الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول:
أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة
.
لقد سبق في حديثنا عن القرن الهجري الرابع، أنه من بداية هذا القرن ظهر تناقص الاهتمام بالعلوم النقلية (الكتاب والسنة) ، وتزايد الاهتمام بالعلوم العقلية (1) .
ولا يخفى على الدارسين للعلوم الإسلامية، أن بداية الترجمة لعلوم الأوائل (الفلسفة) أقدم من التاريخ المذكور آنفاً. بل إن عصر المأمون الخليفة العباسي (ت 218هـ) ليعبر بحق: أقوى عصور الترجمة، وأكثرها مبالغة في ذلك (2) .
ولئن أثنى بعض المؤلفين على المأمون العباسي بذلك، واعتبروا قيامه بهذا الأمر أعظم منقبةٍ له، فقد ذمه آخرون بذلك، وعابوا عليه تصرفه هذا!!
وهذا إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478هـ) ، وهو من أئمة المتكلمين ومن علماء المسلمين بالفلسفة، يصف إقبال المأمون على ترجمة كتب الفلاسفة بـ (الهفوة والزلل والمخطل) ! ويحمله وزر هذه السنة
(1) انظر (ص 62 ـ 64) .
(2)
انظر طبقات الأمم لصاعد الأندلسي (132) ، ونقض المنطق لابن تيمية (19 - 20) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (10/273) ، ومقدمة ابن خلدون (481 - 482) ، والوسائل إلى معرفة الأوائل للسيوطي (175) .
السيئة، فيقول:((ولو قلت إنه مطالب بمغبات البدع واضلالات، في الموقف الأهول في العرصات، لم أكن مجازفاً)) (1)
ومع أن ذلك الإقبال من الدولة العباسية في عهد المأمون على العلوم العقلية كان على ذلك القدر الكبير المسطور في كتب التاريخ والحضارة الإسلامية، ومع أن أحد آثار ذلك الاهتمام والمبالغة في تقديس علوم الأوائل تلك الفتنة العمياء التي هزت العالم الإسلامي حينها، بإجبار علماء الأمة على اعتناق عقيدةٍ تناقض نصوص الأصلين (الكتاب والسنة) ، والتي لمع فيها اسم الإمام أحمد بن حنبل رمزاً من رموز الدفاع عن السنة، والثبات على المبدأ، والتفاني من أجل الدين = إلا أن هذا كله لم يضعف علوم السنة، ولم يؤثر عليها بشيءٍ!! بل لقد كان هذا القرن (القرن الثالث الهجري) ، الذي افتتحه المأمون العباسي بذلك القهر العقدي
، كان العصر الذهبي للسنة، كما تقدم!!! وما ذالكم إلا لأن علوم السنة كانت ـ خلال هذا القرن ـ أغنى وأقوى وأرسخ في نفوس أهلها من علماء الملة، بل وفي نفوس عوام الناس حينها! من كل علمٍ طارىءٍ دخيل عليها!!
وهناك أمر آخر لم يجعل للعلوم العقلية أثراً على العلوم النقلية في القرن الثالث الهجري، وهو وضوح التنافر بين العلمين (2)، من حيث: المصدر، والمبدأ، والأثر لكل من العلمين، والقائمين بكل علمٍ أنفسهم ديناً وخلقاً وقبولاً بين العامة. وهذا التنافر جعل العداء بين العلمين معلناً الهجوم
(1) الغياثي للجويني (193 ـ 194) .
(2)
انظر الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي (2/6 -22) .
والحرب بينهما، ولا احتمال لوقوع هدنةٍ تؤدي إلى نوع من التقارب والتأثر!
فهذان العائقان (قوة علوم السنة ورسوخها ووضوح التنافر بين علوم السنة والعلوم العقلية) هما بوابة حماية علوم السنة. وبينهما تلازم وتكامل في عوامل بقائهما، فإذا ضعف أحد هذين العائقين، فكلاهما، أمكن أن يلج علم غريب على علوم السنة، وأن يتطفل عليها من لا يحسنها.
لكن لما دخل القرن الهجري الرابع، بدأ هذان العائقان بالضعف، مما فتح ثغرةً للعلوم العقلية بالتأثير على العلوم النقلية.
ومن ذلك، ما سبق أن ذكرناه (1) ، من أن هذا القرن (الرابع) شهد تقهقراً في العلوم النقلية، ونقصاًَ في عدد ونوعية طلابها. مما فتح المجال للعلوم العقلية أن تجلب إليها طاقاتٍ معطلة أو شبه معطلة، ليكون ذلك بداية تقدم العلوم العقلية على تلقي العلوم النقلية.
وهذا دوره أقرز تلك الظاهرة الغريبة على الوسط العلمي الإسلامي، وهي ظاهرة التمايز الواضح بين الفقهاء والمحدثين. مع أن الأمة قبل ذلك، لم تكن تعرف هذا التمايز الحاد، إنما كانت تعيش وسطاً علمياً طبعياً سليماً، يعترف باختلاف المواهب والقدرات، لكن مع قدر كبير ٍ من التمازج والشمول في تلقي العلوم الإسلامية.
ويصف لنا الإمام الخطابي (أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم، المتوفي سنة 388هـ) هذه الظاهرة، في مقدمة كتابه
(1) انظر (ص 62 ـ 64) .
(معالم) السنن) ، فيقول:((ورأيت أهل العلم في زمننا (وهو القرن الرابع) قد حصلوا حزبين، وانقسموا فرقتين: أصحاب حديثٍ وأثر، وأهل فقهٍ ونظر. وكل واحدةٍ منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغيه والإرادة. (إلى أن قال:) ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه = إخواناً متهاجرين! وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة، الذين هم أهل الحديث والأثر: فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب. لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني
…
(إلى أن قال:) وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر: فغن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه ن ولا يعرفون جيده من رديئه
…
(إلى أن قال:) ولكن اقواماً استوعروا طريق الحق، واستطالوا المدة في درك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتفٍ منتزعة ٍ عن معاني اصول الفقه، سموها عللاً، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وجعلوها جنةً عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئةً للخوض والجدال
…
(إلى أن قال:) هذا وقد دس لهم الشيطان حيلةًً لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة، لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية،
فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعاتٍ منه، واستظهروا بأصول المتكلمين = يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر. فصدق عليهم ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقاً من المؤمنين.
فيا للرجال والعقول! أنى يذهب بهم؟! وأنى يختلهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم؟! والله المستعان)) (1) .
وهكذا يصف لنا أحد أئمة هذا العصر الحالة العلمية الجديدة، التي بدأت في الظهور خلال القرن الرابع الهجري. وهو يبين أساب تعلق من اتجهوا للفقه دون علم بالسنة إلى علم الكلام، ويوقفنا إلى أن الجهل بالحديث جعل طاقاتٍ كثيرةً في أولئك المتفقهة معطلة، فدس إليهم الشيطان (على حد تعبير الخطابي) أن يفرغوا تلك الطاقات في علم الكلام، طريق التجهم والاعتزال.
وذلك مما أمد الاعتزال بمددٍ جديد، وبوجهٍ جديد أيضاً، يظهر المعتزلة في صورة الفقهاء العلماء بالفروع، ثم بالأصول كذلك!!
وهكذا بدوره أشعر المحدثين بضرورة مواجهة هذا المد الاعتزالي.
فواجهه أئمة السنة، المتحققون بالحديث وعلومه (رواية ودراية) مواجهة قوية، بمثل كتب (السنة) و (التوحيد) و (العقيدة) ، وبالتحذير من علم الكالم وأهله، وبحث الناس على تعلم السنة، وعلى تمام التلقي لها على وجهها، وترك ذلك الترف العلمي في طريقة تلقيها الذي كان قد بدأ ظهوره في هذا القرن (الرابع) .
(1) معالم السنن للخطابي (1/5 - 10) .
بل إن أول مصنفٍ جامع مفردٍ في علوم الحديث بلغنا، صنف بغرض مواجهة تلك الطعنات في علوم السنة، كما صرح بذلك مصنفه الرامهرمزي صاحب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) . ولعل هذه التسمية وحدها كافية للإلماح بموضوع الكتاب، وبالغاية من تصنيفه (1) .
إلا أن ذلك النقص الذي اعترى قسماً آخر من المحدثين، والذي ذكره الخطابي في كلامه المنقول عنه آنفاً، جعل هؤلاء المحدثين قاصرين عن مواجهة المد الاعتزالي بالسنة، لنقص علمهم بها. مما قادهم إلى إنعاش مذهبٍ كلامي قديم، هو مذهب ابن كلاب (عبد الله بن سعيد القطان البصري، المتوفي سنة 245هـ) ، لأنه مذهب تجرد للرد على الجهمية والمعتزلة بعلم الكلام، في محاولة تقريب علم الكلام والاستفادة منه في تقرير عقيدة السلف.
إلا أن مذهب ابن كلاب هذا، كما هي العادة فيمن أراد أن يمزج بين علمين متنافرين (علم الكتاب والسنة، وعلم فلاسفة اليونان!) ، لم يستطع التخلص من أوضار علم الكلام ومضارةفلا هو قرر عقيدة السلف، ولا هو قرر عقيدة المعتزلة، لكنه توسط (التوسط المذموم) بين العقيدتين. ولذلك حذر الإمام أحمد من مذهب ابن كلاب، وعابه وذمه (2)
ولما كانت السنة قوية راسخةً في عهد الإمام أحمد، لم يجد مذهب ابن كلاب هذا فرصةً للانتشار في صفوف علماء الأمة، وخاصة المحدثين. فبقي محصوراً في بعض من مالوا إلى
(1) انظر (ص 185) .
(2)
انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 555)(12/202، 366 - 369) .
علم الكلام، ولم يتسع وجوده.
لكن لما اعترى علوم السنة ما اعترها، مما سبق ذكره، وجد بعض المحدثين في مذهب ابن كلاب ملجأ لهم في مواجهة المعتزلة.
وقد أرخ لنا بداية هذا التأثر، حادثة مشهرة، وقعت سنة (309هـ) ، بين ابن خزيمة وبعض تلامذته ممن تأثر بمذهب ابن كلاب (1) .
وبذلك بدأ العائق الثاني دون تأثير العلوم العقلية على العلوم النقلية بالضعف، وهو وضوح التنافر بين العلمين، بعد أن بدأ أيضاً العائق الأول (وهو قوة علوم السنة) بالضعف كذلك. فدخل علم الكلام على بعض المحدثين من هذا الباب: باب مواجهة المعتزلة (أعداء المحدثين الألداء) .
وقد ذكر هذا السبب في دخول بعض المحدثين في علم الكلام، أحد علماء هذا العصر، وهو الإمام الخطابي. حيث قال في كتابه (الغنية عن الكلام وأهله)، في مقدمته له: ((وقفت على مقالتك، وما وصفته من أمر ناحيتك، وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة
إليها، واغترارهم بها، واعتذارهم في ذلك بأن الكالم وقاية السنة، وجنة لها بذب به عنها، ويذاد بسلاحه عن حريمها (2) .
وفي هذه الأثناء، وفي نفس الفترة التي ظهر فيها تأثر جماعةٍ من المحدثين بابن كلاب، وهي سنة (309هـ) = أعلن أبو
(1) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 377 - 381) .
(2)
انظر الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (1 /371) ، وبيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 /251 - 252) .
الحسن الأشعري (علي بن إسماعيل، المولود سنة 260هـ والمتوفي سنة 324هـ) رجوعه عن مذهب الاعتزال، وألف وناظر وجادل في نقضه، وقد كان رأساً في الاعتزال نحو أربعين سنة (1)
ولئن كان أبو الحسن الأشعري أعلن رجوعه إلى عقيدة السلف، وأنه يتخذ من الإمام أحمد بن حنبل إماماً في باب العقيدة (2) ؛ إلا أن نزعته إلى تقرير ذلك بعلم الكلام، لنشأته الفلسفية المغرقة، جعلته يخالف السلف في مسائل كثيرة، كما أنه وافقهم في مسائل كثيرة أيضاً ورد على المعتزلة فيها (3) .
فهو قد توسط بين مذهب السلف والاعتزال (4) ، كما كان قد توسط بينهما ابن كلاب أيضاً. بل إن أبا الحسن الأشعري معدود في أصحاب مذهب ابن كلاب (5) ، وهو على طريقتهم ولا شك.
وعلى هذا المنهج نفسه الذي سار عليه الأشعري، وفي الوقت ذاته تقريباً أيضاً، ظهر مؤسس الماتريدية: أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمر قندي (ت 333هـ) . وهو داخل في الكلابية أيضاً، وعلى منهجها في محاولة التوسط بين السلف والمعتزلة، باعتماد علم الكلام (6) .
(1) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (38 - 45) .
(2)
الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص 17) .
(3)
انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5 / 556)(12 / 366 -367) .
(4)
مقدمة ابن خلدون (464 - 465) .
(5)
انظر الملل والنحل للشهر ستاني (39 ـ 40) ، والتعليقة قبل السابقة.
(6)
انظر املاتريدية دراسة وتقويماً لأحمد بن عوض الحربي (492 ـ 493) .
فما هو معنى هذا التوجيه المتقارب إلى علم الكلام، وإلى مثل مذهب ابن كلاب خاصة، في أقطار إسلامية مختلقة، وفي وقت واحدٍ، دون سابق اتفاق وتواطؤ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال قد تقدم ذكرها، وهي: ضعف تلقي علوم السنة، الذي أدى على اللجوء إلى علم الكلام للرد على الشبه الاعتزالية.
ولا شك أن اكلابية: من أشعرية، وما تريدية، وغيرهم، قد نجحوا بما وافقوا فيه مذهب السلف في الرد على المعتزلة، مما زاد من اتساع مذهبهم، وتكثير عدد متبعيه. وخاصة أبو الحسن الأشعري، الذي كان في دار الخلافة (بغداد) ، وصاحب تآليف كثيرة، مع ما يتمتع به من سعة علمه بالكلام وقدرته على الجدل والمناظرة، ثم بما اشتهر عنه من رجوعه عن الاعتزال وقد كان رأساً فيه؛ كل ذلك ساعد على انتشار مذهبه، مع ما في مذهبه ذاته، وما في عصره من عوامل أخرى، أسهمت في ذلك أيضاً.
ويذكر القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي (ت 544هـ) سبب ميل بعض المحدثين إلى عقيدة الأشعري، قائلاً في كتابه (ترتيب المدارك) عن الأشعري: ((فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر
لأهل الحدث والفقه ذبه عن السنن والدين، وتعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه، لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة (1) .
اما شيخ الإسلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم بن عبد
(1) ترتيب المدارك للقاضي عياض (5 /25) .
السلام الحراني الدمشقي، المتوفي سنة 728هـ) ، فبين أسباب انتشار مذهب الأشعري وغيره من الكلابية، فقال: ((ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثيراً من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه:
أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الأثارة النبوي عندهم.
الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبها ت عليهم، وظنهم أنه لن يمكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم، إلا على هذا الوجه.
الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، الموضحة لسبيل الهدى عندهم.
الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث: تارة يروون ما لا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور)) (1) .
هذه العوامل وغيرها كانت سبباً في انتشار المذهب الأشعري بين العلماء، وخاصة علماء الشافعية. حتى إنه مامضى على وفاة أبي الحسن الأشعري إلا أقل من ستين سنة حتى انتشر مذهبه في العراق كله، ثم انتقل إلى الشام (2) .
ومع أن أبا الحسن الأشعري قد مر بمراحل، من اعتزاليته إلى كلابيته إلى أن ألف كتابه (الإبانة) في أواخر حياته، وهو
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (12 /33) .
(2)
انظر الخطط للمقريزي (2 / 358) .
أقرب كتبه إلى مذهب السلف؛ إلا أنه خلال ذلك كله كان إمام المتكلمين، يدافع عن علم الكلام، وله فيه مصنف:(رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، والرد على من ظن الاشتغال بالكلام بدعة)(1) .
غير أن موازنة سريعةً بين: مصنفات الأشعري كـ (الإنابة) و (مقالات الإسلاميين) ، ومصنفات متأخري المتكلمين (أشعرية وغيرهم) كـ (شرح المقاصد) للتفتازاني (سعد الدين مسعود بن عمر، المتوفي سنة
793هـ) ، وقبله مؤلفات إمام الحرمين الجويني كـ (الشامل) و (لمع الأدلة) و (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) = مثل هذه الموازنة تظهر (من خلال النظرة الأولى) فرقاً واضحاً بين مؤسس المذهب وأتباعه من المتأخرين لا في المسائل المقررة فحسب، بل وفي منهج الاستدلال أيضاً من حيث إن كتب المتأخرين أغرقت بعيداً في علم الكلام، أكثر من الأشعري إمام المتكلمين في عصره
ولقد كان لذلك من الأثر، أن كان للأشعرية في انسياقها لعلم الكلام اتجاهان؛ الاتجاه الأول: فيه اعتناء بإثبات مسائله بأدلة الكتاب والسنة، مع الاعتناء بعلم الكلام. وهذا يمثله الأشعرية المحدثون كالبيهقي (أحمد بن الحسين ن المتوفي سنة 458هـ) . والاتجاه الثاني: مغرق في علم الكلام، قليل الاعتناء بأدلة الكتاب والسنة. ويمثل هذا الاتجاه الأشعرية الفقهاء، من أمثال أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403هـ) ، وإمام الحرمين الجويني قبل رجوعه إلى مذهب السلف قبيل وفاته (2) .
(1) تاريخ التراث العربي لسزكين (1 /4 /38) .
(2)
انظر المقدمة التي كتبها الدكتور عبد المجيد تركي لكتاب (شرح اللمع) للشيرازي، متكلماً فيها عن عقيدة الشيرازي (73 -88)
إن هذه الصفحة القصيرة في تاريخ الفرق الكلامية (وخاصة الأشعرية)، إنما ذكرتها لأبين: كيف أثر علم الكلام والعلوم العقلية على علوم السنة؟ وكيف دخلت العلوم العقلية هذه على المحدثين علماً طارئاً دخيلاً عليهم وعلى علومهم؟
وقد تبين ذلك
ومع أننا ـ أساساً ـ إنما نؤرخ لمصطلح الحديث، ومع أن ذلك قد يبدو بعيداً عن مذهب عقدي كالأشعرية؛ إلا أن كلامنا عن بداية تغلغل هذا المهذب العقدي في الوسط العلمي، ذلك المذهب المعروف بمنهجه الكلامي في الاستدلال والمناظرة، وبتأثره الكبير بالفلسفة = يظهر (بالتلازم) بداية تغلغل هذا المنهج والأثر في كثير من الأوساط العلمية، بجميع فنونها وعلومها. وليس أدل على ذلك، من وجود أئمةٍ في الحديث.. أشاعرةٍ في الوقت نفسه مع أن ذلك (لولا هذا الواقع الذي أصبح مألوفاً) تناقض، كان من المفروض أن يكون مستحيلاً إلا أن تلك العوامل لوقوع مثل هذا التناقض، هي التي فسرت لنا أسباب وقوعه، ومن قبل: جعلت المستحيل غير مستحيل
وإذا كان (الشافعية أسعد الناس بالحديث)، وهي عبارة صادقة تعني أن أكثر المحدثين والمصنفين في الحديث وعلومه من الشافعية = فإن الأشعرية أيضاً (من وجه آخر) أسعد الناس بالشافعية. وهذا يبين لك: مقدار الأثر الذي سوف يكون لهذا المذهب العقدي على الحديث وعلومه.
وإن كانا نخص (مصطلح الحديث) بالدراسة، فإنك إذا عرفت أن من أبرز سمات الأشعرية (كما تذكر ذلك دراسة جديدة قيمة) : ضرورة المقدمات المنطقية والعقلية لتحديد (المصطلحات) ، والإحالة عليه عند عرض ما يتعلق بها من
موضوعات العقيدة (1) = إذا عرفت هذا عرفت أيضاً: لم كان لهذا المذهب العقدي أثر
على أصول الحديث ومصطلحاته وسوف يكون لنا ـ فيما نستقبل من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ـ وقفة مع المعرفات المنطقية،
وأثرها في علوم الحديث (2) .
إلا أنه مما يلزم التنبيه عليه: هو أن تأثير المذهب الأشعري وغيره من المذاهب الكلامية على العلوم الإسلامية، لم يكن على درجات متساوية، فليست (اصول الفقه) مثلاً في تأثرها بالعلوم العقلية مثل (أصول الحديث) . ومن أسباب هذا التفاوت: غلبة الأشعرية وغيرها من المذاهب الكلامية على علماء ذلك الفن أكثر من غيره، ثم طبيعة الفن نفسه في قابليته للتأثر بالعلوم العقلية أكثر من غيره من الفنون. ولا شك أن علماء الحديث وعلم الحديث، بناءً على الملاحظة النظرية لهذين السببين، من المفترض أن يكونا أقل تأثراً بالمذاهب الكلامية من غيرهما. ولا شك أن هذا صحيح، مع كل ما سبق. إلا أن عمق التأثر لم يزل يزداد على العلوم الإسلامية كلها، عبر العصور المتلاحقة، ومن بينها علوم الحديث.
لكننا نستفيد من التقرير السابق: أن القرن الرابع الهجري، الذي بدأت فيه المذاهب الكلامية في استجلاب بعض المحدثين إليها (كما تقدم بيانه) ، لم تتعمق فيه آثار تلك المذاهب على علم الحديث ومصطلحه، عند من اتقد بها من محدثي هذا القرن.
(1) انظر (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (2 /6949) .
وقد كنت كتبت هذه الدراسة قبل صدور هذا الكتاب القيم، فلما صدر حاولت الاستفادة منه قدر الإمكان.
(2)
انظر (ص 159 - 168) .
ذالك لأنه حتى من اعتقد المذهب الأشعري (مثلاً) من المحدثين في هذا العصر، فهو ـ غالباً إنما اعتقده لظنه أنه المنقذ أمام المد الاعتزالي، ولذلك كان بعضهم يزعم أن مذهبه الكلامي ذاك هو مذهب السلف، جهلاً منه بمذهب السلف. ومثل هذا الصنف من المحدثين، ممن عاش في القرن الرابع، لن يكون لاعتقاده الكلامي أثر ذو بالٍ على علوم السنة ومصطلحها، لأن تأثره في المعتقد، لم يبلغ إلى درجة أن يعمق فيه المنهج الكلامي، ليؤثر عليه ـ بعد ذلك ـ في علم الحديث، العلم السني ذي المناعة الذاتية من تلك العلوم الدخيلة (العوم العقلية)
غير أن أثر تلك المذاهب أخذ في الظهور خلال اقرون اللاحقة، كما ذكرناه سابقاً. فالقرن الخامس زاد فيه أثر تلك المذاهب على علوم السنة عن القرن الرابع، وهو ـ مع ذلك أقل تأثراً من القرن السادس
…
وهكذا.
أما من لم يتبع مذهباً كلامياً، من علماء الحديث في القرن الرابع، وهم فئام كبير منهم = فهؤلاء بعيدون كل البعد عن التأثر بالعلوم العقلية، وبالمنهج الكلامي لتلك المذاهب، في تقرير قواعد علوم الحديث وشرح مصطلحاته وفي غير ذلك من العلوم الشرعية. وهؤلاء المحدثون في الحقيقة لم يزالوا على إرث سلفهم (علماء القرن الثالث) ، وكأنهم امتداد (وهم كذلك) لذلك الإرث ولألئك العلماء.
ومن أمثال هؤلاء: بعض أعلام نقاد الحديث في القرن الرابع، كأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . الذي كان يقول:((ما في الدنيا شيء أبغض إلي من الكلام)) (1) ،
فعلق
(1) سؤالات السلمي للدارقطني (رقم 432) .
الإمام الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان، المتوفي سنة 748هـ) على هذا بقوله: ((لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام، ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً (1) .
إذن فالأشعرية وغيرها من المذاهب الكلامية لم تؤثر في علم الحديث، خلال القرن الرابع، إلا على ذكل القدر المشروح آنفاً. من أن أثرها إنما ينحصر في منم اعتقد بأحد المذاهب الكلامية من المحدثين، دون غيرهم، هذا إن كان لاعتقادهم ذاك أثر عليها، كما تقدم ذكره.
وكان يمكن أن يستمر أثر المذاهب الكلامية محصوراً، على تلك الصورة المذكورة آنفاًَ، خلال القرون اللاحقة بعد القرن الرابع. إلا أن زيادة تعمق المذاهب الكلامية خلال القرون التالية للقرن الرابع، مع ما رافق ذلك من زيادة ضعف تلقي العلوم النقلية = أدى ذلك إلى ازدياد أثر المهج الكلامي على العلوم النقلية (ومنها علم الحديث) ، ازدياداً متدرجاً على مر القرون.
مع ذلك أيضاً، كان من الممكن أن يبقى أثر المذاهب الكلامية خلال القرون اللاحقة للقرن الرابع محصوراً فيمن اعتقد بها، خاصة وأن مسائل العقيدة، والأسماء والصفات بالأخص، ظلت عند علماء السنة وأتباع الأثر مسائل مصيرية، لا يتهاونون في الدفاع عن مذهب السلف فيها، وينابذون كل ما خالفها، عبر العوهد المتلاحقة.
أقول: كان من الممكن أن يبقى أثر المذاهب الكلامية على علوم السنة محصوراً في من اعتقد بها، لولا أن العلوم العقلية
(1) سير أعلام النبلاء (18 /457) .
والمنهج الكلامي فتح جبهةً جديدة للتأثير على علوم السنة. هذه الجبهة بعيدة كل البعد عن مسائل العقيدة ذا الحساسية البالغة عند المحدثين، إنها جبهة علم أصول الفقه
وهذا هو الفصل التالي: