المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول:الطور الأول لكتب علوم الحديث - المنهج المقترح لفهم المصطلح

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول:تاريخ نشأة علوم الحديث وتطورمصطلحه

- ‌الفصل الأول:في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثاني:في عصر التابعين

- ‌الفصل الثالثفي عصر أتباع التابعين

- ‌الفصل الرابع:العصر الذهبي للسنة

- ‌الفصل الخامس:في القرن الرابع الهجري

- ‌الباب الثاني:تأريخ وبيان لتأثير علوم السنةبالعلوم العقلية

- ‌الفصل الأول:أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة

- ‌الفصل الثاني:أثر أصول الفقه على علوم السنة

- ‌المبحث الأول: كتب أصول الفقه ونافذتهاللتأثير على علوم السنة:

- ‌المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:

- ‌المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

- ‌الباب الثالث:المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث(وبيان بطلان ما يخالفه)

- ‌المنهج النظري لفهم مصطلح الحديثوبيان بطلان ما يخالفه

- ‌الباب الرابع:كتب علوم الحديث ومناهجهافي فهم مصطلحه

- ‌الفصل الأول:الطور الأول لكتب علوم الحديث

- ‌الفصل الثاني:الطور الثاني لكتب علوم الحديث(كتاب ابن الصلاح فما بعده)

- ‌الباب الخامس:كيف نفهم مصطلح الحديث؟(ويتضمن الخطوات العملية لفهم مصطلح الحديث)

- ‌كيف نفهم مصطلح الحديث

- ‌فهرست المصادر والمراجع

الفصل: ‌الفصل الأول:الطور الأول لكتب علوم الحديث

‌الفصل الأول:

الطور الأول لكتب علوم الحديث

لقد اعتاد الباحثون في علوم السنة تقسيم كتب علوم الحديث إلى قسمين: هما طور ما قبل كتاب ابن الصلاح، وطور كتابه فما بعده (1) .

فإذا أردنا أن ندرس كتب علوم الحديث، وهل هي سائرة على المنهج الصحيح في فهم مصطلحات الحديث؟ فلندرسها بناءً على هذا التقسيم.

الطور الأول: كتب علوم الحديث قبل كتاب ابن الصلاح:

قد قدمنا في عرضنا التاريخي لعلوم الحديث، أن أول من نعلمه تكلم على بعض علومها كلام تقعيد وتأصيل، هو الإمام الشافعي في كتابه العظيم (الرسالة)(2) ، ثم تبعه الحميدي في جزءٍ له عن أصول الرواية، ثم مسلم

في (مقدمة صحيحه) ، وأبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) ، والترمذي في (العلل الصغيرة)(3) .

(1) انظر مقدمة الحافظ ابن حجر لنزهة النظر (ص 46 - 51) ، ومقدمة تدريب الراوي للسيوطي (1/35 - 36) .

(2)

انظر (ص 48) .

(3)

انظر (ص 58ـ 59) .

ص: 183

وهؤلاء ما بين القرن الثاني والثالث، فهم لب (أهل الاصطلاح) وقلبهم. فلا يقال عن هؤلاء: هل ساروا على المنهج الصحيح في فهم مصطلح الحديث؟

ولم نزل في حاجةٍ ماسةٍ إلى دراسة كلامهم، في تلك الرسائل والمقدمات، دراسة تفهم، بعمقٍ كبير، دون أن نسلط على كلامهم فهوم من جاء بعدهم من غير (أهل الاصطلاح) .

وقد قدم الحافظ ابن رجب الحنبلي لذلك مثلاً رائعاً في شرحه لعلل الترمذي، غير أن شرحه هذا هو نفسه في حاجةٍ إلى دراسة

ثم في القرن الرابع الهجري: كتب الإمام الناقد ابن حبان البستي مقدمة صحيحه: (التقاسيم والأنواع) ، ومقدمة (المجروحين) ، ومقدمة (الثقات) . وتعد هذه المقدمات ـ وخاصة مقدمة الصحيح والمجروحين ـ من أهم ما كتب في علوم الحديث، لأنها: أولاً لإمام من أعيان علماء السنة في القرن الرابع، فهو لهذا من (أهل الاصطلاح 9. ثم لما حوته من مباحث مهمة، وقواعد لا يستغنى عن العلم بها.

وفي القرن الرابع أيضاً: كتب الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388هـ) مقدمة كتابه (معالم السنن ـ في شرح سنن أبي داود ـ) . ومع أن ما ذكره في تلك المقدمة كان قصيراً جداً، إلا أنه كان بها أول من قسم الحديث (من حيث القبول والرد) إلى ثلاثة أقسام صريحة: صحيح، وحسن، وضعيف.

ثم كتب أيضاً الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي (ت 403هـ) مقدمة لكتابه (مختصر الموطأ عن مالك) المعروف بـ (المخلص)، تناول في هذه المقدمة: مسائل في

ص: 184

الاتصال والانقطاع، وصيغ الأداء، والرفع وأنواعه، ونحوها. أصل في هذه القضايا تأصيلاً مهماً، يزيده أهمية أن صاحبه من (أهل الاصطلاح) .

لكننا نقف مع إمامين من أئمة القرن الرابع، هما: الرامهرمزي، وأبو عبد الله الحاكم، لأن لهما كتابين منفردين جامعين رائدين في علم الحديث.

أما الكتاب الأول: فهو (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للرامهرمزي (ت 360هـ) . وهو كتاب جليل، عظيم النفع. جمع مادة ضخمةً متنوعة في فنون الرواية وآدابها.

غير أن هذا الكتاب في باب أقسام الحديث وشرح مصطلحاته فقير ن حيث لم يكن ذلك من أغراض مصنفه.

فقد صنفه الرامهرمزي رداً على من وضع من شأن أهل الحديث، فأراد أن يبين له فضائل علمهم، ومحاسن آداب حملته. وصنفه أيضاً لطلاب الحديث في زمانه. حثاً لهم على التحلي بتلك الآداب، لنيل تيك الفضائل

. ثم يذكر محدثي عصره بأن لا يأتوا ما شنع عليهم بسببه، من إفناء الأعماء في تتبع الطرق وتكثير الأسانيد دون فائدة، وتاطلب شواذ المتون، من غير أن يطلبوا أبواب العلم النافعة الأخرى (1) .

ومع جليل قدر كتاب الرامهرمزي وعظيم نفعه، غلا أننا ونحن نؤرخ لمصطلح الحديث، لن نجد فيه مادةً واسعةً للكلام عنها. غير أن الكتاب في أبوابه الأخرى، معتمد الاعتماد كله على كلام أئمة النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري.

ليبين بذلك منهجه في مسائل علوم الحديث، وهو تقريرها على

(1) انظر المحدث الفاصل (159ـ 126) .

ص: 185

ما كان عليه (أهل الاصطلاح) .

أما الكتاب الثاني: فهو كتاب (معرفة علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) .

فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرامهرمزي، من الاعتناء بمصطلح الحديث وشرح معناه وضرب الأمثلة له.

فتناول بـ (نوع

كذا) ، ذاكراً مصطلحه المسمى به. فتكلم الحاكم عن:(العالي) و (النازل) و (الموقوف) و (المرسل) و (المنقطع) و (المسلسل) و (المعنعن) و (المعضل) و (المدرج) و (الصحيح) و (السقيم) و (الغريب)

وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت عنده اثنين وخمسين نوعاً.

وقد بين الحاكم سبب تصنيفه للكتاب في مقدمته، حيث أشار إلى خللٍ أصاب بعض طلال الحديث في طلبهم له، متعلقٍ بأسلوب التلقي وصرف الهمم.

قال الحاكم: ((أما بعد فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها، على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف

)) (1) .

أما منهج الحاكم في كتابه، في تقرير قواعد علوم الحديث وشرح مصطلحه؛ فلا تنس ـ حفظك الله ـ أن الحاكم داخل في أئمة الحديث من أهل القرن الرابع، فهو من (أهل الاصطلاح) .

(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (1- 2) .

ص: 186

ومع ذلك فالكتاب كله صريح بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث، من شيوخ الحاكم فمن قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري.

وسأضرب لذلك أمثلة:

ففي تقريره لمعنى مصطلح (المسند) ، وما يدخل فيه، يستدل على ذلك بقوله:((وكل ذلك مخرج في المسانيد)) (1) .

وفي مصطلح (المرسل) يقول: ((فإن مشايخ الحديث لم يختلفوا في أن الحديث المرسل هو

)) (2) .

وفي حكم الحديث (المعنعن) ينقل إجماع أئمة (أهل النقل)(3) .

وفي مصطلح (المعضل) ينقل تعريفه عن علي بن المديني (4) .

وفي باب (العدالة) ذكر أنه: ((يستشهد بأقاويل الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين)) (5) .

وفي مصطلح (الشاذ) يسند عن الإمام الشافعي شرحه له (6) .

وفي باب (التدليس) أسند عن العلماء في بيان حكمه وأمثلته (7) .

(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (22) .

(2)

معرفة علوم الحديث للحاكم (25) . .

(3)

معرفة علوم الحديث (34) .

(4)

معرفة علوم الحديث (36) .

(5)

معرفة علوم الحديث (56) .

(6)

معرفة علوم الحديث (119) .

(7)

معرفة علوم الحديث (103- 1109) .

ص: 187

وكذا في باب (امعلل)(1) .

ومثله في حكم الرواية عن المبتدع، ثم قال بعد أن أكثر النقل أذى إليه الاجتهاد في الوقت من مذاهب المتقدمين، ولم يحتمل الاختصار أكثر منه. وفي القلب أن أذكر ـ بمشيئة الله ـ في غير هذا الكتاب، مذاهب المحدثين بعد هذه الطبقة، من شيوخ شيوخي)) (2) . تمعن هذا الاختيار، فيمن ذكر مذاهبهم، ومن ينوي ذكر مذاهبهم!

وفي نوعي التصحيف في الأسانيد والمتون نقل كامل (3) .

وفي نوع (معرفة أسامي المحديثين) يقول: ((وقد كفانا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله هذا النوع، فشفى بتصنيفه، وبين ولخص)) (4) . ثم شرع بعد ذلك في أمثلةٍ، ضمنها نقولاً عن أئمة القرن الثالث (5) .

وفي نوع (الألقاب) نقل مخص، ثم قال:((فأما الألقاب التي تعرف بها الرواة، فأكثر من أن يمكن ذكرها في هذا الموضع. وأصحاب التواريخ من أئمتنا رضي الله عنهم قد ذكروها، فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الموضع)) (6) .

وفي باب (الكنى) نقول كثيرة عن أئمة الحديث في القرن

(1) معرفة علوم الحديث (112- 113) .

(2)

معرفة علوم الحديث للحاكم (140) .

(3)

معرفة علوم الحديث (146- 152) .

(4)

معرفة علوم الحديث (177) .

(5)

معرفة علوم الحديث (178) .

(6)

معرفة علوم الحديث (215) .

ص: 188

الثالث أيضاً (1) .

وفي نوع (رواية الأقران) يقول: ((منه الذي سماه مشايخنا (المدبج)(2)) .

وفي آخر أنواع علوم الحديث عنده، وهو نوع مختص بطرق التحمل، وبيان حكمها اعتمد اعتماداً كاملاً على نقوله عن أئمة الحديث في قرونه الأولى (3) .

وهكذا فالكتاب كله في شرح مصطلح أهل الحديث، على فهم أهل الحديث، على فهم أهل الحديث أنفسهم. لأن الحاكم يعلم أن:((غير أهل هذا العلم)) و ((غير أهل الصنعة)) ، و ((غير المتبحر في صنعة الحديث)) و ((غير الفرسان نقاد الحديث)) (4) = لا يفقه هذا العلم كما كان يعبر الحاكم بذلك كثيراً!

وعلى هذا المنهج نفسه ـ في الأغلب ـ صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم)(5) . لأن طبيعة المستخرجات تلزم بذلك (6) .

وهنا ننتهي من الكلام عن مصنفات علوم الحديث في (القرن الرابع) ، لندخل في (القرن الخامس الهجري) .

وقد سبق في عرضنا التاريخي لمصطلح الحديث، وفي

(1) معرفة علوم الحديث (183- 185) .

(2)

معرفة علوم الحديث للحاكم (215) .

(3)

معرفة علوم الحديث (256- 261) .

(4)

انظر معرفة علوم الحديث للحاكم (18، 19، 21

) .

(5)

ذكر هذا المسترج الحافظ ابن حجر في مقدمة نزهة النظر (ص 47) ، والسيوطي في تدريب الراوي (1/35) .

(6)

ووقفت على مسألةٍ نص الحافظ ابن حجر على متابعة أبي نعيم فيها للحاكم، انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/622) .

ص: 189

تأريخ تأثر العلوم النقلية بالعلوم العقلية، ما ملخصه: أن هذا القرن هو أول القرون التي ظهر فيها أثر العلوم العقلية فيه على مصنفات علوم السنة. وإن كنا قد نبهنا هناك، أن هذا الأثر لم يكن عميقاًَ كما حصل للقرون اللاحقة لهذا القرن. مع ذلك فإن هذا التأثر أخرج محدثي هذا القرن، من أن يكونوا من (أهل الاصطلاح) .

وما أن نلج هذا القرن (الخامس) ، حتى نجد أننا انقدنا إلى إمام المحدثين في عصره، ولمن جاء بعد عصره: الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) . الذي قال عنه ابن نقطة الحنبلي (محمد بن عبد الغني البغدادي، المتوفى سنة 463هـ) في كتابيه (التقييد لمعرفة راوة السنن والمسانيد) و (تكملة اٍلإكمال) : ((وله مصنفات في علوم الحديث لم يسبق إلى مثلها. ولا شبهة عند كل لبيب، أن أمتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب)) (1) .

الخطيب البغدادي الذي

((قل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً)) (2) كما يقول الحافظ ابن حجر، بحر من بحور الحديث، لا يستطيع باحث أن يتناوله بدراسةٍ شاملةٍ عميقةٍ لجميع جوانب حباته وعلومه ومصنفاته. بل كل كتابٍ من كتب هذا الإمام حقيق بدراسة مفردة، توقفنا على منهجه فيه.

لكن أجل كتبه في قوانين الرواية هو (الكفاية في علم الروية) .

ودراسة هذا الكتاب من جميع جوانبه غرض مهم جليل،

(1) التقييد لابن نقطة (ص 154) ، وتكملة الإكمال له (1/103) .

(2)

نزهة النظر لابن حجر (ص 48) .

ص: 190

لكن بحثنا في هذا الطرح متجه إلى ناجيةٍ معينة، وباختصار في ذلك أيضاً. لذلك فسوف نتكلم عن (الكفاية) للخطيب، تحت العنوان الذي وضعناه لهذا الفصل.

فهل سار الخطيب على المهج السليم في شرح مصطلح الحديث؟

يجيب عن ذلك الخطيب نفسه، في مقدمة كتابه الكفاية، من حين ذكره لسبب تصنيفه له، حيث يقول:((وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الحديث، والمثابرة على جمعه. من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين، وينظروا نظر السلف الماضين، في حال الراوي من المروي، وتمييز سبيل المرذول والمرضي)) (1) .

فمن هذا السبب الذي صنف الخطيب من أجله الكتاب، يتبين لنا منهج الخطيب النظري الواجب عليه اتباعه في مواجهة ذلك السبب. إنه لا بد أن يكون سالكاً مسلك المتقدمين، وناظراً نظر السلف الماضين. لأن هذا المنهج هو الذي سيبلغ من انقطعت بهم الحبال دون علوم سلف المحدثين، وسيصلهم بإرثهم من المتقدمين.

ثم صرح الخطيب بمنهجه في مقدمة كتابه أيضاً، تصريحاً واضحاً، حين قال:((وأنا أذكر ـ بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ـ في هذا الكتاب: ما بطالب الحديث حاجة إلى معرفته، وبالمتفقه فاقة إلى حفظه ودراسته، من: بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب سلف الرواة والنقلة في ذلك ما يكثر نفعه)) (2) .

(1) الكفاية للخطيب (ص 18) .

(2)

الكفاية (ص 22) .

ص: 191

فهذا واضح من الكلام، صريح لا لبس فيه، من الخطيب نفسه، بأن غاية عمله في كتابه الكفاية هو: شرح مذاهب سلف الرواة والنقلة!

هذا هو منهج الخطيب النظري الذي قرره في أول كتابه، وهو المنهج السليم لفهم مصطلح الحديث. لكن: هل تمسك الخطيب بهذا المنهج في كتابه؟

إن الخطيب البغدادي وهو من أهل القرن الخامس، وإن كان من أواحد عصره في علوم الحديث، إلا أنه لا يستطيع أن ينجو ـ تماماً ـ من أثر العلوم العقلية على علوم الحديث الذي توسع نطاقه في عصره، فهو ابن عصره!

وقد كنا ذكرنا في عرضنا اللتاريخي لعوامل التأثير من العلوم العقلية على العلوم النقلية، أن علم (أصول الفقه) كان له نافذتان للتأثير على علوم الحديث. نافذة مباشرة: بما درسته أصول الفقه من مباحث علوم السنة، ونافذة غير مباشرة: بما بثته كتب أصول الفقه ذات المنهج الكلامي المعتمد على المنطق اليواناني من أثر هذا المنهج، الذي تبرز ملالمحه في صناعة المعرفات المنطقية.

والخطيب البغدادي عرفناه من خلال كتابه (الفقيه والمتفقه) ، متأثراً بأصول الفقه. بل سائراً في كثيرٍ من مباحثه على خطى شيخه أبي إسحاق الشيرازي (إبراهيم بن علي بن يوسف الفيوزبادي الشافعي، المتوفى سنة 476هـ) في كتابه (شرح اللمع) ، ناقلاً عنه صراحة (1) ، أو من غير تصريح

(1) انظر مثلاً: الفقيه والمتفقه (1/54) ، مع شرح اللمع (رقم 23- 24) .

ص: 192

(1)

. إلا أنه لا ئح أيضاً أن تأثرهبأصول الفقه ليس بليغاً، فالخطيب البغدادي المجدتهد في علم الحديث، ما أصدقه أن يكون مقلداً في أصول الفقه.

لذلك فإن أثر أصول الفقه على الخطيب البغدادي اقتصر على نافذتها المباشرة: بما درسته كتب الأصول من مباحث علوم السنة.

أقول ذلك، لأن (الكفاية) بعيدة كل البعد عن التأثر بصناعة المعرفات المنطقية مثلاً. فالمصطلاحات التي يشرحها الخطيب، يشرحها دون أن يلتزم بقواعد تلك الصناعات (2) .

أما تأثره بما درسته كتب أصول الفقه من مباحث في علوم السنة، فيظهر من الآتي:

أولاً: إدخاله لمباحث أصولية غير معروفة في علوم الحديث قبله: مثل تقسيمه الحديث إلى متواتر وآحاد (3)(وهذا سبق ذكره بتوسع)(4) ، وما تبع ذلك من حكم خبر الواحد، الواحد، وأنه مفيد للضن الموجب للعمل، وأنه لا يحتج به في العقائد (5) ، وما يصح فيه التعارض من الأخبار وما لا يصح (6) .

ثانياً: نقله وبثه لأقوال بعض الأصوليين، مثل: أبي بكر الباقلاني (7)

(1) انظر مثلاً ك الفقيه والمتفقه (1/54-55)(1/67)(1/70) مع موازنته بشرح اللمع (رقم 161، 66، 235) .

(2)

انظر الكفاية: باب معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات (ص 37- 39) .

(3)

الكفاية (ص 32- 33) .

(4)

انظر (ص 91- 94) .

(5)

الكفاية (34، 41- 42، 472) .

(6)

الكفاية (473- 478) .

(7)

الكفاية (41- 42، 102- 104، 118، 122، 135، 169، 184، 318، 333، 386، 413، 473) .

ص: 193

وأبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (1) .

وهذا التأثر من الخطيب بأصول الفقه مع وضوحه، إلا أن إمامته في علم الحديث، وعدم تعمق أثر أصول الفقه عليه، مع وضوح المنهج السليم في دراسة علوم الحديث ومصطلحه عنده تمام الوضوح (كما سبق ذكره عنه) = جعل ذلك الأثر الأصولي على كتابه غير مخوفٍ منه، لأنه أثر مفضوح، لا يشتبه بعلوم الحديث ومسائله عند أهل الاصطلاح التي ملأ الخطيب غالب كتابه بها.

وهذا هو الفرق بين: الخطيب وكتابه (الكفاية) ، ومن جاء بعده ممن كتب في علوم الحديث.

فالفرق الأول: أن الخطيب لم يتأثر بأصول الفقه إلا من خلال نافذتها المباشرة.

والفرق الثاني: أن ما نقله عن أصول الفقه مباحث واضحة وأقوال منسوبة، لا تختلط بكلام أهل الاصطلاح، ولا تذكر على أنها من كلامهم. فلا يفعل الخطيب ما يفعله المتأخرون من ذلك، فضلاً عن أن يفعل فعلهم في تأويل كلام أحد أئمة الحديث على غير ظاهره، وعلى غير مراد ذلك الإمام ليوافق كلام الأصوليين!

ولنضرب لذلك مثلاً: (باب الكلام في الأخبار وتقسيمها)(2) الذي قسم فيه الأخبار إلى متواتر وآحاد، و (باب الرد على من قال يجب القطع على خبر الواحد بأنه كذب إذا لم

(1) الكفاية (ً 146، 362) .

(2)

الكفاية (32- 33) .

ص: 194

يقع العلم بصدقه) (1) ، و (باب ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها)(2) ؛ هذه الأبواب ليس فيها إسناد واحد، بل كلها من كلام الخطيب نفسه، إلا الباب الأخير الذي نقل الخطيب ما فيه عن أبي بكر الباقلاني!

ولذلك قال ابن الصلاح عن كلام الخطيب في (باب تقسيم الأخبار) : ((في كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث)) (3) .

ثم إن الخطيب وإن تأثر بأصول الفقه، فهو المحدث الناقد بالدرجة الأولى. لذلك نجده يرجح خلاف ما ينقله عن الأصوليين تارة (4) ، ويقدم عمل المحدثين على ما ينقله عن بعض المتكلمين تارة أخرى (5) ، ويصوب ما يدل عليه حال أهل الحديث

على حجج بعض الفقهاء في مسائل الحديث أيضاً (6) .

هذا إضافةً إلى أهم ما يميز كتاب الخطيب (الكفاية)، وهو: استيعابه لجل أقوال أئمة الحديث من (أهل الاصطلاح) في أصول علمهم وشرح مصطلحهم، واعتماده على تلك الأقوال في تقرير قواعد العلم وشرح عباراته. إذ هذا هو المنهج النظري الذي كان قد ألزم الخطيب نفسه به، وقد التزم به بالفعل في جل كتابه (7) .

(1) الكفاية (ص 34- 35) .

(2)

الكفاية (ص 41- 42) .

(3)

انظر (ص 91) .

(4)

الكفاية (ص 386) ووازنه بما في (ص 383) .

(5)

اللكفاية (ص 149ـ 154) .

(6)

الكفاية (ص 442) .

(7)

كنت في أصل هذا البحث، الذي كان في صورته الأولى مقدمة تأصيلية لكتابي المذكور في عنوان بحثنا هذا، وكما تراه مبيناً في مقدمتنا هنا (ص 9- 10) = قد اكتفيت بنقل كلام الخطيب في ديباجة كتابه لبيان منهجه الذي ألزم نفسه به. وهذا كان كافياً في تلك المقدمة المختصرة جداً، لأن مخالفة الخطيب لمنهجه الذي ألزم نفسه به يعتبر خطأ في التطبيق، لا في المهج. والذي يهمني هنا المنهج، كما هو عنوان هذا الباب. وعندما طبع أحد طلبة العلم كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) ، بما فيه من أصل كتابنا هذا، قرأ مقدمة الكتاب التي هي أصل بحثنا هذا فبالغ في الإعجاب بها، وكان هو أول من حثني على إفرادها بالنشر.

لكنه كان يقول لي: إن الخطيب هو أول من أدخل المباحث الأصولية في علم الحديث، ويحسب أن هذا يخالف ثنائي على كتاب الخطيب؛ وليس الأمر كما ظن:

أولاً: لأن مقالة: إن الخطيب هو أول من أدخل المباحث الأصولية في علوم الحديث، مقالة لا دليل عليها، مع أن البيهقي (وهو أسن من الخطيب) وابن عبد البر (وهو قرين الخطيب) كلاهما قد أدخلا أيضاً المباحث الأصولية في علوم الحديث، كما سيأتي في أصل البحث قريباً.

وثانياً: لن المنهج الذي قرره الخطيب في مقدمة كتابه، وألزم نفسه به، وعاب على أهل عصره عدم التزامهم به، منهج سليم، بل هو المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث وحده. ثم إن أثر أصول الفقه على كتاب الخطيب أثر ضئيل، كما بينته في الأصل، فلا يؤثر على ما كنت قد ذكرته في أصل هذا البحث من ثناءٍ على كتاب الخطيب، الذي ما زلت أثني عليه أيضاً.

وإنما ذكرت هذا الأمر هنا، من باب الأمانة في ذكر أحد دواعي توسعي في منهج الخطيب من هذه الناحية، عما كان عليه بحثي في أصل هذا الكتاب وصورته الأولى.

ص: 195

لذلك فإن كتاب الخطيب، لغزارة ما فيه من نقول، يبقى أهم مصدرٍ من مصادر علوم الحديث، المساعدة على فهم معاني مصطلحه.

أما الأثر الأصولي فيه، فهو أثر في مباحث قليلةٍ أولاً، ثم هو أثر واضحة مواضعه في كتابه (الكفاية) ، لا يصعب تخليص كلام أهل الحديث منها وتمييزه عنها.

والخطيب في منهجه المشروح آنفاً، وفي تأثره بأصول الفقه، يصلح مثلاً لأبناء عصره جلهم، من المحدثين الذين كتبوا علوم الحديث.

ص: 196

ولنبدأ الآن بذكر بقية من صنف في علوم الحديث من أهل القرن الخامس:

ففي هذا القرن كتب الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (ت 446هـ) مقدمةً لكتابه (الإرشاد في معرفة علماء الحديث) . وهي مقدمة نفيسة، تعرض الخليلي فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها. وكلامه فيها من معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب، فلكأن كاتبها من أهل القرن الرابع! ولعل الخليلي كان محدثاً صرفاً، أو لعل قصر تلك المقدمة لم يساعد على إضهار مشاربه المختلفة فيها.

وكتب في هذا القرن الإمام البيهقي (ت 458هـ) كتابه (المدخل إلى السنن الكبرى) .

وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية الكتاب شبه مفقودة. فكان مما فقدنا من هذا الكتاب، القسم الذي خصه البيهقي ـ فيما يظهر ـ لمصطلح الحديث وأصوله!

وقد كان الحافظ ابن كثير الدمشقي (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774هـ) ، قد جعل من كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني، بعد كتاب ابن الصلاح، في مؤلفه:(اختصار علوم الحديث) ، كما صرح بذلك ابن كثير نفسه

في مقدمة كتابه (1) .

ومع ذلك، فلم أجد ابن كثير صرح بالنقل عن البيهقي إلا

(1) اختصار علوم الحديث (1/ 96) .

ص: 197

في ثلاثة مواضع فقط، من كتابه (اختصار علوم الحديث)(1) .

غير أن محقق كتاب البيهقي، وهو الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، قد جمع مجموعةً من النقول عن القسم المفقود من (المدخل إلى السنن) ، من كتب علوم الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي (2) .

ولا شك أن تحديد منهج البيهقي من النظر في تلك النقول، بل ومن المتبقي من كتابه، لا يحتاج إلى كثيبر تعب! فهو واضح المنهج، وضوحاً لا يحتاج أكثر من تقليب صفحاتٍ من كتابه.

فـ (المدخل إلى السنن الكبرى) عبارة عن كتابٍ لإسناد أقوال ائمة الحديث في القرن الرابع فما قبله ن المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها.

غير أن فقدان قسم من الكتاب، هو القسم الذي فيه الكلام عن (المصطلح) ، افقدنا الاستفادة من هذا المنهج السليم في شرح المصطلح، المعتمد على النقول عن أئمة الحديث.

غير أن البيهقي: من أهل القرن الخامس، الذي ذكرنا المؤثرات التي ظهرت فيه للعلوم العقلية على العلوم النقلية. ثم البيهقي أيضاً: أشعري العقيدة، بل ممن نصر هذه العقيدة، كما سبق ذكرنا له بذلك (3) . ثم

البيهقي كذلك: ليس فقط ممن تأثر بأصول الفقه، بل له فيها مصنف (4) ! ويقول عنه ابن السبكي (عبد الوهاب بن علي بن عبد

(1) اختصار علوم الحديث (1/160، 337)(2/ 378) .

(2)

انظر مقدمة محقق المدخل إلى السنن (ص 75- 83) .

(3)

انظر (ص 79) ، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/9) .

(4)

انظر الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للدكتور نجم عبد الرحمن خلف (ص 86) .

ص: 198

الكافي، المتوفى سنة 771هـ) :((أصولي نحرير)) (1) .

فهذه المؤثرات لا بد أن تظهر في كتاباته على علوم الحديث، وهي وإن لم نجدها في (المدخل إلى السنن) ، ولعل السبب في ذلك فقدان جزء من الكتاب، إلا أنها ظهرت في مقدمةٍ لأحد كتبه الأخرى!

فللبيهقي على كتابه (دلائل النبوة) مقدمة، جعلها مدخلاً له. تعرض فيها لبعض قواعد الحديث، المتعلقة بحجيته في غالبها (2) .

فكان مما ورد فيها، مما يدل على تأثره بأصول الفقه، وعلى محاولته تثبيت أصول عقيدته الأشعرية: أنه قسم الحديث إلى متواتر وآحاد، وأن المتواتر يفيد العلم، وأن الآحاد ـ كما ألمح إليه ـ لا يحتج بها في العقائد. وقد سبق نقل كلامه هذا، في موطن سابق من هذا البحث (3) .

وهذا التقسيم واضحة فيه النزعة الأصولية، بل والأشعرية. وعلى كل حال؛ ففي مقدمة (دلائل النبوة) ، وأيضاً في مقدمة (معرفة السنن والآثار)(4) للبيهقي = مباحث حديثية، يغلب عليها النقل عن الإمام الشافعي؛ وفيها ايضاً مباحث أصولية. وبعد البيهقي، لم نزل في القرن الخامس الهجري، لكن ننتقل إلى أقصى المغرب الإسلامي حينها!

نقف مع الإمام أبي عمر ابن عبد البر الأندلسي (يوسف

(1) طبقات الشافعية الكرى (4/8) .

(2)

انظر دلائل النبوة للبيهقي (1/20ـ 47) .

(3)

انظر (ص 119ـ 120) .

(4)

معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/98ـ 188) .

ص: 199

بن عبد الله محمد النمري، المتوفى سنة 463هـ) ، حيث كتب مقدمةً حافةً لكتابه العظيم (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) ، خصها لعلوم الحديث وشرح مصطلحه.

قال ابن عبد البر: ((باب: معرفة (المرسل) و (المسند) و (المنقطع) و (المتصل) و (الموقوف) و (معنى التدليلس) :

هذه أسماء اصطلاحية، وألقاب اتفق الجميع عليها. وأنا ذاكر في هذا الباب معانيها، إن شاء الله.

(ثم قال:) اعلم ـ وفقك الله ـ أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط (الصحيح) في النقل منهم ومن لم يشترطه

) (1) .

وقال في موطن آخر: ((ومن الدليل على أن (عن) محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال، حتى يتبين الانقطاع فيها: ما حكاه أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل..)) (2) .

وقال في موطن آخر أيضاً: ((وأما التدليس: فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث

)) (3) .

فمثل هذه المواطن، وكثرة نقوله عن أئمة الحديث، خاصة من أهل القرن الثالث فما قبله = تدل على أن ابن عبد البر كان سائراً على المنهج الصحيح في فهم مصطلح الحديث، وأنه كان يعلم من هم (أهل الاصطلاح) الذين يجب عليه أن يعرف معاني كلامهم وألقاب علمهم.

وابن عبد البر مع ذلك عالم أثري، سلفي العقيدة، يبدع

(1) التمهيد (1/12) .

(2)

التمهيد (1/13) .

(3)

التمهيد (1/ 27) .

ص: 200

أهل الكلام والأشعرية!

يقول ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) : ((أجمع أهل الفقه والآثار، من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم)) (1) .

ويقول أيضاً: ((أهل الأهواء عند مالكٍ وسائر أصحابها: هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير اشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويفجر، ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها)) (2) .

وعلى هذا، فلن يكون للمذاهب الكلامية أثر على ابن عبد البر، من جهة العقيدة.

لكن ابن عبد البر ممن استبق جيلهم التأثر بأصول الفقه، وهو ابن جيله، فلا بد أن يكون لأصول الفقه أثر عليه.

وأما الأدلة الواقعية من كلام ابن عبد البر على تأثره بالأصول، فمنها ما ذكره في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) من تقسيمه (العلم) إلى قسمين:(ضروري) و (مكتسب)(3) . بل لقد صرح في باب تقسيم الحديث إلى متواتر ومقابله بأنه ناقل من كتب الأصول، حيث ذكر أقسام معرفة الدين، ثم قال: ((والقسم الثاني: معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه. وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم

، ومعرفة أصحابه

، ومعرفة الرجال الذين حملوا

(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942 عقب رقم 1799) .

(2)

بغية الملتمس للضبي ـ ترجمة أحمد بن محمد بن سعدى ـ (1/200، الترجمة رقم 342) .

(3)

جامع بيان العلم (2/ 788) .

ص: 201

ذلك

، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر يقطع العذر لتواتره وظهوره. وقد وضع العلماء في (كتب الأصول) من تلخيص وجوه الأخبار، ومخارجها، ما يكفي الناظر فيه ويشفيه

)) (1) .

إذن فرجعنا إلى مسألة تقسيم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) وأنه حتى ابن عبد البر ممن تأثر بالأصول في هذا التقسيم، كما صرح هو نفسه بنقله لذلك من (كتب الأصول) .

وقد تعرض ابن عبد البر لجانب من جوانب هذه المسألة في مقدمة (التمهيد) ، حيث تكلم عن حجية (خبر الواحد) . فنريد أن نقف أيضاً من رأيه في هذه المسألة، لنعلم درجة تأثره بالأصول

فقال أولاً: ((أجمع أهل العلم، من أهل الفقه والأثر، في جميع الأمصار، فيما علمت: على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافاً)) (2) .

وهذا كلام عليه نور الأثر، وأدب السنة مع السنة!

لكنه قال في موطنٍ لا حقٍ: ((واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل: هل يوجب العلم والعمل جميعاً، أم يوجب العمل دون العلم؟

والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر. ولا يوجب

(1) جامع بيان العلم (2/796) .

(2)

التمهيد (1/ 2) .

ص: 202

العلم عندهم إلا ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعاً، ولا خلاف فيه.

وقال قوم كثير من أهل الأثر، وبعض أهل النظر:

إنه يوجب العلم الظاهر والعمل (1) جميعاً، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر، ابن خويزمنداد أن هذا القول يخرج عل مذهب مالك.

(قال ابن عبد البر:) والذي نقول به: إنه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر ن وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا)) (2) .

هذا كلام ابن عبد البر، وهو من أفضل الأمثلة على من تأثر بأصول الفقه دون علم الكلام وعقيدة المتكلمين. فهو يقسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، ويحكم على (الآحاد) أنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم) ، وهذا كله من أثر أصول الفقه (3)

لكنه بعد ذلك ينقل أن (خبر الآحاد) حجة في العقائد والأحكام بالإجماع، وهذا من أثر عقيدته السلفية!!

أما التا ثر بالمنطق وصناعة المعرفات، فلم يظهر لها أثر على ابن عبد البر، في شرحه للمصطلحات وتفريها بها.

(1) كذا، والظاهر أن الصواب:(والعلم الباطن) ، أو ما في معناها من العبارات.

(2)

التمهيد لا بن عبد البر (1/ 7- 8) .

(3)

انظر (ص 91ـ 127) .

ص: 203

فيقول في شرحه للاسناد المعنعن: ((والإسناد المعنعن:

فلان عن فلان عن فلان عن فلان)) (1) .

ويقول في تعريفه بالتدليس: ((أما التدليس: فهو أن يروي الرجل عن الرجل قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحديث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله، أو لا ترضى على الأغلب في ذلك، إذ لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد لا يكون، إلا أنه استصغره)) (2) .

ونحو هذه التعريفات البعيدة كل البعد عن صناعة المناطقة. وعلى هذا فمقدمة ابن لكتابه (التمهيد) تمتاز باتباعها المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث، وبندرة الأثر الأصولي عليها.

فإذا انتهينا من مقدمة ابن عبد البر، نذكر (تبعاً) قرينه أبا محمد ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندليسي الظاهري، المتوفى سنة 456هـ) . وإنما قلت تبعاً، لأنه في تعرضه لعلوم الحديث الذي نتحدث عنه، إنما تعرض لها في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ، وهو كتاب في أصول الفقه، لا في علوم الحديث، ولا مقدمة لكتاب في الحديث.

ويكفي في بيان منهج ابن حزم من علوم السنة في كتابه (الإحكم) ، أنه كتاب في أصول الفقه أصلاً!

نعم، لابن حزم مذهب خاص، وهو ظاهريته.

ونعم، لابن حزم منهج خاص في كتابه، بكثرة استدلاله

(1) التمهيد (1/12) .

(2)

التمهيد لابن عبد البر (1/15) .

ص: 204

بأدلة الكتاب والسنة، وبالرد على المتكلمين (وهو منهم!!) .

لكن كتابه لم يزل من كتب أصول الفقه!!

ويضيق صدري أحياناً من ظاهريته في تقرير قواعد علم الحديث، مما يدل على أنه ليس بفقيه في علله!

انظر إليه وهو يقول: ((وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان، وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة)) (1) .

القوم الآخرون هؤلاء هم كافة نقاد الحديث، الذي رتبوا المقبولين على مراتب، ورتبوا أصحاب المرتبة الواحدة في الشيخ الواحد على مراتب أيضاً. ولهم في ذلك نفائس الأقوال، وصنفوا في ذلك غرر الفوائد!!!

وتعجب منه وهو يقول أيضاً: ((وقد علل قوم احاديث: بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجلٍ مرة أخرى.

وهذا قوة للحديث ن وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك)) (2) .

كذا بإطالاق؟ !! قاتل الله ظاهرية كهذه!!!

وله مثلها في حكم زيادة الثقة (3) !

والكتاب بعد ذلك على هذه الشاكلة، يمثل قواعد ابن حزم ومصطلحه، لا قواعد الحديث ومصطلحه عند أهله.

ولا أحسب أنني هنا في حاجةٍ على تنبيه القارىء الكريم:

(1) الإحكام لابن حزم (1/143) .

(2)

الإحكام لابن حزم (1/149) .

(3)

الإحكام لابن حزم (2/90- 96) .

ص: 205

إلى عظيم إجلالي للعلماء، وجليل إعظامي لهم. وإلى شدة محبتي ـ والله ـ لهم، وتعلقي بسيرهم وأخبارهم وحالهم. وإلى إيماني بأن علمهم يجل عن الوزن، ولا يجوز فيه القياس، من مثلي وأشباهي. ولولا ذلك، لما استفدت فائدة، ولا عرفت الحق (بحمد الله تعالى) ، ولا بدأت سلوك مسالك طلبة العلم.

فلست في حاجةٍ بعد هذا التنبيه، إلى تكرير ديباجةٍ طويلة ثقيلة، عند كل نقد علمي موضوعي بناء (ولو كان هذا النقد خطأًَ في حقيقته) . تلك الديباجة التي تثقل البحوث: باملدائح الرنانة في المنتقد، وبالأيمان المغلظة على حسن النوايا. إلى درجة الغو في الممدوح، والإزراء من الناقد لنفسه، وإلى حد الإسفاف (أحياناً) والبعد عن أدب العلم وإنصاف الموضوعية، اللذين إنما قدم بتلك الديباجة الثقية لهما!! وكأن الأصل في الباحث الكذب وسوء الطوية، والأصل في القارىء الشك وسوء النية!!!

(فلماذا نخاف من النقد؟!) .

لننتقل بعد هذا، إلى عالمٍ مغربي آخر، لكنه من القرن الخامس الهجري، هو القاضي عياض بن موصى بن عياض السبتي المالكي (ت 544هـ) .

ولهذا الإمام تعرض واسع لأبوابٍ من علوم الحديث، في كتابين له، هما:((الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) ، ومقدمة كتابه (إكمال المعلم بفوائد مسلم، للمازري) .

إلا أن كتابه الأول (الإلماع) كتاب مختص: بأصول الرواية (طرق التحمل وحجيتها) ، وتقييد السماع (كألفاظ الأداء) ، وما يتعلق بذلك، وبعض الآداب وما شابهها. فليس في الكتاب

ص: 206

اهتمام بالمصطلحات الحديثية لأقسام الحديث، التي هي مدار حديثنا. لذلك فلن أتكلم عن (الإلماع) ، بغير هذا الذي ذكرته به، وإن كان حقيقاً بغير ذلك في غير هذا الموضع!

أما كتابه الآخر: فهو شرح لمقدمة الإمام مسلم لصحيحه، وحيث تعرض الإمام مسلم في مقدمته لصحيحه لبعض القضايا المهمة في علوم الحديث، تناولها القاضي عياض بالشرح.

والقاضي عياض فقيه أصولي بالدرجة الأولى، لذلك فقد حشى كتابه (إكمال المعلم) بالنقل عن الفقهاء والأصوليين والمتكلمين، حتى غلب النقل عن المحدثين (1) !

بل بلغ تعمق الا ثر الا صولي عند القاضي عيا ض الى درجة فهم كلام الا ما م مسلم على اصطلاحات الا صوليين وا حكا مهم!

فعندما قال الا ما م مسلم في مقدمة صحيحة: ((وذلك ان القول الشائع المتفق علية بين اهل العلم بالا خبا ر والروايات قديما وحديثا: ان كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز وممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وان لم يا ت قط انهما اجتمعا ولا تشافها بكلام= فالرواية ثابتة،

والحجة بها لازمة000 (ثم قال الا ما م مسلم:) ان خبر الواحد الثقة عن

الواحد حجة يلزم العمل به)) (2) .

فقال القاضي عياض: ((هذا الذي قاله هو مذهب جمهور المسلمين من

السلف والفقهاء والمحدثين وا لا صوليين000)) (3) .

(1) انظر مثلاً في إكمال المعلم (ص 180، 182، 184، 225، 238، 300، 313، 314، 232، 324) . .

(2)

مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) .

(3)

مقدمة اكمال المعلم (ص323-327) .

ص: 207

ثم بين قولهم، فاذا به: ان خبر الواحد (يفيد الظن الموجب العمل دون العلم) .

فحمل القاضي عيا ض ان قول مسلم ((حجة يلزم العمل به)) . انه يقول بافادة

خبر الواحد للظن الموجب للعمل دون العلم!!

ولاـ والله- تلفظ مسلم بذلك المعنى، ولا احسبه خطر له على بال!!

ثم بعد القاضي عيا ض، كتب قاضي الحرمين الحافظ ابو حفص الميانشي (1) (عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي، نزيل

(1) الميانشي: بفتح الميم، وبعدها ياء مثناة تحتية، فألف، ثم نون مكسورة، فشين معجمة مكسورة؛ نسبة إلى ميانش قرية من قرى المهدية بإفريقية هذه هي التي منها الحافظ أبو حفص عمر بن عبد المجيد.

انظر: معجم البلدان لياقوت (5/ 239) ، وتاج العروس للزبيدي ـ منش ـ (17/ 392) .

ص: 208

مكة، المتوفى سنة 583هـ) رسالته الصغيرة المسماة بـ (ما لا يسع المحدث بجله) .

وهي رسالة مختصرة جداً، وغالبها نقل واختصار من (معرفة علوم الحديث) للحاكم و (الكفاية) للخطيب، ولن تخلو من فائدة.

وبقي في هذا الطور مشاركات عدة، مما بلغنا، وما فقد فأكثر! لكن ما بلغنا من هذه المشاركات: إما أنه لم يقصد إلى شرح مصطلحات وإنما اعتنى ببيان بعض القواعد والأصول، أو أنه نقل محض تندر فيه الإضافة المؤثرة.

ومن أمثلة تلك المشاركات:

كتاب (شروط الأئمة الستة) ، لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ)

ومقدمة كتاب (الوجيز في ذكر المجاز والمجيز) ، لأي طاهر أحمد بن محمد السلفي (ت 576هـ) .

وكتاب (شروط الأئمة الخمسة) لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 585هـ) .

ص: 209

ومقدمة كتاب (جامع الأصول في أحاديث الرسول) ، لمجد الدين أبي السعا د ات

المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606هـ) .

ومن هنا ننتقل إلى الطور الثاني من أطوار كتب علوم الحديث.

ص: 210