المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني:الطور الثاني لكتب علوم الحديث(كتاب ابن الصلاح فما بعده) - المنهج المقترح لفهم المصطلح

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول:تاريخ نشأة علوم الحديث وتطورمصطلحه

- ‌الفصل الأول:في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثاني:في عصر التابعين

- ‌الفصل الثالثفي عصر أتباع التابعين

- ‌الفصل الرابع:العصر الذهبي للسنة

- ‌الفصل الخامس:في القرن الرابع الهجري

- ‌الباب الثاني:تأريخ وبيان لتأثير علوم السنةبالعلوم العقلية

- ‌الفصل الأول:أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة

- ‌الفصل الثاني:أثر أصول الفقه على علوم السنة

- ‌المبحث الأول: كتب أصول الفقه ونافذتهاللتأثير على علوم السنة:

- ‌المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:

- ‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

- ‌الباب الثالث:المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث(وبيان بطلان ما يخالفه)

- ‌المنهج النظري لفهم مصطلح الحديثوبيان بطلان ما يخالفه

- ‌الباب الرابع:كتب علوم الحديث ومناهجهافي فهم مصطلحه

- ‌الفصل الأول:الطور الأول لكتب علوم الحديث

- ‌الفصل الثاني:الطور الثاني لكتب علوم الحديث(كتاب ابن الصلاح فما بعده)

- ‌الباب الخامس:كيف نفهم مصطلح الحديث؟(ويتضمن الخطوات العملية لفهم مصطلح الحديث)

- ‌كيف نفهم مصطلح الحديث

- ‌فهرست المصادر والمراجع

الفصل: ‌الفصل الثاني:الطور الثاني لكتب علوم الحديث(كتاب ابن الصلاح فما بعده)

‌الفصل الثاني:

الطور الثاني لكتب علوم الحديث

(كتاب ابن الصلاح فما بعده)

وكلامنا عن هذا الطور سيختلف في منهجه عن كلامنا في سابقه، لطول زمن هذا الطور، وكثرة المصنفات فيه، ولأن غرضنا الاختصار وضرب الأمثلة فقط، دون استيعاب الكلام عن مناهج المصنفين.

لكن لما جعلنا كتاب ابن الصلاح حداً وقاسماً، وجب علينا تمييزه بمزيد إيضاح وبيان.

إن (معرفة أنواع علم الحديث) لا بن الصلاح (ت 643هـ) من الكتب النادرة في العلوم الإسلامية، التي ما أن صنفت حتى أصبحت إماماً لأهل فنها، وهماً لطلاب ذلك العلم ولعلمائه، وأصلاً أصيلاً يرجعون إليه، ومورداً لا يصدرون إلا عنه ولا يحومون إلا عليه.

يقول الحافظ ابن حجر في وصفه: ((فهذب فنونه، وأملاه شيئا بعد شئ، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب0

واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم اليها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره0

فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره0 فلا يحصى كم ناظم له

ص: 211

مختصر،

مستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر!!)) (1) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في وصفه هذا احد أهم مميزات كتاب ابن الصلاح،

وهي تعويله واعتماده في جل كتابه على كتب الخطيب البغدادي: (الكفاية) وغيرها

من مصنفات الخطيب الكثيرة التي أفردها لأنواع وعلوم من علوم الحديث0

وللدكتور محمود الطحان مبحث خاص في كتابه (الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث)، يثبت فيه بالموازنة أن ابن الصلاح- كما يقول-:((كان عالة على كتب الخطيب عامة، وكتابيه (الكفاية) و (الجامع) خاصة)) (2) .

ونخرج من هذا بنتيجة واضحة، وهي أن كثيرا من آراء الخطيب في تفسير مصطلح الحديث وتقرير قواعده سوف تنتقل الى ابن الصلاح، بما في تلك الآراء من صواب (وهي غالبها) ، ومن خطأ (وهي أقلها) ، من آثار اقتباس الخطيب من الفقة0

والآراء وان اتفقت أحيانا كثيرة، بسبب ذلك التعويل والاعتماد على كتب الخطيب،

الا أن منهج تقريرها قد بدا فيه بعض الاختلاف0

وليس اختلاف المنهج أمرا غريبا، بعد تذكر ما سبق تقريره، من ضعف تلقي العلوم النقلية، وقوة تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، وازدياد ذلك بالتدريج عبر العصور0 وقد عبر ابن الصلاح نفسه عن حاله عصره وأهله تجاه

(1) نزهة النظر لابن حجر (51) .

(2)

الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث للطحان (481-486) .

ص: 212

علوم السنة، مبينا سبب تأليفه لكتابه (معرفة أنواع علم الحديث)، حيث قال في مقدمته:((ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمة جموع طلبته، رفيعة مقادير حفاظه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حيةً، وأفنان فنونه ببقائهم غضةًً، ومغانيه بأهله آهلةً. فلم يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال: على أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العدد ضعيفة العدد. لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلاً، ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عطلاً، مطر حين علومه التي بها جل قدره، مباعدين معارفه التي بها فخم أمره. فحين كاد الباحث عن مشكله لا يلفي له كاشفاً، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفاً، من الله الكريم تبارك وتعالى وله الحمد أجمع بكتاب (معرفة أنواع علم الحديث)

هذا

)) (1) .

أما تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، فإضافةً إلى أن ابن الصلاح قد نقل بعض ذلك الأثر عن الخطيب البغدادي، فإن ابن الصلاح فوق ذلك جاء بعد الخطيب بما يقارب القرنين من الزمان، فالأثر ازاداد في عصره عن عصر الخطيب، والمرء ابن زمانه، فلا بد أن يزداد الأثر على ابن الصلاح أيضاً.

ولئن كان لابن الصلاح تلك الفتوى القوية في ذم علم المنطق والحط منه (2) ، فإنه من جهةٍ أخرى اصولي متبحر فيه معدود في (طبقات الأصوليين)(3) .

يقول محقق كتاب ابن الصلاح، الدكتور نور الدين عتر في مقدمة تحقيقه: ((فأكب ابن الصلاح على هذه الذخائر يفحصها

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (5- 6) .

(2)

انظر (ص 160- 161) .

(3)

الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي (2/63- 64) .

ص: 213

بعين الفقيه المتعمق في الفهم والاستنباط، ويزن عباراتها بميزان الأصول الضابط للحدود والتعاريف، وحسبك به فقيهاً، وأصولياً محققاً)) (1) .

وبعض النظر عن صحة هذه العبارة، القائلة إن: ابن الصلاح ضبط حدود المصطلحات وتعريفاتها بميزان الأصول، غلا أن هذا الميزان ـ في الحقيقة ـ هو الذي منه نفر (2) !! وإن كنت أوافق أن بعض ذلك قد وقع من ابن الصلاح، غلا أنه أقل ممن جاء بعده في ذلك!

لكن لما كان كتاب ابن الصلاح إماماً وقدوةً لمن بعده، وسن كتابه هذا المهج، وعمق أثر الأصول فيه، تدافع القوم على الاستنان بمنهجه، والاقتداء بطريقته!!

وأدلة ذلك تظهر من نواحي عدة:

من كثرة نقوله عن الأصوليين (3) .

ومن دمجه لآراء المحدثين والفقهاء والأصوليين (4) .

ومن نقله مع رأي المحدثين الرأي المخالف له للفقهاء والأصوليين، دون ترجيح، ومع وضعه لكلا الرأيين في ميزان واحد (5) .

بل ربما مال إلى ترجيح رأي الأصوليين على رأي المحدثين!

(1) مقدمة تحقيق نور الدين عتر لعلوم الحديث لابن الصلاح (18) .

(2)

انظر (ص 164ـ 165) .

(3)

انظر مثلاً في علوم الحديث (ص 56، 85، 141، 143، 151، 152، 154، 155، 168، 173- 174، 180- 181) .

(4)

انظر علوم الحديث (143، 173- 174) .

(5)

انظر علوم الحديث (168) .

ص: 214

كما فعل في صور المرسل المختلف فيها، حيث قال: ((إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية واوٍ لم يسمع من المذكور فوقه. فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث أن ذلك لا يسمى مرسلاً

والمعروف في الفقه واصوله أن كل ذلك يسمى مرسلاً، وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به)) (1) .

وقال أيضا في الموضوع نفسه: ((اذا قيل في الا سنا د: فلان عن رجل أو ن عن شيخ عن فلان، أو نحو ذلك: فالذي ذكر الحاكم في (معرفة علوم الحديث) انه لا يسمى مرسلا، بل منقطعا0 وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع المرسل)) (2) .

تنبه الى تعبيره: ((والمعروف في الفقه وأصوله..)) و ((وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه)) .

وأنبه هنا أيضاً إلى أنه ليس من غرضي تأييد هذه المسائل الجزئية أو معارضتها (3) ، إنما غرضي بيان أثر الأصول وعمق هذا الأثر على ابن الصلاح.

ثم تابع معي في هذه المسألة الآتية (مسألة تعارض الوصل والإرسال) :

لما ذكر الخطيب البغدادي الاختلاف في هذه المسألة، قال: ((ومنهم من قال: الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطاً للرواية، فيجب قبول خبره ويلزم العمل به، وإن خالفه

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص 51) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (ص52) .

(3)

لكن انظر (ص 230- 234) .

ص: 215

غيره، وسواء كان المخالف له واحداً أو جماعةً)) . ثم أيد الخطيب هذا القول، وصححه على غيره. ودلل عليه بتصرفات لبعض المحدثين، منهم الإمام البخاري (1) .

ففهم ابن الصلاح من كلام الخطيب هذا، أنه يقول بأن وصل الثقة مقدم على إرسال غيره من الثقات مطلقاً. وسوف نعود إلى كلام ابن الصلاح، بعد تقرير مذهب الخطيب من هذه المسألة أولاً.

والذي أراه أن الخطيب لم ير ذلك الرأي الذي ظن ابن الصلاح أنه رأيه! فالخطيب قال بتقديم رواية المسند بشرطٍ لا يخالف فيه أحد، وهو (إذا كان (الراوي) ثابت العدالة ضابطاً للرواية)) . فالذي يقدم قوله بالوصل عند الخطيب إذن، هو الراوي الذي ضبط روايته، ولا يضره بعد ضبطه لروايته من خالفه وكم خالفه!

فالخطيب لم يقدم الوصل على الإرسال مطلقاً، كيف وقد اشترط شرطاً واضحاً، كما سبق؟!

نعم.. هو لم يذكر الميزان الذي نعرف به ضبط الراوي لروايته، لكنه أشار إلى ملامحه في أمثلته التي ساقها بعد ذلك.

ويدل على ذلك أيضاً، هو أن الخطيب عارض ذلك الفهم الذي فهمه ابن الصلاح من كلامه، معارضة صارخةً، في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد) . حيث قسم كتابه هذا إلى قسمين:

الأول: ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد، والثاني: ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها (2) . مما يدل دلالة صريحة أن

(1) الكفاية للخطيب (451-452) .

(2)

انظر شرح علل التر مذ ي لابن رجب (2/637-638) .

ص: 216

الخطيب لا يقدم الوصل على الإرسل مطلقاً، كما فهم من كلامه.

بل وفي (الكفاية) للخطيب ما يدل على عدم صحة نسبة ذلك القول إليه، بتقديم الوصل على الإرسال مطلقاً. إذ بين الخطيب أسباب كتابة المحدثين للمراسيل من الأحاديث، فقال خلال ذلك:((ومنهم من يكتبها على معنى المعرفة، ليعل المسندات بها. لأن في الرواة من يسند حديثاً يرسله غيره، ويكون الذي أرسله أحفظ وأضبط، فيجعل الحكم له)) (1) .

وهذا كله كما ترى، واضح من القول، في بيان مذهب الخطيب من هذه المسألة.

ثم جاء ابن الصلاح، ونظر في القول الذي رجحه الخطيب، فحمله على غير ظاهره، وبما يناقض به تصرفات الخطيب وأقواله الأخرى، مبيناً سبب اختياره له وموافقته عليه، فقال:((وما صححه (يعني الخطيب) هو الصحيح في الفقه وأصوله)) ، ثم ذكر ابن الصلاح النقل الذي كان احتج به الخطيب لمذهبه (2) .

مع أن مذهب الخطيب واستدلاله له مختلف عن المذهب الذي اختاره ابن الصلاح واستدلاله!!

وقد بين الحافظ ابن رجب والحافظ ابن حجر وغيرهما أن كلام البخاري، الذي نقله الخطيب وتبعه ابن الصلاح، لا يدل على قبول الزيادة في لإسناد مطلقاً (3) . وهذا وحده ينفع أن

(1) الكفاية للخطيب (434) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (72) .

(3)

انظر شرح العلل لابن رجب (2/ 638) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 607- 608) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/203) .

ص: 217

يكون دليلا جديداً، على عدم صحة فهم كلام الخطيب على ما فهم به، لأن دليله على قوله لا يصلح دليلاً لما فهم من قوله!!

ولما فهم ابن الصلاح ذلك الفهم عن الخطيب، عاب تصرفه في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد)(1) ، لأنه في رأيه ناقض به القول الذي في (الكفاية) ، ذلك القول الذي صححه الأصوليون أيضاً!!

ثم لما وقف ابن رجب على ذلك كله، من كلام الخطيب وابن الصلاح، فهم كلام الخطيب على فهم ابن الصلاح، فلم يرض قوليهما. وقال بعد ذكره تصرف الخطيب في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد) :((ثم إن الخطيب على تناقض، فذكر في كتاب (الكفاية) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من متقد مي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين. ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء.

وهذا يخالف تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) .

وقد عاب تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب (الكفاية) ..)) (2) .

ولا أشك أن مراد ابن رجب بـ (بعض محدثي الفقهاء) ابن الصلاح لأنه هو الذي عاب تصرف الخطيب، وطمع في قوله في (الكفاية) ، ولأن ابن الصلاح من (محدثي الفقهاء) !!

وأهم ما في كلام ابن رجب هذا، عندي هنا، هو أنه بين منشأ هذا الاختيار الذي رضيه ابن الصلاح، وأنه مذهب

(1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح (287) .

(2)

شرح علل الترمذي لابن رجب (2/638) .

ص: 218

المتكلمين من الأصوليين والفقهاء.

أما كلام ابن رجب عن الخطيب، فبينا أن الخطيب على خلاف ما فهم من كلامه. ثم الأقوال التي ذكرها الخطيب في هذه المسألة، وإن كانت مأخوذةً عن كتب المتكلمين كما قال ابن رجب، إلا أن ظواهر أقوال وتصرفات كثير من المحدثين تدل عليها، ولذلك ذكرها الخطيب، ثم رجح الراجح الصواب مما يدل عليه باطن علم المحدثين وحقيقة مذهبهم.

ومع هذا التأثر الكبير بالأصول عند ابن الصلاح، إلى درجة ترجيح رأي الأصوليين، على رأي أهل الفن من المحدثين؛ إلا أنه زاد في بيان عمق هذا الأثر، وأنه تعمد مخالفة المحدثين إلى رأي الأصوليين، عندما قال في نوع (العمل) :((وكثيراً ما يعللون (يعني المحدثين) الموصول بالمرسل، مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضاً بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، وهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه)) (1) .

إذن فابن الصلاح كان على علم بحقيقة رأي المحدثين من هذه المسألة، وأنهم كانوا كثيراً ما يقدمون المرسل على الموصول، مع ذلك رجح قول الأصوليين على قولهم!!!

فهذا المثال وما سبقه يكفي لإثبات عمق أثر أصول الفقه على كتاب ابن الصلاح، ولذلك أمثلة أخرى ليس هذا موطن استقصائها.

لكن زاد الأمر خطورةً في كتاب ابن الصلاح، بظهور بوادر (فكرة تطوير المصطلحات) السابق شرحها وبيان خطرها على

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (90) .

ص: 219

السنة وعلومها (1) . وهي تتلخص في تغيير مدلولات المصطلحات عما كانت عليه عند (أهل الاصطلاح) من المحدثين، إما بتضييق مدلول المصطلح، أو بتوسيعه!

ولذلك مثالان:

الأول: في مبحث (الحديث المعَل) ، قال ابن الصلاح في تعريف العلة والحديث المعل، قال:((وهي (يعني العلة) : عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه. فالحديث المعلل: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها)) (2) .

كذا قيد ابن الصلاح (العلة) في الاصطلاح بقيد الخفاء وقيد القدح، مع أن ابن الصلاح نفسه يعلم أن اصطلاح المحدثين أوسع من ذلك بكثير!!!

قال ابن الصلاح في آخر مبحث (المعل) أيضاً: ((ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه، من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ (العلة) في الأصل. ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح: بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح.

وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث.

ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح، من وجوه الخلاف. نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة

(1) انظر (ص176-178) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (90) .

ص: 220

الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ)) (1) .

إذن فابن الصلاح كان يعلم أن استخدام المحدثين للفظ (العلة) شامل: للعلة الخفية والظاهرة، والقادحة وغير القادحة؛ فلم قصره ابن الصلاح في (العلة الخفية القادحة) ؟!!!

ثم ما هي فائدة هذا التدخل في تفسير المصطلح؟!!

ثم كم سيشوش هذا المعنى الذي ذكره ابن الصلاح لـ (العلة) ، في فهم تعليلات الأئمة، فيما لو فهم كلامهم على ذلك المعنى الضيق المخالف لسعة معنى المصطلح

عندهم؟!!!

ثم انظر: كم قلد ابن الصلاح ممن جاء بعده في هذا التدخل؟!!

ولئن ذكر ابن الصلاح أن تفسيره لـ (العلة) في اصطلاح المحدثين يخالفه اصطلاحهم!!! فإن من جاء بعده ألقى بأقوال المحدثين المخالفة لذلك التفسير، واقتصر في تعريف (العلة) على تفسير ابن الصلاح لها (2) !!

وبذلك تزداد الهوة، ويفدح الخطر!!!

أما المثال الثاني: في مبحث (المنكر:

فيقول ابن الصلاح في هذا المبحث: ((وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أن النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثيرٍ من أهل الحديث، والصواب فيه التفصيل..)) (3)

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (92-93) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (81) .

(3)

علوم الحديث لابن الصلاح (81) .

ص: 221

ويكفي هذا!

فإذا كان الحكم بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجوداً في كلام كثيرٍ من أهل الحديث، فكيف يكون صواب الاصطلاح خلاف ما عليه أهل الاصطلاح!!!

وغاية ما يمكن أن يدعى في الدفاع عن ابن الصلاح (مع أنه ليس في حاجةٍ إلى دفاع، لأنه معذور مأجور إن شاء الله تعالى!)، أن يقال: إن القول الذي نقل ابن الصلاح أنه قول كثير من أهل الحديث، يخالفه قول الأكثرين من أهل الحديث، ولذلك صوبه ابن الصلاح.

فأقول: هذه دعوى! فالبينة البينة؟!

وعلى افتراض صحة هذه الدعوى، فلا يحق ـ مع ذلك ـ لأحدٍ أن يخطىء الكثيرين من أهل الحديث، وأن يصوب قول الأكثرين منهم فقط؛ أولاً: لأن أولئك كثيرون، وليسوا قليلين لتكون أقوالهم وإطلاقاتهم شاذةً غير مغتبرة. وثانياً: لأن المصطلح لا مشاحة فيه، فالواجب علي فهمه على ما هو عليه عند:(الكثرين) و (الأكثرين) ، إن صح ذلك الافتراض!

كيف إذا علمت أن من أولئك (الكثرين) الذين أطلقوا لفظ (النكارة) على (التفرد) : الإمام أحمد، والنسائي (1) ؟!! وهما من هما: إمامةً في السنة، واعتماداً عليهما وعلى أقوالهما في علوم

(1) النظر النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (674) .

ص: 222

الحديث المبثوثة المنتشرة في أصول ومصنفات السنة.

وبهذا المثال وسابقه نستدل على محاولة ابن الصلاح تطوير المصطلح، وأنه كان معتنقاً لـ (فكرة تطوير المصطلحات) !

ومع هذه المؤخذات على كتاب ابن الصلاح، إلا أن قرب عهد ابن الصلاح من أسلاف المحدثين (بالنسبة إلى من جاء بعده) ، ورأيه المباشر في علم المنطق، واعتماده على كتب الخطيب البغدادي؛ كل ذلك قلص من اتساع الخرق بين معاني المصطلحات الحديثية والمعاني التي ذكرها لها ابن الصلاح. فلم يزل كتابه ـ في غالبه ـ رابطاً حسناً ومهماً بين المتقدمين والمتأخرين، وقائداً أميناً إلى فهم عبارات القوم وألقاب علمهم.

أما بعد ابن الصلاح: فقد أصبح كتابه هماً للاحقين: شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وانتقاداً، وانتصاراً، متأثرين بمنهجه، سائرين على دربه. ولئن كان تأخر الزمان كافياً للدلالة على زيادة ضعف تلقي العلوم النقلية، وعلى تعمق أثر العلوم العقلية عليها أكثر من ذي قبل = فإن ظهور بعض المؤخذات المنهجية على كتاب ابن

الصلاح، جعلها مناهج سليمةً صحيحةً عند من جاء بعده، لإمامة ابن الصلاح وإمامة كتابه في علوم الحديث. مما خطا بعلوم الحديث خطوةً أخرى إضافية إلى التأثر بالعلوم الأجنبية عنها، وبالتوسع في تلك المؤخذات المنهجية خلال تفسير وتقعيد مصطلح الحديث وأصوله.

وليس أدل على ذلك من انتقادهم لابن الصلاح وغيره ممن تكلم في علوم الحديث قبله، بعدم انضباط تعريفه على قواعد الأصوليين، وعدم تحريرها على صناعة المناطقة!!

فهذا تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المعروف بابن دقيق العيد (ت 702هـ) ، في كتابه (الاقتراح في

ص: 223

بيان الاصطلاح) ، ينتقد تعريف ابن الصلاح للحديث الصحيح، فيقول:((وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث، لا تجري على أصول الفقهاء.. (إلى أن قال:) لن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً)) (1) .

وغاب عن ابن دقيق العيد هنا، أن الكلام عن مصطلح الحديث عند أهل الحديث!! ثم لا وزن لغير أهل الحديث إذا خالفوا أهله فيه!!!

وانتقد ابن دقيق العيد أيضاً الإمام الخطابي في تعريفه للحديث الحسن، فقال:((وهذه عبارة ليس فيها كبير تلخيص، ولا هي على صناعة الحدود والتعاريف)) (2) .

وبالنظر السابق نفسه، بل وباللفظ نفسه أيضاً، انتقد الإمام الذهبي (ت 748هـ) تعريف الخطابي، فقال في (الموقظة) :((وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات، إذ الصحيح ينطبق ذلك عليه)) (3) .

والغريب أن كلاً من ابن دقيق العيد والذهبي ممن نصر القول بدخول الحسن في الصحيح، وأن كل صحيحٍ حسن، وليس كل حسن صحيح (4) .

(1) الاقتراح لابن دقيق العيد (153- 155) .

(2)

الاقتراح (163- 164) .

(3)

الموقضة للذهبي (26) .

(4)

انظر الاقتراح (165- 167) ، والموقظة (27- 32) .

ص: 224

وذلك فيه بعض النقاقض، والذي قادهما إليه التزام صناعة الحدود المنطقية!!

ويستمر هذا النظر، بالانتقاد نفسه، إلى الحافظ ابن حجر. فعندما ذكر الحافظ تعريف الخطابي للحديث الحسن، وما وجه إليه من انتقاد، ذكر جواباً عن ذلك الانتقاد للحافظ العلائي (خليل بن كيكلدي، الموفى سنة 761هـ) . فقال الحافظ ابن حجر، مشيراً إلى جواب العلائي:((وعلى تقدير تسليم هذا الجواب، فهذا القدر غير منضبط، فيصح ما قال القشيري (يعني ابن دقيق العيد) : أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات)) (1) .

فالانتقاد المتوجه على تعريف الخطابي للحديث الحسن، عند الحافظ ابن حجر: أنه على غير صناعة الحدود المنطقية!

ثم يهاجم علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير (ت 1182هـ) الحافظ ابن حجر، فيقول في (توضيح الأفكار) :((ويقال للحافظ: وكذلك تعريفك (الحسن) في النخبة وشرحها بقولك: (فإن خف: أي قل الضبط، مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن لذاته) = غير منضبطًٍ أيضاً، فإن خفة الضبط أمر مجهول)) (2) .

ثم أخذ الأمير في بيان العموم والخصوص المذكور بين (الصحيح) و (الحسن) ، وتوسع غاية التوسع في شرح (العموم) و (الخصوص) عند الأصوليين (3) ، حتى إن الناظر في كلامه ليعجب من هذا المبحث الأصولي البحت، ما الذي جاء به إلى مبحث (الحديث الحسن) ؟

(1) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/404) .

(2)

توضيح الأفكار للأمير الصنعاني (1/ 155) .

(3)

انظر توضيح الأفكار (1/156- 158) .

ص: 225

ثم ينتقل الأمير إلى علم المنطق الخالص: إلى الكلام عن الحدود والرسوم، والفرق بينهما، وعلاقتهما بالمعرفات.. وغير ذلك من علم المنطق الصرف (1) ؛ وهذا كله في مبحث (الحديث الحسن)

وخلال كلام الأمير هذا، جاءت كلمة ابن الوزير الفاصلة، والقول الحق، الذي كنا قد ذكرناه سابقاً، وهو قوله:((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (2)

وأكتفي بهذا القدر اليسير في حجمه، العظيم في دلالته، من الكلام عن منهج من جاء بعد ابن الصلاح، لنقف عند تحولٍ جديد وأعمق في هذا العلم.

ونحن في هذه الوقفة، عند هذا التحول في منهج التصنيف في علوم الحديث، لنرى (فكرة تطوير المصطلحات) ماثلةً أمام أعيننا، ونمسك أثر علوم المنطق وأصول الفقه متجسداً في أحد تصانيف هذا العلم.

أعني بهذا كتاب (نزهة النظر (3) في توضيح نخبة الفكر) ، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . و (النخبة) وشرحها هذان، من حين ما صنفا، احتلاً مكان الصدارة في كتب علوم الحديث، (فلا يحصى كم ناظمٍ لها

(1) انظر توضيح الأفكار (1/158) .

(2)

المصدر السابق، وانظر (ص 164- 165) .

(3)

يشكك بعض طلبة العلم في أن يكون اسم (شرح النخبة) : (نزهة النظر) ، وقد رد على هذا الظن محقق (النزهة) الشيخ الفاضل علي بن حسن الحلبي في مقدمة تحقيقه (ص 24) .

ص: 226

ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارضٍ لها ومنتصر) (1) . لذلك كان للمنهج الذي سار عليه الحافظ فيهما أكبر الأثر فيمن جاء بعده، إلى عصري هذا

وقبل دخولي في بيان المؤخذات على (نزهة النظر) ، أحيل القارىء الكريم إلى كلامٍ سابقٍ لي، اعتذرت فيه عن تكرير ديباجة الاعتذار عند كل نقدٍ علمي موضوعي (2) ، فلا تأثم - لا أثمت - بسوء النية قبل الوقوف عليها

أقول هذا لما لـ (تزهة النظر) من قدسيةٍ لا تنال عند أهل عصري، وكأنها كتاب ناطق أو سنة ماضية

وليس عندي - بحمد الله - لغير كتاب الله وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه قدسية، فالكتاب وحده الذي اختص بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الثابتة وحدها المعصوم صاحبها صلى الله عليه وسلم، وما أرشدا إليه وحده هو شرع الله العظيم الكامل التام.

وليس عندي أيضاً ـ بحمد الله ـ أدنى شك في أهمية كتاب (نزهة النظر) ، وفي كثيرٍ من مباحثه الجليلة العظيمة النفع.

كل ما في الأمر أني رأيت لـ (نزهة النظر) في بعض مباحثه منهجاً غريباً على علوم السنة، وغاية أغرب في تفسير مصطلحاتها. وأحسب هذا المنهج والغاية خطيرين على السنة النبوية وعلومها، فلم أر الأمر يسعني بالسكوت عن ذلك.

وإياك إياك أن تتفرس الأسطر، وتقرأ ما بينها (بزعمك) ،

(1) من كلام الحافظ ابن حجر في (نزهة النظر) عن كتاب ابن الصلاح (ص 51) .

(2)

انظر (ص 205- 206) .

ص: 227

لتقول علي ما لم أقل، وتنسب 'لي ما لا علاقة لي به. فمرادي هو المنطوق دون المفهوم ولازم مذهبي بلازم

والله يعينني وإياك على طريق الحق وقبوله

وأقول هذا، لنه قد بلغ الأمر على درجة أن الناظر في (نزهة النظر) يحسب أن الحافظ يصنف في بيان مصطلحه الخاص به، أو أن للحافظ الحق في التحكم بمصطلحات المحدثين، بتصويب هذا وتخطيء ذاك، وباختيار مدلول دون آخر، وبابتداع فروق وقيود جديدة على المصطلحات ومعانيها

بل لقد قيل لي مرة، عندما عرضت رأيي من هذه المسألة، وهوجم ـ بالطبع للدفاع عن (النزهة)، قيل لي: لا مشاحة في الاصطلاح، والحافظ حر فيما يقول ويصطلح

فقلت جواباً عن هذا ـ ولا حاجة لهذا إلى جواب، بعد بيان خطر (فكرة تطوير المصطلحات) وخططها (1) ـ: لقد سمى الحافظ كتابه بـ (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر)، ولم يقل: في (مصطلح)

أما أدلة هذا الهجوم (عند من لا يعرفني مع الحافظ والنزهة) ، والبيان والتوضيح للحق (عند من يعرفني معها) ،

فالآتي:

حيث يبدأ عمق التأثر بعلم المنطق بالوضوح، من حيث النظر في ترتيب (النزهة) ، الترتيب المغاير لكل الكتب السابقة في علوم الحديث.

(1) انظر (ص 176- 178) .

ص: 228

فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس (التقسيم العقلي)(1) . عند المناطقة، أو ما يشبه (السبر والتقسيم)(2) المعروف عند الأصوليين في مسالك العلة من باب القياس.

وليس في هذا الترتيب مؤاخذة على الحافظ، لكن ذلك يدل على تغلغل أثر (علم المنطق) وتعمق (الأصول) في فكر الحافظ ومنهجيته،، إلى درجة بناء الكتاب في ترتيبه على أساسها. ثم أول ما يبدأ به الكتاب: تقسيم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، وقد خطا الحافظ في هذا التقسيم خطوةً جديدة، دالةً على مزيد تأثره بأصول الفقه على ابن الصلاح. وقد سبق ذكر بعض ما يتعلق بذلك (3) ، وقي أشياء لا أطيل بها

وفي أثناء هذا التقسيم، وعند كلامه عن أقسام (الآحاد) ، حصر الحافظ (العزيز) فيما لم يروه أقل من أثنين عن اثنين (4) ، و (المشهور) فيما رواه ثلاثة فصاعداً، ما لم يبلغ حد التواتر (5) .

مع أن الذي قرره أبو عبد الله ابن منده (ت 301هـ) ، وهو من (أهل الاصطلاح)، وتابعه ابن الصلاح: أن (العزيز) ما رواه

(1) التقسيم العقلي: هو تقسيم المقسم إلى لاشيء ونقيضه، أو إلى الشيء وما يشبه نقيضه. مثاله: في الأول: (الموجود ـ المعدوم)، وفي الثاني (العدد: زوج ـ فرد) .

انظر آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (2/9 - 10) .

(2)

السبر والتقسيم: هو حصر الأوصاف، وإبطال كل علةٍ علل بها الحكم المعلل، إلا واحدة فتتعين.

انظر البرهان للجويني (2/815) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/142) .

(3)

انظر (ص 123-127) .

(4)

نزهة النظر (ص 64) .

(5)

نزهة النظر (ص 62) .

ص: 229

اثنان أو ثلاثة (1) .

فما حجة الحافظ في ذلك الحصر؟ وفي مخالفة أهل الاصطلاح؟

وفي أثناء ذلك المبحث أيضاً، بل في آخره، تعرض الحافظ لمصطلحي (المرسل) و (المنقطع) ، كما أنه تعرض لهذين المصطلحين في موضعهما من بيان أنواع السقط في الإسناد.

وخلاصة ما ذهب إليه هو أن:

(المرسل) : ما سقط من آخره من بعد التابعي (2) .

و (المنقطع) : ما سقط من أثنائه واحد، أو أكثر بشرط عدم التوالي (3) .

وقال: ((أكثر المحدثين على التغاير، لكنه عندإطلاق الاسم. وأما عند استعمل الفعل المشتق فيستعملون الإرسال فقط، فيقولون: أرسله فلان، سواء كان ذلك مرسلاً أو منقطعاً.

ومن ثم أطلق غير واحدٍ، ممن لم يلاحظ مواضع استعماله، على كثيرٍ من المحدثين أنهم لا يغايرون بين المرسل والمنقطع. وليس كذلك، لما حررناه)) (4) .

فالحافظ ـ بدءاً ـ يعترف بأن المغايرة بين (المرسل) و (المنقطع) ، ليس إجماعاً من المحدثين، وإنما ذلك ـ بزعمه ـ عند أكثر المحدثين. فربما قابلهم كثيرون لا يغايرون، أو قليلون

(1) علوم الحديث لابن الصلاح (270) ، وانظر فتح المغيث للسخاوي (4/ 8) ، وتدريب الراوي للسيوطي (2/167) .

(2)

نزهة النظر (109) .

(3)

انظر نزهة النظر (112) .

(4)

نزهة النظر (81- 82) .

ص: 230

إذن فحصره المصطلح في أحد معانيه عند بعضهم دون بعضٍ تحكم لا دليل ولا مسوغ له، والواجب علي فهم أن في الاصطلاح اختلافاً في مدلوله بين المحدثين، حتى يمكنني تنزيل كلامهم منزلته وفهمه على وجهه.

وأحسب أن الحافظ أراد بنقده (لمن لم يلاحظ مواضع الاستعمال) ـ كما قال ـ الخطيب البغدادي، حيث قال في (الكفاية) :((أما (المرسل) : فهو ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال:

ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم) (1) .

وكلام الخطيب هذا هو الصواب في تعريف (المرسل) ، وهو من بديع كلام الخطيب في شرح مصطلح الحديث.

والتدلي على صوابه يكون بالرد على الحافظ ابن حجر!

فالحافظ يزعم أن المغايرة بين (المرسل) و (المنقطع) تظهر في الاسم، دون الفعل المسشتق، كما سبق نقل كلامه.

فأين الحافظ في زعمه هذا عن (المراسيل) لأبي داود؟ !

وفيه من رواية التابعي عمن لم يدركه من الصحابة روايات عدة (2) . فهي عند الحافظ من (المنقطع) دون (المرسل) ، مع ذلك ذكرها أبو داود في (المراسيل) ، و (المراسيل) اسم لا فعل!!

كلا.. لا (أين) ! فالحافظ كان عالماً برأي أبي داود هذا (3) !! لكن يبدو أنه ألغاه من الاعتبار في شرح المصطلح،

(1) الكفاية (37) .

(2)

انظر المراسيل لأبي داود (رقم 47، 110، 154، 193، 241) ، وغيرها.

(3)

انظر انكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/544) .

ص: 231

لأنه من الكثيرين الذي خالفوا الأكثرين!!!

أم كيف غاب عن الحافظ (المراسيل) لا بن أبي حاتم، وجله في الانقطاع قبل الصحابي؟!!! وفيه أقوال بالغة الكثرة لأئمة كثيرين من أهل الحديث، يعبرون فيها عن عدم سماع راوٍ

من راوٍ بأنه (مرسل) ، كذا بالصيغة الاسمية!!

ثم أخيراً: أين (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) للعلائي عن الحافظ؟! وهو على نمط سابقه!!

وهذا كله في إطلاق (المرسل) بالصيغة الاسمية على (المنقطع) عند الحافظ، فماذا يقول؟!!

وأما إطلاق (المنقطع) على (المرسل) ، فوارد في صريح كلام الإمام الشافعي في (الرسالة)، حيث قال: ((المنقطع مختلف: فمن شاهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي= اعتبر عليه بأمور

)) (1) .

(1) الرسالة للشافعي (رقم 1263- 1264) .

ص: 232

هذا هو الكلام الذي نقل عن الحاكم، وفهم منه أن الحاكم يحصر مصطلح (المرسل) في الصورة التي ذكرها، وهي رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل ظاهر كلام الحاكم، أن الإجماع منعقد على ذلك.

لكن سبب الخطأ في فهم كلام الحاكم على ذلك أنه حذف منه أوله! حيث ابتدأ الحاكم هذا النوع بقوله: ((النوع الثامن من هذا العلم: معرفة المراسيل المختلف في الاحتجاج بها

)) (1) .

فالحاكم إذن لا يتكلم عن (المرسل) بإطلاق، إنما يتكلم عن (المرسل) الذي وقع الاختلاف في الاحتجاج به.

هذا ظاهر كلام الحاكم، وصريح عبارته!!

ثم يؤده إطلاق الحاكم في غير موطن من كتبه لفظ (المرسل) واشتقاقاته على غير ما حصر فيه. وذلك في مثل قوله عن حديثٍ للحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

(1) معرفة علوم الحديث (25) .

ص: 233

((إسناد صحيح الرواة، مرسل عن علي)) (1)، وكقوله أيضاً على حديث آخر للحسن عن عائشة رضي الله عنها:((هذا حديث صحيح إسناده، لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة)) (2) .

ونحو الحاكم في هذه المسألة الحافظ ابن عبد البر، وكلامه عن (المرسل) في كتابه (التمهيد)(3) !!

وأكتفي بهذه الإشارة والدلالة، عن التطويل في الإيضاح والبيان.

وننتقل عن هذه المسألة إلى دليل آخر على تبني الحاغفظ لـ (فكرة تطوير المصطلحات) .

ففي تعريف الحافظ لـ (العلة) في اللاصطلاح تغير لمدل المصطلح عند أهله، كما سبق بيانه فيما تقدم من هذا الباب (4) .

ثم نقف عند مصطلحي (المنكر) و (الشاذ) ، وما يقابلهما (المعروف) و (المحفوظ) .

أما (المنكر) و (الشاذ) ، فقد فرق بينهما الحافظ، وقصر مدلوليهما وقده بوقوع مخالفة، فإن كانت مخالفة مقبول فهو (الشاذ) ، وإن كان ضعيفاً فهو (المنكر)(5)

مع أن ابن الصلاح قبله لم يفرق بين (المنكر) و (الشاذ)(6) !

(1) انظر مبحث علي بن أبي طالب في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) .

(2)

المستدرك (4/578) .

(3)

التمهيد (1/19) .

(4)

انظر (ص 220- 221) .

(5)

نزهة النظر (97- 98) .

(6)

علوم الحديث لابن الصلاح (76- 82) .

ص: 234

بل والحافظ نفسه يعترف بعدم انضباط هذا التعريف في استخدامات المحدثين، وأنهم يطلقونهما على مدلولات أوسع مما ضيقها فيها الحافظ (1) .

ومما سبق ذكره، ويعرفه الحافظ، أن الإمام أحمد والنسائي يطلقان النكارة على مطلق التفرد (2) . وقد سبق الكلام عن خطأ إغفال هذا الاستعمال في شرح مصطلح (المنكر)(3) ، فضلاً عن غيره من استعمالاته واستعمالات (الشاذ) .

ثم إن الحاكم أبا عبد الله، وهو من أهل الاصطلاح، عرف (الشاذ) ، وضرب

له أمثلة. فلم لم يلتزم الحافظ تعريفه (4) ؟!

وأيضاً فقد عرف (المنكر) الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون بن روح الرديجي (ت 301هـ) ، وهو من أهل الاصطلاح. فبأي حق يخالفه الحافظ (5) ؟!

أما دعوى أن مقابل (الشاذ)(المحفوظ) ، وأن مقابل (المنكر)(المعروف) ، كذا قسمةً باتة= فأجزم أنها من كيس الحافظ، وانه لم يسبق إليها، ولا هناك ما يدل عليها!!!

وكتب العلل مليئة بإطلاق (المحفوظ) و (المعروف) دون التفات إلى هذا التقسيم، أو اعتباره (6) !!

وقد نبه إلى ذلك ابن قطلوبغا في حاشيته على (نزهة) !

(1) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/674- 675) .

(2)

انظر (ص 222) .

(3)

الموضع السابق.

(4)

معرفة علوم الحديث للحاكم (119- 122) .

(5)

علوم الحديث لابن الصلاح (80) .

(6)

انظر مثالاً على ذلك في العلل للدار قطني (2/87رقم 129) .

ص: 235

قال ابن قطلوبغا عند تقسيم الحافظ وتعريفه لـ (المنكر) و (الشاذ) وما يقابلهما: ((وما ذكره في توجيهه ليس على حد ما عند القوم)) (1) .

وقال ابن قطلوبغا أيضاً معلقاً على قول الحافظ ((وقد غفل من سوى بينهما)) ، قال:((قد أطلقوا في غير موضع (النكارة) على رواية الثقة مخالفاً لغيره، من ذلك: حديث نزع الخاتم (2)، حيث قال أبو داود:((هذا حديث منكر)) (3) ، مع أنه من رواية همام بن يحيى، وهو ثقة احتج به أهل الصحيح. وفي عبارة النسائي، ما يفيد ـ في هذا الحديث بعينه ـ أنه (أي المنكر) يقابل (المحفوظ)(4) . وكأن (المحفوظ) و (المعروف) ليسا بنوعين حقيقيين، تحتهما أفراد مخصوصة عندهم، وإنما هي ألفاظ تستعمل في التضعيف، فجعلها المؤلف أنواعاً، فلم توافق ما وقع عندهم)) (5) .

فانظر إلى هذا (الجديد) و (التطوير) لمعاني المصطلحات، وتنبه إلى نتائج ذلك وأخطاره!!

ثم بعد ذلك في (النزهة) ، عند الكلام عن الأحاديث المقبولة المتعارضة، يقول الحافظ: ((فإن أمكن الجمع، فهو النوع

(1) حاشية ابن قطلوبغا (القول المبتكر) = (ص 101) .

(2)

هو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)) .

(3)

سنن أبي داود (رقم 19) .

(4)

حيث قال النسائي عن هذا الحديث الذي وصفه أبو داود بأنه (منكر) : ((غير محفوظ)) كما في السنن الكبرى (5/456رقم 9542) .

(5)

حاشية ابن قطلوبغا (103) ، ووقع فيه تصحيف صوبته من اليواقيت والدرر للمناوي (1/290) ، كما وقع في الثاني تصحيف أيضاً!

ص: 236

المسمى (مختلف الحديث)

)) (1) .

فقصر الحافظ (مختلف الحديث) في: (الحديث المقبول الذي عارضه مثله معارضةً ظاهريةً وأمكن الجمع) ، كذا بقيد إمكان الجمع، كما هو واضح في كلامه.

أما ابن الصلاح قبله، فذكر في نوع (معرفة مختلف الحديث) : ما أمكن فيه الجمع، وما لم يمكن مما قيل فيه بالنسخ أو بالترجيح؛ وهذا كله في (مختلف الحديث)(2) !

وهذا أيضاً هو صريح مقال وفعال الإمام الشافعي في كتابه (اختلاف الحديث)(3) .

ومثله ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ) ، في كتابه (تأويل مختلف الحديث)(4) .

أما استاذي الدكتور أسامة بن عبد الله الخياط في كتابه (مختلف الحديث) ، فتوسط بين الحافظ وغيره، حيث مال إلى أن (مختلف الحديث) شامل لما أمكن فيه الجمع أو الترجيح، دون النسخ (5) .

على أني أعلن أن (مختلف الحديث) ليس من مصطلحات

(1) النزهة (103) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (284- 286) .

(3)

انظر اختلاف الحديث (39- 40)، وانظر مثالاً لما صار فيه إلى القول بالنسخ في حديث:((الماء من الماء)) = (ص 59- 64) ، ولما صار فيه إلى الترجيح، في التيمم (ص 64- 66) .

(4)

انظر مثالاً لما صار فيه ابن قتيبة إلى القول بالنسخ في تأويل مختلف الحديث (ص 194) ، وهو في حد القطع في السرقة.

(5)

مختلف الحديث للدكتور أسامة خياط (32) .

ص: 237

أقسام الحديث، التي كان يعبر بها عن حال المروي كـ (الصحيح) و (الضعيف) ونحوهما. وإنما (مختلف الحديث) اسم لمصنفات في شرح أحاديث شملتها صفة واحدة، هي: وقوع اختلاف أو تناقض بينهما وبين غيرها من كتاب أو سنة أو عقل صحيح، لتزيل إشكال ذلك الاختلاف وحرج ذاك التناقض.

ومثل (مختلف الحديث) في ذلك مثل (المتفق والمفترق) و (المؤتلف والمختلف) و (المتشابه في الرسم) والمزيد في متصل الأسانيد) ، وغيرها، من أسماء المصنفات، التي أدخلها ابن الصلاح في أنواع كتابه، فتطور الأمر بعده، فظنت أنها مصطلحات متداولة كـ (الصحيح) و (الضعيف) .

ثم ننتقل إلى مسألة أخرى، قد أشبعتها بحثاً في نحو سبع مجلدات! إنها مسألة (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) .

وما أريد ذكره هنا أن الحافظ صرح بأن السبب من تفريقه بين: (رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه) بتسميته (إرسالاً خفياً)، و (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه) بحصر (التدليس) فيها؛ بين أن سبب هذا التفريق هو:((لتتميز الأنواع)) (1) ، يعني من أجل (تطوير المصطلحات) !!!

وفي هذه المسألة يتضح اعتناق الحافظ لـ (فكرة تطوير المصطلحات) ، وأنه كان مؤمناً بها، لا يرى فيها ما يدعو إلى عدم السعي لتحقيقها!!

والوقوف على عجائب ذلك وغرائبه، يستلزم منك الوقوف على تلك الدراسة المطولة، المشار إليها آنفاً.

(1) انظر تعريف أهل التقديس لابن حجر (25) .

ص: 238

فإذا مضينا مع (النزهة) ، نقف عند أنواع الطعن في الراوي، ومسمى حديث من طعن فيه بأحدها (1) ؛ لتلمح (التطوير) والتحكم في ذلك من النظرة الأولى! فإذا فحصت عن ذلك ظهر لك تأكيد تلك الملامح!!

فإذا عجلت المضي في (النزهة)، يستوقفك قول الحافظ:((فإن كان ذلك (يعني التغيير) بالنسبة إلى النقط: فـ (المصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل (2) : فـ (المحرف) ..)) (3) .

وهذا التفريق تفريق حادث، واصطلاح خاص بالحافظ، لم يسبقه إليه أحد!!

وقد أشار بعض شراح (النزهة)

إلى أن هذا التفريق اصطلاح للحافظ دون غيره (4) .

وقال الإمام العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر بن

(1) انظر نزهة النظر (122- 123) .

(2)

المراد بالشكل: الضبط بالحركات والسكنات، كسليم وسليم، وما كنت أحسب أحداً يفهمه على خلاف ذلك، حتى قيل لي مرة: إن مراد الحافظ بـ (الشكل) هيئة الكلمة وصورتها!

فقلت: فلا فرق إذن بين (المصحف) و (المحرف) ، لأن (بريداً ويزيداً) و (بشيراً ويسيراً ونسيراً) مع أن التغيير فيها وقع في النقط، فقد تناول هيئة الكلمة وصورتها أيضاً. ولا يتصور تغيير النقط، إلا بتغيير صورة الكلمة أيضاً.

وعلى كل حال، فقد اتفقت كلمة شراح (النزهة) على فهم كلام الحافظ ومراده بـ (الشكل) على ما ذكرته.

فانظر قفو الأثر لابن الحنبلي ـ وحاشية تحقيقه ـ (77) ، وشرح شرح نخبة الفكر لملا علي القاري (490) ، وبلغة الأريب للزبيدي (195) ، واليواقيت والدرر للمناوي (2/431) ، ولقط الدرر للسمين (95) .

(3)

النزهة (128) .

(4)

انظر إمعان النظر للنصربوري (163) ، وبهجة النظر لأبي الحسن الصغير السندي (164) ، ولقط الدرر للسمين (96) .

ص: 239

أحمد الشريف الحسيني المصري (1377هـ) ، في حاشية تحقيقه لألفية الحديث للسيوطي، بعد ذكره لتفريق الحافظ بين (المصحف) و (المحرف) :((وهو اصطلاح جديد، وأما المتقدمون فإن عباراتهم يفهم منها أن الكل يسمى بالاسمين، وأن التصحيف مأخوذ من النقل عن الصحف، وهو نفسه تحريف)) (1) .

وتبعه على ذلك عبد الفتاح أبو غدة في تحقيقه لـ (قفو الأثر)(2) .

وقد كنت رددت تفريق الحافظ هذا في أصل هذا البحث بالأدلة، ثم طبع حديثاً كتاب (التصحيف وأثره في الحديث والفقه ودجهود المحدثين في مكافحته) للأستاذ أسطيري جمال. وقد أطال في رد هذا التفريق، وفي الاستدلال لنقضه، بما يكفي ويشفي. فاستغنيت عما كنت كتبته، بما أحيل إليه من ذلك الكتاب (3) .

والأعجب من ذلك كله، هو موقف بعض شراح (النزهة) . فبعد تقريرهم أن تفريق الحافظ اصطلاح خاص به، قالوا:((ولا مشاحة في الاصطلاح)) !!!

فأقول: لكن الذي فعله الحافظ هو (المشاحة) !! لأنه يتكلم عن مصطلح أهل الأثر، كما سمى كتابه، وليس يتكلم عن مصطلحه الخاص به!! وتفريقه ذاك مخالف لاصطلاح أهل الأثر، فيقال له هو:((لا مشاحة في الاصطلاح)) !!!

وهنا أنتهي من كلامي عن (نزهة النظر) ، بما أظهرت به أن

(1) ألفية السيوطي ـ الحاشية ـ (203- 204) .

(2)

قفوا الأثر لابن الحنبيلي - الحاشية - (77- 82) .

(3)

التصحيف لأسطيري - جمال (25-41) .

ص: 240

لـ (النزهة) ـ في مواضع منها ـ منهجاً غير سديد في فهم المصطلح، قائماً على (فكرة تطوير المصطلحات) التي كررنا التأكيد على خطرها وأثرها المدمر على علوم الحديث (1) .

وأرجو ـ بعد ذلك ـ أن يكون مقصودي واضحاً، فلا يفسر على غير ما أردت. إذ إنه ليس غرضاً لي ـ ولم يكن ولن يكون غرضاً لي ـ الحط من كتاب كـ (نزهة النظر) . إنما أردت بيان فضل المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث على المناهج الأخرى، وبيان من سار على ذلك المنهج أو تلك المناهج من المصنفين في علوم الحديث.

فإذا عدنا إلى سياق كتب علوم الحديث، وتلمس مناهجها، بعد الحافظ ابن حجر، فأقول ـ مختصراً المقال: ـ

إن اشهر الكتب في علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر، هي:(فتح المغيث شرح ألفية الحديث) للسخاوي (ت 902هـ) ، و (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي) للسيوطي (ت 911هـ) ، و (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار) للأمير الصنعاني (ت 1182هـ) .

وقد اتخذت هذه الكتب، وغيرها مما وضع في عصرها أو بعده، من (نزهة النظر) للحافظ ابن حجر= أصلاً أصيلاً، ومصدراً أساسياً، في فهم مصطلح الحديث وتقرير قواعده. فتناقلت الكتب ما جاء في (النزهة) ، ونصرته، غالباً.

ولقد كان السخاوي مثالاً للتلميذ المتعصب لشيخه: الحافظ ابن حجر، وحق له ـ والله ـ ذاك!! لكن الحافظ عندي إمام، وابن الصلاح إمام، والخطيب إمام، والحاكم إمام، وغيرهم من

(1) النظر (ص 176) .

ص: 241

نقاد الحديث أئمة أيضاً. فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر!! لذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي وسعي إليه، وأحق ما نصر وتعصب له!!

أما السيوطي فأخف من غيره تعصباً للحافظ، خاصةً في (تدريب الراوي) ى. ولعل سبب ذلك أنه يشرح كتاباً للنووي في اختصار كتاب ابن الصلاح، ثم هو لم يتتلمذ على الحافظ ابن حجر.

وأما الأمير الصنعاني فأبعدهم عن التعصب، لكنه لا يجري مجرى غيره في ممارسة علم الحديث تطبيقاً وعملاً، ثم يؤخذ عليه كثرة تعويله على كتب أصول الفقه وترجيح آراء اصحابها على آراء أصحاب الفن من المحدثين!

غير أنه مما يميز هذه الكتب وأشباهها، أنها كتب موسعة، مليئة بالنقول والأمثلة. إضافةً إلى تحريراتٍ وفوائد وفرائد، لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم.

وبذلك أكون قد انتهيت من هذا العرض، لمناهج كتب علوم الحديث، وتمييز خصائها ومحاسنها من المؤخذات عليها. وقد حاولت جاهداً الاختصار، وإلا فالمجال واسع فسيح، بدراسة كل كتابٍ على حدة، دراسةً شاملةً وافيةً، من خلال الغاية التي سعيت إليها في هذا العرض.

ومن هنا أنتقل إلى الباب الآتي.

ص: 242