد في العلل (رقم 464) : ((وإبراهيم بن عبد الرحمن لا شك فيه، سمع من عمر)) .
وقال يعقوب بن شيبة ـ كما في تاريخ دمشق لابن عساكر المطبوع (2/461)، وكما في تهذيب التهذيب (1/139) ـ:((لا نعلم أحداً من ولد عبد الرحمن روى عن عمر سماعاً غيره)) .
وأثبت السماع أيضاً: ابن جرير الطبري، كما في التهذيب (1/140) . وأثبته أيضاً الواقدي، فقال ـ كما في طبقات ابن سعد (5/56) ـ:((لا نعلم أحداً من ولد عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر سماعاً ورؤية غير إبراهيم)) .
والفصل في ذلك الروايات بأزمتها وخطمها!
قال الدولابي في الكنى (1/189) : ((حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا عبد الله بن جعفر بن المسور ابن مخرمة، عن سعد بن إبراهيم، (أو حممة) ، وكان جارنا يبيع الخمر)) .
وهذا إسناد حسن.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات (5/56) ، قال ك ((أخبرنا يزيد بن هارون، ومعن بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديل، قالوا: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: إن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي وكان حانوتاً للشراب، وكان عمر قد نهاه، فلقد رأيته يلتهب كأنه جمرة)) .
وهذا إسناد صحيح. وقال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ((اشهد على أبي، أنه أخبرني: أن أمه أمرت بشاةٍ فسلخت] وفي رواية: إني لأذكر مسك شاةٍ [، حين جلد عمر أبا بكرة، فألبستها إياه. فهل كان ذلك إلا من جلدٍ شديد؟!)) .
…
=
أخرجه عبد الرزاق (رقم 13510) ، وابن أبي شيبة (9/524-525، 256، ووقع فيه تحريف ظاهر) ، والبيهقي في السنن الكبرى (
8/326) . وإسناده صحيح. ومما يدل أيضاً على إدراكه لعمر رضي الله عنه: أنه ولد في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذكره جماعة في الصحابة، كابن مندة، وأبي نعيم، وابن عبد البر، وابن الأثير، وابن حجر.
انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم (2/159رقم 76) ، والاستيعاب لابن عبد البر (1/61رقم 2) ، وأسد الغابة لابن الأثير (1/53) ، والإصابة لابن حجر (1/98) .
وفي رواية أخرى لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال:((والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ن فجمعهم جميعاً من الآفاق ك حذيفة، وابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟! قالوا: أتتهمنا؟ !!! قال ك لا، ولكن أقيموا عندي، ولا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم بما نأخذ منكم وما نرد عليكم. فما فارقوه حتى مات، فما خرج ابن مسعود إلى الكوفة ببيعة عثمان، إلا من سجن عمر (1) .
(1) أورده ابن كثير في مسند الفاروق (2/624)، وقال:((إسناده جيد)) .
قلت: وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس.
ثم اطلعت على الأثر: فقد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المخطوط ـ (11/702) ، وفيه تصريح ابن إسحاق بالسماع.
وهذا قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، يروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيعه وفداً خارجاً إلى الكوفة، فأوصى عمر الوفد وصية قال فيها:((إنكم تأتون بلدة ً لها دوي بالقرآن، كدوي النحل. فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفي رواية: فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [، وأنا شريككم)) (1)
ولهذا التشديد في رواية السنة، والتحذير من أي دواعي الخطأ فيها، خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على منبر دمشق قائلاً:((أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديثاً كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل)(2) .
وقد علق الإمام الطحاوي 0 أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري ت 321هـ) ، على هذه الآثار عن عمر
(1) إسناده صحيح.
أخرجه أحمد في العلل (رقم 373) ، وابن ماجه في السنن (رقم 28) ، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي (29ـ 30) ، وابن سعد في الطبقات (6/7) ، وابن أبي شيبة في المصنف ـ مختصراً دون موطن الشاهد ـ (6/7) ، وابن أبي شيبة في المصنف ـ مختصراً دون موطن الشاهد ـ (1/10)(12/535) ، والدارمي في السنن (رقم 285، 286) ، والطحاوي في بيان مشكل الأحاديث (15/316ـ 319) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (553 رقم 744) ، وابن حبان في المجروحين 01/35-36) ، والحاكم وصححه في المستدرك (1/ 102) ، وابن حزم في الإحكام (2/137-138) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 1904ـ 1906) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (88 رقم 192) ، والمزي في تهذيب الكمال (23/565-566) .
(2)
صحيح.
أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1478) ، وابن عدي في الكامل (1/5، 19) ، وأبو نعيم في الإمامة (رقم 131) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (91 رقم 198) .
رضي الله عنه، في كتابه (بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ((فقال قائل: فما وجه هذا الذي رويتموه عن عمر، وهو إمام راشد مهدي؟ ! وأنتم تعلمون أنه لا يقف الناس على ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بما يحدثهم به أصحابه عنه، وفيما كان من عمر ما يقطعهم عن ذلك مما كان منه!!
(قال الطحاوي:) فكان جوابنا له في ذلك: أن عمر كان مذهبه حياطة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذين رووه عدولاً. إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد به عندهم ممن قد ثبت عدله عندهم، فكان عمر فيما كان يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يحفظه عنه كذلك أيضاً (1) . وكذلك فعل بأبي موسى مع عدله عنده فيما حدث به عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما لم يكحن عنده في الارستئذان مما ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا. وقد وقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين وقفوا على ذلك منه ولم ينكروه عليه، ولم يخالفوه فيه، فدل ذلك على موافقتهم إياه عليه.
ولما كان ذلك كذلك: فعل في أمور الذين كان منه في حبسهم ـ مما كان فعله في ذلك ـ لهذا المعنى، لا لأن يقطعهم عن التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ما قد سمعوه منه. وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه قبله في مثل هذا
…
(إلى أن قال:) وقد يحتمل أن يكون ما كان من الذين حبسهم ـ فيما كان حبسهم فيه ـ لتجاوز ما كان ينبغي أن يكون من أمثالهم، حتى خاف أن يقطعوا الناس بذلك، ويشغلوهم به
(1) وهذا من (نقد المتون) ، الذي ينكره أعداء السنة على علماء السنة أنهم لم يقوموا به.. هذا عمر قد سبق إليه!! وانظر ما يأتي في (ص 143) وحاشيتها.
عن كتاب الله عز وجل، وتأمله، والاستنباط للأشياء منه، مما فيه تعلو مرتبة المستنبطين على من سواهم ممن يقرؤه، بقوله عز وجل:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم)(1) ، ولذكره سواهم ممن يقرؤونه بما سوى ذلك، بقوله:(لا يعلمون الكتب إلا أماني)(2)، أي: إلا تلاوة، فلم يحمد ذلك منهم كما حمد أهل الاستنباط على الاستنباط)) (3) .
وقال ابن حبان (محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي: ت 354هـ)، في كتابه (معرفة المجروحين) :((لم يكن عمر بن الخطاب ـ] بما [قد فعل ـ يتهم الصحابة بالتقول على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ردهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (4) ، وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه علم ما يكون بعده من التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام قال:((إن الله تبارك وتعالى نزل الحق على لسان عمر وقلبه)) (5)، وقال:
((إن
(1) سورة النساء: 83.
(2)
سورة البقرة: 78.
(3)
بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، للطحاوي (15/313-316) ، وانظر كلاماً نحو هذا الأخير في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/1004) .
(4)
حديث صحيح.
أخرجه البخاري (رقم 104، 1832، 4295) ، ومسلم (رقم 1354) ، من حديث أبي شريح الخزاعي، وأخرجاه وغيرهما من حديث غيره. بل عد هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، لأنه روي من طريق ثمانية عشر صحابياً: انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 4) .
(5)
حديث صحيح.
أخرجه الإمام أحمد (2/401) ، وابنه عبد الله في زياداته على فضائل الصحابة (رقم 415) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 6889) ، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يكن في هذه الأ/ة محدثون: فعمر منهم)) (1) .] فعمد عمر إلى الثقات [المتقنين، الذين شهدوا الوحي والتنزيل، فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من بعدهم، ممن ليس في الإسلام محله كمحلهم، فيكثر الرواية، فيزل فيها، أو يقول متعمداً عليه صلى الله عليه وسلم لنوال الدنيا..)) (2) .
وقد علق الخطيب البغدادي على هذه الآثار عن عمر رضي الله عنه، بكلام نفيس، حيث قال: ((إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل عمر ذلك احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين. لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها. فقد يرد الحديث مجملاً، ويستنبط معناه وتفسيره من غيره. فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أخذ به.
وكذلك نهى عمر الصحابة أن يكثروا رواية الحديث، وفي تشديد عمر أيضاً على الصحابة في روايتهم = حفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها؛ لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، قد تشدد عليه في الرواية، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، ولما يلقي الشيطان في النفس من تحسين
(1) حديث صحيح.
أخرجه البخاري (رقم 3469، 3689) : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (رقم 2398) : من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
المجروحين لابن حبان (1/-37) .
الكذب أرهب)) (1)
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى هذا الحرص البالغ في التوقي للسنة، والتأكيد الشديد على وجوب التثبت لها، من عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه! مع أنه رضي الله عنه كان في جيل من أقرانه في الإيمان والعلم والسن، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا بأقل منه شعوراً بعظم الأمانة، وثقل الحمل، وخطورة الأمر!!
يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ التابعي الكبير الثقة: ت 83هـ ـ: ((أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم] في المسجد [، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتي إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا)) (2) .
وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأبيه الزبير رضي الله عنه: ((إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟! فقال: أما إني لم أفارقه] منذ أسلمت [،] ولقد كان لي منه وجه ومنزلة [،] وأخاف أن أزيد أو أنقص [، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)) (3)
(1) شرف أصحاب الحديث (88- 89، 90- 91) ، بتصرف يسير.
(2)
أثر صحيح.
أخرجه ابن المبارك في الزهد (رقم 58) ، وأبو خيثمة في العلم (رقم 21) ، وابن سعد في الطبقات (6/110) ، والآجري في أخلاق العلماء (147) ، ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 2199ـ 2202) .
(3)
حديث صحيح من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه.
أخرجه أحمد (رقم 1413) ، والبخاري (رقم 107) ، وأبو داود (رقم 3651) ، والنسائي في الكبرى (رقم 5912) ، وابن ماجه (رقم 36) ، وغيرهم، منهم: الطبراني في طرق حديث من كذب علي متعمداً (رقم 26ـ 31) .
فهذا يدل على أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان يرى أن وعيد هذا الحديث ينال المخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ما قال، سواء أكان ذلك عن خطأ أو عن عمد!!
وعلى هذا المذهب أيضاً أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال:((لولا أني أخشى أن أخطئ، لحدّثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذاك أني سمعته يقول: ((من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .
وهذا عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء رضي الله عنهما، وهما ممن حبس عمر رضي الله عنه بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للحديث كما سبق، كانا إذا أراد أحدهما الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتعد فزعاً، واغرورقت عيناه، وقال:((أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريباً منه، أو شبيهاً بذلك)) (2) !! ورعاً ورهبة
(1) إسناده بهذا اللفظ حسن.
(2)
أسانيد ذلك ثابتة صحيحة.
أخرجه الإمام أحمد (رقم 3670، 4015، 4321) ، وابن ماجه (رقم 23) ، وابن أبي شيبة في المصنف (8/753-754) ، وأبو خيثمة في العلم (رقم 105) ، والدارمي في سننه (رقم 274ـ 277) ، وابن سعد في الطبقات (3/156-157)(7/392) ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1473، 1474) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/547-548-، 548)، وأبو يعلى في المسند الكبير له: انظر المطالب العالية (رقم 3046) ، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 605) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 733-735) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (رقم 459، 460) ، والخطيب في الكفاية (240-241) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق - المطبوع (39/109-114) .
من تبعة الزيادة أو النقصان!!!
ثم يتشدد عمر رضي الله عنه مع هؤلاء!!! ومع أمثال هؤلاء!!!
هكذا بدأ أول عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومن وقت مبكرٍ جداً فيه، وقبل فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، بل قبل مقتل عمر رضي الله عنه = على التشديد البالغ في رواية السنن،
والترهيب من دواعي وقوع الخطأ فيها!!
فإلى أي حس سوف ينتهي تثبتهم في الرواية، بل هل سيكون لتثبتهم حد؛ فيما إذا ظهرت بوادر الفتنة، وبدت دواعي الكذب؟!!!
لاشك أن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ثلمة في حصن الإسلام، فلم تجتمع الأمة بعده على خليفة إلى اليوم. وكان له من الآثار العظيمة، عقب الجريمة مباشرة، وبعدها.. إلى اليوم، ما يكاد يكون بها السبب الأول لما تلاه من نكبات وكبوات في تاريخ هذه الأمة.
وكان من أكبر آثار فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، افتراق الأمة، وظهور بعض الأحزاب، لا سياسية فحسب، بل عقدية سياسية.
عندها بدأت دواعي التقول على النبي صلى الله عليه وسلم تظهر، نصرة للمذهب الاعتقادي الذي يتحزب له بعض مرضى النفوس والجهلة.
لكن جيل الصحابة رضي الله عنهم كانوا ـ كما رأيت سابقاً ـ قد سبقوا ذلك بالتشديد في الرواية، فما أن لاحت بوادر الفتنة، حتى سابقوها أيضاً بالمبالغة في التشدد للرواية، وبتحصين السنة
بحصن آخر قبل مجيء العدو الضعيف. وبذلك اماتوا الكذب في صدور أصحابه، ولم يستشر داؤه، بل لم يوجد اصلاً إلا من آحادٍ هلكوا فهلك معهم.
وقد أعلن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما المنهج الذي بدأ يود ذلك العصر في تلقي السنة، عندما قال رضي الله عنه:((إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 9، ابتدرته أبصارنا، وأغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)) (1)
لقد كان في ذلك التثبت إنشاء لعلم جديد من علوم الحديث، وهو علم الجرح والعديل، الذي كانت قد وضعت أسسه، وأصلت قواعده، في الأصلين: الكتاب والسنة، كما مر بيانه.
فابن عباس رضي الله عنه، يعلن هنا عن بداية حقبةٍ جديدةٍ للرواية، تختلف عن الحقبة السابقة لها. حيث لم يكن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة السابقة، إلا من زكاهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين لم يكن يستلزم قبول ما يروونه إلا سماعه منهم. أما الحقبة التي يتكلم عنها ابن عباس رضي الله عنه، فقد بدأ من لم يكن له لقي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة، بالحديث عنه صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء لم يلقوه، فحديثهم عنه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون لهم إليه
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/12-13) ، والدارمي في السنن (رقم 432، 433) وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1486) ، وابن حبان في المجروحين (1/112) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المخطوط ـ (3/389) .
فيه واسطة؛ ثم إنهم هم أنفسهم ليس لهم شرف الصحبة، ولا نالهم تعديل من الله تعلى أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ثم بعد أن دبت الفتنة، (وركب الناس الصعب والذلول) ، كان لا بد من معرفة الواسطة المحذوفة في مرسل ذلك التابعي، للتوثق من ثقة تلك الواسطة، وذلك ـ بالطبع ـ بعد التوثق من ثقة ذلك التابعي نفسه الذي أرسل الحديث أولاً.
فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل، وأول السؤال عن الإسناد، ورفض المراسيل. وذلك لظهور علتين اقتضت ذلك، هما علتا: رواية المجروح، والإرسال وعدم الإسناد (1) وفي الحقيقة، فإن علة الإرسال عائدة إلى العلة الأولى، لأن عدم قبول المرسل إنما كان، لا حتمال كون المحذوف مجروحاً.
وقد أرخ بداية نشوء هذين العلمين (علم الإسناد وعلم الجرح والعديل) من علوم الحديث، أحد أئمة التابعين، وهو محمد بن سيرين (ت 110هـ)، عندما قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر على أهل البدع فلا يؤخذ
(1) وفي ذلك رد على من زعم أن أول من رد الحديث المرسل الإمام الشافعي، فهذا عبد الله ابن عباس رضي الله عنه قد سبقه إلى ذلك!! وتلاه أيضاً محمد بن سيرين، والزهري، كما يأتي (ص 30-31، 37) .
انظر رسالة أبي دواود إلى أهل مكة (24) ، والتمهيد لابن عبد البر (1/4) . ثم انظر جامع التحصيل للعلائي (70) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/567-568) وتهذيب التهذيب (1/471) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/166) ، وتوضيح الأفكار للصنعاني (1/296) ، وإرشاد الفحول للشوكاني (120) .
حديثهم (1) .
ومن هنا يظهر أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا هم أول من بدأ بإنشاء ما عرف بعد ب (علوم الحديث ومصطلحه) .
ولا غرابة في ذلك، فإن الهدف واحد والغاية معلومة، لهذه الأمة عبر العصور، وهو: التوثق للسنة، وتأديتها للأجيال صافية، من غير نقص أو زيادة. فكل وسيلة تؤدي إلى هذا الهدف سيسلكه ذلك الجيل، وأي سبيل يحقق تلك الغاية فستطرقه الأمة، ولن تواجهها عقبة إلا وكان عندها من العلم والعزيمة ما يقتحم بها العقبات، ولا اعترضها عائق إلا واخترعت ما يجاوزها إياه.
(1) أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 3640) ، ومسلم في مقدمة صحيحه (1/15) ، والدرامي في سننه (رقم 422) ، وابن أ [ي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (2/28) ، والجوزجاني في أحوال الرجال (35ـ 36) ، والعقيلي في الضعفاء (1/10) ، وابن عدي في الكامل (1/121) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/278) ، والخطيب في الكفاية (150، 151) .