الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس:
في القرن الرابع الهجري
لقد دخل القرن الرابع الهجري، وهو بالغ الثراء بذلك الإرث العظيم الذي خلفه له القرن الثالث. لا في مجال تدوين السنة وحده، بل في مجال علوم الحديث، واستمرار شيوع مصطلحاته أيضاً.
ولئن نوزع في اكتمال تدوين السنة جميعها في القرن الثالث، فلن ينازع في ذلك لهذا القرن
قال ابن المرابط: أبو عمرو محمد بن أبي عمرو عثمان بن يحيى الغرناطي (ت 752هـ) : ((قد دونت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة، بل انقطع على راس أربعمائة)) (1) .
لكن القول السابق على هذا، وهو أن التدوين كان قد تم على راس سنة ثلاثمائة، هو الأرجح، الذي عليه جماعة من النقاد، والدليل قائم بإثباته، كما سبق.
وقد تزين هذا القرن، وهو القرن الرابع الهجري، بأمثال: أبي علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري (ت 349هـ) ، وأبي حاتم محمد بن حبان التستي (ت 354هـ) ، وأبي القاسم سليمان
(1) فتح المغيث للسخاوي (4/ 363) ، والإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (92، 106) .
ابن أحمد الطبراني (ت 360هـ) ، وأبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (ت 360هـ) ، وأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360هـ) ، وأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (ت 365هـ) ، وأبي الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان الأصبهاني (ت 369هـ) ، وأبي بكر أحمد بن إبراهيم إسماعيل لإسماعيلي (ت 371هـ) ، وأبي أحمد محمد بن محمد ابن أحمد الحاكم الكبير (ت 378هـ) ، وحافظ الدنيا الناقد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) ، وأبي حفص عمر بن أحمد ابن شاهين (ت 385هـ) ، وأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة (ت 395هـ) ، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع النيسابوري الحاكم (ت 405هـ) ، وعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري (ت 409هـ)، وأختم هذه الطبقة: بأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهانيؤ (ت 430هـ) .
ويبدو أن هذا العصر مع وجود أمثال هؤلاء الأئمة الكبار، ومع ازدهاره بالحديث وعلومه، ومع تحمله لتركه القرن السابق له = إلا أنه (وكما يحصل لغالب الموروثات ممن يرثها) بدت فيه بوادر ضعفٍ، يخشى أن تكون بداية ضياع ذلك التراث العظيم: أعني مصطلح الحديث، دون تدوينه.
وقد أرخ الإمام الذهبي بداية نقص علوم السنة، وبداية ظهرو العلوم العقلية، وتناقص الاجتهاد، وظهور التقليد، في آخر الطبقة التاسعة من كتابه (تذكرة الحفاظ) . وهي طبقة كانت وفاة آخر من ذكر فيها: سنة (ؤ282هـ) ، وهو أبو محمد الفضل بن محمد بن المسيب الشعراني (1) .
(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (2/627) .
أي أن هذا الضعف قد بدأ من أواخر القرن الثالث، ولم يزل في زيادة أوائل القرن الرابع، فما بعده.
ويصف لنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبي (ت 387هـ) تزايد النقص في طلب العلم وصفاً معبراً، حيث يقول:((كنا نحضر في مجلس أبي بكر النيسابوري (عبد الله بن محمد بن زياد: ت 324هـ) لنسمع منه (الزيادات)(1) ، وكان يحزر أن في المجلس ثلاثين ألف محبرة. ومضى على هذا مدة
يسرة، ثم حضرنا مجلسأبي بكر النجاد (أحمد بن سلمان بن الحسن الحنبلي: ت 348هـ) ، وكان يحزر أن في مجلسه عشرة آلاف محبرة. فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: في هذه المدة ذهب ثلثا الناس؟ )) (2)
وهذا الضعف الناشىء في هذا القرن، هو الذي جعل بعض أئمة هذا القرن يسارعون إلى تصنيف كتب جامعةٍ مفردةٍ في علوم الحديث ومصطلحه.
وأجل ما كتب في علوم الحديث خلال هذا القرن: كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للرامهرمزي (ت 360هـ) و (معرفة علوم الحديث) للحكم (ت 405هـ) .
وكتب غير هذين الإمامين في هذا القرن في علوم الحديث أيضاً، لكنها كتابات غير مقصودة ٍ من كاتبيها بالأصالة، وإنما هي مقدمات لبعض كتبهم، كما سيأ تي بيانه إن شاء الله تعالى (3) .
(1) هو زيادات على كتاب الزني في االفقه الشافعي: انظر طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (113) ، ومشيخة أبي عبد الله الرازي (158) .
(2)
المنتظم لابن الجوزي (6/ 287) .
(3)
انظر ما يأتي (ص 184 ـ 185) .
وقد أكد كل من الرامهرمزي والحاكم ما ذكرناه آنفاً، من أن هذا القرن كان قد شهد بداية الضعف في علوم الحديث. حيث ذكرا أن سبب تصنيفهما لكتابيهما هو: ظهور بعض ملامح اختلال في طريقة طلب العلم، ناشىء عن ترفٍ علمي (عهد مثله ممن ورث إرثاً عظمياً) ، أدى إلى بروز بعض القصور في علوم الحديث النبوي ومصطلحه، بين أوساط فئام من طلبة الحديث (1) ، خلال هذا العصر، الذي عاش فيه الرامهرمزي والحاكم رحمها الله تعالى.
وأنا إذ أستدل بهذه المؤلفات الجامعة الجليلة في علوم الحديث، على بلوغ المصطلح أقصى غايات الشيوع والاستقرار في هذا العصر، إلى درجة التصنيف فيه وتقنينه = إلا أني أعبرها شهادة ـ لا تقبل الرد ـ للقرن الثالث الهجري خاصة = ببلوغ القمة في علوم الحديث ومصطلحه لأن النقطة التي تسبق بداية الانحدار ما هي إلا القمة، ولأن النكوص لا يكون إلا بعد بلوغ الغاية. وقد قررنا آنفاً أن القرن الرابع كان قد شهد أول بوادر الضعف في علوم الحديث، بل كان ذلك هو الداعي للتصنيف في علوم الحديث والتقعيد لها وشرح مصطلحاتها.
ثم إني أقف هنا: أولاً: لأن غرضي من هذا العرض، لا التأريخ لمصطلح الحديث التأريخ المجرد، وإنما هو تقرير أمرٍ مقرر، ببيان أن مصطلح الحديث بلغ قمة تطوره خلال القرن الثالث الهجري: العصر الذهبي للسنة. وكان يكفي لتقرير ذلك
(1) انظر المحدث الفاصل للرامهرمزي (159 ـ 162) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (1 - 2) .
تذكر هذا الوصف: (العصر الذهبي للسنة) ، لكن عزمي على البناء على هذه
القاعدة ن وانطلاقي من هذه المسلمة، الزمني ذكر ذلك كله، والاستدلال له. خوفاً من أن ترد نتيجة هذه المقدمة، بدعوى عدم ثبوت المقدمة، لندخل بعد ذلك في مراءٍ حول المسلمات، وما أثقل ذلك حينها
واقف هنا: ثانياً: لأن القرون الآتية سيكون الكلام عنها شبيهاً ببعض: بأن كل قرن شهد نقصاً في علوم السنة، أكثر من القرن السابق له، ولم يزل الأمر كذلك، فلله الأمر من قبل ومن بعد
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ك ((من أشراط الساعة: أن يظهر الجهل، ويقل العلم)) (1) .
ثم يقول الإمام الذهبي، معبراً عن تناقص علم الحديث عبر العصور:((فلقد تفانى أصحاب الحديث، وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة ويسخرون منهم. وصار علماء العصر ـ في الغالب ـ عاكفين على التقليد في الفروع، من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل وآراء المتكلمين، من غير أن يتعقلوا أكثرها. فعم البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادىء رفع العلم وقبضه من الناس)) (2)
وبهذا نكون قد انتهينا من الباب الأول، وأشعرنا بمضمون الباب الثاني،
الذي هو:
(1) أخرجه البخاري (رقم 80، 81، 5231، 5577، 6808) ، ومسلم (رقم 2671) .
(2)
تذكرة الحفاظ (2/ 530) .