الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع:
العصر الذهبي للسنة
القرن الثالث الهجري (200هـ ـ 300هـ) هو القرن الذي شهدت فيه علوم كثيرة تحولاً عظيماً، على يد علماء عاشوا في هذا القرن، كانوا أئمة العلم والدين، وقدوة في ذلك للأجيال من بعدهم.
فإذا خصصت علوم السنة بالحديث، فهذا العصر الذهبي له. الذي ما إن يذكر حتى تتمثل في المخيلات: صورة الآلاف المؤلفة من طلاب الحديث وهم يلتفون حول أحد أعيانه (1) ، وازدحام بلدان الإسلام وعواصمه بالمحدثين وهم رائحون غادون من مسجدٍ إلى منزل إلى ساحةٍ، من عالم إلى عالم، معهم المحابر والأقلام والكاغد. وأحسب لو نظرت إلى الصحاري وطرق المسافرين ومنازل السفر، لرأيت الأحمال تحط وترحل، والقوافل متتابع نم إسبيجاب وبخارى، إلى قرطبة وإشبيلية، ومن القوقاز إلى صنعاء وعدن، في حركةٍ دؤوب، وموج تلو أمواج متتابعة ٍ، تحكي عجائب الرحلة في طلب الحديث!
أما تدوين السنة، الذي جعلناه مقياساً لتطوير مصطلح
(1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح (147 ـ 148) ، وتذكرة الحافظ للذهبي (529 ـ 530) .
الحديث، فهذا العصر هو عصر أصول السنة وأمهات الدين، فهو عصر: مسند الإمام أحمد، والكتب الستة، ومنها الصحيحان!!
وما أدراك ما الصحيحان؟!!
قمة القمم، وإمام التأليف البشري: في شرف الغاية، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وعبقرية الخطة، وتفوق المنهج، وتكامل القدرات، وبذل الجهد، واسترخاص الدنيا، وروعة الأسلوب، وإتقان التنفيذ
…
وغير ذلك /ن: خصائص التميز، ومواهب الإبداع، وتسديد التوفيق، ونفحات الرضى، وقواعد الخلود.
بل هذا عصر أصول السنة، من مسانيد، وجوامع، وسنن، وعلل وتواريخ، وأجزاء، وغير ذلك: من وجوه التصنيف الأصلية في السنة، ومن المصنفات التي لا يحويها حصر، ولا يبلغها عد! فهي تكاد تكون بعدد الألوف المؤلفة، من طلبة الحديث، وحفاظه، والرحالين فيه، ممن حواهم هذا القرن! بل تفوق عددهم!! لأنه لا يخلو أن يكون لجمع منهم أكثر من مؤلف، بل ربما عشرات المؤلفات.
بل ما انضى هذا القرن، إلا والسنة جميعها مدونة. ولم يبق من الروايات الشفهية غير المدونة في المصنفات ـ بعد هذا العصر ت شيء يذكر، إلا روايات الأفاكين وأحاديث المختلقين، أو أخبار المواهمين المخلطين.
ولذلك اعتبر الإمام الذهبي (ت 748هـ) رأس سنة ثلاثمائة الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين (1) ، ورأى بذلك أنه من
(1) هذا التحديد الفاصل للمتقدمين والمتأخرين هو اصطلاح ل (ميزان الاعتدال) خاصة، من مصنفات الذهبي، وله مسوغاته التي ذكرها الذهبي. فليس اصطلاحاً له في غيره من المصنفات، فضلاً عن غيره من الأئمة. وإلا فالتقدم والتأخر أمر نسبي، يختلف باختلاف الأزمان.
سنة ثلاثمائة: انقرض عهد الرواة الذين يروون ما لا يوجد في الدنيا مكتوباً إلا في محفوظ صدورهم، ولم يبق ـ بعد أولئك ـ إلا المحدثون المقيدون للسماعات على النسخ الحديثة (1)
وتدوين السنة جميعها بانتهاء القرن الثالث، هو ما جعل الأئمة بعد ذلك يتخففون من شروط الراوي والرواية (أي في العدالة والضبط) ، لأن الغرض من الرواية أصبح الإبقاء على خصيصة الإسناد لهذه الأمة، وليس تقييدها بالكتابة وجمعها خوفاً من ضياع أو تفلت شيءٍ منها، إذ هذا ما ضمن عدم وقوعه بتمام تدوين السنة على رأس سنة ثلاثمائة.
ومما يدل على صواب الفترة الزمنية لتمام تدوين السنة التي ذكرها الإمام الذهبي، وهي رأس سنة ثلاثمائة، هو أن أ؛ د حفاظ القرن الرابع الهجري، وهو أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) ، قد نص على ذلك التخفف في شروط العدالة والضبط، لأهل زمانه، بل لم يذكر في الضبط إلا ما يتعلق بضبط الكتاب (2) . مما يدل على أن السنة قد تم تدوينها، قبل الجيل الذي عاصره الحاكم، وهو مولود سنة (321هـ) ، ومتوفي سنة (405هـ) .
وممن نص على ذلك التخفف في شروط العدالة والضبط ك الإمام البيهقي (ت 458) ، وكلامه في ذلك كلام نفيس يلزم الوقوف عليه لمن أراد معرفة ضوابط ذلك التخفف (3) . ويمتاز
(1) ميزان الاعتدال ـ المقدمة ـ (1/4) .
(2)
معرفة علوم الحديث للحاكم (15 - 16) ، ووازن بفتح المغيث للسخاوي (2/ 108) .
(3)
انظر معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح ـ المطبوع باسم: علوم الحديث ـ (120 - 121) ، والتبصرة والتذكرة للعراقي (1/ 346 - 349) ، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 106 - 108) ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/ 304 - 305) ، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/259 - 261) .
كلامه بميزةٍ أخرى، وهو أنه وجه
سبب ذلك التخفف، فنص على أنه: تمام تدوين السنة. ونقل ذلك عنه أبو عمرو ابن الصلاح (ت 643هـ) ، فمن جاء بعده، ووافقوه وأيدوه (1) .
فقال ابن الصلاح في (معرفة أنواع علم الحديث)(2) ، بعد ذكره لذل التخفف من شروط العدالة والضبط، نقلاً عن البيهقي، قال:((ووجه ذلك بأن الأحاديث التي صحت، أو وقفت بين الصحة والسقم، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث. ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم، لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال ـ يعني البيهقي ـ: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسماع منه: أن يصير الحديث مسلسلاً ب (حدثنا و (أخبرنا) ، وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا
المصطفى صلى الله عليه وسلم (3) .
(1) انظر المصادر السابقة.
(2)
هذا هو الاسم الصحيح لكتاب ابن الصلاح، كما في ديباجة كتابه (ص 6)، وكما في المخطوطات الموثقة له: انظر مقدمة تحقيق نور الدين عتر لكتاب (41 - 43) ، ومقدمة تحقيق عائشة بنت عبد الرحمن له أيضاً (122 ـ 134)، وبنحو ذلك سماه ابن الصلاح أيضاً في كتابه: صيانة صحيح مسلم (75) .
وعلى هذا فتسميته ب (علوم الحديث) ، أو ب (مقدمة ابن الصلاح) ليست تسمية صحيحة!
(3)
معرفة أنواع علم الحديث لابن الصلاح (121) .
وأنبه إلى أمرٍ لا يخفى على المتخصصين، وهو أن وقوفنا على ما يثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مصنفات من جاؤوا بعد القرن الثالث، وعدم وقوفنا عليها في مصنفات ذلك القرن فما قبله، لا يعني أنه يعارض ما قررناه آنفاً، من تمام تدوين السنة خلال القرن الثالث، ذلك لأن كل المهتمين بالتراث العلمي، يعلم القدر العظيم والكم الهائل الذي فقدناه من نتاج علمائنا، وخاصة علماء القرن الثالث فما قبله.
وهذا كله أذكره، تثبيتاً لما ذكرته آنفاً ن من أن السنة جميعها قد اكتمل تدوينها خلال القرن الثالث الهجري، لذلك كان هذا العصر بحق هو العصر الذهبي للسنة.
فإذا كان تدوين السنة قد انتهى إلى هذه القمة، في هذا العصر، فكذلك كان شأن بقية علوم الحديث ومصطلحه خاصة. للترابط بين التدوين ومصطلح الحديث، الذي كنا قد قررناه سابقاً (1) .
ولست أجدني مضطراً إلى ذكر بعض المصطلحات التي تداولها المحدثون في هذا العصر، لأن الأ/ر من السعة والوضوح ـ في آنٍ واحد ـ بما أغناني عن ذلك، واستبدلته بذكر بعض أسماء علماء هذا القرن
وأنا إذ أنوي سياق أسماء بعض شموس هذا العصر، فلا يعزم لي هذه النية، إلا ثقتي التامة بأن مجرد النظر في تلك الأسماء، سوف يستدعي في الأذهان ما ارتبط بها: من علم جم، وجهدٍ عظيم في خدمة السنة، أثمر ذلك الكلام المبارك النفيس، في: التصحيح والتضعيف، وبيان علل الأسانيد
(1) انظر (ص 35 - 36) .
والمتون، والجرح والتعديل؛
حاوياً بين طياته مصطلحات القوم جميعها. لأدلل بذلك على أن هذا العصر كما أنه قد ختم فيه على تدوين السنة، فقد ختم فيه أيضاً على مصطلحاتها، وبلغت قمة تطورها.
فقد افتتح هذا العصر بشيوخ الإسلام الثلاثة، وأئمة المحدثين قاطبة: الإمام أحمد بن حنبل (ت 242هـ) ، ويحيى بن معين (ت 233هـ) ، وعلي بن المديني (ت 234هـ) .
وانفرط العقد عن انتظام نجوم وبدور وشموس، زينت ـ ولم تزل ـ سماء العلم وأفق المعرفة، من أمثال: الحميدي عبد الله بن الزبير (ت 219هـ) ، وسعيد بن منصور المروزي (ت 227هـ) ، وأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) ، ومحمد بن سعد (ت 230هـ) ، وأبي خيثمة زهير بن حرب (ت 234هـ) ، ومحمد بن عبد الله بن نمير (ت 234هـ) ، وأبي بكر ابن أبي شيبة (ت 235هـ) ، وإسحاق بن راهويه (ت 238هـ) ، وخليفة بن خياط العصفري (ت 240هـ) ، ودحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي (ت 245هـ) ، وأحمد بن صالح المصري (ت 248هـ) ، وعمرو بن علي الفلاس (ت 249هـ) وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) ، ومحمد بن يحيى الذهلي (ت 258هـ) .
ثم قف عند الإمام الكبير، شيخ الصنعة: محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) ، وأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي (ت 264هـ) ، والعجلي أحمد بن عبد الله بن صالح (ت 261هـ) ، وأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت 277هـ) ، ومسلم بن الحجاج (ت 261هـ) صاحب ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ويعقوب بن شيبة (ت 262هـ) ،
وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ)، وأبي عيسى الترمذي: محمد بن عيسى (ت 279هـ) ومحمد بن يزيد ابن ماجه (ت 275هـ) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277هـ) ، وأحمد بن زهير بن حرب المعروف بابن أبي خيثمة (ت 279هـ) .
فأبي زرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو (ت 281هـ) ، وابن أبي عاصم أحمد بن عمر النبيل (ت 287هـ) ، وصالح بن محمد جزرة (ت 293هـ) ، وأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار (ت 292هـ) ، ومحمد بن نصر المروزي (ت 294هـ) ، وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (ت 317هـ)
فأبي عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراييني (ت 316هـ) ، وأبي بكر أحمد بن هارون البرديجي (ـ 310هـ) ، ثم إمام العلل أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303هـ) ، وأبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي (ت 310هـ) ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) ، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) ، وأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي (ت 320هـ) .
وأختم هذه الطبقة بأبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس: ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) .
فهؤلاء واقرانهم: عمدة الشريعة، الذين حفظ الله بهم الدين!!
فهل بعد هذه الحروف المشعة، لأسماء أولئك الشموس، يختلف اثنان في أن علوم الحديث في هذا العصر قد توطد ملكها
وعلا عرشها؟! وأن مصطلحاته قد لهج بها المحدثون، وتحددت معالمها عندهم بما لا مبتغى بعده (1) ؟! بل إنها أصبحت في وضوح معناها الاصطلاحي، تغلب المعنى اللغوي لها، حتى يكاد ينسى عند أهل الفن.
وهذا ما لا أحسب أحداً يخالفني فيه، إلا أن يكون من غير المتخصصين.
وقبل أن أنهي حديثي عن القرن الثالث الهجري، وفي مجال التقرير لما بلغه مصطلح الحديث من قمة التطور فيه، أذكر أنه قد ظهرت في هذا العصر بعض الكتابات التنظيرية، لبعض علوم الحديث ومصطلحاته.
ومن أوائل ذلك جزء صغير نفيس لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219هـ) ، رواه عنه بشر بن موسى بن صالح الأسدي (ت 288هـ) . ونثره الخطيب البغدادي (ت 463هـ) في كتابه (الكفاية في علم الرواية) ، من روايته عن أبي نعيم الأصبهاني (ت 430هـ) ، عن أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف (ت 359هـ) ، عن بشر بن موسى، عن الحميدي (2) .
وكتب الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ) مقدمة لـ (الصحيح) ، عرض فيها لبعض قضايا علوم الحديث بقوةٍ ووضح.
وكتب أيضاً الإمام أبو داود السجستاني (ت 275هـ) ،
(1) وانظر منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر (62) .
(2)
انظر الكفاية للخطيب (40 - 41، 133، 146، 175، 179، 181، 265- 266، 429 - 430) .
(رسالته إلى أهل مكة) ، متعرضاً فيها لمنهجه في كتابه ((السنن)) ، ولمسائل من علوم الحديث ز
ثم كتب أيضاً الإمام الترمذي (ت 279هـ) كتاباً سماه بـ (العلل) ، وعرف بعد ذلك بـ (العلل الصغير) . تكلم فيه عن بعض الاصطلاحات المهمة المشكلة، وعن بعض قواعد علوم الحديث، بكلام نفيس. مما حدا بالحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن بن رجب الحنبلي (ت 795هـ) ، أن يعتني بشرحه، عقب شرحه لجامع الترمذي، وأصبح بعد ذلك من أهم مصادر (أصول الحديث) .
وهكذا انتهى هذا القرن، وقد بلغت فيه مصطلحات الحديث قمة تطورها، مع باقي علوم الحديث. فم يبق علماء هذا القرن لمن جاء بعدهم، إلا واجب الحفاظ على ما خلفه لهم من سبقهم لأنه ما انتهى هذا القرن إلا والسنة نفسها قد تم تدوينها، مع ما واكب ذلك من القواعد والمصطلحات التي تخدمها، ويميز بها صحيحها من سقيمها.