الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:
إن من أول ما يبدأ به الأصولين باب (السنة)، هو تقسيم الأخبار إلى قسمين:(متواتر) و (آحاد) ، والكلام عن إفادة كل قسم ٍ منها، وحكم العمل بخبرهما.
ثم وجدنا هذا التقسيم ذاته، والكلام نفسه، في كتب علوم الحديث. بدءأً بـ (الكفاية) للخطيب البغدادي (ت 463هـ) ، وانتهاءً بالمصنفات المعاصرة في علوم الحديث.
والخطيب البغدادي عندما تكلم عن هذا التقسيم وأحكامه لم ينسب ما ذكره من ذلك إلى أهل الحديث، بل كلامه واضح أنه نقل عن كتب أصول الفقه!
حتى قال ابن الصلاح (أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، المتوفي سنة 643هـ) في كتابه: (معرفة أنواع علم الحديث) : ((ومن المشهور: المتواتر، الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث. ولعل ذلك لكونه لا
تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم)) (1) .
بل قال ابن أبي الدم الشافعي (إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الهمداني الحموي، المتوفي سنة 642هـ) : ((اعلم أن الخبر المتواتر: إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين، خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره تباعاً للمذكورين. وإنما لم يذكره المحدثون لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم، ولا يدخل في صناعتهم)) (2)
وقد اعترض على ابن الصلاح، بما نقله الحافظ زين الدين العراقي (عبد الرحيم بن الحسين، المتوفى سنة 806هـ) في (التقييد والإيضاح)، حيث قال: ((وقد اعترض عليه بأنه قد ذكره: أبو عبد الله الحاكم، وأبو محمد ابن حزم، وأبو عمر ابن عبد البر، وغيرهم من أهل الحديث.
والجواب عن المصنف: أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه المشعر بمعناه الخاص، وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبير عنه بما فسره به الأصوليون، وإنما يقع في كلامهم: أنه يتواتر عنه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر، وكقول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين: إنه استفاض وتواتر (3) . وقد يريدون بالتواتر: الاشتهار، لا المعنى الذي فسره به الأصوليون)) (4) .
وذكر الإمام البلقيني (سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان الكناني المصري الشافعي، المتوفى سنة 805هـ) في كتابه
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (267) .
(2)
لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي (17) .
(3)
انظر التمهيد لابن عبد البر (11 /137) .
(4)
التقييد والإيضاح للعراقي (266) .
(محاسن الاصطلاح) هذا الاعتراض الذي ذكره العراقي، فقال:((فائدة: لا يقال: فقد ذكره الحاكم وكتابه مشحون به، وابن خحزم في المحلى. لأنا نقول: ليس ما ذكراه على الشرط المذكور، إن صح النقل عنهما. ولكن قد يوجد معنى التواتر في الأمور المقطوع بها، وإن كان الإسناد بالتحديث ونحوه يعسر فيه ذلك)) (1) .
قلت: ويجاب أيضاً عن هذا الاعتراض:
أما عن دعوى ذكر الحاكم لـ (المتواتر) : فدعوى غير صحيحة. فإنه لم يذكره في (معرفة علوم الحديث) في نوع من أنواع علومه، ولم يعرض له ببيانه أو ذكره بالمعنى المتعارف عليه عند الأصوليين. إنما كان يرد في
كلامه لفظ (التواتر) واشتقاقات هذا اللفظ على المعنى اللغوي للكلمة، كما يتضح من سياق كلامه الذثي ورد فيه ذلك اللفظ (2) .
ومثل هذا الاستخدام لكلمة (المتواتر) ، على المعنى اللغوي، يرد أيضاً في كلام من قبل الحاكم؛ كأبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلامه المصري الحنفي، المتوفى سنة 321هـ)(3) ، وقبلهما وجدته في كلام الإمام البخاري (4) ، والإمام مسلم (5) ، وغيرهم.
(1) محاسن الاصطلاح للبلقيني (453) .
(2)
انظر معرفة علوم الحديث للحاكم (50، 162، 188) ، والمدخل إلى الإكليل له (40) ، والمستدرك له أيضاً (3 / 437) .
(3)
انظر شرح معاني الآثار للطحاوي (1 /83، 135، 175، 230، 389، 474)(2 /6) ، وبيان مشكل الآثار (3 / 178)(8 / 95)(9/ 37)(12/ 316) .
(4)
القراءة خلف الإمام للبخاري (ص 10) . وقد أشار إلي بمراجعته فضيلة الشيخ سعد الحميد.
(5)
التمييز للإمام مسلم (181) .
وأما ابن حزم وابن عبد البر: فكلاهما من علماء القرن الخامس، مثل الخطيب البغدادي. فلا يصح التعقب بهما على ابن الصلاح، لأنه لا دليل على سبقهما للخطيب في ذلك. وإن سبقاه فلا فائدة من ذلك، لأن مقصود ابن الصلاح أن (المتواتر) ليس من مصطلحات سلف المحدثين.
ثم إن ابن حزم إنما ذكر (المتواتر) في (الإحكام في أصول الأحكام)(1) ، وهو كتاب في (أصول الفقه) لا في (علوم الحديث) . وابن الصلاح إنما ذكر أن الخطيب أول من أدخل هذا التقسيم في (علوم الحديث) ، فلا تعقب عليه من هذا الوجه أيضاً.
ونحوه ابن عبد البر، إذ ليس له كتاب مفرد في (علوم الحديث 9 أصلاً!
فثبت بهذا أن من أوائل من أدخل هذا التقسيم في علوم الحديث هو الخطيب البغدادي!! ولا داعي للمشاحة في هذا القدر الثابت.
وقد نص الأئمة كما رأيت: أن الخطيب أخذ هذا التقسيم من كتب (أصول الفقه) ، وأنه تبع للأصوليين في ذلك.
أما من جاء بعد الخطيب، ممن صنف في علوم الحديث، فلا يكاد يخلو كتاب من ذكر هذا التقسيم (2)
وزادوا على الخطيب في التأثير بأصول الفقه، كما يأتي بيانه.
فهذا أبو عمرو ابن الصلاح، مع أنه نص على أن
(1) الإحكام لابن حزم (1 /- 108) .
(2)
من الكتب التي خلت من هذا التقسيم: كتاب (الاقتراح) لابن دقيق العيد، و (الموقظة) للذهبي.
الخطيب أول من ذكر هذا التقسيم في علوم الحديث، إلا أنه أضاف إلى اتباعه الخطيب في ذلك أشياء:
أولاً: قال: ((وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص)) ، مما يشعر بأن لفظ (المتواتر) هو الذي لم يذكره أهل الحديث، وإن كان اعتبار معنى هذا اللفظ، بتقسيم الأخبار على أساسه، معروفاً عند المحدثين؛ هذا مفهوم عبارة ابن الصلاح.
وعلى هذا المفهوم جاء دفاع العراقي عن كلام ابن الصلاح، حيث قال ـ كما تقدم ـ:((والجواب عن المصنف: أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه المشعر بمعناه الخاص)) .
وهذا من ابن الصلاح والعراقي زيادة في تعميق أثر أصول الفقه على علوم الحديث، في هذه المسألة.
وثانياً: اضطراب عبارة ابن الصلاح في التعبير عن وجود مثالٍ لـ (المتواتر) بشروطه عند الأصوليين، مما يدل على احترامه البالغ لذلك التقسيم، وعدم احتمال رفضه عنده، وإن خرج عن علوم الحديث وصناعة المحدثين!
فانظر إليه وهو يقول ـ معبراً عن سبب عدم ذكر المحدثين لـ (المتواتر) ـ: ((ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم)) ، ثم يقول بعد ذكر شروط (المتواتر) :((ومن سئل عن إبراز مثالٍ لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه)) ، ثم يقول أخيراً:((نعم، حديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) نراه مثالاً لذلك)) (1)
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (267 - 269) .
فانظر إلى هذا التردد، واضطراب العبارات، وهي في موطنٍ واحد!!
وثالثاً: أن ابن الصلاح بعد ذكره لبعد صورة (المتواتر) عن واقع الروايات الحديثية، حاول أن يضرب لـ (المتواتر) مثالاً! فجاءت عبارته في مطابقة المثل لـ (المتواتر) ضعيفة الثقة بذلك، فانظر إليه وهو يقول:((نراه مثالاً لذلك)) .
أما قول ابن الصلاح بعد ذكره للحديث: ((ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين نفساً من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا هذا الحديث الواحد. وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد، وفي بعض ذلك عدد التواتر. ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد،
وهلم جراً على التوالي والاستمرار)) (1)
أما هذه العبارة، فهي أيضاً تشهد على أن ابن الصلاح لا يرى هذا المثل مطابقاً لـ (المتواتر) المعروف عند الأصوليين. فهو إنما طابق بين مثله و (المتواتر) من جهة العدد الكثير المشترط في (المتواتر) فقط، دون باقي شروطه، فهو يقول:((وفي بعض ذلك عدد التواتر)) . ولم يجزم ولا بعبارة واحدة بأن لـ (المتواتر) مثالاً واقعياً من الأحاديث النبوية، اجتمعت في هذا المثل شروط (المتواتر) جميعها.
ولا يخفى أن حديث ((من كذب علي..)) ، ولو رواه مائة من الصحابة، إلا أن الأسانيد إلى كل واحدٍ من
(1) المصدر السابق.
هؤلاء الصحابة داخلة في خبر الآحاد، لأنها فقد شرط (استحالة التواطؤ على الكذب) عند الأصوليين
ولا يستطيع أحد أن يزعم أن حديث ((من كذب علي..)) : رواه جمع من الصحابة، وعن كل واحد من هؤلاء الصحابة رواه جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب
…
وهكذا إلى آخر إسناده وفي جميع طبقاته، وأنه أفاد العلم بذلك؛ لا يستطيع أحد أن يزعم ذلك بدليله أبداً (1) وهذه هي صورة (المتواتر) المفيدة للعلم، لا غير. فكيف يكون حديث ((من كذب علي
…
)) بعد ذلك مثالاً للحديث (المتواتر)
بزعمهم؟
ولذلك تردد ابن الصلاح ذلك التردد
لكنه بهذا المثال، الذي ذكره، فتح المجال لغيره، للتمثيل بنحو مثاله وللاعتراض عليه بكثرة (المتواتر) بعد ذلك
بل بلغ الاعتراض على ابن الصلاح قمة التأثر بأصول الفقه، عندما زعم ذلك المعترض، الذي نقلنا سابقاً رد العراقي والبلقيني عليه، أن (المتواتر) بشروطه ومعناه واسمه عند الأصوليين، من مصطلحات المحدثين أيضاً، ومن استخداماتهم
في ألقاب علمهم
وسوف نعود في موضع لاحق ـ إن شاء الله تعالى (2) ـ إلى زيادة بيان تدرج هذا التقسيم (إلى متواتر وآحاد) في كتب علوم الحديث، وكيف أنه أصبح عند المتأخرين من أعظم ملامح أصول الحديث ومن أشهر تقسيماته
فإذا أردنا العودة إلى بدايات نشوء هذا التقسيم، وإلى معرفة موقف أئمة أهل الحديث منه = أقول:
أما أول من قسم الأخبار النبوية إلى مفيدٍ للعلم ومفيدٍ
(1) انظر لقط اللآلىء المتناثرة لر لزبيدي (ص 22) .
(2)
انظر (ص 123 - 127) .
للظن، فقد وقفت على نص لا حد الائمة، يذكر فيه اول من ابتدع هذا التقسيم
فيقول الا ما م النا قد عثمان بن سعيد الدار مي (ت 280هـ) ،
في رده على بشير بن غياث المريسي الجهمي (ت 218هـ) :
((وادعيت أيضاً في دفع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحكةً لم يسبقك إلى مثلها عاقل من الأمة ولا جاهل فزعمت أنه لا تقوم الحجة من الآثار الصحيحة التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا كل حديثٍ لو حلف رجل بطلاق امرأته أنه كذل لم تطلق امرأته (1) .
ثم قلت: ولو حلف رجل بهذه على حديثٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح عنه أنه كذب، ما طلقت امرأته (2) .
فيقال لهذا المعارض الناقض على نفسه: قد أبطلت بدعواك هذه جميع الآثار التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما احتججت منها لظلالك، وما لم تحتج، ولو كنت ممن يلتفت إلى تأويله. لقد سننت للناس سنةً، وحددت لهم في الأخبار حداً، لم يستفيدوا مثلها من أحدٍ من العالمين قبلك. وأوجبت على كل مختارٍ من الأئمة ـ في دعواك ـ أن لا يختار منها شيئاً حتى يبدأ باليمين بطلاق امرأته، فيحلف أن هذا الحديث صدق أو كذب ألبته. فإن كان شيئاً طلقت به امرأته استعمله، وإن لم تطلق تركه.
ويلك إن العلماء لم يزالوا يختارون هذه الآثار
(1) كذا العبارة في المصدر، وأحسبها محرفة عن:((إلا كل حديث لو حلف رجل بطلاق امرأته أنه] غير [كذب ٍ لم تطلق امرأته)) لأن المريسي يتكلم هنا عن الحديث المفيد للعلم عنده.
(2)
كلام المريسي في هذه الجملة عن (خبر الآحاد) المفيد للظن عنده، ولذلك لا تطلق امرأته من حلف على أنه كذب، للشك في ثبوته، ولاحتمال صدق يمينه بأنه كذب، كما يزعم المريسي
ويستعملونها، وهم يعلمون أنه لا يجوز لأحدٍ منهم أن يحلف على أصحها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ألبته، وعلى أضعفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله ألبته (1) . ولكنهم كانوا لا يألون الجهد في اختيار الأحفظ منها، والأمثل فالأمثل من رواتها في أنفسهم. ويرون أن الأيمان التي ألزمتهم فيها بطلاق نسائهم مرفوعة عنهم؛ حتى ابتدعتها أنت، من غير أن يسبقك إليها مسلم أو كافر.
ففي دعواك يجب على القضاة والحكام أن لا يحكموا بشهادة العدول منهم، إلا بشيءٍ يمكن القاضي أن يحلف عليه بطلاق امرأته أن الشاهد به قد صدق، أو أنه إن حلف عليها بطلاق امرأته أنه كذب لم تطلق امرأته
ويحكمن سبقك إلى هذا التأويل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، في اتباع الروايات واختيار ما يجب منها؟ إنما يجب على القاضي أن يفحص عن اشهود ويحتاط: فمن عدل منهم حكم بشهادته، وإن كان كاذباً في شهادته في علم الله بعد، ما لم يطلع القاضي منه على ذلك. وترد شهادة المجروح، وإن كان صادقاً في شهادته في علم الله بعد، ما لم يطلع القاضي على صدقه.
وكذلك المذهب في استعمال هذه الآثار وقبولها من رواتها، لا ما تأولت فيها، من هذه السخرية بنفسك والضحك (2) )) (3)
(1) عدم جواز الحلف بذلك، لا لعدم الجزم بصدق أصحها أو بكذب اضعفها، ولكن لأن التكليف بهذا اليمين بدعة لم يأمر بها الشرع، ولا عمل بها الصحابة، ولا تابعوهم، ولا أحد أئمة الدين كما صرح بذلك الدارمي فيما يأتي من كلامه.
(2)
ليس منى هذا الكلام للدرامي، أنه يرى بأن (خبر الواحد يوجب العمل، مع إفادته الظن. كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (ص 156 ـ 157) .
(3)
رد الدارمي على بشر المريسي (ص 138 - 139) .
وهكذا يظهر أن هذا التقسيم للأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ، إنما نشأ من فكرٍ أثيم، وعقليةٍ فاسدة، وبيد البدعة، وعلى عين أعداء السنة، الذين لا يسعون إلا لرفض السنن، واستعباد الناس لفلسفة اليونان، بدلاً من دين الرحمن.
ومن هذا يظهر أيضاً: أن هذا التقسيم إنما نشأ في آخر القرن الهجري الثاني وأوائل القرن الثالث، على يد بشر المريسي ومن على شاكلته من جهمية ومعتزلة.
وبذلك نفسر عدم استخدام المحدثين لهذا التقسيم وألقابه في القرن الثالث فما قبله، ونعرف سبب ذلك. أما ما قبل القرن الثالث، أعني غالب القرن الثاني فما قبله، فلأن هذا التقسيم لم يكن قد وجد أصلاً، لا عند أهل السنة ولا عند غيرهم. وأما في القرن الثالث، فلأن منشأ هذا التقسيم ومصدره هم الجهمية ومن شابههم، والعداء بين أهل السنة وهؤلاء، وبين علوم السنة وعلوم أولئك = كان بالغاً الغاية، محتدماً، لا مجال خلاله للتأثر بأي شيءٍ من جانب العدو، ولو كان أمراً شكلياً لا علاقة له بالمضمون (اقول: لو كان)
وقد سبق شرح هذا التنافر وأثره في الحفاظ على علوم السنة (1) .
ومن أجل ذلك بدأ الجدال وحميت المناظرات، من أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث إلى ما بعد ذل، حول مسألة حجية (خبر الآحاد) . حيث إن ذلك التقسيم أول ما نشأ كان يصرح بد (خبر الآحاد) بالكلية، وعدم قبول شيءٍ من الأخبار إلا ما اسماه بـ (المتواتر) .
(1) انظر (ص 70 - 71) .
ثم إن هذا التقسيم بقي عند أهل الكلام على ما هو عليه، وإن كانت أحكام أقسامه بدأت بالتأثر بأحكام أهل السنة، خلال القرن الثالث، وأوائل الرابع (1) . ولو قدر بقاء عوامل قوة علوم السنة، كما كانت عليه، لرجونا زوال
ذلك التقسيم بالكلية!!
لكن مع ظهور المذاهب الكلابية، من أشعريةٍ وما تريدية، وما كانت تكسبه بالرد على المعتزلة وغيرهم ـ مما سبق شرحه ـ من مؤهلات الاندساس في صفوف المدافعين عن السنة. مع ما انظم إلى ذل، من ضعف تلقي علوم السنة = بدأ ذلك التقسيم بالثبات والرسوخ، بعد أن أخذ مظهراً آخر، اقرب إلى مذهب المحدثين من مذهب اصحابه الحقيقيين الذين كانوا أول من ابتدعه، من جهمية ومعتزلة. ذلك القرب إلى مذهب المحدثين، ينحصر في حكم خبر الواحد، وهو الحكم المشهور: أنه يفيد الظن الموجب للعمل، ولا يحتج به في العقائد. وهذا القرب في هذه الجزئية، كان بذاته أحد عوامل ثبات ورسوخ فكرة ذلك التقسيم مع أحكام أقسامه، عبر العصور التالية للقرن الرابع الهجري.
والأعجب من ذلك كله، هو أن تلك المناظرات والمجادلات المشار إليها آنفاً، التي ابتدأت من أواخر القرن الثاني، بين أهل السنة وغيرهم من أصحاب ذلك التقسيم، حول حجية خبر الواحد = أصبحت فيما بعد حجةً من حجج صحة ذلك التقسيم عند القائلين به، معتبرين تلك المناظرات دليلاً على
(1) يظهر ذل من مذهب أبي علي الجبائي (محمد بن عبد الوهاب البصري، المتوفى سنة 303هـ) أحد ائمة المعتزلة، الذي ذهب إلى قبول خبر الآحاد، إلا الحديث الفرد الذي لا يرويه إلا واحد، فهذا هو الذي يرده من أخبار الآحاد.
انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (2 /138) ، والبرهان للجويني (1 /607) .
أن أهل الحديث كانوا يعترفون بذلك التقسيم، بدليل اعتنائهم بذكر حجية خبر الواحد!!! إذ جعلوا مجرد ذكر (خبر الآحاد) إثباتاً لمقابله عندهم، وهو (الخبر المتواتر) !!!
ولذلك فإني مضطر إلى الوقوف وقفةً طويلةً، مع أجل تلك المناظرات وأقدمها، ومع أحد أقوى حجج أولئك فيما ذهبوا إليه. تلكم هي مناظرات الإمام الشافعي حول القضية، في كتبه الأصولية، كـ (الرسالة) و (جماع العلم)(1) .
فقد عقد الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) فصلاً كبيراً، جاء في أوله سؤال لسائل عن حجية (خبر الواحد) . فبدأ الإمام الشافعي مع هذا السائل مناظرةً طويلةً جداً، عن هذه القضية وما له علاقة بها (2) .
وأما كتاب (جماع العلم) ، فغالبه يحكي مناظراتٍ للشافعي حول حجية (خبر الواحد) .
وسنقف مع كلام الإمام الشافعي في مواطنه المتفرقة، مقسمين وقفنا على قسمين: الأول: إثبات أن الإمام الشافعي لم يقسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد)، مع بيان التقسيم الذي كان يرضاه الإمام الشافعي. والثاني: حكم (خبر الآحاد) عند أهل الحديث، وفيهم الإمام الشافعي.
ولإثبات أن الإمام الشافعي لم يقسم الأخبار تقسيم أهل الكلام إلى (متواتر) و (آحاد) ، ولبيان التقسيم الذي ورد
(1) ولا يفوتني هنا التنويه بالكتاب الذي قعده الإمام البخاري في صحيحه حول هذه القضية، وهو (كتاب: أخبار الآحاد) = صحيح البخاري (13 /244 - 246) .
(2)
انظر الرسالة للشافعي (ص 369 - 471من رقم 998 إلى رقم 1308) .
في كلامه على أنه التقسيم الذي يرضاه، هو والمحدثون من أهل القرن الثالث فما قبله = أقول لإثبات وبيان ذلك:
أولاً: إن الإمام الشافعي لم يصرح بذلك التقسيم، وعندي أنه لم يلمح إليه أيضاً ولم يرضه، كما سأثبته لك من بعد. أما أنه ذكر خبر الواحد، أو كما يسميه هو بـ (خبر الخاصة) في كتابه (الرسالة) ، لا بلفظه، ولا بمعناه.
أما أنه لم يذكره بلفظه، فهذا قد يظنه بعضهم أمراً هيناً. وليس بهين، كما سيأتي بيانه عند كلامنا عما جاء في (جماع العلم) للشافعي (1) .
وأما أنه لم يذكره بمعناه، فهذا هو التالي:
وثانياً: أن افمام الشافعي لم يتفوه بما يذكره الأصوليون في تعريفهم للحديث المتواتر، بذكر شروطه المعلومة عندهم؛ فمن أين لمن نسب للشافعي ذلك التقسيم دليل نسبته إليه بعد ذلك؟!
إن كل ما حصل، هو أنهم نزلوا ألفاظاً أخرى للشافعي أطلقها على مايقابل (خبر الواحد) منزلة (المتواتر) عند الأصوليين. وهذا يكون له وجه، لو أن الشافعي بين من معاني تلك الألفاظ ما يوافق معنى (المتواتر) عند الأصوليين؛ لكن الشافعي لم يفعل ذلك! أما استنباط أنه أراد بتلك الألفاظ معنى (المتواتر) من ذكرها في مقابل (خبر الخاصة) ، فلا وجه له، لما تقدم بيانه آنفاً.
(1) انظر (ص 106 - 108) .
وثالثاً: أما الألفاظ التي ذكرها الإمام الشافعي فيما يقابل (خبر الواحد)، فهي:(السنة المجتمع عليها) ، و (خبر العامة عن العامة)(1) . وما عبارتان بمعنى واحدٍ، يطلقهما الإمام الشافعي في مقابل (خبر الخاصة) .
فهل يلزم من هذه الألفاظ أنها تعني (المتواتر) عند الأصوليين؟! هذه دعوى لا دليل عليها كما سبق.
ثم هذان اللفظان، بذاتهما، وبمعناهما اللغوي، يدلان على أن المراد منهما غير (المتواتر) عند الأصوليين. فإن معناهما هو: الأمر الذي أجمعت الأمة على نقله، مما لم يرد في كتاب الله، أمةً بعد أمة، لا يختلف في الإجماع به اثنان؛ مثل: أن صلاة الظهر أربع. وهذا أمر فوق (متواتر الأصوليين) ، أو هو أعلى أنواعه عندهم. لأن من (المتواتر) ما قد يخفى على الخاصة، فضلاً عن العامة؛ يخفى العلم به، فضلاً عن العلم بتواتره. كما تجده في أمثلة (المتواتر) التي يذكرونها، وكما في كتب (الأحاديث المتواترة)(2) .
والذي نخرج به من هذا، أن ما يقابل (خبر الآحاد) عند الشافعي، من تلك الألفاظ التي استخدمها فيما يقابله = ليس هو (المتواتر) عند الأصوليين بكل ما يحويه معناه عندهم. لأن ـ وانتبه لما بعد لأن ـ الذي يقابل (السنة المجتمع عليها) و (خبر العامة عن العامة) ليس هو (خبر الآحاد) وحده، بل هو (خبر الآحاد) وبعض من (المتواتر) أو (المتواتر) جله!!!
(1) انظر الرسالة للشافعي (رقم 1259 -1329) ، وجماع العلم له (رقم 169 - 172، 302) .
(2)
انظر (ص 130، 135) .
نعم.. ولا تعجل بالرد من قبل أن يقضى إليك بالحجة!
لكن بعد أن نثبت لك معاني تلك الألفاظ التي ذكرها الشافعي فيما يقابل (خبر الآحاد) ، لا من دلالة الألفاظ نفسها (وهي كافية) كما سبق ذكره، بل من كلام الشافعي نفسه.
فقد بوب الإمام الشافعي في كتابه (جماع العلم) باباً بعنوان: (حكاية قول من رد خبر الخاصة) ، قال فيه بعد مقدمةٍ يسيرة، حاكياً مناظرته في ذلك:((قال ـ يعني الشافعي ـ: فكانت جملة قولهم أن قالوا: لا يسع أحادً من الحكام ولا من المفتين أن يفتي ولا يحكم إلا من جهة (الإحاطة)(1) . و (الإحاطة) : كل ما علم أنه حق في الظاهر والباطن، يشهد به على الله. وذلك: الكتاب، والسنة والمجتمع عليها، وكل ما اجتمع الناس ولم يتفرقوا فيه. فالحكم كله واحد، يلزمنا أن لا نقبل منهم إلا ما قلنا؛ مثل: أن الظهر أربع. لن ذلك لا ينازع فيه، ولا دافع له من المسلمين، ولا يسع احداً يشك فيه.
(قال الشافعي:) قلت له: لست أحسبه يخفى عليك، ولا على أحدٍ حضرك، أنه لا يوجد في علم الخاصة ما يوجد في علم العامة.
قال: وكيف؟
(قال الشافعي:) قلت: علم العامة على ما وصفت، لا
(1) يعني بالإحاطة: أعلى درجات العلم واليقين. قال في تاج العروس ـ حوط ـ (19 / 221ـ 222) : ((ومن المجاز: كل من بلغ أقصى شيء، وأحصى علمه، فقد أحاط به علمه، وأحاط به علماً، وهذا مثل قولهم: فتله علماً. ويقال: علمه علم إحاطة، إذا علمه من جميع وجوهه ولم يفته منها شيء
…
))
تلقى أحداً من المسلمين إلا وجدت علمه عنده، ولا يرد أحد شيئاً على أحدٍ فيه، كما وصفت في جمل الفرائض وعدد الصلوات وما أشبهها
…
)) (1) .
فهذا ـ كما ترى كلام صريح، فسر به الإمام الشافعي المقصود من (السنة المجتمع عليها) و (خبر العامة) الذي يقابل (خبر الآحاد) ؛ فإذا به ليس هو (المتواتر) ، بل هو معنى قسيم لمعنى (المتواتر) .
قال الإمام الشافعي في (جماع العلم) أيضاً: ((قلت: أفرأيت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأي شيءٍ تثبت؟
قال: أقول القول الأول الذي قاله لك صاحبنا.
فقلت له: ما هو؟
قال: زعم أنها تثبت من أحد ثلاثة وجوه.
قلت: فاذكر الأول منها؟
قال: (خبر العامة عن العامة) .
قلت: أكقولكم الأول، مثل أن الظهر أربع؟
قال: نعم.
(1) جماع العلم (ص 36 رقم 168 ـ 172) ن وانظر أيضاً (رقم 178ـ 179) ، وانظر كذلك الرسالة (رقم 1329) .
فقلت: هذا مما لا يخالك فيه أحد علمته. فما الوجه الثاني؟
قال: (تواتر الأخبار)
فقلت له: حدد لي (تواتر الأخبار) بأقل مما يثبت الخبر، واجعله له مثالاً، لنعلم ما يقول وتقول؟
قال: نعم، إذا وجدت هؤلاء النفر، للأربعة الذين جعلتهم مثالاً (1) ، يروون، فتتفق رواياتهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم شيئاً أو أحل = استدللت على أنهم: بتباين بلدانهم، وأن كل واحدٍ منهم قبل العلم عن غير الذي قبله عنه صاحبه، وقبله عنه من أداه إلينا، ممن لم يقبل عن صاحبه = أن روايتهم إذا كانت هكذا تتفق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالغلط لا يمكن فيها
…
)) (2) .
إذن فهذا هو (المتواتر) بلفظه ومعناه عند الأصوليين، هو غير (خبر العامة) و (السنة المجتمع عليها) ، كما ينص عليه هذا النقل!!!
وأيضاً فهذا يعني أن الإمام الشافعي عندما ترك لفظ (المتواتر) أثناء كلامه في كتابه (الرسالة) عن خبر الواحد، لم يكن تركه إياه لأنه لم يكن معروفاً بهذا اللفظ عنده، ولا لأنه استبدله بما يرادف معناه (فهذا ما أبطلناه الآن) ؛ ولكن لأنه قسم لم يرض الإمام الشافعي تقسيم الخبار على اعتباره، كما في كلام خصمه الذي نقلناه هنا.
وإلا فلم هجر الإمام الشافعي هذا اللفظ ومعناه:
(1) هم: سعيد بن المسيب (المدني) ، وعطاء بن أبي رباح (المكي) ، وعلقمة النخعي (الكوفي) ، والحسن بن أبي الحسن (البصري) . انظر جماع العلم (رقم 282 ـ 285) .
(2)
جامع العلم (ص 55 - 56 رقم 297- 309) .
(المتواتر) ؟! ولم أغلفه تماماً في كتابه (الرسالة) ؟!
وزيادة الاستدلال على ذلك، في التالي:
وخامساً: ومما يقطع بأن الإمام الشافعي لا يقول بقسم (المتواتر) قسماً من اقسام الأخبار، هو أنه كان يرد على الأصوليين شروطه التي اشترطوها له!!
فالإمام الشافعي لا يرى أن في شروط (المتواتر) المذكورة عند الأصوليين ما يفي باستحالة وقوع الغلط وباستحالة التواطؤ على الكذب، على أصولهم وعلى منهجهم في قبول الأخبار وردها.
وتنبه هنا غاية التنبه: أنه ليس معنى ذلك أن الشافعي لا يقول بإفادة (المتواتر) للعلم، بلى هو عنده مفيد للعلم!! ككثيرٍ من (أخبار الخاصة) غيره. لكن إفادتها
للعلم من جهةٍ غير الجهة التي يزعمها المتكلمون، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (1)
وهذه قاصمة الظهر!! أن يكون الإمام الشافعي لا يرى شروط الحديث (المتواتر) شروطاً صالحة لإفادة (العلم) ، فكيف يكون بعد ذلك ممن يقول بـ (التواتر) على تلك الشروط؟!!!
وهذا كله في بقية مناظرة الإمام الشافعي لخصمه، التي سبق نقل طرفٍ منها آنفاً. حيث أكمل الشافعي مناظرته بقوله لذاك الخصم:((وقلت له: لا يكون تواتر الأخبار عندك عن أربعةٍ في بلد؟ ولا إن قبل عنهم أهل بلدهم (2) !! حتى يكون المدني يروي عن مدني، والمكي يروي عن مكي، والبصري يروي عن بصري، والكوفي يروي عن كوفي، حتى ينتهي كل واحدٍ منهم
(1) انظر (ص 149 - 158) .
(2)
انظر (ص 149- 158) .
بحديثه عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير الذي روى عنه صاحبه، ويجمعوا جميعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم = للعلة التي وصفت؟
قال: نعم، لأنهم إذا كانوا في بلدٍ واحدٍ أمكن فيهم التواطؤ على الخبر، ولا يمكن فيهم إذا كانوا في بلدان مختلفة.
(قال الشافعي:) فقلت له: لبئس ما نبثت (1) به على من جعلته إماماً في دينك، إذا ابتدأت وتعقبت!!)) (2) .
هذا أول ردود الشافعي على أحد شروط (المتواتر) التي يشترطها الأصوليون، وهو شرط: استحالة التواطؤ على الكذب.
فيرى الإمام الشافعي أن اشتراط هذا الشرط، واعتبار أن تحققه يتم بأن يكون كل راوٍ من بلدٍ بعيدٍ عن الآخر= فيه حط شديد على أئمة الدين، وثقات الأمة وعدولها، إذ جعلها ذلك الشرط وكأنهم لا يحول بينهم وبين التواطؤ على الكذب إلا عدم القدرة على التواطؤ، لمثل بعد البلدان!!!
سبحانك! هذا بهتان عظيم!!
ثم أقول (من عند نفسي) : إن استحالة التواطؤ على الكذب، لا تتم ـ مع ذلك ـ ببعد البلدان بين الرواة، لاحتمال الرحلة واللقاء، ولاحتمال المراسلة! لكن تلك الاستحالة إنما تستفاد مما عرفناه (بالنقل المتواتر) من أحوال أولئك الأئمة، الدالة على: شدة التدين، وتعظيم الحرمات، والدفع عن حياض الشريعة، وجميل
صفاتهم، وحسن سيرتهم في كل أمرهم. وهذا
(1) النبث: النبش والبحث في الأرض. انظر تاج العروس ـ نبث ـ (5 /366-386) . والمعنى: لبئس ما نبشته على أئمتك من التهمة بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم!!
(2)
جماع العلم (رقم 309 - 311) .
ليس فقط من الأئمة الكبار، بل حتى مع ثقات النقلة وعدول الرواة، لما عرفناه (بالنقل المتواتر أيضاً) من شدة الأئمة في توثيقهم، وبالغ تحريمهم في تعديلهم، واحتياطهم في احتياطهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في كل ذلك!!
ثم بين لي الفرق في درجة اليقين بين: رواية عشرة من التابعين من بلدان مختلفة لحديث واحد، ورواية فقهاء المدينة السبعة لحديث واحدٍ أيضاً؟!
فإذا رجعنا إلى أن استحالة التواطؤ على الكذب راجعة إلى مافي كل واحدٍ من الرواة من الصفات الداعية إلى قبول خبره، رجعنا ـ إذن إلى أن المعتبر هو وجود هذه الصفات، دون ما سواها من الشروط التي لا معنى لا شتراطها، لأنه لا علاقة لها بإفادة تلك الاستحالة.
فإن قال صاحب تلك الشروط: أنا لا أشترط العدالة أصلاً في رواة (المتواتر) .
قلنا: ذلك أدعى إلى أن لا يفيد خبرهم العلم عندك! لأنه إذا كان الخبر ـ عندك ـ لا يفيد العلم إلا باستحالة التواطؤ على الكذب ببعد البلدان، وبينا لك أن بعد البلدان ليس هو بالذي يدل على تلك الاستحالة في رواية الثقات العدول؛ فمن (باب أولى) أن لا يدل بعد البلدان على تلك الاستحالة في رواية غير العدول!!
فإن قال: إنما ذكرت (بعد البلدان) مثلاً لما يدل على استحالة التواطؤ على الكذب، وإلا فمرادي تحقق هذه الاستحالة، كيفما تحققت.
قلت: فبينا لك بطلان ذلك المثل، فهات غيره؟!
فإنه لا مفر لك من أن تزعم: أن استحالة التواطؤ على الكذب لا تتحقق إلا بالخبر الصريح: بأن فلاناً لم ير فلاناً ولا فلان لقي فلاناً، ولا تراسلوا أيضاً!! ومتى تقع على مثل هذا الخبر، وأنى تقف عليه، ليثبت بذلك خبر عندك؟!!!
ولا بد بعد ذلك أيضاً ـ على مذهبك في قبول الأخبارـ أن لا تقبل ذلك الخبر بنفي اللقاء والمراسلة، إلا أن يكون خبراً متواتراً على الشروط التي ذكرتها (على ما فيها) ، ليتم عندك اليقين بصدق ذلك الخبر!!!
وأقول أخيراً: إن شرط (استحالة التواطؤ على الكذب) بمثل بعد البلدان، دليل على أن مشترطه الأول (ومن على شاكلته) في عزمه رد السنن كلها، حتى ما سماه بـ (المتواتر) ! لأن تلك الاستحالة لا تستفاد مما زعم أنها تستفاد منه، كما قدمنا!!!
وذلك هو ما صرح به الإمام الدارمي، من نية وعزم صاحب ذلك التقسيم (إلى متواتر وآحاد) ، كما سبق نقله عنه (1) .
وهو ما صرح به أيضاً الحافظ ابن حبان البستي، كما سيأتي نقل كلامه (إن شاء الله تعالى)(2) .
(1) اانظر (ص 98، 117، 123) .
(2)
انظر (ص117، 121) .
أما ثاني ردود الإمام الشافعي على ثاني شروط (المتواتر) ، هو اشترط أن يرويه عدد كثير؛ فأنا أذكر مضمون رد الشافعي، وأحيل عليه. حتى لا أطيل بنقله، ثم بشرحه.
فأول ما بدأ الإمام الشافعي مناظرته مع ذلك الخصم، أراد أن يقرره بسبب اشتراط (العدد الكثير) أبين تقرير. فسأله الشافعي عما لو سمع هذا الخصم نفسه حديثاً من رجلٍ من أصحاب بدر، وهم المقدمون ومن أثنى الله تعالى عليهم في كتابه؛ فعلى مذهبه: لا يكون هذا الخبر حجة، لأنه خبر واحدٍ يمكن أن يتطرق إليه الغلط، ويرد عليه احتمال وقوع الخطأ.
إذن فـ (احتمال وقوع الغلط) من القوة، إلى درجة أن مشترط (العدد الكثير) لا ينتفي عنده هذا الاحتمال، حتى ولو سمع الخبر من أحد البدريين!! بل الذي يناظره الشافعي لا يحتج بذلك الخبر مطلقاً، لاحتمال وقوع الغلط فيه!!!
فبعد أن قرر الشافعي هذه القوة في ملاحظة (احتمال وقوع الغلط) عند خصمه، قال له: أليس من بعد البدريين وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أولى أن لا يكون خبر الواحد منهم مقبولاً، لنقصهم عنهم في كل فضل، وأنه يمكن فيهم الغلط ما أمكن فيمن هو خير منهم، وأكثر منه؟!
فقال له خصمه: بلى (1) .
ثم حصر الإمام الشافعي وخصمه أيضاً صورة (العدد الكثير) في (المتواتر) في صورتين:
الأولى: أن يروى الحديث بأسانيد مختلفة عن عددٍ من
(1) انظر جماع العلم (رقم 313 - 314) .
الصحابة، كل إسنادٍ منها منفرداً داخل في حد (خبر الواحد) ، وبمجموعها داخلة في حد (المتواتر) عند الخصم.
والصورة الثانية: أن يروي أربعة (مثلاً) من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يروي عن كل واحدٍ منهم جماعة، ثم يرويه عن كل واحدٍ من هذه الجماعة جماعة أخرى.. وهكذا إلى أن يصل إلينا.
ثم بدأ يرد الشافعي على دعوى خصمه: استفادته العلم من هاتين الصورتين، لعدم احتمال وقوع الغلط فيهما عنده.
فبيان بطلان هذه الدعوى في الصورة الأولى هو:
أن الإمام الشافعي سأل خصمه: ألا يمكن أن يقع الغلط في أفراد تلك الأسانيد متفرقة، فيهم المدني في نقله عن المدني، والكوفي في نقله عن الكوفي، وهكذا؟
فإن أجاب الخصم باحتمال وقوع الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لأنه من المحتمل أن يهم تابع التابعي على التابعي، والتابعي على الصحابي، والصحابي على النبي صلى الله عليه وسلم.
إن أجاب بإمكان الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لزمه أن يقبل ويستفيد العلم من (خبر الآحاد) ! لأنه استفاد العلم من خبرٍ يمكن في أسانيده أن يغلط كل راوٍ عمن فوقه، ومن فوقه عمن فوقه أيضاً، إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يقبل خبر الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم خير ممن بعدهم.
قال الشافعي: فترد الخبر بأن يمكن فيه الغلط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير الناس؟ وتقبله عمن لا يعدلهم في الفضل!! مع إمكان الغلط أيضاً في روايتهم (1) ؟!!!
(1) انظر جماع العلم (رقم 315 - 320)
فإن قال الخصم: لكن الصورة المجموعة لتلك الأسانيد أبعدت احتمال الغلط.
قلت: استبعادك الغلط في تلك الأسانيد المجموعة، إنما جاء لاعتقادك أن الجماعة الذي رووا تلك الأسانيد، لا يمكن أن يتوارد خطؤهم على لفظٍ واحد. فأنت تقصد بـ (المتواتر) هنا (المتواتر اللفظي) ، فهذا الذي تظن أن احتمال الغلط لا يتطرق إليه.
لكن أليس من المحتمل أن تكون تلك الأسانيد المتفرقة إسناداً واحداً، أو إسنادين، أو أكثر من ذلك مما لا يبلغ درجة إفادة العلم عندك؟
فإن قلت: لا
قلنا: لم؟! ألا يمكن أن يبدل أحد الرواة، راوياً بآخر، أو شيخاً بشيخ غلطاً، أو وصل مرسلاً مآله إلى موصولٍ لآخر، أو أسقط الراوي ـ سهواً أو عمداً (بالتدليس) ـ ضعيفاً، وهذا الضعيف كان قد ركب إسناداً على متن
…
أو غير ذلك احتمالات الوهم.
ثم هل نسيت أن (استحالة التواطؤ على الكذب) ببعد البلدان: قد بينا لك أنها استحالة لا تستفاد من ذلك. إذن فيمكن في كل إسنادٍ من تلك الأسانيد أن يرد إليه احتمال الكذب المتعمد أيضاً، على مذهبك أنت!!
هذا كله فيما لو كان التواتر (لفظياً) ، أما إذا كان (معنوياً) ؛ فترد عليه الاحتمالات السابقة كلها، ويزاد عليها: احتمال الغلط في فهم الحديث، وفي سوء روايته بالمعنى، حتى أوهم توافق الأحاديث، وهي في الحقيقة أحاديث مختلفة، بمعانٍ لا يشهد بعضها لبعض!
فإن قلت: هذه الاحتمالات مع ورودها فهي بعيدة لاتفاق تلك الأسانيد مجموعة على الخبر، ومن ذلك استفدت العلم.
قلنا: إذن فاستفدت العلم مع ورود احتمال الغلط!! وإن زعمت بعده. لكن أبعد منه في احتمال الغلط، أن يروي لك الصديق أو الفاروق حديثاً، ثم تقول: لا أستفيد العلم لاحتمال الغلط!!!
فإن رجعت، والرجوع بك أحمد، فقلت: أستثني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا فرجعت إلى اعتبار الصفات في الرواة، فاطرد في اعتبار الصفات إذن!!
ثم نحن لا نخالف في أن الحديث المتعدد الأسانيد قد يكون أقوى ن الحديث الغريب الذي ليس له إلا إسناد واحد، لكن عدم احتمال الغلط هو الذي جعلك استفدت اليقين بزعمك من الحديث المعدد الأسانيد؛ فها قد بينا لك أن احتمال وقوع الغلط وارد عليك فيما استفدت منه العلم أيضاً.
أما الصورة الثانية للمتواتر: وهي أن يروي جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعن كل واحدٍ من هذا الجمع جمع مثله أيضاً.. وهكذا.
قال الإمام الشافعي لخصمه عند ذكره الصورة: ((فهذا يلزمك، أفتقول به؟
قال: إذا نقول به، لا يوجد هذا أبداً.
(قال الشافعي:) فقلت: أجل!! (1) .
نعم هذه الصورة عديمة الوجود!!
(1) جماع العلم (رقم 322- 324) .
وهذه الصورة الخيالية هي التي عناها مبتدع (المتواتر) الأول من ابتداعه له، لأنها ـ بزعمه ـ الطريق الوحيد لليقين بصدق الخبر دون النظر في عدالة ناقليه. لكن هذه الصورة خيال عقلي، بعيد كل البعد عن الوقع، وتحكم بحصر طريق اليقين في تلك الصورة، وغض للنظر دون عدالة الناقلين، مع أنها هي الطريق المتيسر الصحيح لليقين بصدق الأخبار.
لكن ذلك المبتدع تلقى تلك الصورة الخيالية عن أسياده من فلاسفة اليونان، وترجمها عن أساتذته في معاداة الوحي الإلهي، ثم أراد أن يحكمها في أسانيد السنن النبوية!!!
ولم تنته ـ بعد ـ مناظرة الإمام الشافعي مع خصمه، في إبطال شرط (العدد الكثير) من شروط (المتواتر) .
وقد كان خصم الشافعي قد ضرب مثلاً لتلك الصورة الخيالية لـ (المتواتر) ، برواية أربعة، وعن كل واحد من هؤلاء الأربعة أربعة آخرون.. وهكذا.
فقال له الإمام الشافعي: ((وقلت له: من قال اقبل من أربعة دون ثلاثة؟ أرأيت إن قال لك رجل: لا أقبل إلا من خمسة؟ أو قال آخر: من سبعين! ما حجتك عليه؟ ومن وقت لك الأربعة؟!
قال إنما مثلتهم.
(قال الشافعي:) قلت: أفتحد من يقبل منه؟
قال: لا
(قال الشافعي:) قلت: أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك؟!
(قال الشافعي:) فتبين انكساره)) (1)
أي لعمري! يتبين انكساره، وانكسار عامة الأصوليين، بل والمحققين منهم، الذين ردحوا أن (العدد الكثير) في (المتواتر) لا يحد بعدد معين، وردوا على كل من اشترط عدداً معيناً! فهذا الإمام الشافعي يرد عليهم أيضاً، فيتبين انكاسرهم!!
وهذا ذكرني بعبارةٍ لأحد أئمة الحديث وأئمة الشافعية أيضاً، هو أبو بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ)، حيث قال في كتابه (شروط الأئمة الخمسة) :((وإثبات التواتر في الأحاديث عسر جداً، سيما على مذهب من لم يعتبر العدد في تحديده)) (2) .
وأما قول الإمام الشافعي لخصمه: ((أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك)) ، ففيه إيماء إلى أن (المتواتر) الذي يفيد العلم بتلك الشروط، لا ما رواه أربعة، ولا أربعون! بل ما رواه جيل عن جيل، هذا هو الذي يفيد العلم باستحالة وقوع الكذب ولغلط من نقلته! وهذا هو (خبر العامة عن العامة) الذي زعم قائل (المتواتر) أنه سواه!!
ولما كان (المتواتر) بتلك الصورة لا وجود له في الأحاديث النبوية، سكت ذلك الخصم عن إظهار ما يخفيه، لأن مآل مقالته حينها: أنه لا يحتج بشيءٍ من الأحاديث النبوية، لأنه ليس فيها شيء يفيد العلم بزعمه وعلى شروطه!!!
وهكذا يرد الإمام الشافعي على القائل بـ (المتواتر) شروطه التي وضعها له، قائلاً له: إنها بين شرطٍ لا فائدة في اشتراطه،
(1) جماع العلم (رقم 326 - 331) .
(2)
شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 50) .
وشرطٍ لا وجود لخبرٍ تحقق فيه، فكيف تقسم الأخبار باعبتاره؟!
فلا يقال بعد هذا: إن الإمام الشافعي ممن قسم الأ؛ اديث إلى (متواتر و (آحاد) ! أو أنه كان راضياً عن (المتواتر) بشروطه عن الأصوليين!!
كيف؟! وهو الهاجر لاسمه، الناقض لشروطه، المجانب لاعتباره!!!
وهنا أكون قد انتهيت من ذكر الأدلة القواطع والبراهين السواطع على أن الإمام الشافعي ليس ممن قسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، بل إنه كان يرد هذا التقسيم ويعيبه كما رأيت.
وعلى هذا فما جاء في كلام الشافعي، مما سيأتي ذكر بعضه إن شاء الله تعالى (1)، من تقسيم السنن إلى:(خبر عامةٍ عن عامة) أو (سنةٍ مجتمع عليها) ، ويقابل هذا القسم (خبر الخاصة = فإنه لا يعني به التقسيم المشهور عن الأصوليين، يس القسم الأول عنده هو (المتواتر) ، ولا الثاني هو (الآحاد) عندهم.
ومن ثم فليس حكم (خبر العامة عن العامة) هو حكم (المواتر) ، ولا حم (خبر الخاصة) هو حكم (خبر الآحاد) نفسه عن الأصوليين!
لكن الحكم سوف نعود إليه مستقبلاً بالتفصيل، ويهمنا هنا معرفة التقسيم الذي كان يرد في كلام الشافعي، ما هو؟ لأنه هو التقسيم الذي كان معتبراً عند علماء الأمة في أزهى عصورها وأقواها تمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر (ص 149 - 158) .
لكن تأكيداً لما سبق، من أن تقسم الإمام الشافعي ليس هو تقسيم الأصوليين، ومدخلاً لبيان تقسيم الشافعي وشرحه =
أقول:
إنه إن بقي من يزعم أن (خبر العامة) عند الشافعي هو (المتواتر) ، بعد هذا كله، فما عليه إن أتم النظر فيما يلي:
هذا الإمام أحمد بن أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ) ، الذي نصر المذهب الشافعي بما لم ينصره أحد مثله، حتى قيل:((ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منه، لتصانيفه في نصرته لمذهبه واقاويله)) (1) .
هذا الإمام الذي هو أولى الناس بمعرفة أقوال الشافعي وفهماها، نقل عن إمامه (الشافعي) تقسيمه الأخبار إلى (خبر عامة) و (خبر خاصة) ، وذلك في مقدمة كتابه (دلائل النبوة)(2) .
وبعد هذال النقل، وفي هذه المقدمة ذاتها، يقول البيهقي:((ومما يجب معرفته في هذا الباب: أن تعلم أن (الأخبار الخاصة) المروية على ثلاثة أنواع:
نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون مروياً من أوجهٍ كثيرةٍ، وطرق شتى، حتى دخل في حد الاشتهار، وبعد من توهم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه.
(1) طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4 / 10- 11) .
(2)
دلائل النبوة للبيهقي (1 / 22) .
فهذا الضرب من الحديث يحصل به العلم المكتسب، وذلك مثل الأحاديث التي رويت في القدر والرؤية والحوض
…
(إلى أن قال:) والضرب الثاني: أن يكون مروياً من جهة (الآحاد) ، ويكون مستعملاً في الدعوات والترغيب والترهيب والأحكام..)) (1) .
فانظر ـ حفظك الله ـ كيف قسم (أخبار الخاصة) : إلى ما يسمى بـ (المتواتر) ، وما سماه هو بـ (الآحاد) ؛ فـ (خبر الخاصة) عنده شامل لكلا القسمين
ولن أدخل في مناقشة هذا التقسيم الآن، وبيان منزعه القائد إليه، فهذا مما سيأتي ـ إن شاء ربي ـ ذكره (2) . لكن الغرض من ذكر هذا النقل عن البيهقي، حتى تعلم كيف فهم أئمة الشافعية كلام إمامهم.
ولم يتفرد البيهقي دون بقية الشافعية بهذا الفهم لكلام إمامه، بل هو مسبوق إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير
حيث إن تقسيم الشافعي (دون البيهقي) هو التقسيم الحديثي الحقيقي للسنن، وهو التقسيم الذي يوافقه عليه كل من له ممارسة لعلم الحديث، ممن لم يتأثر بذلك التقسيم الغريب على علوم السنة، النابع منت علمٍ دخيل على معارف الأمة وحضارتها.
ولذلك تجد حافظاً من كبار أئمة الحديث ونقادهم، وهو شافعي معتز بشافعيته (3)
أيضاً، وله علم واسع كذلك بـ (علم
(1) دلائل النبوة للبيهقي (1 / 32) .
(2)
انظر (ص 199) .
(3)
انظر لمثل قوله في صحيحه (5 / 497 - 498عقب الحديث رقم 2125) : ((ولا يتوهمن متوهم أن الجمع بين الأخبار على حسب = ما جمعنا بينها في هذا النوع من أنواع السنن = يضاد قول الشافعي رحمه الله ورضوانه عليه، وذلك أن كل أصلٍ تكلمنا عليه في كتبنا، أو فرع استنبطناه من السنن في مصنفاتنا، هي كلها قول الشافعي، وهو راجع عما في كتبه، وإن كان ذلك المشهور من قوله. وذاك أني سمعت ابن خزيمة يقول: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا صح لكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ودعوا قولي
…
)) ـ إلى آخر كلامه وهو مهم.
الكلام) (1) وهو ابن حبان (ت 354هـ) = يقول في مقدمة (صحيحه) : ((فأما الأخبار، فإنها كلها أخبار آحاد. لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما استحال هذا، وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد. وأن من تنكب عن قبول أخبار الأحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد)) (2) .
ويوافق ابن حبان على ذلك إمام آخر، هو أيضاً من أئمة الحديث، ومن أئمة الشافعية، وهو أبو بكر محمد بين موسى الحازمي (ت584هـ) . حيث قال عقب نقله لكلام ابن حبان، في كتابه (شروط الأئمة الخمسة) :((ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب)) (3) . ثم قال بعد ذلك: ((ثم الحديث الواحد لا يخلو إما أن يكون من قبيل التواتر، أو من قبيل الآحاد. وإثبات التواتر في الآحاد عسر
(1) يقول عنه السيوطي في تدريب الراوي ((1/89) : ((كان عارفاً بالكلام والنحو والفلسفة
…
)) . وأنا أشك في كلمة (النحو) ، فما أدخلها بين (اللكلام و (الفلسفة) ؟ وأحسبها (والمنطق) .
(2)
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156) .
(3)
شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 44) .
جداً، سيما على مذهب من لم يعبر العدد في تحديده. وأما الآحاد: فعند أكثر الفقهاء توجب العمل دون العلم، فلا تعويل على مذهب الكوفيين في ذلك، وقد ذهب بعض أهل الحديث على أنه يوجب العلم. وتفاصيل مذاهب الكل مذكورة في كتب أصول الفقه، وعلى الجملة فقد اتفقوا أنه لا يشترط في قبول الآحاد العدد قل أو كثر، والله أعلم)) (1)
فانظر إلى هذا الكلام، ولا حظ مشاربه المختلفة، ودقق في ألفاظه لا ستخراج خفايا معانية.
ثم وازنه بقول ابن الصلاح من بعد في (معرفة أنواع علم الحديث) عن المتواتر: ((ولا يكاد يوجد في رواياتهم.. ومن سئل عن إبراز مثالٍ لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه
…
نعم، حديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) نراه مثالاً لذلك
…
)) (2) .
وهذا من ابن الصلاح بعد تقريره أن (المتواتر) من اصطلاحات أصول الفقه، ومن إضافات الأصوليين على علوم الحديث، كما سبق نقله عنه.
بل يقول ابن أبي الدم الشافعي (ت 642هـ) : ((ومن رام من المحدثين وغيرهم ذكر حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم (متواتر) ، وجدت فيه شروط (المتواتر) الآتي ذكرها، فقد رام محالاً
…
(ثم قال بعد ذكر شروط المتواتر (ومثل هذا لا يقع في الأحاديث النبوية)) (3) .
(1) شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 50) .
(2)
انظر (ص 91، 94- 96) .
(3)
لقط اللآلىء المتناثرة للزبيدي (17، 19) ، وقد تحرف في مطبوع الكتاب كلام ابن أبي الدم هذا تحريفاً محيلاً، صوبته من نماذج صورة المخطوطة في مقدمة تحقيق الكتاب
وقبل هؤلاء كلهم، ذكرنا فيما سبق كلاماً نفيساً للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، منقولاً من كتابه (الرد على بشر بن غياث المريسي) . وكان ذلك الكلام عبارة ً عن مناظرةٍ بين الدارمي والمريسي، حول تقسيم المريسي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى مفيدٍ للعلم وغير مفيدٍ له، وأن المريسي لا يحتج إلا بالقسم الأول: المفيد للعلم، وهو (المتواتر) . فقال الدارمي له أثناء رده عليه:((قد أبطلت بدعواك هذه جميع الآثار التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما احتججت منها لضلالك، وما لم تحتج)) (1)
لقد صرح المريسي بأنه يحتج بـ (المتواتر) ، فلم يكون قوله هذا مبطلاً إلا حتجاج بالأحاديث كلها؟
الجواب عن هذا السؤال: هو لأن (المتواتر) صورة خيالية، لا وجود لها في واقع الروايات الحديثية. ومعنى ذلك: أن جميع الأحاديث النبوية ليست إلا (أخبار آحاد) ، وليس فيها (خبر متواتر) . لذلك كان القول بعدم الاحتجاج إلا بـ (المتواتر) مبطلاً الاحتجاج بالأحاديث كلها، لأنه ليس في الأحاديث كلها خبر (متواتر) أصلاً
ثم بعد هؤلاء كلهم يقول الحافظ ابن حجر (أحمد بن علي بن محمد الكناني، العسقلاني أصلاً المصري، المتوفى سنة 852هـ) في كتابه (نزهة النظر)، بعد ذكره لكلام ابن الصلاح الآنف الذكر: ((وما ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم. لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤوا
(1) انظر (ص 98، 111، 117) .
على الكذب أو يحصل منهم اتفاقاً
…
)) (1) . ثم ذكر الحافظ دليله على إمكان وجود (المتواتر) وجود كثرة، فيما يقوله هو
فما أدري هل يوصف الدارمي وابن حبان والحازمي وابن الصلاح وابن أبي الدم بقلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال؟
ولن أدخل بين هؤلاء الإمام الشافعي، الذي رفض (المتواتر) ونقض شروطه
بالله عليك أنصف
ثم الحافظ ابن حجر هو القائل قبيل كلامه السابق في (نزهة النظر) : ((وإنما أبهمت شروط التواتر في الأصل (يعني النخبة) ، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد. إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة
الحديث أو ضعفه، ليعمل به أو يترك، من حيث: صفات الرجال، وصيغ الأداء. والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحث)) (2) .
فأولاً: الحافظ نفسه يعترف أن (المتواتر) ليس من مباحث (علم الإسناد) ، و (علم الإسناد) هو علم الحديث و (مصطلح أهل الأثر) الذي صنف له الحافظ كتابه (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) .
فهذا قول جديد لإمام آخر ينص فيه على أن تقسيم الأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ليس من عمل المحدثين، ولا ألقاب هذا التقسيم من مصطلحاتهم
(1) نزهة النظر (ص 61) .
(2)
نزهة النظر (ص 60) .
وثانياً: ينص الحافظ أيضاً أن (المتواتر) لا علاقة له بالأسانيد ولا بأحوال الرجال، وهو كذلك عند الأصوليين أيضاً ز فهل يصح بعد ذلك تفسيره لسبب قول ابن الصلاح بعزة (المتواتر) ولقول ابن حبان وغيره بعدم وجوده، بأنه ناشئ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم؟
لقد قرر الحافظ فيما سبق أنه لا علاقة لـ (المتواتر) بالطرق وأحوال رواتها، بل قرر قبل ذلك أن ((العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر، كالعامي)) (1) ،
فكيف يكون قول أولئك الأئمة ممن نفى وجود (المتواتر) ناشئاً عن قلة الاطلاع على الطرق وأحوال الرواة؟ سلمنا أنهم كذلك فهل ينزلون عن درجة (العامي) ؟
ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر أحد تلامذته، وهو قاسم بن قطلوبغا (ت789هـ) في حاشيته على (نخبة الفكر) ، المسماة (القول المبتكر على شرح نخبة الفكر)، فقال:((تقدم أن (التواتر) ليس من مباحث علم الإسناد، وأنه لا يبحث عن رجاله؛ وحينئذٍ فلو سلم قلة اطلاع من ذكرهم المصنف على أحوال الرجال وصفاتهم لم يوجب ما ذكره)) (2) .
ثم لم اطلع السخاوي (محمد بن عبد الرحمن بن محمد القاهري الشافعي، المتوفى سنة 902هـ)) على هذا الانتقاد لكلام شيخه الحافظ ابن حجر، أجاب بجواب ضعيف، يعود بالنقض على شيخه أيضاً، وعلى عامة الأئمة قبله كذلك
قال السخاوي في (فتح المغيث) : ((وقد توقف بعض
(1) نزهة النظر (ص 59) .
(2)
ححاشية ابن قطلوبغا (ص 25) ، وااليواقيت والدرر للمناوي (1/145) .
الآخذين عنه من الحنفية، في أول مقالته هذه، مع ما سلف من أنه لا دخل لصفات الخبرين في (المتواتر) . وهو واضح الاليام، فما هنا بالنظر إلى كون أهل هذه الطبقة مثلاً تبعد العادة لجلالتهم تواطؤ ثلاثةٍ منهم على الكذب أو الغلط، وكون غيرها لا نحطاط أهلها عن هؤلاء لا يحصل ذلك إلا بعشرةٍ مثلاً، وغيرها لعدم اتصفاف أهلها بالعدالة وعرفتهم بالفسق ونحوه لا يحصل إلا بمزيد كثيرٍ من العدد. نعم يمكن بالنظر لما أشرت إليه أن يكون المتواتر من مباحثنا)) (1) .
رأيت؟ عاد به الأمر إلى أن (المتواتر) من مباحث علم الإسناد
مع أن السخاوي نفسه قال قبل ذلك في (فتح المغيث) عن (المتواتر) : ((وليس من مباحث هذا الفن، فإنه لا يبحث عن رجاله، لكونه لا دخل لصفات المخبرين فيه)) (2) .
والسخاوي نفسه أيضاً قال في (الغاية شرح الهداية) : ((إذا علم هذا، فإنما لم يفرد ابن الصلاح لـ (المتواتر) نوعاً خاصاً، لأنه ليس من مباحث الإسناد
…
)) (3) .
وقال السخاوي نفسه أخيراً في كتابه (التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن في علم الأثر) : ((وليس (التواتر) المعروف في الفقه وأصوله من مباحثنا)) (4) .
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى تدرج أثر أصول الفقه على مصنفات علوم الحديث، عبر العصور، وعلى الإمام الواحد أيضاً
ولست أريد الدخول في معمعة التعقبات على الحافظ ابن حجر، والردود عليها، والردود على هذه الردود، الواردة في حواشي (النزهة) وشروحها، وفي كتب علوم الحديث المتأخرة عن الحافظ ابن حجر، حول هذه المسألة. لكني اكتفيت بما يدل على أن (المتواتر) ليس من مباحث علوم الحديث، ولا وجود له في واقع الروايات الحديثية. وذلك قادني إلى ذكر كلام الحافظ ابن حجر الآنف الذكر، وإلى ما نقلته عن كلامه من تعقب ورد.
غير أننا استفدنا من ذلك فائدةً بينةً، وهي تعمق أثر أصول الفقه على
(1) فتح المغيث للسخاوي (4 / 20) .
(2)
فتح المغيث للسخاوي (4 /14) .
(3)
الغاية شرح الهداية للسخاوي (1/232) .
(4)
التوضيح الأبهر للسخاوي (ص 18) .
مصنفات علوم الحديث، عبر العصور المتلاحقة.
ونعود الآن إلى التقسيم الذي وعدنا ببيانه.
إذن: ما هو التقسيم الذي ذكره الإمام الشافعي، والذي يرضاه المحدثون ولا يردونه؟
لقد قسم الإمام الشافعي (السنة) إلى قسمين، هما:
الأول: السنة المجتمع عليها، وهي نقل العامة عن العامة، جيلاً بعد جيل وأمةً بعد أمة. من أمثال: عدد ركعات الفروض، وأوقات الصلوات إجمالاً، ونحو ذلك من جمل الفرائض وغيرها. فهذا وأمثاله، مما لم يرد في كتاب الله تعالى، هو القسم الأول من السنن.
وهو أعلى من (الإجماع)، إذ (الإجماع) هو: اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمرٍ من أمور الدين بعد وفاته (1) .
(1) انظر جمع الجوامع لابن السبكي (1/177) .
وأما (خبر العامة عن العامة) فهو إجماع على إجماع
ثم هو أيضاً غير (الإجماع) ، لأنه أعلى منه أولاً، ولأن الإجماع لا يجوز الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم دائماً (1) ، أما (خبر العامة عن العامة) فهو (سنة مجتمع عليها) . ثم أيضاً قد فرق بينهما الإمام الشافعي، وهو صاحب هذا التقسيم (2) .
وبعبارة أخرى: كل (خبر عامة عن عامة)(إجماع) من وجه، وليس كل (إجماع)(خبر عامة عن عامة) .
ثم هذا القسم من السنن ليس هو من عمل المحدثين، ولا من متعلقات علمهم، ولا هو الذي نقله حملة الآثار؛ فهذا تنقله الأمة جيلاً بعد جيل. بل هذا القسم لا يختص به العلماء دون العامة من العقلاء، فيستوي في العلم به جميعهم. كما سبق أن نقلنا عن الشافعي قوله:((علم العامة: على ما وصفت، لا تلقى أحداً من المسلمين إلا وجدت علمه عنده، ولا يرد منها أحدً شيئاً على أحدٍ فيه..)) (3) .
لذلك فليس هذا القسم قسماً من أقسام الأحاديث المسندة، ولا يحوز هذا القسم جزءاً من الأحاديث الموجودة في دواوين السنة، ولا يصح أن نقسم الآثار المروية بالأسانيد إلى (خبرعامة) و (خبر خاصة) .
(2)
ولا تظنن أن الشافعي قسم الأحاديث المسندة إلى (خبر عامة) و (خبر خاصة) ، إنما قسم الحجة الشرعية إلى أقسام، كان منها القسم الأول الذي ذكر فيه: كتاب الله، و (خبر العامة عن
(1) ، انظر الرسالة للشافعي (رقم 1309- 1311) .
(2)
انظر الرسالة للشافعي (رقم 1328- 1331) .
(3)
جماع العلم للشافعي (رقم 172) .
العامة) . (1)
وبذلك يفترق (خبر العامة) عن (المتواتر) عند الأصوليين، بوجه آخر. فـ (المتواتر) عندهم يقتسم مع (خبر الآحاد) الأحاديث المسندة في كتب السنة، وليس كذلك (خبر العامة) ، كما قدمنا ذكره.
ومن لازم ذلك: أن لا تقول: ((إن هذا الحديث (خبر عامة) لأنه رواه كذا من الصحابة وأخرجه فلان وفلان)) ؛ لأنه لو لم يروه فلان وفلان، فقد تناقلته الأمة. وأنت بقولك ((رواه فلان وفلان)) على (خبر العامة) ، كمن يثبت البحر أمامه بغرفاتٍ منه
ولا أقول إن إخراج الأحاديث التي فيها ما ثبت بـ (خبر العامة) لا فائدة فيه؛ لكنك لا تخالفني في أن عقد باب ـ مثلاً ـ في: إثبات أن صلاة المغرب بين العصر والعشاء = أنه لا فائدة من هذا التبويب لكن الفائدة تحصل بما في الأحاديث التي فيه من الفوائد والأحكام الأخرى.
ومن ذلك كله، تعلم لم قال ابن حبان:((إن الأخبار كلها أخبار آحاد)) ، لأنه لا قسيم لها في الدواوين المسندة
ومن لازم هذا كله أيضاً: أنه لا يوجد حديث من (خبر العامة) منقول بألفاظه وحروفه عن النبي صلى الله عليه وسلم
نعم.. ولا حديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))
لكن تحريم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (خبر عامةٍ عن عامة) ،
(1) ر الرسالة للشافعي (رقم 1256- 1261-1328- 1330، 961- 971) .
لأنه مما تناقلته الأمة جيلاً بعد جيل، يستوي في العلم بذلك عالمهم وعاميهم.
فيقال لي: إذن رجعت إلى أن (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة) عن العامة) .
فأقول: كلا، بل بعض (المتواتر المعنوي) من (خبر العامة عن العامة) ، وبعضه ليس منه. فليس (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة عن العامة) ، وإلا لو كان هو لتطابق.
والدليل على أن بعض (المتواتر المعنوي) لا يدخل في حد (خبر العامة عن العامة)، هو: أولاً أنهم يتوسعون في (المتواتر المعنوي) توسعاً يدل على أنه عندهم غير (خبر العامة عن العامة)(1) ، بل ربما ذكروا ما اختلف في وضعه وكذبه أنه (متواتر تواتراً معنوياً)(2) . ولم يكن هذا عن خطأ منهم في التمثيل، لا يتناول التقعيد. بل هذا هو (المتواتر المعنوي) عندهم، تقعديداً وتأصيلاً، بالدليل التالي:
وثانياً: أنهم ذكروا (المتواتر المعنوي) في مقابل (المتواتر اللفظي) ، وذكروا لهما الشروط نفسها والتعريف نفسه. فلو روى أربعة عندهم حديثاً بألفاظٍ مختلفة ومعنى واحدٍ، واستحال تواطؤهم على الكذب، ونقل إلينا خبرهم في جميع الطبقات على ما وصفنا = فهذا عندهم (متواتر المعنى) ؛ وهذا عندنا ليس هو (خبر العامة عن العامة) .
(1) من أمثلة: صلاة الضحى والترغيب فيها، والسجود في المفصل، وسجود الشكر، ودخول أطفال المسلمين الجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قليلً الكل وأنه كان إذا تغذى لا يتعشى وأنه ربما طوى أياماً = انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 88، 89، 90، 105، 161) .
(2)
من أمثلته: وجود الأبدال = انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 279) .
فليس (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة عن العامة) ، هذا شيء وذاك شيء آخر.
إذن فـ (السنة المجتمع عليها) أو (خبر العامة عن العامة) هو القسم الأول من أقسام (السنن) ؛ كذا بإطلاق (السنة) ، بلا قيد (المسندة) . فإن قيدتها بإنها (السنن المسندة) فليس (خبر العامة) قسماً من أقسامها، كما تقدم.
أما القسم الثاني (عند المحدثين كما ذكره الشافعي) : فهو (خبر الخاصة) وهو (الآحاد) ، وهو كل ما سوى (خبر العامة عن العامة) ، وهو ـ أيضاً ـ كل الأ×بار المسندة بألفاظها، وكل الآثار المروية بحروفها.
ومن (خبر الخاصة) : ما يرويه الواحد، وما يرويه الاثنان، والثلاثة، والعشرة.. والمائة مثل حديث ((من كذب علي متعمداً..)) فمن (خبر الخاصة) :(الفرد) ، و (الغريب) ، و (العزيز) ، و (المشهور) ، و (المستفيض) ، بل و (المتواتر) عند عامة الأصوليين والمصنفين في علوم الحديث، وكما قدمناه من تفسير البيهقي لـ (خبر الخاصة)(1)
ولذلك قال ابن حبان عبارته القاطعة: ((إن الأخبار كلها أخبار آحاد)) (2)
هذا هو التقسيم الذي ذكره الإمام الشافعي، والذي لا يخالفه عليه المحدثون ولا غيرهم، لأنه مما لا يختلف أحد على اعتباره منطوقاً أو ضمناً
وكان يكفي ذكر هذا المبحث الطويل، حول تقسيم
(1) انظر (ص 119 - 120) .
(2)
انظر (ص 121) .
الأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ، لبيان أثر اصول الفقه على علوم الحديث، ولإظهار كيف تدرج هذا التأثير، حتى طغى على كلام أهل الفن (المحدثين) ، فردت أقوال، وتؤولت أخرى، ونزل كلام على غير مراد قائله؛ حتى انطمست ـ أو كادت ـ معالم الحق والصواب
لكن بعد تقرير التقسيم الآنف الذكر ـ وهو التقسيم الذي رضيه المحدثون ـ تبين أن كل الأحاديث المسندة (أخبار آحاد) . و (خبر الواحد) العدل عند الأصوليين لا يفيد ـ بذاته ـ إلا الظن، فهل هذا الحكم لـ (خبر الواحد) هو نفسه حكم المحدثين عليه أيضاً؟
لذلك كان واجباً علي بيان حكم (خبر الواحد) العدل عند المحدثين.
فأقول: أولاً: لست أريد استيعاب كل ما يتعلق بهذه المسألة، فهذا أمر عظيم، لكنه ليس بحثي. لذلك فسأتجوز في هذه المسألة ما استطعت ذلك.
وثانياً: أنه مع أن الأحاديث النبوية عند أهل الحديث قسم واحد، فكلها (خبر آحاد) ، كما سبق تقريره = إلا أن المحدثين أعرف الناس بتفاوت مراتبها في الصحة، وأدراهم باختلاف درجاتها في القوة، وألحظهم لدقيق فروق ثبوتها. ولهم في ذلك صولات وجولات، لها في علمهم ساحات مباركات، لا تخفى على من نخاطبه ويدري الخطاب
لكن عدم اعتبار المحدثين لهذا التفاوت ولتلك الفروق في درجات الصحة والقوة مسوغاً لتقسيم الأحاديث على أساسه، يدل دلالةً واضحةً على أن تلك الفروق في درجات الثبوت لم تبلغ درجة التأثير على حجية الأخبار، فجميعها يشملها حكم واحد
يستفاد منها، لكن تتفاوت مراتب هذا الحكم الواحد.
وعندها نقول: إذا استفاد اليقين و (العلم) من بعض الأحاديث النبوية المتكلمون والجهلاء بالسنة وبعض من أعدائها وبعض من تأثر بهم في مثل ما أسموه بـ (المتواتر) وهو عند المحدثين من (الآحاد) ، وفي بعض (الآحاد) أيضاً إذا احتفت به القرائن عند المحققين في أصول الفقه (1) = إذا استفادوا (العلم) من بعضها، فالمحدثون الذين هم حملة الآثار وأمناء الوحي وورثة النبوة أولى بما يربو على ذلك ويزيد
فكل ما يفيد (العلم) عند الأصوليين يفيده عند المحدثين من باب أولى.
لكن بقي ما قال الأصوليون إنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم) بذاته، وهو (الآحاد) عندهم. غير أن المحققين منهم قالوا بإفادة (الآحاد) لـ (العلم) إذا احتفت به قرائن تقوية، و (العلم) حينها نظري عندهم، كما سبق آنفاً.
فنقول لهم: رضينا بهذا القدر منكم، فاثبتوا عليه
والحمد لله أن الأصوليين لم يتدخلوا في تحديق القرائن؛ إنما ضربوا أمثلةً عليها
(1) انظر العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الحنبلي (3/900- 901) ، والبرهان لجويني (1/576 - 577، 578 رقم 504، 507) ، وشرح اللمع للشيرازي (رقم 669) ، وإحكام الفصول للباجي (329 - 330رقم 298) ، والإحكام للآمدي (2/48- 49) ، وروضة الناظر لابن قدامة (1/363 - 364) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/83- 84، 108) ، والبحر المحيط للزركشي (4/263 - 266) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (2/ 348 - 352) ، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (3/76) ، وإرشاد الفحول للشوكاني (94- 95) ، وغيرها.
قال بدر الدين الزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، المتوفى سنة 794هـ) في كتابه (البحر المحيط في أصول الفقه) : ((لم يتعرضوا لضابط القرائن، وقال المازري: لا يمكن أن يشار إليها بعبارة تضبطها. قلت (القائل الزركشي) : ويمكن أن يقال: هي ما لا يبقى معها احتمال، وتسكن النفس عنده، مثل مكونها إلى الخبر المتواتر أو قريباً منه)) (1) .
قلت: وكل هذا يرضاه المحدثون من الأصوليين
فإن صحح المحدثون حديثاً، مما تفرد بروايته راوٍ واحد، وهم (أعني المحدثين) أهل هذه الصنعة، وأعرف الناس بقواعدها وجزئياتها، وأخبرهم بأصولها وفروعها؛ ثم تصحيحهم ذلك الحديث معناه أنه انتفت عنه كل: العلل الظاهرة (من طعن في الرواة أو سقط في الإسناد) والعلل الباطنة (من شذوذ وتفرد من لا يحتمل التفرد بمثل ما تفرد به) ، وقف عند العلل الباطنة، وقلب وجوهها ومعانيها عند المحدثين؛ لتعلم بعد ذلك كله، أنه إذا صحح المحدثون حديثاً (غريباً)(فرداً) = أنه أفاد العلم عندهم، لأنه استحال عندهم بعد النظر والاستدلال احتمال الكذب والغلط، ولاحت قرائن تفيد اليقين بذلك
ولا يعترض على المحدثين: بأن الأصوليين أو الفقهاء (غير المحدثين) لا يستفيدون (العلم) من ذلك الخبر، لأن عدم استفادتهم منه (العلم) لا ينفي أن غيرهم ممن الشأن شأنهم والفن فنهم والعلم علمهم = قد استفاد منه العلم
ولئن كان (المتواتر) منه ما هو عام يعرفه العامة، ومنه ما
(1) البحر المحيط للزركشي (4/266) .
هو خاص لا يعرفه إلا الخاصة من أهل العلم (1) . فكذلك القرائن: منها ماه وعام يعرفها الأصوليون والمحدثون، ومنها ما هو خاص لا يعرفه إلا المحدثون.
وما أشبه ذلك بـ (المتواتر) أيضاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (علم الحديث) :((وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم، لكونهم سمعوا ما لم يسمع به غيرهم، وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم)) (2) .
يقول ابن قيم الجوزية في (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) : ((وكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً أن يتواتر عندهم= فأهل الحديث: لشدة
عنايتهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله، يعلمون من ذلك علماً لا يكون فيه، مما لا شعور لغيرهم به البتة)) (3) .
وكان قد قال رحمه الله قل ذلك: ((وخصومهم ـ يعني خصوم أهل الحديث ـ إما أن ينكروا حصول (العمل) لأنفسهم، أو لأهل الحديث. فإن أنكروا حصوله لأنفسهم، لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم. وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم على ما يعملونه من نفوسهم، بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه وخوفه وحبه. والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق فيها فائدة، وينبغي العدول إلى ما أمر الله به رسوله من المباهلة)) (4)
(1) علم الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (119، 157) .
(2)
علم الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (158) .
(3)
مختصر الصواعق المرسلة (ص 537) .
…
(4)
مختصر الصواعق المرسلة (ص 525 - 526) .
واسمع الإمام مسلماً وهو يقول في كتابه (التمييز) : ((واعلم ـ رحمك الله ـ أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفون بها دون غيرهم. إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا. فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى: معرفة الحديث، ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار من نقال الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم، حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح)) (1) .
ثم قف على هذا الفصل النوراني، وسأنقله لك على طوله من كلام الإمام أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني الشافعي (ت 489هـ) . يقول رحمه الله في كتابه (الانتصار لأهل السنة) :((واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن وللتجوز فيه مدخل، ولكن هذا الذي قلناه (يعني من إفادة خبر الواحد للعلم) لا يناله أحد، إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكنه معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها. ولقد كانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمةٍ واحدةٍ يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم. وكانوا في صدق العناية
(1) التمييز لمسلم (ص 218) .
والاهتمام بهذا الشأن: ما يجل عن الوصف، ويقصر دونه الذكر. وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه.
والذي يزيد ما قلنا إيضاحاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (1) ، فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، وليس طريق معرفته
إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تنازعوا الأمر أهله)) (2) ، بكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوةً في هذه الأمة إلى أهل الققه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، وفي النحو إلى أهل النحو= كذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله، ولولاهم لا ندرس علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أحد على سنته وطريقته!
فإن قالوا: فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلط عليهم؟
قلنا: ما اختلط إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها،
(1) حديث إسناده ضعيف بهذه الزيادة.
(2)
حديث صحيح.
أخرجه الترمذي (رقم 2641)، وغيره من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي: وهو ضعيف. ويغني عنه حديث العرباض بن سارية ـ مرفوعاً ـ: ((وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلافاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)) . وهو حديث صحيح، أنظر إرواء الغليل للألباني (رقم 2455) .
ويأخذون جيادها. ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة الحديث ورتوت (1) . العلماء، حتى إنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون. بل تراهم يعدون على كل واحدٍ منهم في كم حديث غلط، وفي كم حرفٍ حرف، وماذا صحف.
(إلى أن قال:) فتدبر ـ رحمك الله ـ أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار النبي صلى الله عليه وسلم شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ؛ واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة، ولم يحابه في مقال ولا خطاب، غضباً لله، وحميةً لدينه؛ ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين: أسمائهم وأنسابهم، وقدر أعمارهم، وذكر أصارهم، وشمائلهم وأخبارهم؛ وفصل بين الرديء والجيد، والصحيح والسقيم، حباً لله ورسوله، وغيرةً على الإسلام والسنة؛ ثم استعمل آثاره كلها، حتى فيما عدا العبادات، من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه، وجميع سيرته وسننه، حتى في خطواته ولحظاته؛ ثم دعا الناس إلى ذلك، وحثهم عليه، وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى في بذلك ماله ونفسه = كمن أفنى عمره في أتباع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه؟!!! (2)) .
إذن فالأصل في (خبر الآحاد) الذي يصححه المحدثون أنه يفيد (العلم) عندهم، لأن تصحيح الحديث يقتضي عندهم: ادتماع غلبة الظن بصدق الخبر، مع قرائن إثباته. لأن غلبة
(1) الرت: الرئيس، وجمعه: رتون. انظر القاموس المحيط ـ رت ـ (194) .
(2)
الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (2 / 221 - 223، 234- 235) ، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص 561- 562) .
الظن تحصل بمجرد صحة السند، أي بانتفاء العلل الظاهرة. أما انتفاء العلل الباطنة، فهو قرائن الإثبات وعلامات مطابقة الخبر لواقع الحال، وهو (العلم) .
إذا علمت ذلك، بعد قراءتك كلام أبي المظفر السمعاني الآنف الذكر، فلا بد أنك توافقه وتوافقني في أن المرجع في تمييز الثابت من المشكوك فيه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هم المحدثون، وأنهم القضاة الذين يحتكم إليهم في ذلك، وأنه لا يحق لمن ليس منهم أن ينازعهم شأنهم وأمرهم.
فإن قفلت: فما القول فيما لو اختلفوا في تصحيح حديث، فضعفه بعضهم وصححه آخرون؟
قلت: كما لو اختلف الفقهاء! فإن كنت من أهل فنهم، وتفقه أصوله وضوابطه، ومارست علومه ودقائقه؛ فارجع إلى حجة كل، ووازن، فلعلك تخرج بيقين، وترى الشمس كما رآها بعض من سبقك. أما إن لم تكن ممن يفهم هذا العلم، فاتبع، أو قلد، واختر في ذلك أعلمهم علماً وأتقاهم ديناً!!
المهم في ذلك، أن لا يكون اختلافهم دليلاً عندك على عدم استفادتهم العلم من صحيح (خبر الآحاد) ، كما لم يكن اختلافهم في تواتر خبر دليلاً على عدم إفادة (المتواتر) للعلم. ((وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا، وجهلنا إن جهلنا، حجة على وجوب ضياع الدين. بل الحق ثابت معروف عند طائفة، وإن جهلته أخرى، والباطل كذلك أيضاً. كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضاً، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)) (1) .
ولئن كنا آنفاً نقلنا لك كلاماً نورانياً، فسننقل لك الآن
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1 / 137) .
كلاماً على ضده، لتعلم أنه (من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب) ، وإن كان إماماً في فنه علماً في علمه
يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في (البرهان) : ((ذهبت الحشوية من الحنابلة، وكتبة الحديث: إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم. وهذا خزي، لا يخفى مدركه على ذي لب.
فنقول لهؤلاء: أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء؟
فإن قالوا: لا، كان ذلك بهتاً، وهتكاً وخرقاً لحجاب الهيبة، ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه. والقول القريب فيه: أنه قد زل من الرواة الإثبات جمع لا يعدون كثرةً. ولو لم يكن الغلط متصوراً، لما رجع راوٍ عن روايته، والأمر بخلاف ما تخيلوه.
فإذا تبين إمكان الخطأ، فالقطع بالصدق مع ذلك محال.
ثم هذا في العدل في علم الله تعالى، ونحن لا نقطع بعدالة واحد، بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر. ولا متعلق إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع)) (1) .
هذا كلام الجويني كاملاً بنصه.
ويكفي كلامه هذا ضعفاً، أن مثلي (في ضعفه) يرد على مثله (في إمامته وجلالته في الفقه وأصوله)
أما نبزة للحنابلة بـ (الحشوية) ، فـ (شنشنة نعرفها من أخزم) ،
(1) البرهان للجويني (1/606- 607 رقم 545) .
وما كان لمثله أن نعرفه بها. لكنه تاب رحمه الله ، ومن تاب تاب الله عليه
وأما قوله: ((إن خبر الواحد العدل يوجب العلم)) نقلاً عن المحدثين، فليس هذا قولهم مطلقاً، ومن هنا أتي ودخل عليه الداخل
فالمحدثون يستفيدون (العلم) مما صح عندهم من (خبر الواحد العدل)، كما تقدم. والصحيح عندهم: ما اجتمع فيه أمران: الأول: غلبة الظن بصدق الخبر، بثقة الناقلين واتصال السند بالخبر؛ والثاني: قرائن مفيدة العلم، وهي انتفاء الشذوذ وجميع العلل الخفية القادحة. وقد سبق ذكر ذلك، وأنه أحد خصائص من فقه في علمهم، ووفقه الله تعالى للتقوى والعمل.
وقد سبق عن محققي الأصوليين، ومنهم إمام الحرمين: أن خبر الواحد يمكن أن يفيد العلم بالقرائن الشاهدة على صدقه (1)
فماذا ينكر إمام الحرمين من استفادة المحدثين للعلم من خبر الواحد المحتف بما يقوية؟
وعدم استفادة الأصوليين وغير المحدثين للعلم من قرائن استفاد المحدثون منها العلم، ليس دليلاً على عدم استفادة العلم من تلك القرائن مطلقاً. بل ليس أمراً مستنكراً ولا مستغرباً، بل هو المعروف المألوف، أن كل مختص بفن أعرف من غيره به، فـ (صاحب البيت أدرى بما فيه.. فلام النزاع؟
وقد قرر الأصوليون ذلك (2)
(1) انظر البرهان للجويني (رقم 405، 507) ، وانظر ما سبق (ص 133) .
(2)
انظر روضة الناظر لابن قدامة ـ وحاشية تحقيقه ـ (1/353- 355) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار ـ وحاشية تحقيقه (2/335-336) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/83-84) وتيسير التحرير لأمير بادشاه (3/35) .
يقول الآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام) : ((وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها، لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر، لتفاوتهم في قوة الإدراك والفهم للقرائن. إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً: حتى إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني واغمضها في أدنى دقيقة من غير كذ ولا تعب، ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا يدرك له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع اجد والاجتهاد في ذلك، ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين؛ وهذا أمر واضح لا مراء فيه)) (1) .
ولعمري! إن مثل المحدثين وأهل الكلام مثل الأول والثاني في مقالة الآمدي المتقدمة!!!
وقد كان المحدثون وأئمة النقد منهم دائمي التصريح بأن خفايا علمهم ودقائق فنهم لا تبلغها كثير من الأفهام، ولا تعقلها غالب العقول.
يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ) : ((معرفة الحديث إلهام)) (2) .
ويقول أيضاً: ((إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة)) (3) .
ويقول أبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) : ((وربما أتوقف عن مثل هذه ـ يعني إبراز العلل ـ لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب
(1) الإحكام للىمدي (2/42) .
(2)
علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (113) .
(3)
علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9) .
الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا)) (1) .
ثم قال ابن مندة (أبو عبد الله محمد بن يحيى بن إبراهيم الأصبهاني الحافظ، المتوفى سنة 301هـ) : ((إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثيرٍ ممن يدعي علم الحديث، فأما سائر الناس: من يدعي كثرة كتابة الحديث، أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة ن أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وأهل الخواطر = فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحدث، إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته)) (2) .
فالذي يظهر بعد كل هذا: أن محل النزاع لم يحرر بين الأصوليين والمحدثين! فالأصوليون فهموا أن المحدثين يقولون بإفادة خبر الواحد العدل العلم مطلقاً، ولا يقول ذل المحدثون؛ لكنهم يقولون: إن كل خبر صح عندنا فهو مفيد للعلم، والصحيح عندهم: خبر الواحد العدل المحتف بما يقويه من القرائن. لكن لجهل كثير من الأصوليين بعلم الحديث، ولعدم معرفة غالبهم بدقائق فنه، ظنوا أن المحدثين يكتفون بظاهر الإسناد، دون التدقيق في باطن علله،
ودون نقد المتون (3) ! وهذا من خصائص علمهم التي لا يعلمها إلا العالمون!!
وليس أدل على نفي ما نسبه الأصوليون للمحدثين، من القول بإفادة خبر الواحد العدل العلم مطلقاً: من تغليط المحدثين
(1) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (31ـ 32) .
(2)
شرح العلل لابن رجب (1/339- 340) .
(3)
انظر كتاب (مقاييس نقد متون السنة) للدكتور مسفر غرم الله الدميني، وكتاب (اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً) للدكتور محمد لقمان السلفي.
للثاقات، وتوهيمهم العدول، وقولهم بشذوذ ما صح سنده أحياناً، وبتعليل ما ظاهره الثبوت أخرى، وترجح أحج المتعارضين من الأحاديث المقبولة كذلك! كل ذلك يكذب ما نسب إليهم، ويدفع ما ألصق عليهم!!!
وهذا كله حق واضح، وقول ناصح، بحمد الله تعالى. لذلك فمن قلة الإنصاف إطلاق الأصوليين القول:((بعدم إفادة خبر الواحد العدل العلم)) ، وإن جاء بعد ذلك تقييد هذا الأطلاق بصفقة: غير المحف بالقرائن الشاهدة على صدقه!
فأولاً: لأن ذلك الحكم يوهم أنه هو الأصل الغالب في صحيح الأخبار، وليس كذلك بحمد الله تعالى. فالغالب في روايات العدول، عند المحدثين، الثبوت والصحة، بالقرائن الشاهدة على صدق خبرهم المشروحة سابقاً.
وأخيراً: لأن استثناء الأصوليين من ذلك الحكم العام: ما احتفت به القرائن، جاء وكأنه استثناء منقطع!! بدليل اعراضهم على المحدثين استفادتهم العلم بتلك القرائن من خبر الواحد العدل!!!
وثالثاً: حجة في العقائد والأحكام، عند السلف كلهم، وفيهم المحدثون.
وخالف في ذلك كثير من الأصوليين، من الأشاعرة والماتريدية، فقالوا: هو حجة في الفروع دون الأصول.
فأول ما يقال لهم: ومن فرق بين الأصول والفروع قبلكم؟! ومن إلى هذه البدعة سبقكم؟! وما ضابط الأصول والفروع عندكم؟!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية) على لسان أهل السنة والجماعة: ((قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.
قالوا: والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة = فهي باطلة عقلاً
…
)) (1) ـ ثم أطال في رد ذلك ونقضه.
ولابن قيم الجوزية فصل بديع في هذا المعنى، عقده في كتابه (الصواعق المرسلة)(2) ، حتم على كل مبتغٍ للحق في هذه المسألة أن يقرأه ويتدبره.
فإذا احتج المخالف للسلف بخبر الواحد العدل غير المفيد للعلم في الأحكام دون العقائد، بناءً على التفريق بينهما، ثم تبين له أن هذا التفريق باطل، فلا فرق أصلاً، ولا ظابط له = استلزم ذلك احتجاجه بخبر الواحد العدل مطلقاً، في الأصول والفروع! خاصةً وأن مآل الأحكام العملية عقائد علمية، بتضمن الحكم خبراً عن الله تعالى: أن هذا الفعل يرضيه، وأن ذلك يسخطه (3) .
وثاني ما يقال لهم: إن الإجماع من الصحابة والتابعين وتابعيهم منعقد على وجوب الأخذ بخبر الواحد العدل مطلقاً، في العقائد والأحكام، ولم يكونوا يوجبون في أحاديث العقائد إلا
(1) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (5/87- 88 فما بعدها) .
(2)
مختصر الصواعق المرسلة (563 - 570) .
(3)
انظر المصدر السابق.
ما يوجبونه في أحاديث الأحكام من التثبت والتحري.
قال ابن عبد البر (أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري الأندلسي، المتوفى سنة 463هـ) في كتابه (التمهيد) : ((والذي نقول به: إنه (يعني: خبر الواحد) يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرنا)) (1) .
وقال ابن قيم الجوزية في رده على من لم يحتج بخبر الآحاد في العقائد، في كتابه (الصواعق المرسلة)، قال: ((وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث، وإثبات صفات الرب تعالى بها. فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرةٍ بالمنقول؛ فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها
بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقها عنهم جميع التابعين، من أولهم إلى آخرهم
…
)) (2) .
إذن: فانعقد الإجماع، وانسد الباب، وقيل الحمد لله رب العالمين!
ورابعاً: أن كثيراً من مصطلحات هذا الباب مصطلحات غريبة على علوم الحديث، لا يعرفها سلف المحدثين، ولا يرضاها متقدموهم. كما سبق في التقسيم ذاته إلى (متواتر) و (آحاد) ، من أن أهل الحديث لم يكونوا قائليه ولا قابليه.
(1) التمهيد لابن عبد البر (1/8) ، والنظر (ص 202- 203) .
(2)
مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (577) .
فبالأحرى أن يكون ما تفرع عن هذا التقسيم، ن حكم كل قسم ٍ (مثلاً) ، غير داخلٍ في مصطلح القوم، ولا بالذي يرضونه.
ومن هذه المصطلحات: (العلم: الضروري، والنظري) ، و (الظن الموجب للعمل دون العلم) = فهي علم غريب وألقاب متطفلة على علوم الحديث ومصطلحه.
سال أبو بكر المروذي (أحمد بن محمد بن الحجاج، المتوفى سنة 275هـ) الإمام أحمد، قائلاً:((ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً؟ قال: فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!!)) (1) .
بعدم الرضى الصريح هذا يجيب إمام أهل الحديث ومقدمهم على هذه الألقاب الدخيلة.
وقد سبق أن المحدثين لا يجهلون أن (خبر الواحد) العدل بذاته لا يفيد اليقين، المستفاد مما احتفت به قرائن تقويه. لكن لما كان (خبر الواحد) العدل عند المحدثين حجة توجب الالتزام بطلبه وتصديق خبره مطلقاً، لم يروا هناك حاجةً إلى تلك الألقاب والتقسيمات، لأنه لا فائدة منها ولا طائل تحتها!
وبعد أن لم يكن لتلك الألقاب وتقسيمها معنى، انظاف إلى ذلك أنها ألقاب سوء وأسماء شؤم على السنة النبوية! فكيف يقال عن الحجة الملزمة:(ظن) ؟! وما العمل الذي يوجبه ما لا يفيد حتى العلم به؟!!!
وأضف إلى ذلك أن هذه الألقاب صدرت أول ما صدرت عن موردٍ مسموم، ونبعها مستنقع وخيم. فإنما خرجت (أولاً)
(1) العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى الحنبلي (3/899) .
من فم جهمي، أو شفتي فيلسوف دهري. فما هي إلا نفثات ساحرٍ أثيم، أو فحيح ثعبان أرقم، أو وسوسة شيطان مارد= فمن يصغي لهؤلاء؟! أم من يقترب منهم؟!!
ومن زعم أن الإمام الشافعي يقول: إن (خبر الواحد) العدل يفيد الظن الموجب للعمل دون العلم، فقد أخطأ عليه خطأ بيناً!!
وسوف نقف مع الإمام الشافعي من هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى.
أما الإمام أحمد الذي نقلنا عنه إنكاره لتلك الألقاب، فيقول:((إذا كان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً ونقله الثقات فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس)) (1) .
وقال أيضاً: ((خبر الواحد صحيح إذا كان غسناده صحيحاً)) (2) .
وقال أيضاً: ((من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (أي: يقين النبي صلى الله عليه وسلم . ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به)) (3) .
انظر إلى أدب العبارة، وتعظيم الأثر، وشدة التسنن؛ في قوله عن (خبر الواحد) العدل:(سنة) ، و (صحيح)، بل و (علم) ! أين هذا من قولهم: ظن يوجب عملاً ولا يوجب علماً؟!!
(1) العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/859) .
(2)
العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/859) .
(3)
العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/860) .
ولا تقل: الخلاف لفظي!
أولاً: لأنه ليس كل خلاف لفظي أمراً هيناً. فإن كان في هذا الخلاف اللفظي تعظيم للسنة وحفاظ على حرمتها، أو عدم تعظيم لها ولا حفاظ على حرمتها؛ فهل يكون الأمر هيناً؟!
وثانياً: أن قولهم بأن (خبر الواحد) العدل ظني الثبوت، مهد لهم هذا اللفظ السيء أن هذا الخبر لا يثبت اليقينيات (العقائد) ! فالخلاف من هذا الوجه ليس لفظياً، بل هو حقيقي معنوي (1) !!
أما الإمام الشافعي ودعوى قوله بإفادة (خبر الواحد) العدل للظن دون العلم، فغير صحيح عنه، بل هو خطأ بين عليه.
وقد تعرض الإمام الشافعي لهذه المسألة في مواطن من كتبه، فسأنقلها لك، لنعرف حكم الشافعي وقوله فيها.
قال الإمام الشافعي في (الرسالة) : ((فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك (حجة) ؟
قيل له إن شاء الله: نعم.
فإن قال: أبن لي؟
قلنا: أما ما كان نص كتابٍ بين أو سنةٍ مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منها، ومن امتنع من قبوله استتيب.
فأما ما كان من سنةٍ من خبر الخاصة، الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من
(1) انظر البحر المحيط للزركشي (4/266) .
طريق الانفراد= فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله.
ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك ـ إن كنت عالماً ـ أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم)) (1) .
هذا أول تلك المواطن، وأقواها تمسكاً لمن نسب إلى الشافعي غير مراده.
لكني أكمله بنقل آخر، ثم نتبعهما بالبيان.
قال الإمام الشافعي في (الرسالة) أيضاً: ((العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر.
فالإحاطة منه: ما كان نص حكم الله أو سنةٍ لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يشهد بهما فيما أحل أنه حلال، وفيما حرم أنه حرام. وهذا الذي لا يسع عندنا جهله ولا الشك فيه.
وعلم الخاصة سنةً من خبر الخاصة، يعرفها العلماء، ولم يكلفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبر عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر. كما نقتل بشاهدين، وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلط)) (2) .
(1) الرسالة للشافعي (ص 460- 461 رقم 1256- 1261) .
(2)
الرسالة للشافعي (ص 478- 479 رقم 1328- 1330) .
هذا كلام الشافعي، وله كلام في موطن آخر من (الرسالة) هذا يغني عنه (1) ، وله كلام في كتبه الأخرى عن هذه المسألة، سوف نذكره لك خلال بياننا لمعاني كلام الشافعي، إن شاء الله تعالى.
فأول ما أنبهك عليه في فهمنا لكلام الشافعي، أن تترك إلفك العلمي السابق، وما اعتدته من مباحث هذه المسألة عن أصول الفقه. ورجائي هذا ليس فيه تحكم ولا مصادرة، لكن أنت معي أن أولى ما حمل عليه كلام امرىءٍ هو كلامه نفسه، وما يتضمنه من معاني ألفاظه؛ وأن التحكم الحق والمصادرة الواقعة هي صرف كلام الرجل عن ظاهره ليوافق كلاماً لآخر. كيف إذا كان الحال بين الرجلين متبايناً؟! والجهة بينهما منقطعة؟! وهذا ما بيناه سابقاً (2) ، من مفارقة (الرسالة) ومصنفها الإمام الشافعي، في العقيدة ومصادر التلقي والمنهج الفكري، عن كتب أصول الفقه بعده ومصنفيها (غالباً) .
ثم نقف مع كلام الشافعي وقفات:
الوقفة الأولى: مع النقل الأول عن الشافعي، بما يدل على أنه في غير محل النزاع، ببيان أنه قسم في ذلك النقل تقسيماً يختلف عن التقسيم الذي نبحث فيه.
فالإمام الشافعي إنما كان يقسم الحجة، كما صرح بذلك:((فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك (حجة) ؟)) . أما نحن فنبحث في تقسيم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى (متواتر) و (آحاد) ، وفي حكم هذين القسمين.
(1) انظر الرسالة للشافعي (ص 357- 359 رقم 961- 697) .
(2)
انظر (ص 87) .
والفارق بين كل تقسيم وآخر أن الواجب على صاحب كل تقسيم أن يستوعب أقسامه، دون أمثلته، وهذا ما وقع للشافعي.
فعندما تكلم عن الحجة، من حيث الحكم المستنبط منها، هل هو قطعي أم ظني؛ استوعب هذين القسمين. فمثل للحجة المفيدة لحكم قطعي: بنص الكتاب ونص السنة المجتمع عليها، لأنهما جمعا قطعية الثبوت
والدلالة. ومثل لحجة المفيدة لحكم ظني: بخبر خاصةٍ محتملٍ للتأويل لا يعرف إلا من جهة راوٍ واحد (حديث غريب)، يشير بذلك إلى أنه ظني الدلالة والثبوت. فواضح من تمثيله أنه ترك: قطعي الثبوت ظني الدلالة، وقطعي الدلالة ظني الثبوت، وهما في الحقيقة مثالاان من أمثلة القسم الثاني عند الشافعي وهو الحجة المفيدة لحكمٍ غير مقطوع به.
إذن فلا يعني تقسيم الشافعي ذاك أن كل خبر خاصةٍ (آحادٍ) يفيد عنده (الظن) ، لأنه لم يقل ذلك، ولم يقل ما يدل على ذلك.
وقد تعقب ابن قيم الجوزية كلام الشافعي هذا بنحو ما ذكرنا، فقال في (الصواعق المرسلة) :((فهذا نصه في خبرٍ يحتمل التأويل، ليس معه غير كونه خبر واحد، وهذا لا تنازع فيه، فإنه يحتمل سنداً ومتناً)) (1) .
الوقفة الثانية: أن (خبر الخاصة) عند الشافعي، كما عند جميع المحدثين، هو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ما سماه الأصوليون بـ (المتواتر) وما سموه بـ (الآحاد) . كما سبق إثباته
(1) مختصر الصواعق المرسلة (ص 530) .
بتوسع (1) ، وكما نقلناه من تفسير البيهقي أيضاً لكالم الشافعي (2) .
وإذا كان الأصوليون يستفيدون من بعض (خبر الخاصة) علماً، فأهل الحديث (والشافعي على رأسهم) أولى بذلك وبما فوقه. ولا يعقل أن يكون الشافعي لا يستفيد علماً من كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفيد العلم من كثيرٍ منها الجهلاء بالسنة من أهل الكلام!!
الوقفة الثالثة: أن الشافعي لم يطلق على (خبر الخاصة) أنه يفيد (الظن المودب للعمل دون العلم) ، ولم يتلفظ بهذه الألفاظ.
أما حكم الشافعي على (خبر الخاصة) ، كما في النقل الثاني عنه، فهو أنه يفيد (الحق في الظاهر) .
والحق في اللغة: نقيض الباطل، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره (3) .
فأين (الحق من (الظن) ؟!!
وأما أنه (لا يفيد العلم)، فيكيف؟! والشافعي يقول في فاتحة كلامه:(( (العلم) من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر)) .
ويؤكد الشافعي أن (خبر الواحد) مفيد للعلم في كتابٍ آخر له، هو كتاب (اختلافه ومالك) . حيث ذكر مناظرةً له مع من لم
(1) انظر (ص 91- 132) .
(2)
انظر (ص 119- 132) .
(3)
انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/15) ، ولسان العرب (10/49) ، والتعريفات للجرجاني (20رقم 590) ، والتعريف على مهمات التعاريف للمناوي (287) .
يقبل خبر الواحد فيما إذا خالفته فتوى بعض الصحابة، فقال الشافعي:((أرأيت إن قال لك قائل: أتهم جميع ما رويت (يعني ما فتاوى الصحابة) عمن رويته عنه، فأخاف غلط كل محدثٍ منهم عمن حدث عنه، إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه.
قال: لا يجوز أن يتهم حديث أهل الثقة.
قلت: فهل رواه عن أحدٍ منهم إلا واحد عن واحد؟
قال: نعم.
قلت: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد عن واحد؟
قال: نعم.
قلت: وعلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، علمنا بأن من سمينا قاله؟
قال: نعم.
قلت: فإذا استوى العلمان من خبر الصادقين، أيهما كان أولى بنا أن نصير إليه؟ آلخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بأن نأخذ به؟ أم الخبر عمن دون؟
قال: بل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ثبت.
قلت: ثبوتهما واحد.
قال: فالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يصار إليه.
وإن أدخلتم على المخبرين عنه أنهم يمكن فيهم الغلط،
دخل عليكم في كل حديثٍ روي مخالفٍ الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلتم: ثبت بخبر الصادقين، قلنا: فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى عندنا أن يؤخذ أن يؤخذ به)) (1)
قال ابن قيم الجوزية معلقاًً على كلام الشافعي هذا، في (الصواعق المرسلة) :((فقد نص ـ كما ترى ـ بأنه إذا رواه واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، بصدق الراوي عندنا. ولا يناقض هذا نصه في (الرسالة) ، فإنه نفى هناك أن يكون العلم المستفاد منه مساوياً للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر التواتر، وهذا حق، فإن العلم يتفاوت في القوة والضعف)) (2) .
الوقفة الرابعة: أنه على افتراض أن قوله (حق في الظاهر) تساوي (الظن الموجب للعمل دون العلم) عند الأصوليين، فإن هذا يكون حكم (خبر الخاصة) بنفسه دون احتفافه بالقرائن.
وهذا هو الواجب أن نصير إليه، فيمالو أطلق الإمام الشافعي على (خبر الخاصة) أنه يفيد (الظن) ، فضلاً عن إطلاقه عليه أنه يفيد (الحق في الظاهر) . لأنه لو أطلق على (خبر الخاصة) غير المحتف بالقرائن، ولا يجوز غير هذا المحمل. لأنه كما قدمنا في الوقفة الثانية: أن من (خبر الخاصة)(المتواتر) و (خبر الواحد) المحتف بالقرائن، وهما عند الأصوليين يفيدان العلم، فأنى لا يفيدانه للشافعي؟!
ونرجع حينها إلى الفرق بين العبارتين المتحدتين في
(1) اختلاف مالك والشافعي ـ المطبوع أثناء كتاب الأم ـ (7/192ـ 193) .
(2)
مختصر اصواعق المرسلة لابن القيم (ص 530) .
المعنى، في تعظيم السنة، وحياطة حرمتها:(حق في الظاهر) ، و (ظن يوجب العمل دون العلم) !!
بل يقول الشافعي عن الخبر المحتمل للتأويل والغريب في إسناده: ((فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه)) ، كما سبق في النقل الأول عنه.
فلاحظ الفرق بين العبارات في الأدب والتعظيم والإجلال للسن!!!
الوقفة الخامسة: أن الإمام الشافعي لا يقيس (خبر الواحد العدل) على (شهادة العدلين) عند القضاة.
وقد نص الإمام الشافعي على ذلك، عندما بدأ حجاجه في إثبات حجية خبر الواحد، طلب خصم الشافعي منه أن يوضح له حجية (خبر الواحد) بقياسه على أمرٍ معروف عندهما. فقال له الشافعي: ((أتريد أن أخبرك بشيء يكون هذا قياساً عليه؟
قال: نعم!
(قال الشافعي:) قلت: هذا أصل في نفسه، فلا يكون قياساً على غيره، لأن القياس أضعف من الأصل)) (1) .
ثم بعد ذلك بين الشافعي لخصمه ما تختلف فيها الشههادا عن (خبر الواحد)، وما يتفقان فيه. فقال في باب بيان وجوه الاختلاف:((ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته، ولا أقبل حديثه، من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض المعاني)) (2) .
(1) الرسالة (372 رقم 1004- 1006) .
(2)
الرسالة (373 رقم 1013) .
فبين بهذا أنه يحتاط للرواية ما لا يحتاطه في الشهادة.
بل وذكر الإمام الشافعي أمثلةً للقرائن التي ترفع إفادة (خبر الواحد) عن (شهادة العدلين) مما لا يتوفر مثلها إلا لـ (خبر الواحد) . فقال في (جماع العلم) : ((فإن كنت أمرت بذلك (يعني: تقديم الحكم الثابت بغير إحاطة على الثابت بإحاطة) على صدق الشاهدين في الظاهر، فقبلتهما على الظاهر، ولا يعلم الغيب إلا الله. وإنا لنظلب من المحدث أكثر مما نطلب من الشاهد، فنجيز شهادة بشرٍ لا نقبل حديث واحدٍ منهم. ونجد الدلالة على صدق المحدث وغلطه ممن شركه من الحفاظ، وبالكتاب والسنة؛ ففي هذا دلالات، ولا يمكن هذا في الشهادات)) (1) .
بهذا الكلام القاطع، يبين الإمام الشافعي قوة إفادة (خبر الواحد) العدل على إفادة (شهادة العدلين) مطلقاً، أي إفادة (خبر الواحد) نفسه دون القرائن. ثم أشار إلى بعض القرائن التي تحتف بـ (خبر الواحد) ـ ولا يمكن مثلها في (الشهادات) ـ فتقوي خبر الواحد، وتبلغه إلى درجة إفادة (العلم) في كثيرٍ من الأحيان.
هذا مع أنه يكن أن تحتف بـ (الشهادة) قرائن ـ يمكن مثلها في (خبر الواحد) ـ فتقوي (الشهادة) لتفيد العلم كذلك! فليس حكم الشهادة أنها تفيد (الظن) مطلقاً أيضاً!! وعلى هذا، فلو قاس الإمام الشافعي (
خبر الواحد) على (الشهادة) ، لكان القياس من هذه الجهة مقبولاً. لكن الشافعي لم يقس، ولم يرض هذا القياس! ولك أن تتفكر في سبب ذلك!!!
(1) جماع العلم للشافعي (23- 24 رقم 101) .
الوقفة السادسة: أن الإمام الشافعي نص على أن (خبر الواحد) حق وحجة يلزم العالمين وأهل العلم منهم أن يصيروا إليه، هذا هو حكم (خبر الواحد) مطلقاً عند الشافعي.
إذن: فهو حجة عنده في العقائد والأحكام، والأصول والفروع!!
أولاً: بدلالة إطلاقه السابق ذكره.
ثانياً: لعدم ذكره لهذا التقسيم في كتبه، ولعدم اعتباره في شيءٍ من كلامه الاعتبار الدال على ذلك التفريق: بين الأصول والفروع.
ثالثاً: ولأن هذا التقسيم إلى أصول وفروع تقسيم مبتدع وقول باطل مستحدث، كما سبق بيانه (1) . فحاشا الشافعي أن يتلفت إليه! وكذب من زعم هذا عليه!!
وبهذا ننتهي من وقفاتنا مع كلام الشافعي رحمه الله ، بأن خرجنا منها بما دخلنا به، وهو أن الشافعي علم السنة وفقيه الملة!!
وهنا ننتهي أيضاً من هذا المثال، الذي إنما سقناه لبيان تأثير (أصول الفقه) بما درسته من (علوم السنة) على (علوم السنة) وقد كان ـ بحمد الله ـ مثالاً حافلاً لما أردت التدليل به عليه، ودليلاً ماثلاً لما كنت ذهبت إليه.
(1) انظر (ص 144- 145) .