الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني:
في عصر التابعين
بدأ عصر التابعين، بعد أن انتهى الجيل الأول، وذهب قرن الصحابة رضي الله عنهم. فتحمل التابعون بإحسان عن الصحابة رضي الله عنهم العلم والإيمان، والشعور العميق بعظم المسؤولية الملقاة عليهم بتبليغ العلم والإيمان للاجيال من بعدهم، كما بلغتهم.
لكن زاد الأمر خطورة، وتتابعت الفتن على الأمة، وتعبت الأحزاب، وخرج دعاتها يدعون الناس إلى باطلهم، لاجئين أحياناً إلأى الكذب الصريح، أو إلى أنواع من التلبيس و (التدليس) لإخفاء عيب رواياتهم.
ومع ذلك فقد بدأ الإسناد يطول، وأصبحت لا تسمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا بواسطةٍ فأكثر، خاصة بعد أن اخترم غالب جيل الصحابة، فأصبح التابعي يأخذ عن قرينه من التابعين ويروي عنه. وهذه الوسائط ـ حاشا الصحابي ـ يلزم لقبول ما ترويه: العلم من حالها ما يدل على عدالة وحسن نقل أصحابها، أي يلزم تمييز الثقات في النقل، من غير الثقات فيه، من أهل هذه الطبقة فمن بعدهم.
وفي هذه الحقبة دوت صرخات من أئمة التابعين، لمواجهة
كل هذه الأخطار المحدقة بالسنة. وتجند لذلك الغرض: (الدفاع عن السنة) ، فئام عظيم من الأمة حينها، حريصون كل الحرص على نشر السنة، لكن بعد التأكد والتثبت والتامين الكاملين من أنها سنة نبوية حقاًَ.
ومن هذه الصرخات، كلمة محمد بن سيرين، التي حفظتها الأجيال، وتناقلتها الأعقاب، وهي قوله:((إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)) (1) .
لقد أصبحت هذه الكلمة، الدالة على وجوب التثبت في نقل السنة، شعاراً في ذلك العصر، وفيما بعده، إلى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله، مادام في الناس من يهمه أمر الدين ويسعى لرضى ربه عز وجل.
ومع نشوء علم الإسناد، نشأت بعض علومه، الكفيلة بحفظ السنة في هذا الجيل، وبتبليغه للأجيال من بعده.
وبدأ حملة الآثار في هذا العصر وأئمة التابعين، بالتعبير عن حال الرواية والراوي، وعن أوصافهما المختلفة، بألفاظٍ.. كثر استخدامهم لها بعد ذلك، حتى أصبحت مصطلحاتٍ ذات دلالة ٍ عرفية بين أهل الحديث.
وهكذا أخذت الحاجة إلى حفظ السنة، وإلى أدائها
(1) أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 4199) ومسلم في مقدمة صحيحه (1/14) ، والدارمي في سننه (رقم 425) ، والجوزجاني في أحوال الرجال (36) ، وابن أبي حاتم في الجرح والعديل (2/15) ، وابن حبان في المجروحين (1/21) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 437ـ 439) ، وابن شاهين في تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين (40) ، وأبو نعيم في الحلية 0 2/278) ، والخطيب في الكفاية (150) .
للأجيال، في بناء علم جديد، تمز به الإسلام، وتفرد به علماؤه. ألا وهو الإسناد وعلومه، التي أطلق عليها بعد ذلك: علوم الحديث وأصوله.
وإن كنا نحن في بحثنا هذا، إنما نقصره على مصطلح الحديث خاصة، إلا أنه لا يسعنا إغفال تاريخ تدوينه ومراحل هذا التدوين. ذلك لأن مصطلح الحديث أخذ بالبروز والتبلور، هي هذا العصر وفي العصور اللاحقة له، مع حركة التدوين، مرافقة لها جنباً إلى جنب.
ولا غرابة في ذلك، إذ إن تدوين السنة ذاته:(أصوله وآدابه) = من علوم الحديث، وله مصطلحاته الخاصة به.
ولا غرابة في ذلك أيضاً، لأن حركة التدوين إنما كانت تنقل من مرحلةٍ إلى مرحلة ٍ أخرى أكثر ارتقاء، بناء على ما يستجد من دواعي الحفاظ على السنة، وما يظهر من أخطار عليها، تستلزم حماية معينة تجاهها. وحينها لا يعقل أن يرتقي تدوين السنة، دون باقي علومها، ودون نشوء مصطلحات واستقرار أخرى، في مواجهة تلك الدواعي والأخطار. خاصة إذا أدركنا أن من تلك الدواعي: انتشار السنة، وتشعب الأسانيد وطولها؛ وأن من تلك الأخطار: فشو الكذب بعد جيل أتباع التابعين، وافتراق الأمة قبل ذلك بكثير إلى شيع وأحزاب.
وهذا الأمر ـ أعني: ترابط مراحل ارتقاء تدوين السنة بمراحل ارتقاء مصطلحاتها ـ من أوضح ما يكون عند المتخصصين في هذا العلم. بل كان يمكن أن نعكس القضية، فنقيس مراحل ارتقاء التدوين بمراحل ارتقاء المصطلح، بدلاً من ضد ذلك مما نزمع القيام به؛ لولا أن تدوين السنة قد درس وخدم تأريخه ومراحل تطوره من علماء الأمة، قديماً وحديثاً، بما
جعله أنفع لأن يكون هو الأصل الذي يقاس عليه، لزيادة وضوح الأمر الذي نريد أن نقيس عليه فيه.
وبعد هذا التقرير، سنجعل أي إشارة إلى تطور تدوين السنة إشارة ايضاً إلى تطور مصطلحاتها، إلى أن تدون السنة كلها، ولا يبقى للروايات الشفهية غير المدونة ذكر، إلا الروايات المكذوبة والموهومة.
فإذا عدنا إلى عصر التابعين، نقول:
إنه كانت السنة قد بدئ تدوينها من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في زمن الصحابة رضي الله عنهم (1) ؛ إلا أن تدوينها الرسمي، بأمرٍ عام من الدولة، إنما كان في أواخر عهد الصحابة، وذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وبأمره (2) ، وكانت
(1) إن فكرة (السنة قبل التدوين) فكرة أثبتت الدراسات بطلانها، فقد واكب التدوين السنة من البدايات: في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ازدادت حركته في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
انظر: (دراسات في الحديث النبوي) للدكتور محمد مصطفى الأعظمي (1/84-142) ، و (بحوث في تاريخ السنة المشرفة) للدكتور أكر ضياء العمري (292-301) ، و (صحائف الصحابة وتدوين السنة المشرفة) للأستاذ أحمد عبد الرحمن الصويان.
اما إن أريد (بالسنة قبل التدوين) : التدوين الرسمي، كما أراد ذلك الدكتور محمد عجاج الخطيب، في كتابه (السنة قبل التدوين) ، فلا مؤاخذة عليه، وإن كان التقييد للعنوان كان أولى.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 50) ، والبخاري في صحيحه موصولاً ـ كتاب العلم، باب (34) : كيف يقض العلم (1/234) ، والبخاري أيضاً في التاريخ الأوسط ـ المطبوع خطأ باسم التاريخ الصغير ـ (1/248-249) ، ومحمد بن الحسن الشيباني في الموطأ عن مالك (رقم 936) ، وابن سعد في الطبقات (8/480) ، والدارمي في سننه (رقم 493، 494) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/442) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 346) ، وأبو نعيم في ذكره أخبار أصبهان (1/312) ، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 782) ، والخطيب في تقييد العلم (105-107) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 438، 439، 443، 1096) ، وابن حجر في تغليق التعليق (2/88-90) .
خلافته سنة (99هـ) إلى سنة (101هـ) حين وفاته رحمه الله . وهذا الأمر الخارج من دار الخلافة إلى عمال الأمصار وعلماء الأمة بتدوين السنة، من أكبر الأدلة على أن السنة وعلومها بدأت طوراً جديداً، يقتضي نشوء علوم جديدة، كان منها هذا التدوين الرسمي.
وكما ذكرنا آنفاً، إن مصطلحات الحديث كانت في نشوئها وتطورها مواكبة لحركة تدوين السنة. لذلك فإن أي علامةٍ من علامات انتعاش وارتقاء حركة التدوين، يدل ذلك ـ طرداً ـ على ظهور مصطلحات تخدم السنة واستقرار مدلولاتها.
وهذا ما وقع بالفعل خلال هذا العصر.
فهذا محمد بن سيرين ـ وهو أحد رواد هذا العلم ـ يستخدم مصطلح (الإسناد)(1) ، و (المرسل)(2) ، ويتكلم في حكم الرواية عن أهل البدع (3) ، بل لقد ذكره أهل العلم في الطبقة الأولى من علماء الجرح والتعديل (4)
ويذكر الإمام محمد بن مسلم الزهري (ت 125هـ) مصطلح (الإسناد) أيضاً، ويتكلم عن حكم الحديث (المرسل)(5)
(1) تقدم ما يدل على ذلك (ص 30)، وهو قوله:((كانوا لا يألون عن الإسناد)) .
(2)
سنن الدارقطني (1/171) .
(3)
انظر ما يدل على ذلك (ص 30- 31) .
(4)
ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ك للذهبي (173 رقم 2) .
(5)
انظر المجروحين لابن حبان (1/131-132) ، والكامل لابن عدي (1/327) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (6) ، والكفاية للخطيب (431) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ـ المحطوط ـ (13/769-770) . (1) المحدث الفاصل للزامهرمزي (رقم 465-467) ، والكفاية للخطيب (300-301) .
ويتكل بعض أئمة التابعين عن بعض طرق
التحمل، وعن استعمالات صيغ السماع (1) . وإذا دققت النظر في هذه العلوم والمصطلحات، التي نشأت في عصر التابعين، علمت أنها أصول علوم الحديث وأسس مصطلحه.
ثم إذا دققت النظر فيها أكثر، علمت أنها كفيلة بحفظ السنة لذلك الجيل، الذي لم تظهر فيه العلل الحديثية التي كثرت في الأجيال التي بعده. وذلك لقصر الإسناد، وعدم فشو الكذب. لكن لا بد في هذا الجيل من بيان الوسيلة الصحيحة لتبليغ السنة:(طرق التحمل)، ومن ذكر الألفاظ التي يعبر بها عن كل طريقة من طرق التحمل:(صيغ الأداء) . ثم إن بعض الرواة، كان قد اعتاد إرسال الحديث، منذ الفترة التي سبقت الفتنة، وكان الإرسال في تلك الفترة المتقدمة مقبولاً، لكن لما (ركب الناس الصعب والذلول) وجب إضهار مستند الراوي ومعتمده في النقل، وهو (الإسناد) . فالإرسال من أوائل العلل الحديثية ظهوراً ن لذلك فإن مصطلحه من أقدم المصطلحات، والكلام عن حكمه من أقدم أحكام أنواع علوم الحديث. و (الإرسال) دعا إلى المطالبة ب (الإسناد) ، والمطالبة ب (الإسناد) إنما كانت للنظر في الرواة (جرحاً وتعديلاً) .
هذا، وبصورة سريعة، بعض ملامح نشأة علوم الحديث ومصطلحة وتطورها، في عهد التابعين (رحمهم الله تعالى) .
(1) المحدث الفاصل للرامهرمزي (رقم 465- 467) ، ولكفاية للخطيب (300- 301) .
وأريد أن ألفت الانتباه هنا، إلى ملحظٍ مهم بخصوص نشأة المصطلحات، وهو علاقة تلك المصطلحات ومدلولاتها العرفية بالمعنى اللغوي الأصلي للكلمة.
إن المنتبه باعتناء إلى هذا الملحظ، سوف يقف على قوة علاقة الدلالات الاصطلاحية للكلمة بالمعنى اللغوي الأصلي لها. وهذه العلاقة القوية، سوف تفسر له سبب اختيار أهل جيل واحد بأجمعهم لذلك اللفظ للتعبير به عن ذلك المعنى، دون اتفاقٍ بين أهل ذلك الجيل على هذه الاختيار، ثم يتداول ذلك اللفظ لذلك المعنى، بل يغلبه عند أهل الفن.
ولو قمت بدراسة مصطلحي (الإسناد) و (الإرسال) ، من هذه الجهة، جهة علاقة معناهما الاصطلاحي بالمعنى اللغوي لهما، لاتضح ما ذكرته آنفاً تمام الوضوح.
فالإسناد مأخوذ من مادة (سند)، وهي كما يقول ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) :((أصل واحد، يدل على انظمام الشيء)) (1)
ثم قال ابن فارس: ((والسناد: الناقة القوية، كأنها أسندت من ظهرها إلى شيء قوي. والمسند: الدهر، لأن بعضه متضام. وفلان سند، أي: معتمد. والسند: ما أقبل عليك من الجيل، وذلك إذا علا عن السفح. والإسناد في الحديث: أن يسند إلى قائله، وهو ذلك القياس (2)
وقال الجوهري في (الصحاح) : ((السند: ماقابلك من
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/105) .
(2)
المصدر السابق.
الجبل، وعلا عن السفح. وفلان سند، أي: معتمد
…
والإسناد في الحديث: رفعه إلى قائله)) (1) .
وذكر الزمخشري في (أساس البلاغة) معاني السند الأصلية، ثم ذكر المجازية، فقال فيها:((وحديث مسند، والأسانيد: قوائم الحديث ن وهو حديث قوي السند)) (2) .
بل إن الزبيدي في (تاج العروس) اعتبر أن (السند) بمعنى: (معتمد الإنسان) ، اعتبره من المعاني المجازية للكلمة (3) .
وعلى هذا، فأصل معنى الكلمة له دلالتان، الثانية مبنية على الأولى. الأولى هي التي ذكرها ابن فارس:((انظمام الشيء إلى الشيء)) ، والثانية: الاعتماد والتقوي بذلك.
ثم إذا عرفت السند في اصطلاح المحدثين، بأنه: سلسلة رواة الحديث، أو طريق المتن. ظهر لك قوة علاقة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي، إلى درجة التوافق بين المعنيين إلى حد كبير.
فالسند: فيه انظمام الشيء إلى الشيء، أي راوٍ إلى راوٍ ن وهذا الانظمام يقوي موقف الراوي باعتماده على غيره في روايته، ويلقي عهدة الحديث ـ سواء أكان صحيحاً أو غير صحيح ـ على ذلك الراوي الذي أسند الحديث إليه.
وبهذا تظهر لك قوة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي، في كلمة (السند) ، وتعلم لم اختار علماء التابعين هذا اللفظ، دون غيره من الألفاظ القريبة في المعنى
(1) الصحاح للجوهري (2/489) .
(2)
أساس البلاغة (221) .
(3)
تاج العروس (8/215) .
منه، للتعبير بها عن (سلسلة رواة الحديث) .
أما (المرسل) ، فأصل معناه اللغوي، كما يقول ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) :((أصل واحد مطرد منقاس، يدل على الانبعاث والامتداد)) (1) .
ويقول الراغب الأصبهاني في (المفردات في غريب القرآن) : ((أصل الرسل: الانبعاث على تؤده)) (2) .
أما المعاني المشتقة من هذا المعنى الأصلي للكلمة، فقد استوفى الحافظ العلائي منها ما له علاقة بالمعنى الاصطلاحي لكلمة (مرسل) ، وذلك في كتابه (جامع التحصيل)(3) .
وبعد دراسة المعاني الأربعة التي ذكرها العلائي، يظهر أن (الإرسال) بمعنى: الإطلاق والترك والتخلية وعدم المنع (4) .، هو المعنى الملحوظ في اصطلاح (الإرسال)(5) .
فإذا وازنت بين هذا المعنى اللغوي ك الإطلاق والترك والتخلية، والمعنى الاصطلاحي، وهو كما قال الخطيب في (الكفاية) :((ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه. إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال، من حيث الاستعمال، ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) .
إذا وازنت بين هذين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي،
(1) معجم مقاييس اللغة (2/392) .
(2)
المفردات في غريب القرآن (195) .
(3)
جامع التحصيل للعلائي (23-24) .
(4)
انظر لسان العرب ـ رسل ـ (11/284) ، وأساس البلاغة (162) .
(5)
انظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (
…
) .
(6)
الكفاية للخطيب (37) .
علمت مدى قوة العلاقة بينهما. فإن الذي يرسل الحديث،: انه أطلق روايته، فانبعثت دون قيد أو ظابط، فلا يمكن لذلك الوقوف منها على يقين، أو الاحتجاج بها.
والذي يجزم بأن معنى 0 الترك والإطلاق والتخلية) هو المعنى الملحوظ في مصطلح (الإرسال) ، عند أئمة التابعين، هذا النقل الآتي عن الزهري. فعن عتبة بن أبي حكيم:((أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة، وعنده الزهري. قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة! ما أجرأك على الله عز وجل!! ألا تسند حديثك؟! ألا تسند حديثك؟! تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة (1)
أرأيت قول الزهري: ((ليس لها خطب ولا أزمة)) في وصف (مراسيل) ابن أبي فروة، هذا هو (الإطلاق والتخلية) . وهذا صريح في بيان المعنى اللغوي المراد في مصطلح (الإرسال)، وفي بيان العلاقة القوية بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي، كما تقدم.
وفي الحقيقة، فإن قوة علاقة المعاني اللغوية بالمعاني الاصطلاحي في مصطلحات الحديث، لا يحتاج على كل هذا الاستدلال. إذ يكفي للدلالة على ذلك، شيوع تلك الألفاظ بمعانيها الاصطلاحية، بين نقلة الحديث وعلمائه، دون اجتماع واتفاق سابق بينهم على استخدامها بتلك المعاني الجديدة؛ ودون غيرها منت الألفاظ، التي كان من الممكن أن تؤدي الغرض نفسه أو بعض الغرض. مما يؤكد أن تلك الألفاظ التي اصطلح على استخدامها بتلك المعاني، لها من معناها اللغوي، أقوى علاقة
(1) انظر الحاشية رقم (5) ، (ص 37) .
بالمعنى الجديد، لذلك كانت أقرب لفظٍ سبق إلى ألسنة علماء الفن، للتعبير به عن ذلك المعنى الحادث.
غير أن التنبة إلى قوة العلاقة بين المعاني اللغوية والاصطلاحية في علم الحديث، له أثر كبير في فهم مدلولات المصطلحات، وفي الترجيح بين الأقوال المختلفة فيها. لذلك أحببت التأكيد عليها، بعد إقرارها والاتفاق عليها.
وننتقل الآن إلى تأريخ مصطلح الحديث، في عصر أتباع التابعين.