المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها - المنهج المقترح لفهم المصطلح

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول:تاريخ نشأة علوم الحديث وتطورمصطلحه

- ‌الفصل الأول:في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثاني:في عصر التابعين

- ‌الفصل الثالثفي عصر أتباع التابعين

- ‌الفصل الرابع:العصر الذهبي للسنة

- ‌الفصل الخامس:في القرن الرابع الهجري

- ‌الباب الثاني:تأريخ وبيان لتأثير علوم السنةبالعلوم العقلية

- ‌الفصل الأول:أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة

- ‌الفصل الثاني:أثر أصول الفقه على علوم السنة

- ‌المبحث الأول: كتب أصول الفقه ونافذتهاللتأثير على علوم السنة:

- ‌المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:

- ‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

- ‌الباب الثالث:المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث(وبيان بطلان ما يخالفه)

- ‌المنهج النظري لفهم مصطلح الحديثوبيان بطلان ما يخالفه

- ‌الباب الرابع:كتب علوم الحديث ومناهجهافي فهم مصطلحه

- ‌الفصل الأول:الطور الأول لكتب علوم الحديث

- ‌الفصل الثاني:الطور الثاني لكتب علوم الحديث(كتاب ابن الصلاح فما بعده)

- ‌الباب الخامس:كيف نفهم مصطلح الحديث؟(ويتضمن الخطوات العملية لفهم مصطلح الحديث)

- ‌كيف نفهم مصطلح الحديث

- ‌فهرست المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

وهذا هو المثال الثاني، وهو للنافذة الثانية لأصول الفقه في التأثير على علوم السنة، وهي النافذة غير المباشرة: من خلال المنهج الذي بثته في الأوساط العلمية، ومن خلال أثر المنطق اليوناني شبعت به أساليب التفكير والتأليف لدى العلماء.

وتوضيح ذلك:

لقد تقدم أن علاقة أصول الفقه بالمنطق علاقة فرع بأصل، وبناءٍ بأساس. إلى درجة أن كثيراً من كتب أصول الفقه تقدم بمقدمة في علم المنطق الخالص، ليساعد على فهم أصول الفقه بعده.

وتقدم أيضاً أن علم أصول الفقه، بشرف موضوعه وغايته، فرض نفسه على الساحة العلمية، واحتوى بمسائله ومباحثه عقول عامة أهل العلم، من القرن الرابع، أو أواخره، ولم يزل اتساع ساحته واحتواؤه ونفوذه في ازدياد عبر القرون المتتابعة.

وعلم هذه أهميته، وهذا سلطانه، وتلك مملكته، قائم على علم المنطق، ومنبثق منه، ومتشقق عليه؛ هل سيسمح لأحدٍ من أهل العلم أن ينجو من أن يطبع عليه بطابعه؟!

ص: 159

فبكل وضوح: إن غالب من يتعلم أصول الفقه، ويتعمق فيها، فهو إنما يتعمق في علم المنطق معها، ويتشرب منهجه وأسلوبه وتفكيره (وليس منهجه وأسلوبه وتفكيره محذوراً محظوراً دائماً) .

وأوضح مثالٍ لتأثير العام لعلم المنطق على الأوساط العلمية، بفنونها المختلفة، تأثيره عليها بصناعة المعرفات المنطقية أو ما يسمى بالأقوال الشارحة: بحدودها ورسومها. فإنك لا تكاد تجد علماً من العلوم الإسلامية: شرعيةً، أو لغوية ً، أو غيرها، إلا ولصناعة الحدود والرسوم فيها أثر بارز، لا تخفى على أحدٍ ملامحه عليها وقسماته.

وقد بينت فيما تقدم أني هنا لست أعادي علم المنطق لأنه علم المنطق، لكني هنا أعادي تسليط معاييره الأجنبية على كثيرٍ من العلوم الإسلامية عليها.

أما علم المنطق، فقد سئل عنه ابن الصلاح وعن الفلسفة، وعن حكم استعمالها في إثبات الأحكام الشرعية بالاصطلاحات المنطقية؟ فقال ابن الصلاح، كما أنقله لك من (فتاويه)، بعد أن ذم الفلسفة بمثل قوله عنها:((رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة)) ؛ فقال عن المنطق: ((وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسف الصالحين، وسائر من يقتدى بهم من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها. وقد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره.

وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية: فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحثة. وليست بالأحكام الشرعية ـ بحمد الله ـ افتقار إلى المنطق أصلاً.

ص: 160

وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والرهان: فقايع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية

)) (1) ـ إلى آخر الفتوى.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابه (نقض المنطق) ، الذي لو فعلت ما أحب، لنقلته كله!

ومن ألطف ما قاله عن المنطق، وصفه له، بأن:((فيه مواضع كثيرةً هي: لحم جمل غث، على رأس جبل وعرٍ، لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٍ فينتقل)) (2) .

ومثله في اللطافة، قوله عنه ـ كما في (مجموع الفتاوى) ـ:

((البليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه)) (3) .

وقال أيضاً: ((ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله. حتى رأيت للمتأخرين فتيا، فيها خطوط جماعةٍ من أعيان زمانهم، من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله)) (4) .

وقال أيضاً: ((وما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفاً، وإن كان الفقه وأصوله متصلاً بذلك، فهي أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتاً إلى علم المنطق. إذ ليس في القرون الثلاثة من

(1) فتاوى ابن الصلاح (رقم 55) ، ونقلها الذهبي في سير أعلام النبلاء (23/ 143) .

(2)

نقض المنطق (ص 155) .

(3)

مجموع الفتاوى (9/269) .

(4)

نقض المنطق لابن تيمية (ص 156) . وانظر طائفة من أسماء العلماء الذين حرموا الاشتغال بالمنطق في (القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق) للسيوطي في الحاوي (1/255ـ 256) .

ص: 161

هذه الأمة، التي هي خير أمةٍ أخرجت للناس ـ وافضلها القرون الثلاثة ـ: من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه

(إلى أن قال:) بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة: يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيداً، واليسير منه عسيراً. ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك، لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق. فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام)) (1) .

ثم عقد شيخ الإسلام فصلاً عن المعرفات (بحدودها ورسومها) ، فأبطل مزاعم المناطقة فيها، في شأن أنهم يفيدون منها تصور الحقائق، وكيفية ذلك، وغير ذلك من المزاعم؛ فأبطلها من ستة عشر وجهاً (2) .

وقال رحمه الله في مقدمة ذلك: ((وكلامهم لا يخلو من تكلف: إما في العلم،

وإما في القول. فإما أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه (3) ، فيتكلمون بغير علم. أو يكون الشيء معلوماً فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة حشوٍ

وعناءٍ وتطويل طريق (4) ؛ وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل، قال تعلى:(قل مآ أسئلكم عليه من أجرٍ ومآ أنا من المتكلفين)(5)) (6)

(1) نقض المنطق (ص 169) .

(2)

انظر نقض المنطق (ص 183ـ 200) .

(3)

كما حصل لمن تكلم في علوم الحديث من المتكلمين في كتب أصول الفقه.

(4)

كما حصل لبعض من تكلم في علوم الحديث من المتأخرين.

(5)

ص: (86) .

(6)

نقض المنطق (ص 183) .

ص: 162

وقال في (الوجه الثالث) من وجوه رد مزاعمهم حول المعرفات: ((إن المتكلمين بالحدود طائفة قليلة من بني آدم، لا سيما الصناعة المنطقية

ومن المعلوم أن علوم بني آدم ـ عامتهم وخاصتهم ـ حاصلة بدون ذلك. فطل قولهم: إن المعرفة متوقفة عليها

(إلى أن قال:) وكذلك الحدود التي يتكلفها بعض الفقهاء للطهارة والنجاسة، وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم. وكذلك الحدود التي يتكلفها الناظرون في أصول الفقه، لمثل الخبر والقياس والعلم، وغير ذلك = لم يدخل فيها إلا من ليس بإمامٍ في الفن! وإلى الساعة لم يسلم لهم حد!!)) (1) .

وقال بعد ذلك: ((فأما الأشياء المعلومة، التي ليس في زيادة وصفها إلا: كثرة الكلام، وتفيهق، وتشدق، وتكبر، والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها = فهذا مما نهي عنه، كما جاء في الحديث: ((إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)) (2)

(إلى أن قال:) وعامة الحدود المنطقية هي في هذا الباب: حشو لكلام كثير، يبينون به الأشياء، وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم. فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان وإتعاب الفكر واللسان، لا توجب إلا العمى والضلال، وتفتح باب المراء والجدال، إذ كل منهم يورد على حد الآخر من الأسئلة ما يفسد به، ويزعم سلامة حده

)) (3) .

(1) نقض المنطق (ص 185) .

(2)

حديث إسناده حسن.

(3)

نقض المنطق (ص 198ـ 199) .

ص: 163

ثم ختم شيخ الإسلام كتابه (نقض المنطق) بقوله: ((فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه، مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه.

فهذا كلام من رأى ظاهرة

وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمورٍ فاسدةٍ، ودعاوى باطلةٍ كثيرةٍ، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين)) (1) .

فهذا كلام علماء الإسلام في المنطق، وفي صناعة المعرفات المنطقية، وأثرها على العلوم الإسلامية.

وهذا ما منه أحذر!

فإنه إن كانت صناعة المعرفات المنطقية بذاتها ليست جزماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكليف الذي بنيت عليه، لا يناسب كثيراً اليسر والسليقة العربية التي أنتجت مصطلحات العلوم الإسلامية، مثل مصطلح الحديث. تلك المصطلحات ذات المدلولات الواسعة الفضفاضة، المرتكزة على المعنى اللغوي الأصلي للكلمة، القريبة منه كل القرب، غير المجتثة منه: كما قد يحصل في العلوم المترجمة إلى اللغة العربية من الألسن الأخرى.

وقد قرر ذلك أيضاً الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليماني (ت 840هـ) في كتابه (تنقيح الأنظار) ، حيث قال في معرض ذكره للاختلاف في تعريف الحديث (الحسن)، قال:

(1) نقض المنطق (ص 209) . وهذا كأنه رد على تقي الدين السبكي ومن تابعه، فانظر فتاوى السبكي (2/644-645) ، وفتاوى زكريا بن محمد

ص: 164

((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (1) .

فإذا كانت صناعة المعرفات المنطقية أجنبية عن مصطلح الحديث، وتباينه في نسبها (العربي) وسحنتها (اليسر والبعد عن التكلف) = فلن يكون في تسليط معاييرها عليه ـ في الغالب ـ إلا جور عليها: بتحجير واسعها، أو توسيع ضيقها. وفي أقل الأحوال: أن تطول الطريق إلى معرفة الصواب، بما أشار إليه شيخ الإسلام من كثرة الاعتراضات على المعرفات، وتسويد الصفحة والصفحات في ذلك. مع أنهم يزعمون أنهم يسعون للتعريف المختصر المحرر بالجمع والمنع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، يقوم بالمقصود، ألم يكن خيراً من تلك الصفحة أو الصفحات من الاعتراضات، التي لا تخرج معها بطائل؟!!

وهذا كله أمر خطير، خاصةً ما يقع خطأ دون قصدٍ من بعض المصنفين في بعض العلوم (كعلم الحديث)، بسبب تأثرهم بصناعة المعرفات المنطقية: من تضييق الواسع من مدلولات المصطلحات، أو توسيع الضيق منها، كما قلناه آنفاً. لأن ذلك سوف ينعكس بتشويش ذلك العلم، الذي يتكون من تلك المصطلحات، تشويشاً قد يؤدي إلى استغلاق فهمه، أو فهمه على غير فهومه، أو ظهور تناقضٍ فيه، أو بانقلاب قواعده وضوابطه.. إلى غير ذلك، مما قد يصعب حله وتجاوزه، إلا بإعادة النظر في معاني تلك المصطلحات.

لكن الأخطر من ذلك كله، والكارثة التي قد تدمر ذلك

(1) توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار للصنعاني (1/158) .

ص: 165

العلم: فيما لو أصبح ذلك الخطأ في تفسير المصطلحات عمداً، وفيما لو صار المصنفون في ذلك العلم يسعون إلى تغيير مدلولاتها قصداً، ثم إلى اختراع أسماءٍ جديدة (تضاهي المصطلحات) لمدلولاتٍ كانوا قد أخرجوها ـ هم ـ من مصطلحات العلم الأصلية! ليظن بعد ذلك أن تلك الأسماء من مصطلحات ذلك العلم، ولتبعد الشقة ـ بعدها ـ أكثر عن فهم تلك المصطلحات على وجهها، وليكون ـ أخيراً ـ ذلك العلم المركب من تلك المصطلحات لغزاً مستغلقاً، دون حله خنادق وحصون!!

وهذا ما قد بدأ بالوقوع فعلاً في مصطلحات الحديث!!!

وقد بدأ من قرون لكنه لم يزل ـ بحمد الله ـ في البداية!!!

وهذا هو ما سميته ـ اصطلاحاً مني ـ بـ (فكرة تطوير المصطلحات) .

وسميتها بهذا الاسم، لأن الساعي إلى ذلك التغيير لمعاني المصطلحات، مع أن سعيه هذا كان مقصوداً معتمداً، إلا أنه كان بنيةٍ حسنةٍ، ولغرضٍ جميلٍ (يحسبه) ! فهو يظن أنه يرقي ذلك العلم، بتطوير مصطلحاته، بجعل مدلولاتها غير متداخلةٍ (مثلاً) ، بإضافة قيودٍ ومحترزات عن بعضها الآخر.

وهو ساهٍ أثناء فعله هذا، وغافل كل الغفلة، عن قاعدةٍ عريضة، ومثلٍ سائر، يقول: لا مشاحة في الاصطلاح.

وقبل شرح خطر هذه الفكرة: (فكرة تطوير المصطلحات) ،

ص: 166

فأنا أعني بكفرة تطوير المصطلحات: (تغيير معاني المصطلحات عما كانت تعنيه عند أهل الاصطلاح، عمداً، لأي غرضٍ يظنه ذاك المغير حسناً) .

و (أهل الاصطلاح) : هم الذين أنشؤوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه، وتواضعوا على أسماءٍ لأفراده (هي المصطلحات) ، وتمموا بناء علمهم. فلم يبق لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخذ معاني مصطلحاته منهم، لفهم علمهم ويعي قولهم.

فإذا أقبل هذا الذي جاء بعدهم على علمهم بالتبديل، وبتغيير مدلولات المصطلحات، لا مع إعلان أن تلك المعاني الجديدة من عند نفسه وأنها اصطلاح خاص به، بل على أنها اصطلاح أهل الاصطلاح = فهل سيكون لنا طريق إلى فهم ذلك العلم، باعتماد كلام ذلك المبدل المغير؟!

فأعود مؤكداًَ: (فكرة تطوير المصطلحات) متعلقة بتغيير المعاني، مهما كان ذلك التغيير يسيراً، ومهما كان الغرض منه حسناً عند القائل به.

هذا الذي منه أحذر!

أما (تطوير) حدود المصطلحات ورسومها، تطوير ألفاظٍ لتلك التعاريف، لا يصل إلى تغيير مدلول المصطلح = فليس على هذا محظور، ولا هو من (فكرة تطوير المصطلحات) التي أحذر منها، بل هذا التطوير الذي يقصد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، أمر حسن في حدود ما لم يبلغ بنا إلى درجة التنطع والتكلف الذي يعانيه المناطقة، ونحن عنه في غنى. وحتى إن بلغ درجة التنطع والتكلف، فليس من (فكرة تطوير المصطلحات)

ص: 167

في شيء، مادام أن الأمر لم يصل إلى محاولة تغيير معاني المصطلحات.

باختصار: (فكرة تطوير المصطلحات) تختص بتطوير معاني المصطلحات، لا بتطوير ألفاظ تعاريف تلك المصطلحات.

أقول هذا وأكرره، ليفهم عني ما أريد. فلا يقال لي بعد ذلك: إن علم (مصطلح الحديث) علم بشري، قابل للتطوير.

فأقول: ومن قال إن (مصطلح الحديث) علم إلهي؟!

وهل العلم البشري لا حرمة له؟! ومن حقنا أن ندمره؟!!

أما أنه قابل للتطوير، فأحسب أنه يعني به تطويراً لا يتناول تغيير معاني المصطلحات، فضلاً عن قواعده وضوابطه. وأنه إنما يعني تطوير التعاريف لتكون أوضح وأصدق في: شرح المصطلحات، وبيان معانيها التي هي عليها، دون تدخل في هذه المعاني. فإن كان هذا هو قصده، فهذا قصد سليم، لكن ذلك يعني أنه لم يفهم مني ما هي (فكرة تطوير المصطلحات) !

وأما إن قصد بقابلية (مصطلح الحديث) للتطوير: تغيير معاني المصطلحات، عما كانت عليه في عصور السنة الزاهية = فهذه هي (فكرة تطوير المصطلحات) . وسوف نرجىء الرد عليه، إلى الفصل الآتي، الذي سنتناول فيه خلاصة ما سبق كله، مع بيان الوسيلة النظرية لتفسير مصطلحات الحديث التفسير الصحيح المبين لمعانيها الحقيقية.

أما المثال الواقعي لذلك كله، فسوف يأتي ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ عند كلامنا على كتب علوم الحديث خلال طورها الثاني

ص: 168

(1)

. لكننا بهذا نكون قد طرقنا خاتمة هذا الباب، باب: تأريخ تأثر العلوم النقلية (وعلوم السنة وخصوصاً) بالعلوم العقلية.

وقد ذكرنا أن بداية هذا التأثر بدأت من أوائل القرن الرابع الهجري، وأن أول باب فتح للعلوم العقلية للتأثير منه على العلوم النقلية هو المذهب الأشعري بمنهجه الكلامي في الاستدلال. ذلك المنهج الذي صنفت عليه كتب أصول الفقه فيما بعد، لتؤثر هي بدورها التأثير الأكبر على علوم السنة، تأثيراً مباشراً بما درسته من علوم السنة في مصنفاتها، وتأثيراً غير مباشر من خلال علم المنطق الذي شبعت به الأوساط العلمية.

هذا خلاصة ما سبق في هذا الباب!

ونصل الآن إلى باب جديد:

(1) انظر (ص 223- 226) .

ص: 169