المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الآذان 30 - عن ابن عمر رضي الله عنهما كان - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌ ‌كتاب الآذان 30 - عن ابن عمر رضي الله عنهما كان

‌كتاب الآذان

30 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم بل بوقا مثل قرن اليهود فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة".

-[المعنى العام]-

كان المسلمون بمكة قليلي العدد، يستخفون كثيرا في صلاتهم، ولا يكادون يجتمعون، وإذا اجتمعوا ترقبوا دخول الوقت، وتحينوا حينه وزمنه ثم قاموا إلى الصلاة دون أذان أو إقامة.

فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى المسجد النبوي وكثر المسلمون، ولم يعودوا يخشون الجهر بالعبادة، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في وسيلة يجمع بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: نرفع راية، فإذا رآها المسلمون علموا أنه قد حان الوقت للصلاة فجاءوا، ولم يقبل هذا الاقتراح، لأن الراية لا يراها إلا قلة من المسلمين، ثم إنها لا ترى بالليل، فلا تنفع للإعلان بالعشاء والفجر. قال بعضهم: نوقد نارا عند حلول وقت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: إن رفع النار من فعل المجوس، ولا نحب أن نتشبه بهم، قال بعضهم: نتخذ قرنا وبوقا ننفخ فيه، فيرتفع الصوت، فيسمعه من يريد الصلاة.

ص: 137

قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ البوق من فعل اليهود، فلا نتشبه بهم، قال بعضهم: نتخذ ناقوسا. قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ الناقوس من فعل النصارى، سكت صلى الله عليه وسلم قليلا يفكر. أليس النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا؟ أليست المشابهة في عمل من أعمالهم أقل خطرا على المسلمين من مشابهة غيرهم؟ لم لا نتخذ ناقوسا حتى يأتي أمر الله؟ فأمر صلى الله عليه وسلم بصنع ناقوس. قال عمر: لم لا نبعث الآن رجلا عالي الصوت إلى مكان مرتفع، أو إلى باب المسجد فينادي بالصلاة؟ يجمع الناس لها، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي عمر، فقال: يا بلال. قم وناد بالصلاة، فقام بلال فنادى: الصلاة جامعة.

وانصرف المسلمون إلى بيوتهم تلك الليلة، وهم مشغولون بما دار من حديث، ومنهم عبد الله بن زيد. قال: "انصرفت وأنا مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في منامي، وأنا بين النائم واليقظان، رجلا يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله. أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فلما أصبح عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى، وكان الوحي قد نزل بالأذان، فقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: إنها لرؤيا حق. قم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فيؤذن به، فإنه أندى منك صوتا، وسمع عمر الأذان وكان قد رأى في منامه ما رأى عبد الله بن زيد، فخرج يجري يجر رداءه، فقال: يا رسول الله. والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل هذا.

-[المباحث العربية]-

(كان المسلمون حين قدموا المدينة) مهاجرين من مكة.

(فيتحينون الصلاة) أي يقدرون أحيانها، ليأتوا إليها، والحين الوقت والزمان.

ص: 138

(ليس ينادي لها) اسم ليس ضمير الحال والشأن، وجملة "ينادي لها" خبر ليس، والجملة حالية.

(اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى) كان ناقوس النصارى أولا خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فتحدث صوتا، ثم صاروا إلى الناقوس المعروف اليوم في الكنائس والمدارس.

(بل بوقا مثل قرن اليهود)"بوقا" مفعول به لفعل محذوف، أي اتخذوا بوقا، والبوق والقرن اسطوانة واسعة من الطرف البعيد، ضيقة من الطرف الذي ينفخ فيه، تضخم الصوت وترفعه، ويقال له: الصور، والشابور.

(أولا تبعثون رجلا) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقتدون بالنصارى واليهود ولا تبعثون رجلا؟ فالهمزة لإنكار الجملة الأولى وتقرير الجملة الثانية.

(ينادي بالصلاة) مراده من النداء الإعلام بالصلاة بأي لفظ، لا بلفظ الأذان.

(قم. فناد بالصلاة) المراد الإعلام المحض. والمراد من الأمر "قم" قيل: الوقوف، وقيل: الذهاب إلى البعد.

-[فقه الحديث]-

ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، والمحققون من العلماء يرون أن الصلاة فرضت في الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان في الظهر والعصر والعشاء، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية منها خفف منها في السفر.

واختلف في السنة التي شرع فيها الأذان، والراجح أن ذلك كان في

ص: 139

السنة الأولى، وقيل: كان في الثانية، أما الأحاديث التي وردت بأن الأذان شرع قبل الهجرة بعد الإسراء فهي ضعيفة لا تصح، وهي مروية عند الطبراني والدارقطني وابن مردويه قال الحافظ ابن حجر: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك.

وظاهر حديث الباب أن النداء الأول الذي تم في جلسة التشاور كان مجرد الإعلان بحضور الوقت، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات أن اللفظ الذي نادى به بلال للصلاة قوله "الصلاة جامعة".

وحديث الباب لا يتعرض لبدء الأذان المشروع المعروف ولا لألفاظه كيف جاءت؟ ولا من جاء بها؟ وكيف أقرت؟ والأحاديث التي تعرضت لذلك كثيرة، رواها أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وقد عرضناها في المعنى العام عن عبد الله بن زيد، ولم يخرج البخاري ومسلم حديثه، لأنه ليس على شرطهما، وإن كان صحيحا.

والحكمة في إعلام الناس بالأذان على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره على لسان غيره.

وقد ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء، إظهار شعائر الإسلام وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة، وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة.

والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول، وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان.

والسبب في تخصيص بلال بالنداء أنه أندى صوتا، أي أرفع وأطيب.

والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يباشر الأذان بنفسه.

والأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس بالنصوص الصحيحة

ص: 140

والإجماع، ولا يشرعان لغير الخمس باتفاق، ولكن ينادي للعيدين والكسوفين والاستسقاء: الصلاة جامعة.

وفي حكمهما قيل سنة، وقيل فرض كفاية، وقيل فرض كفاية في الجمعة سنة في غيرها. وقال ابن المنذر: هما فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر.

ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت، وأما الصبح فيجوز أن يؤذن له بعد نصف الليل، وقال أبو حنيفة: لا يجوز قبل الفجر.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]-

1 -

مشروعية التشاور في الأمور لا سيما المهمة.

2 -

أنه ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم يفعل صاحب الأمر ما ظهرت له فيه المصلحة.

3 -

وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده ولو أخطأ.

4 -

وأن المطلوب مخالفة أهل الباطل في أعمالهم.

5 -

وفيه مراعاة المصالح والعمل بها، فإنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة بسبب أشغالهم نظروا في ذلك.

6 -

استدل بعضهم بقوله: "يا بلال. قم. فناد بالصلاة" على شرعية الأذان من قيام، وأنه لا يجوز الأذان قاعدا، وفيه نظر لاختلاف المراد من الأمر "قم".

7 -

قد يؤخذ من الحديث أن الأذان للرجال، والجمهور على أنه لا يصح أذان المرأة للرجال.

8 -

واستحباب كون المؤذن رفيع الصوت حسنه.

ص: 141

31 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا".

-[المعنى العام]-

طلب صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يتقدم إلى الصف الأول أولوا العقول والفهم والعلم، ولكن كيف يستجيبون لذلك؟ وهم المتواضعون الذين يحسنون الظن بغيرهم؟ قبل أن يحسنوه بأنفسهم؟ من منهم الذي يدعي لنفسه أنه خير القوم عقلا وعلما حتى يتقدم؟ لقد دفعهم تواضعهم وهضمهم لأنفسهم إلى أن يتأخروا عن الصف الأول، حتى كاد يختل توازنه وتراصه، بل حتى خلا الصف الأول، وأصبح بين الإمام وبين المأمومين ما يسع صفا أو أكثر، لقد رغب صلى الله عليه وسلم في الصف الأول كثيرا، قال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم" وقال "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف

ص: 142

النساء آخرها، وشرها أولها" ولم يتغلب الترغيب على هضم النفس والتواضع فظلوا يتأخرون عن الصف الأول، حتى قال صلى الله عليه وسلم "لا يزال قوم يتأخرون [عن الصف الأول] حتى يؤخرهم الله" وربط فضل الصف الأول بميزة يؤمن بها الصحابة، ربطه بالأذان وفضل المؤذنين وقد علم عندهم أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة، فقال: لو يعلم المسلمون فضيلة المؤذن وفضيلة الصلاة في الصف الأول لاستبقوا إليهما ولتنافسوا وتباروا في الوصول إليهما حتى يضطروا إلى القرعة تفصل بينهم، وتقدم بعضهم، ولما كان المقام بيان التسابق في الخيرات اقتضى أن يقرن بذلك الدعوة إلى التسابق إلى الصلاة والتبكير إليها، وبخاصة صلاة العشاء وصلاة الفجر، وهما أثقل صلاة على المنافقين فقال: لو يعلم المسلمون ما في التبكير إلى الصلاة من الأجر لتسابقوا بشأنه ولو يعلمون ما في صلاة العشاء والفجر من الأجر لأتوهما سراعا ولو كانوا مرضى لا يستطيعون المشي، لأتوهما حبوا على أيديهم وأرجلهم.

-[المباحث العربية]-

(لو يعلم الناس ما في النداء) المراد به الأذان، أي لو يعلمون ما في مباشرته وأدائه من الأجر.

(والصف الأول) ما يلي الإمام مطلقا، وقيل: أول صف تام يلي الإمام لا ما يتخلله شيء، وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف وهو أضعف الأقوال، وأقواها الأول.

(ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) الاستهام الاقتراع، والمعنى أنهم لو علموا فضيلة الأذان، ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به، لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله.

(ولو يعلمون ما في التهجير) أي التبكير إلى الصلاة، أي صلاة كانت وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور الأول.

ص: 143

(ولو يعلمون ما في العتمة والصبح) أي صلاة العشاء والفجر.

(لأتوهما ولو حبوا) بفتح الحاء وسكون الباء، وهو المشي على اليدين والرجلين.

-[فقه الحديث]-

قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام، لأنه أولى بالإكرام ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو، لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم.

ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس، كمجالس العلم، والقضاء، والذكر والمشاورة، ومواقف القتال، وإمامة الصلاة، والتدريس، والإفتاء، وإسماع الحديث ونحوها، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك. اهـ.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ذلك: ]-

1 -

فضيلة الأذان والمؤذن.

2 -

فضيلة الصف الأول فالأول.

3 -

مشروعية القرعة عند التنازع وعدم المرجح.

4 -

فضيلة التهجير والتبكير إلى الصلاة.

5 -

جواز تسمية العشاء عتمة، وقد ثبت النهي عنه، قال النووي: وجوابه من وجهين. أحدهما أن هذه التسمية بيان للجواز، وأن ذلك النهي ليس للتحريم، والثاني وهو الأظهر أن استعمال العتمة هنا لمصلحة، ولنفي مفسدة، لأن العرب كانت تستعمل لفظ العشاء في المغرب، فلو قال: لو يعلمون ما في العشاء والصبح لحملت على المغرب، وفسد المعنى، وفات المطلوب، فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما.

ص: 144

6 -

فيه الحث على حضور جماعة العشاء والفجر، والفضل الكثير في ذلك لما فيهما من المشقة على النفس، من تنغيصهما أول النوم وآخره، ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين.

32 -

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا".

-[المعنى العام]-

لصلاة الجماعة فضيلة يسعى إليها كل مسلم، وللمبادرة إلى اقتناصها من أولها فضيلة يحرص عليها كل مصل، ولهذا كان الصحابة يحرصون على هاتين الفضيلتين كل الحرص، وكانوا يسارعون ويتسابقون، لدرجة الجري والقفز. وللصلاة قدسيتها، لأنها مناجاة لله، وساحة المناجاة والتهيؤ لها يعطي حكمها من التقديس والوقار. أمام هذين الوضعين كان التوجيه النبوي الكريم.

ص: 145

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوات وحركات أصحابه يسعون ويهرولون للحاق به وهو في الصلاة، حيث كانت مواضع وضوئهم بعيدة عن مكان الصلاة فلما سلم من صلاته قال لهم: ما هذه الجلبة؟ ولماذا ما سمعت من حركات؟ قالوا: أسرعنا الخطا، وتعجلنا اللحاق بك، لندرك أكبر قدر من الائتمام والفضيلة. قال: لا تعودوا لمثلها، ولا تسعوا عند إتيانكم الصلاة ولكن ائتوها مشيا قريب الخطا، وعليكم بالسكينة في طريقكم، والخشوع والوقار في مشيتكم لها، فإن أحدكم إذا كان يقصد المسجد للصلاة، لا يدفعه لذلك إلا الصلاة، فهو في خطواته كما لو كان في صلاة، له ثوابها ويكتب له أجرها، فما أدركتم مع الإمام فصلوا معه، وما سبقكم به منها فأتموه، وائتوا به بعد سلام الإمام.

-[المباحث العربية]-

(بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع)"بينما" أصله "بين" زيدت عليه الميم والألف، وربما تزاد الألف فقط، فيقال "بينا" وهي ظرف زمان بمعنى المفاجأة، ويضاف إلى جملة، من فعل وفاعل، أو من مبتدأ وخبر ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى، ويصدر بإذ، أو إذا، أو الفاء، وبدون شيء من ذلك.

(جلبة الرجال)"أل" في "الرجال" للعهد، أي المصلون، والمراد بعضهم، وفي رواية في الصحيح "جلبة رجال" بالتنكير، والجلبة الأصوات المختلطة ولم تعرف أسماؤهم، وسمى منهم الطبراني أبا بكرة.

(ما شأنكم) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والشأن بالهمز وبالتخفيف هو الحال.

(استعجلنا إلى الصلاة) السين والتاء للطلب، أي طلبنا العجلة وقصدناها أو للصيرورة، أي صرنا عجلين.

(فلا تفعلوا) المفعول محذوف، أي لا تفعلوا العجلة والإسراع، والفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تأخرتم فلا تفعلوا.

ص: 146

(إذا أتيتم الصلاة) أي إذا قصدتم وتحركتم لإتيانها.

(فعليكم بالسكينة) الفاء في جواب "إذا" و"عليكم" اسم فعل أمر بمعنى الزموا، والياء زائدة داخلة على المفعول به، ومثلها كثير في الأحاديث الصحيحة، كقوله "عليكم برخصة الله". "فعليه بالصوم". "عليكم بقيام الليل" وقد لا تزاد كقوله تعالى {عليكم أنفسكم} وقد جاء في رواية في الصحيح "عليكم السكينة" ويجوز رفع السكينة على أنها مبتدأ مؤخر و"عليكم" خبر مقدم. والسكينة الوقار، وفي رواية "وعليه السكينة والوقار" فالعطف تفسيري مؤكد.

وقيل إن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة من غض البصر وخفض الصوت ونحو ذلك.

(فما أدركتم فصلوا) أي فالقدر الذي أدركتموه من الصلاة مع الإمام فصلوا معه.

(وما فاتكم فأتموا) لفظ الإتمام يقع على باق من شيء قد تقدم أكثره أو بعضه، فظاهره أن ما فاته هو بالنسبة له آخر صلاته لا أولها، وسيأتي أيضا ذلك في فقد الحديث.

-[فقه الحديث]-

قال النووي: في الحديث الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعيا، سواء في ذلك صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أو لا. اهـ.

وهذا التعميم الذي ذكره النووي هو ما عليه عامة العلماء، وقد جاء عن الإمام أحمد قوله: ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح. وعن بعض اللف أن الإسراع المنهي عنه هو الإسراع المفضي إلى عدم الوقار. والأصح ما ذكره النووي.

ولا يقال: إن النهي عن السعي إلى الصلاة هنا يتعارض مع الأمر به

ص: 147

في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} لأن المراد من السعي المنهي عنه في الحديث الجري والعجلة، لمقابلته بالأمر بالمشي، والمراد من السعي المأمور به في الآية المضي والذهاب، لمقابلته بترك البيع، والاستعمالان لغويان.

قال الحافظ ابن حجر: وعدم الإسراع يستلزم كثرة الخطأ، وهو معنى مقصود لذاته، وردت فيه أحاديث، كحديث جابر عند مسلم "إن بكل خطوة درجة".

واختلف الفقهاء فيما يدركه المسبوق مع الإمام، هل هو أول صلاته؟ أو آخرها؟ على ثلاثة أقوال. الأول: أن ما أدركه هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها، فلو أدرك الركعتين الأخيرتين من العشاء مثلا كانتا بالنسبة له الأوليين، فإذا سلم الإمام أتم المأموم بركعتين، لا يجهر فيهما ولا يقرأ سورة بعد الفاتحة. وهذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف ورواية عن مالك ورواية عن أحمد، ودليله روايات "وما فاتكم فأتموا" والإتمام لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وروايات "أتموا" هي الصحيحة، ورواية "فاقضوا" فيها كلام. ثم إن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكنه يطلق على الأداء، فحمله على الأداء يوافق الرواية الأخرى ولما كان مخرج الحديث واحدا والاختلاف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى يتم به الاتفاق كان ذلك أولى.

ومن أدلة هذا المذهب أنه يجب على المسبوق أن يتشهد في آخر صلاته على كل قول، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له، لما احتاج إلى إعادة التشهد. ومن أدلته أيضا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الركعة الأولى، فما أدركه المأموم إنما هو أول صلاته.

المذهب الثاني: أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، وعليه بعد تسليم الإمام أن يقضي أول صلاته، بما ينبغي له من أقوال وأفعال، على الهيئة اللازمة للأول، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ورواية عن مالك

ص: 148

وهو قول كبار المالكية، دليلهم رواية "صل ما أدركت واقض ما سبقك".

المذهب الثالث: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فلا يجهر في الإتمام بعد سلام الإمام، وآخر صلاته بالنسبة إلى الأقوال، فيقضي الأوليين بالفاتحة والسورة. وهو قول مالك في المشهور، ودليله ما رواه البيهقي عن علي "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك من القرآن".

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

يؤخذ من قوله "وما فاتكم فأتموا" جواز قول: فاتتنا الصلاة. وأنه لا كراهة فيه، وكرهه ابن سيرين وقال: إنما يقال: لم ندركها. إذ فيه نسبة عدم الإدراك إلينا بخلاف فاتتنا. وكلام ابن سيرين غير صحيح.

2 -

فيه أنه يستحب للذاهب للصلاة أن لا يعبث بيده، ولا يتكلم بقبح، ولا ينظر نظرا قبيحا.

3 -

استدل بقوله "إذ سمع جلبة الرجال" على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد الصلاة.

4 -

استدل بالحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله "فما أدركتم فصلوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. وهذا قول الجمهور وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة. ولا يخفى أن إدراك فضيلة الجماعة شيء، ومساواة من أدرك تكبيرة الإحرام للمسبوق في أجر الجماعة شيء آخر.

5 -

استدل بالحديث على استحباب دخول المسبوق مع الإمام في أي حال وجد عليها، وفيه حديث صريح عند ابن أبي شيبة"من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

ص: 149

33 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء".

-[المعنى العام]-

من أبرز أهداف الإسلام ترابط المجتمع، وغرس المودة والمحبة بين أبنائه حتى يصبح كالجسد الواحد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ولقد ولد الإسلام في مجتمع متفرق، لا يضمه هدف، ولا تجمعه غاية، يغير بعضه على بعض، وتترفع كل قبيلة على الأخرى، فحارب الإسلام هذه العصبية، وسوى بين الناس كأسنان المشط، ونادى بقرآن يتلى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}

ص: 150

وكان لا بد من وسائل تقود إلى غرس هذا المبدأ، وكان لا بد من تدريبات عملية تطبع المسلمين على الإحساس بهذه المساواة، فكانت صلاة الجماعة، إمامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناديها بلال بن رباح العبد الحبشي، يقف المسلمون فيها صفوفا كصفوف الملائكة. المناكب ملاصقة للمناكب والأقدام مساوية للأقدام، الغني بجوار الفقير، والقوي بجوار الضعيف، الكل يتحرك حركة واحدة، ويسكن سكونا واحدا، فإذا ما قضيت الصلاة التقى المسلمون بعضهم ببعض، فدرسوا مصالحهم، وسأل بعضهم عن أحوال بعض، وعرفوا غائبهم، لقاءات في المسجد، خمس مرات كل يوم وليلة.

ودخل في الإسلام منافقون، ثقلت عليهم صلاة الفجر وصلاة العشاء وثقلت عليهم الجماعات، فكانوا يتخلفون، وكرر الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعهم الترغيب في الجماعة، فصموا آذانهم، فكان المناسب لهم الوعيد والتهديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فكرت، وهممت أن أنفذ فكرتي أن يؤذن المؤذن للصلاة ويقيم، ثم آمر رجلا يصلي بالناس بدلا مني، ثم آخذ بعض الفتية، وبعض حزم الحطب، فنحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة وهم فيها، وخاف المنافقون، وضعاف الإيمان من التهديد، فحافظوا، حتى المريض الذي لا يستطيع المشي كان يأتيها بين رجلين يستند إليهما، وحتى الأعمى الذي يشكو تعثره في الظلماء، وفي السيل، لم يؤذن له بالتخلف عن الجماعة، وأصبحت الجماعة في المسجد لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، مغاضب لله ورسوله والمسلمين.

{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}

-[المباحث العربية]-

(لقد هممت) اللام في جواب القسم، ومعنى "هممت" قصدت، والهم العزم، وقيل: دون العزم.

(أن آمر بحطب فيحطب) أي فيجمع.

(أن آمر بالصلاة)"أل" في "الصلاة" للجنس فهي عامة، وقل: للعهد والمعهود العشاء أو الفجر أو الجمعة، روايات.

ص: 151

(ثم أخالف إلى رجال) أي آتيهم من خلفهم، وقيل: أتخلف عن الجماعة وأذهب إليهم، أي أخالف المصلين قاصدا إلى بيوت رجال. والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان.

(فأحرق عليهم بيوتهم)"أحرق" بتشديد الراء المكسورة للمبالغة في التحريق بالنار.

(عرقا سمينا) بفتح العين وسكون الراء هو العظم الذي عليه قليل اللحم.

(أو مرماتين حسنتين)"أو" للتنويع، لا للشك، والمرماة بكسر الميم، وقد تفتح، هي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفيها من اللحم وقيل: اسم سهم يرمى به في الصيد، والمقصود به الخسيس الحقير من متاع الدنيا.

-[فقه الحديث]-

يشير الحديث إلى صلاة الجماعة، والتشديد في الأمر بها، والتخويف من التهاون فيها، أما فضلها فقد وردت فيه أحاديث كثيرة، وأنها أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين -أو سبع وعشرين -درجة.

وأما حكمها ففيه أربعة مذاهب:

الأول: أنها فرض عين وشرط لصحة الصلاة، فلا تصح الصلاة بدونها إلا لعذر، وهو مذهب داود الظاهري، ورواية عن أحمد، ودليلهم ظاهر التهديد في الحديث، وهو عقوبة لا يعاقب بها إلا الكفار.

وهذا المذهب أضعف المذاهب وأبعدها عن الصواب.

المذهب الثاني: أنها فرض عين، وليست شرطا لصحة الصلاة فتصح الصلاة بدونها مع الإثم، وهو مذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية، كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر، ودليلهم دليل الأولين

وقالوا: لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صلى الله عليه وسلم بها كافيا، ولو كانت سنة لما هدد تاركها بالتحريق، كما استدلوا على فرضيتها بصلاة

ص: 152

الخوف، إذ فيها أعمال منافية للصلاة، ارتكبت من أجل الجماعة، ولم يرخص بترك الجماعة في هذه الشدة، ولا يعمل ذلك لأجل فرض الكفاية، ولا للسنة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لابن أم مكتوم وهو أعمى في ترك الجماعة، ولو كانت فرض كفاية، أو سنة لرخص له.

المذهب الثالث: أنها فرض كفاية، وهو مذهب جمهور المتقدمين من الشافعية، وبه قال كثير من الحنفية والمالكية.

المذهب الرابع: أنها سنة مؤكدة، وهو المشهور عند الآخرين، وقد أجابوا عن ظاهر الحديث بعدة أجوبة، أهمها:

1 -

أن الحديث نفسه يدل على عدم الوجوب، لكونه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل، ولو كانت فرض عين لنفذ ما هم به. فتركه التحريق بعد التهديد دليل عدم الفرضية.

2 -

لو كانت فرضا لقال صلى الله عليه وسلم للذين صليا في رحالهما من غير جماعة: أعيدا صلاتكما، أو أنتما آثمان، لكنه قال "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا، فإنها لكما نافلة".

3 -

قال الباجي: إن الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة.

4 -

قال بعضهم: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة.

5 -

قال بعضهم: إن فرضية الجماعة كان في أول الإسلام، لأجل سد الباب على المنافقين، ثم نسخ.

6 -

إن المراد بالصلاة صلاة الجمعة خاصة.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أخذ منه بعضهم أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية.

ص: 153

2 -

أن الإمام إذا عرض له شغل استخلف من يصلي بالناس.

3 -

وفيه جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر.

4 -

تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وأن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى.

5 -

وجواز أخذ أهل الجرائم على غرة.

6 -

استدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونا بها ورد بأن التهديد بالتحريق لا يلزم منه حصول القتل، لا دائما ولا غالبا.

7 -

وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة، لإخراج من يستخفى في بيته ويتركها.

8 -

استدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.

34 -

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام".

ص: 154

-[المعنى العام]-

إذا كانت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد منفردا بخمس وعشرين درجة كان على المسلمين أن يحرصوا عليها، وأن يتحملوا في سبيل تحصيلها ما يقابلهم من صعاب، الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، والمشي طويلا لبعيد الدار عن المسجد، وانتظار الصلاة حتى تقام، ولكل من ذلك أجر، فمن توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يشغله، ولا يحركه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كان له بها حسنة، وحط عنه بها سيئة، فإذا ما دخل المسجد، وجلس ينتظر الصلاة، كان في ثواب صلاة، حتى يدخل في الصلاة.

لقد خفي على بعض المسلمين ما في كثرة الخطا إلى المسجد من الأجر وكانوا يسكنون في أقصى المدينة، على بعد ميل من المسجد، فدفعهم حرصهم على الجماعة، أن يبيعوا بيوتهم، ويشتروا بدلها بيوتا بجوار المسجد، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لا. يا بني سلمة. الزموا بيوتكم لا تبيعوها وتحملوا مشاق الوصول إلى المسجد، فإن الله يكتب لكم آثاركم يكتب بكل خطوة حسنة، فأعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم ممشى قالوا: سمعنا وأطعنا يا رسول الله. وظل الصحابة يحرصون على انتظار صلاة الجماعة في المسجد ابتغاء الأجر الوفير وبخاصة في صلاة العشاء التي كانت تؤخر أحيانا، لعلمهم أن الذي يطول انتظاره لصلاة الإمام خير من الذي يصلي منفردا، ثم يذهب إلى بيته فينام.

-[المباحث العربية]-

(أعظم الناس أجرا) منصوب على التمييز.

(أبعدهم، فأبعدهم ممشى) أي أكثرهم بعدا عن المسجد، ثم من هو دونه فالفاء للترتيب التنازلي في أعظم الأجر، و"ممشى" اسم مكان منصوب على التمييز.

ص: 155

(والذي ينتظر الصلاة، حتى يصليها مع الإمام) أي جماعة.

(أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام) قال الحافظ ابن حجر: أي سواء صلى وحده أو في جماعة. اهـ. قال الكرماني: وفائدة ذكر "ثم ينام" هنا الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة، التي في ضمن الانتظار. اهـ. أي فليس النوم مقصودا، فكأنه قال: أعظم أجرا من الذي يصلي، ثم يذهب ليستريح، وحملها بعضهم على النوم الحقيقي، فحمل الصلاة على صلاة الظهر والعشاء. وهو بعيد.

-[فقه الحديث]-

يرتبط هذا الحديث بفضل صلاة الجماعة، وأنها تزيد على صلاة الرجل وحده بخمس -أو سبع -وعشرين درجة، وقد حاول بعض العلماء أن يدخل في سبب هذه الزيادة إحسان الوضوء والخروج من البيت لا يقصد إلا الصلاة والخطوات إلى المسجد وانتظار الصلاة.

والذي نستريح إليه أن التضعيف إلى خمس وعشرين عام في الجماعات في أي مكان، سواء أكانت في المسجد الجامع أم في أي مسجد، أم في دور العلم أم في البيت، أم في السوق، مع تقرير نوع زائد من الفضل، وقدر خاص من الثواب للجماعة في المسجد الجامع، وللجماعة في المسجد ولكثرة الخطا، ولانتظار الصلاة.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

كثرة الأجر بكثرة الخطا في المشي إلى المسجد، وقد اختلف العلماء فيمن كان بجوار المسجد، هل يجاوزه للصلاة في مسجد أبعد؟ كرهه بعضهم مطلقا، واستحسنه بعضهم مطلقا، واستحسنه بعضهم إذا كان الأبعد المسجد الجامع، لزيادة الفضل بكثرة المصلين، واشترط بعضهم أن لا يكون في المسجد البعيد مانع من الكمال، كأن يكون إمامه مبتدعا أو لحانا في القراءة، أو مكروها من قومه، وأن لا يكون في ذهابه إلى البعيد هجر للمسجد القريب، وإلا فإحياؤه بالذكر أولى.

ص: 156

كما اختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد، وقارب الخطا، بحيث يساوي عدد خطاه عدد من داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟ مال الطبري إلى المساواة، ويستأنس له بما رواه ابن أبي شيبة من طريق أنس قال:"مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخطا، وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد" والحق أن هذا وإن دل على فضل تكثير الخطا فإنه لا يدل على المساواة، لأن ثواب الخطا الشاقة ليست كثواب الخطا الكثيرة السهلة، وحديثنا يربط الأجر ببعد المكان لا بعدد الخطوات.

2 -

ويؤخذ من الحديث فضل انتظار الصلاة بالمسجد، حتى لو شارك نية الانتظار أمر آخر، وظاهر العبارة أن الأجر لمنتظر الصلاة سواء أكان انتظاره خارج المسجد أو داخله، لكن رواية "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه" يشير إلى أن أعظم الأجر مرتبط بالمكان وبالنية.

3 -

يؤخذ من عموم قوله "أعظم أجرا من الذي يصلي، ثم ينام" أي سواء صلى وحده، أو في جماعة، أن صلوات الجماعة تتفاوت في الأجر.

ص: 157

35 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".

-[المعنى العام]-

حين يشاء الله ينفخ في الصور، فيخرج الناس من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون. يجرون من قبورهم نحو ساحة مخصوصة حددت لهم يسرعون على أرض مستوية غير أرضهم، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، يجرون عرايا حفاة، ويقفون في الساحة كما ولدتهم أمهاتهم، الرجال والنساء بعضهم مع بعض، ولكنهم مشغولون عن النظر إلى العورات، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، الشمس تدنو من الرءوس ونارها تلهب الأجساد والعرق يسيل فيبلغ ركبة البعض وسرة البعض حسب أعمالهم، ويطول الموقف الصعب ويرتجف الخلق حتى الأنبياء.

لكن سبعة من أصناف الناس يحميهم الله من الشمس، ويظلهم بظله في هذا اليوم، الذي لا ظل فيه إلا ظله. سبعة جعلوا لهم في دنياهم ظلة ووقاية من المحرمات، وحبسوا أنفسهم في قبة من الطاعة، ومنعوها من اتباع الهوى والشيطان، مع المغريات والإمكانات، التي يقع فيها الكثيرون. سبعة أصناف أولوا عزم من البشر.

أولهم: الإمام العادل والحاكم الأمين والأمير الراشد، والراعي الذي يحيط رعيته بالعطف والنصيحة، ويعمل على صالحهم.

وثانيهم: شاب لم تجرفه ثورة الشباب نحو الشر، شاب منذ صباه إلى رجولته في عبادة ربه، بعيدا عن انحرافات الشباب، ضابطا غريزته، حاكما

ص: 158

لقوته، موجها طاقته المندفعة نحو العبادة وطاعة الله.

وثالثهم: رجل عابد، محب للصلاة في المسجد، حريص على ذلك مشغول بالمسجد وذكر الله، حتى في غدوات حياته وروحاته، قلبه معلق بالمسجد.

ورابعهم: رجلان تحابا وتصافيا وتصادقا، لا من أجل دنيا، ولا من أجل منفعة ذاتية عاجلة، بل من أجل حب الله، إذا اجتمعا كانا في طاعة الله وكان حديثهما فيما يرضي الله، وإذا افترقا كان افتراقهما مع دوام المودة والوفاء والإخاء.

وخامسهم: رجل عصم نفسه وحكم شهوته، وغلب الخوف من الله على المتعة المهيأة، دعته امرأة ذات منصب، لها عليه سلطان يخشى، وعندها له من المغريات ما يحرص عليه، وذات جمال جذاب وحسن فاتن. دعته إلى نفسها في خلوة ومأمن من الناس، فانصرف عنها بدافع التقوى، والخوف من الله، وقال: إني أخاف الله رب العالمين.

وسادسهم: رجل تصدق بصدقة سرا، أخفاها عن أعين الناس وأسماعهم، حتى لو كانت شماله رجلا ما رأتها حين أخرجتها يمينه، ويعامل بذلك ربه ويؤمن بأنها له، ومن أجله تعالى وحده.

وسابعهم: رجل قلبه لين نقي، يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه حاسب نفسه في خلوته، وذكر ذنبا، فانفطر قلبه له، وخاف عقاب ربه، وندم على فعله، رجل ذكر نعم ربه عليه، وما وجب عليه من الشكر، وأحس في نفسه القصور أو التقصير، ففاضت عيناه بالدموع، يسأل الله الرحمة والمغفرة ويرجو القبول والإحسان.

فما أيسر هذا المقابل الذي يحمي من نار الموقف وحره، وما أكرم رب العالمين، وما أعظم إحسانه.

-[المباحث العربية]-

ص: 159

(سبعة) تمييز العدد محذوف، أي سبعة أصناف من الناس، وهو مبتدأ ومسوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة والوصف، وهو التمييز.

(يظلهم الله) جملة في محل رفع خبر المبتدأ.

(في ظله) جاء في رواية بإسناد حسن "في ظل عرشه".

(الإمام) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير أحدهم الإمام، قيل: المراد به الإمام الأعظم والحاكم العام، وقيل: كل حاكم، وكل راع في رعيته، وهو أولى كما سيأتي.

(العادل) أي التابع لأوامر الله تعالى، فيضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط.

(وشاب نشأ في عبادة ربه)"شاب" خبر لمبتدأ محذوف تقديره والثاني شاب، وجملة "نشأ في عبادة ربه" صفة له، والظاهر أن المراد بالشاب هنا من لم يجاوز الأربعين، وبالعبادة مطلق الطاعة ونشأته فيها أن تغلب طاعته على معصيته من أول أمره.

(وجل قلبه معلق في المساجد) أي يحبها حبا شديدا، "وفي" بمعنى الباء وتعلق قلبه بالمساجد كناية عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي بالمسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليصليها فيه.

(ورجلان تحابا في الله) أي لأجله، لا لغرض دنيوي وكلمة "في" تفيد السببية كالباء مثل "دخلت امرأة النار في هرة" وتحابا أصله تحاببا أدغم أول المثلين في ثانيهما، والتفاعل عبارة عن معنى حصل عن فعل متعدد فالمراد التبسا بالحب، كقولك باعدته فتباعد. لا لإظهار المحبة من نفسه، كقولهم تجاهل أي أظهر الجهل من نفسه، وفي رواية "ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله، وصدرا عن ذلك".

(اجتمعا عليه) الضمير في "عليه" يرجع إلى الحب في الله وفي رواية

ص: 160

"اجتمعا على ذلك" أي على الحب في الله.

(دعته امرأة ذات منصب) أي امرأة صاحبة جاه، من أصل أو شرف أو مال.

(ورجل تصدق أخفى) بلفظ الماضي فيهما "وأخفى" مع فاعله جملة وقعت حالا بتقدير "قد" ومفعول "أخفى" محذوف، أي أخفى الصدقة، وإخفاؤها هو الإسرار بها إلى آخذها، دون شعور أحد.

(حتى لا تعلم) بالرفع نحو مرض زيد حتى لا يرجونه، فحتى تفريعية وبالنصب نحو سرت حتى تغيب الشمس فحتى للغاية.

(شماله ما تنفق يمينه) الشمال واليمين اليدان اللتان بجانبي الإنسان وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتها للمتصدق، أي لو قدر أن الشمال رجل مستيقظ لما علم صدقة اليمين، للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف، والتقدير: حتى لا يعلم ملك شماله أو مجاور شماله من الناس، فحذف المضاف مجازا.

(ورجل ذكر الله)"ذكر" فعل ماض من الذكر، بكسر الذال فهو باللسان أو من الذكر بضم الذال، فهو بالقلب.

(خاليا) أي بعيدا منفردا. أو خاليا من الالتفات إلى غير الذكر، ولو كان في ملأ، وهو نصب على الحال.

(ففاضت عيناه) أي امتلأت عيناه بالدمع حتى فاض عنها، فالفائض هو الدمع، لا العين، ففيه مجاز الحذف، أي فاضت دموع عينيه، وإنما أسند الفيض إلى العين مبالغة، حيث جعلت العين من فرط البكاء، كأنها تفيض نفسها.

-[فقه الحديث]-

حصر العدد في السبعة الواردة بالحديث لا مفهوم له، بدليل ورود غيرها كمن أنظر معسرا، أو وضع عنه ما عليه، والغازي ومن يعينه، والتاجر

ص: 161

الصدوق، وغير ذلك مما وردت به الأحاديث، وذكر المتحابين في الله لا يجعل العدد ثمانية، لأن المقصود هنا عدد الخصال لا عدد المتصفين بها. والأحكام والأوصاف الواردة بالحديث تشمل جميع المكلفين، من الرجال والنساء، فذكر الرجال فيه جرى على الغالب، لأن النساء يشتركن معهم فيما ذكر، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، أما إذا كن ذوات عيال فعدلن في عيالهن، فيدخلن في الإمامة، إذ لا تقتصر الإمامة على الإمام الأعظم بل تشمل أولا وبالذات الإمام الأعظم، ويلحق به من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، حتى الرجل بين أولاده، والمدرس في فصله، لحديث "إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا" رواه مسلم، وإنما قدم الإمام العادل على ما بعده لعموم نفعه، وكثرة مصالحه، فالإمام العادل، يصلح الله به أمورا عظيمة ويقال: ليس أحد أقرب منزلة من الله تعالى بعد الأنبياء عليهم السلام من إمام عادل.

وإنما خص الثاني من السبعة بالشاب لأن العبادة من الشباب أشد، لغلبة الشهوة، وكثرة الدواعي لطاعة الهوى، فملازمة العبادة حينئذ أشد وأدل على غلبة التقوى، وفي الحديث "يعجب ربك من شاب ليس له صبوة".

والمقصود من قوله "اجتمعا عليه وتفرقا عليه" أن الحب تمكن في قلب الرجلين تمام التمكن من أجل الله تعالى لا لغرض دنيوي، فقد التقيا عليه وسرى في دمائهما، سواء اجتمعا بأجسادهما حقيقة أم لا، وسيستمر ذلك الحب حتى يفرق بينهما الموت، دون أن يقطعاه لأي غرض من الأغراض الدنيوية. فهذه الجملة تفيد استمرارهما على المحبة لأجل الله. وقد قيل في علامته: الحب في الله لا يزيده البر ولا ينقصه الجفاء.

وقوله {إني أخاف الله} يحتمل أن يكون بلسانه زجرا لنفسه عن الفاحشة أو بقلبه لزجر نفسه عن الوقوع في حبال تلك المرأة، وقد وصفها بأكمل الأوصاف، التي جرت العادة بزيادة الرغبة فيمن يتجمل بها، ليشعر برفعة شأن ذلك الرجل، وأنه على جانب كبير من التقوى والخوف والحياء من

ص: 162

رب العالمين، لأن الصبر عن قربان المرأة الموصوفة بما ذكر من أعلى المراتب، ولا سيما إذا راودته عن نفسها، وأغنته عن مشقة الوصول إليها بمراودة ونحوها.

وإنما طلب إخفاء الصدقة لأنه أبعد عن الرياء والمباهاة وأقرب إلى الإخلاص سواء تصدق بقليل أو كثير، وقصد من نفي علم الشمال بما فعلت اليمين المبالغة في إخفاء الصدقة

وإنما تفيض عين الذاكر بالدموع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلال الله، أو مزيد شوق إلى جماله.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

فضيلة الإمام العادل.

2 -

فضيلة الشاب الذي نشأ في عبادة الله وطاعته.

3 -

فضل من سلم من الذنوب واشتغل بطاعة ربه طول عمره.

4 -

فضيلة من يلازم المسجد للصلاة مع الجماعة.

5 -

فضيلة التحاب في الله.

6 -

فضيلة من يخاف الله، قال تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان}

7 -

فضيلة من يخفي صدقته، ومصداق ذلك قوله تعالى {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} قال العلماء: هذا في صدقة التطوع لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأما الواجبة فإعلانها أفضل ليظهر دعائم الإسلام.

8 -

فضيلة ذكر الله في الخلوات، مع فيضان الدمع من العين، روى أبو هريرة مرفوعا "ولا يلج النار أحد بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع".

ص: 163

36 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما يخشى أحدكم أو لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار".

-[المعنى العام]-

شرع الله صلاة الجماعة ليتم اللقاء ويتعدد، فنزول الجفوة، وتشيع المودة، وتتبادل المصالح والمنافع، وشرع لها حدودا وضوابط، يتعلم بها المسلمون النظام والانقياد للقائد، الذي يرتضونه لدينهم، ويقدمونه إماما لهم

ص: 164

ومقتضى هذا النظام والانقياد أن لا يسبقوا قائدهم، فلا يحنوا ظهورهم إلا بعد أن يحني، ولا يرفعوا رؤسهم قبل أن يرفع.

بالتزام هذه الحدود والضوابط يتحقق الهدف الأكبر لصلاة الجماعة، ولهذا كثر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الإمام، فقال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا

وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولا: ربنا لك الحمد

" "إني إمامكم. فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام

"

لكن العجلة طبيعة الإنسان {خلق الإنسان من عجل} والشيطان يجذبه إلى هذه الطبيعة في الصلاة، ليخرجه من الطاعة إلى المعصية، بعد أن يفقده ثواب الجماعة.

وكان صلى الله عليه وسلم يراقب من خلفه في صلاة الجماعة، فيقوم المعوج، ويصحح الخطأ، صلى رجل خلفه، فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع فلما قضى صلاته حذره وعلمه، لكن كثرت أمثال هذه المخالفات، وكثرت معها النصائح وكان منها أن قال:"والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت [أي من إثم وعقوبة المخالف للإمام] لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" ومع هذا التشديد والوعيد وجد المخالفون، فترقى بالوعيد، وارتفعت الشريعة بالتهديد بأن الذي يسبق الإمام في حركاته معرض لأن يجعل الله رأسه يوم القيامة رأس حمار، أو أن يجعل صورته وشكله وهيئته في شكل وهيئة حمار، ليكون ذلك علما له يوم القيامة، وعلامة على الغباء والبلادة، التي أصابته في الدنيا فلم يستمع للنصح، وأعرض عن تعليمات الدين القويم.

-[المباحث العربية]-

(أما يخشى أحدكم)"أما" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف استفتاح للتأكيد، مثل "ألا" وقد ورد بها "ألا يخشى" و"أو لا يخشى" بفتح الهمزة والواو، وفي روايتنا بأو، التي للشك في اللفظ الذي ورد "أما" أو "ألا" وأصل الهمزة للاستفهام دخلت على النفي "ما" أو "لا" والاستفهام للتوبيخ

ص: 165

بمعنى لا ينبغي، فيصبح التقدير: لا ينبغي أن لا يخشى، ونفي النفي إثبات فالمعنى ينبغي أن يخشى.

(إذا رفع رأسه قبل الإمام) في الركوع أو السجود.

(أن يجعل الله رأسه رأس حمار .... ) في رواية "أن يجعل الله وجهه وجه حمار" ولا تعارض بينهما، فالصورة تطلق على الوجه، والوجه في الرأس والحديث يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، لكن يحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازا، فإن الحمار موصوف بالبلادة. بهذا قيل، والتحقيق ما قاله بعضهم من أنه يصح أن يكون التهديد بتحويل الصورة وتغييرها على سبيل الحقيقة في الدنيا، فإن قيل: إن هذا مسخ، وهو لا يجوز في هذه الأمة؟ وإن هذا التحويل لم يقع مع كثرة المخالفين؟ قلنا: لا يلزم من التهديد بالشيء وقوعه وكل ما دل عليه أن فاعله يكون متعرضا لذلك، وهذا أنسب من المجاز، لأن التهديد بالبلادة لا يتناسب مع هذا الفعل، لأن فاعله بليد فلا يهدد بالبلادة، ثم إن ألفاظ الحديث في رواياته المختلفة ظاهرة في الحقيقة، بعيدة عن المجاز، إذ من ألفاظه "أن يحول الله رأسه".

نعم قيل: إن هذا الجعل في الآخرة لا في الدنيا، وعلى هذا القول لا مجاز والتحويل حقيقة، ولا مجال للمجاز.

-[فقه الحديث]-

قال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في المجموع شرح المهذب.

ومع القول بالتحريم، الجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته.

وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر.

قال في المغني: عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام

ص: 166

صلاة لهذا الحديث قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.

وظاهر كلام القرطبي يقتضي كراهة الرفع قبل الإمام لا تحريمه، إذ قال: من خالف الإمام فقد خالف سنة المأموم. لكن الجمهور على الحرمة.

وقد شرح الإمام النووي كيفية المتابعة وعدم السبق في كتابه المجموع شرحا وافيا، نقتطف منه قوله:

قال أصحابنا: يجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال، والمتابعة أن يجري على إثر الإمام بحيث يكون ابتداؤه لكل فعل متأخرا عن ابتداء الإمام، ومقدما على فراغه منه، فلو خالفه في المتابعة، بأن قارنه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته باتفاق أصحابنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة تنعقد، كما لو قارنه في الركوع، وإن قارنه في السلام فوجهان، قيل: تبطل، والصحيح الكراهة. وفيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام لا تبطل مع مقارنة الأفعال، لكن يكره وقال الرافعي: تفوت به فضيلة الجماعة. هذا في المقارنة أما التقدم على الإمام بركن كامل كأن يركع، ثم يرفع، قبل أن يركع إمامه فيبطل الصلاة إن كان عامدا عالما بالتحريم، ولا تبطل إن كان ساهيا، أو جاهلا، أو لم يعلم بحركة الإمام لبعده عنه. أما إن كان الركن غير كامل، كأن ركع قبل الإمام فلم يرفع رأسه حتى ركع الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فلم يهو حتى رفع الإمام رأسه لم تبطل صلاته، ولكن هل يعود فورا لحال الإمام؟ أو ينتظر؟ قبل: يستحب له العود، وقيل: يلزمه العود، وقيل: يحرم عليه العود، وأما سبق الإمام بأقوال غير تكبيرة الإحرام، فإنه لا يبطل الصلاة، ولا تضر هذه المخالفة والأفضل أن يعيد القراءة مع قراءة الإمام أو بعده.

أما تأخر المأموم عن إمامه بركن واحد، فإنه يبطل الصلاة، فإن تخلف بركنين بطلت، لمنافاته المتابعة، انتهى بتصرف.

ص: 167

37 -

عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال: "إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة".

-[المعنى العام]-

مما لا خلاف في استحبابه قراءة سورة من القرآن بعد الفاتحة، في الأوليين من كل صلاة، جهرا في الجهرية، وسرا في الصلاة السرية، والخلاف في مقدار ما يقرأ، وأي السور أفضل في الصلوات.

ولو تتبعنا قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدناها تختلف اختلافا كبيرا، في الظهر قرأ بالسماء ذات البروج، وبالسماء والطارق وبالليل إذا يغشى، وبسورة لقمان، وبالذاريات في ركعتين، فتراوحت قراءته في ركعة الظهر بين أربع وثلاثين آية، وبين سبع عشرة آية، وفي العصر والمغرب دون ذلك وفي العشاء قرء بسورة "التين" وأمر معاذا أن يقرأ بالشمس وضحاها وفي الفجر قرأ بسورة "المؤمنون" في ركعتين، وقرأ في ركعة بالتكوير وفي الأخرى بإذا زلزلت الأرض.

ص: 168

ولا شك أن هذا الاختلاف دليل جواز الكل، والكلام فيما هو أفضل ولا شك أن طول القراءة أفضل من قصرها، إذا كان منفردا أو إماما لقوم محصورين راضين بالتطويل، بشرط أن لا يضيع وقت الأفضلية للصلاة.

أما الذي يؤم قوما غير محصورين، أو يؤم من لا يرضى بالتطويل فواجبه التخفيف، بالقدر الذي لا يتألم منه المأموم، فإن الإسلام حريص على عدم التنفير من صلاة الجماعة، فهي مهما قلت القراءة فيها أفضل من صلاة الفرد مهما أطال في قراءته، بسبع وعشرين درجة.

ولا يظن الإمام الذي يتعب المأمومين بقراءته أنه بذلك يتقرب إلى الله، بل إنه خالف سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يدخل الصلاة ينوي تطويلها بصحابته رجالا ونساء، فيسمع بكاء الطفل، فيخفف القراءة إشفاقا على أمه.

إن معاذ بن جبل كان يؤم قومه، فحرص على أن ينال من فضل القراءة فأطال، استفتح في صلاة العشاء بسورة البقرة، وخلفه المريض والمتعب من عمل النهار، وصبر المتعب قدر طاقته وهو يظن أن معاذا سيقف عند قريب فلم يقف، ويئس المتعب، فسلم، وصلى منفردا، وانصرف، وصار يتأخر عن الصلاة حتى ينتهي معاذ من صلاته فيصلي وحده، وعلم به معاذ فقال عنه: إنه منافق، وسأله أصحابه: أنافقت يا فلان؟ قال: لا. والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، وشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل معاذ حيث دفعه إلى الصلاة وحده، قال الرجل: إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار فعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ أتفتن الناس؟ وتكره إليهم الإسلام والصلاة؟ اقرأ بالشمس وضحاها، أو بسورة الضحى أو بسورة {والليل إذا يغشى} ولم يسمع أبي بن كعب بهذه الحادثة فأطال في صلاة الصبح، وربما ظن أن الصبح غير العشاء، فالعشاء يحتاج الناس بعدها للنوم، أما الصبح فاستقبالهم لليوم يدعو للحركة والنشاط والرغبة في الخير الكثير، وكانت واقعة حديثنا، وكانت في مسجد قباء فشكا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا ساعئذ لم يغضب مثله من قبل ودعا أبي بن كعب في محضر من الصحابة والأئمة، فقال لهم: إن منكم منفرين، يطيلون

ص: 169

القراءة، أيكم صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف صحيا، والكبير سنا، وابن السبيل وذا الحاجة، يسعى إلى حاجته فإذا صلى أحدكم وحده فليطل في صلاته ما يشاء.

-[المباحث العربية]-

(إني لأتأخر عن صلاة الغداة) أي فلا أحضرها جماعة، وفي رواية "إني لا أكاد أدرك الصلاة" أي لاطمئناني إلى تطويل الإمام أتشاغل عن الإسراع إليه لعدم قدرتي على القيام معه، فتكاد تفوتني الجماعة، أي أتأخر عن صلاة الجماعة من أولها، فكأنه يحضر طرفها، والغداة الصبح، وقد جاء به في رواية "إني لأتأخر عن صلاة الصبح".

(من أجل فلان) المقصود به أبي بن كعب، قال الحافظ ابن حجر: ووهم من فسره بمعاذ، لأن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء، وفي مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح، وفي مسجد قباء.

(مما يطيل بنا)"ما" مصدرية، والمقصود الإطالة في القراءة، والجار والمجرور في موضع بدل اشتمال من "من أجل فلان".

(يومئذ) التنوين عوض عن جملة، أي يوم أخبر بذلك.

(إن منكم منفرين) يقال: نفر ينفر نفورا، إذا نفر وذهب، ونفره بالتشديد إذا دفعه إلى النفور.

(فأيكم ما صلى بالناس) أي فأي واحد منكم، و"ما" زائدة، وفي رواية "أفأيكم أم الناس".

(فليتجوز) اللام لام الأمر، وفي رواية "فليوجز) والتجوز والإيجاز التقليل والتخفيف، وهو ضد الإطناب.

(فإن فيهم) في رواية "فإن من ورائه" وفي رواية "فإن خلفه".

(الضعيف والكبير وذا الحاجة) المراد بالضعيف الذي لا يحتمل، أعم

ص: 170

من أن يكون الضعيف بسبب المرض، أو بسبب في أصل الخلقة، أو بسبب السن فذكر "الكبير" بعده من ذكر الخاص بعد العام. أما ذو الحاجة فالمراد به صاحب المصلحة العاجلة، كالمسافر والعامل، والمشغول بأمر من أموره الداعية إلى الإسراع، وقد ورد بعضها على سبيل التمثيل، ففي رواية "والعابر سبيل" وفي أخرى "والحامل والمرضع" ويمكن جعل الحاجة شاملة لجميع الأعذار.

-[فقه الحديث]-

قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلا بالنسبة لعادة آخرين. اهـ.

وهو كلام مسلم به، لكن أحاديث معاذ أوضحت حدود التخفف بذكر السور.

وظاهر الأحاديث أن تخفيف الصلاة إنما هو لمراعاة حال المأمومين، ومن هنا قال بعضهم: لا يكره التطويل إذا علم رضا المأمومين، واعترض بأن الإمام لو فرض علمه بحال من بدأ الصلاة معه، فإنه لا يعلم حال من قد يأتي فيأثم به بعد، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا، إلا إذا صلى بقوم محصورين راضين بالتطويل، في مكان لا يدخله غيرهم. قاله ابن حجر. والتحقيق أنه حتى في هذه الحالة يكره التطويل، لأنه لا يعلم دخائل من خلفه، من مرض طارئ وانشغال بحاجة طارئة.

من هنا قال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب، لا بالصور النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا، وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق، عملا بالغالب، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

جواز التأخر عن صلاة الجماعة، إذا علم أن من عادة الإمام

ص: 171

التطويل الكثير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف الرجل.

2 -

جواز ذكر الإنسان ببعض ما يؤخذ عليه في معرض الشكوى والاستفتاء.

3 -

الغضب لما ينكر من أمور الدين، وفي الموعظة، وسر الغضب هنا إما مخالفة الموعظة، إن قلنا بسبق وعظ معاذ، وإما لتقصير أبي بن كعب في تعلم ما ينبغي تعلمه، وإما لإرادة الاهتمام بالأمر.

4 -

الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصلحتهم.

5 -

استدل به بعضهم على جواز إطالة الركوع إذا سمع الإمام بحس داخل ليدركه، اعتمادا على أنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز، وهو كلام فيه نظر وتعقب والمشهور الكراهة.

38 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتد قوله في ذلك

ص: 172

حتى قال "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم".

-[المعنى العام]-

ظن الصحابة أن التوجه إلى السماء بالوجه واليدين حين الدعاء مستحسن ومحبوب، لقوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} لأنها -كما قيل -قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فكان بعضهم يرفع رأسه وبصره إلى السماء في الدعاء في الصلاة، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنه ينافي الخشوع والخضوع المطلوب في الصلاة.

ويبدو أن بعض الصحابة خانته يقظته للنهي، فرجع إلى العادة، ورفع بصره إلى السماء بعد النهي المتكرر، مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد، وخيرهم بين الانتهاء عن رفع الأبصار إلى السماء في الدعاء في الصلاة، وبين العمى وخطف الأبصار، فكان هذا التهديد الفظيع كافيا في الانتهاء وامتثال الشرع الحنيف.

-[المباحث العربية]-

(ما بال أقوام) في رواية مسلم "لينتهين أقوام" بفتح اللام والياء وسكون النون وفتح التاء وكسر الهاء وفتح الياء بعدها نون مشددة.

واللام فيه للتأكيد، وهو في جواب قسم مجذوف، وفي رواية للبخاري "لينتهين عن ذلك" بضم الياء وسكون النون وفتح التاء والهاء وضم الياء وتشديد النون، على صيغة المبني للمجهول، وذكر "أقوام" دون ذكر أسماء الفاعلين لئلا ينكسر خاطرهم، كما هي عادته صلى الله عليه وسلم في الستر عند النصيحة.

والبال الشأن، وهو خبر "ما" الاستفهامية.

(يرفعون أبصارهم إلى السماء) الجملة في محل جر صفة "أقوام" والمراد من السماء جهة العلو.

(لينتهين عن ذلك) بفتح الياء وسكون النون وفتح التاء وضم الهاء.

ص: 173

(أو لتخطفن أبصارهم) قال الطيبي: "أو" هنا للتخيير، تهديدا، وهو خبر في معنى الأمر، أي ليكونن منهم الانتهاء من رفع البصر أو خطف الأبصار عند الرفع.

-[فقه الحديث]-

ظاهر الحديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة مطلقا سواء أكان ذلك أثناء الدعاء أم كان عند غير الدعاء، لكن في رواية لمسلم "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء

" مما يقيد النهي بلحظة الدعاء في الصلاة، فإن حملنا المطلق على المقيد كان المقصود من حديثنا النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة أثناء الدعاء فقط، وبهذا قال جماعة، وحكمه عند جمهورهم الكراهة. وإن أبقينا المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده كان رفع البصر إلى السماء مطلقا منهيا عنه، ورفعه في الصلاة حين الدعاء منهيا عنه أيضا بصفة أخص وآكد، وقد نقل الإجماع على ذلك. قال ابن التين: أجمع العلماء على كراهة النظر إلى السماء في الصلاة لهذا الحديث.

وقال القاضي عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة، وذهب ابن حزم إلى أنه لا يحل ذلك بل يحرم، لما ورد من النهي الأكيد والوعيد الشديد، وذلك يقتضي أن يكون حراما، وبه قال قوم من السلف، وبالغ ابن حزم فقال: تفسد صلاته. اهـ

والسؤال الذي يفرض نفسه والحالة هذه أن يقال: إذن فما هي الهيئة المشروعة للنظر أثناء الصلاة؟ وقد أجاب عن ذلك الزين بن المنير فقال: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفاوت كان ذلك من إصلاح صلاته.

وقال ابن بطال: يرى مالك أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة.

وقال الشافعي والحنفية: يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده

ص: 174

لأنه أقرب للخشوع. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا المأموم، إلا إذا احتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. اهـ.

أما إذا أغمض عينيه في الصلاة فقد قال الطحاوي: كرهه أصحابنا، وقال مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة، وقال النووي: المختار أنه لا يكره إذا لم يخف ضررا، لأنه يجمع الخشوع، ويمنع من إرسال البصر، وتفريق الذهن. اهـ.

بقي رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، وقد كرهه شريح وطائفة، فقد قال شريح لرجل رآه يرفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفص بصرك، فإنك لن تراه ولن تناله، والجمهور على جوازه، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة والله أعلم.

39 -

عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع

ص: 175

فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "زادك الله حرصا ولا تعد".

-[المعنى العام]-

علم الصحابة فضل صلاة الجماعة وفضل الدخول فيها من أولها وحرصوا على إدراك الإمام في أكبر قدر ممكن منها، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واسعا، وكانت مسافة بين بابه وبين مكان الصلاة، ودخل أبو بكرة المسجد متوضئا، ورأى أن الصلاة قد أقيمت، وأن الإمام كاد يركع، أو قد ركع بالفعل، فانطلق يجري حتى اضطربت نفسه، ولم ينتظر حتى يصل إلى الصف، ويقف ثابتا فيه ثم يكبر، لكنه كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يصل إلى الصف بخطوات، ثم انحنى وركع وهو بعيد عن الصف، ومشى خطوات منحنيا حتى وصل إلى الصف، وصوت نفسه يتردد ويسمع، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى معه أبو بكرة والصحابة قال صلى الله عليه وسلم: أيكم الساعي؟ أيكم الراكع دون الصف؟ أيكم دخل الصف وهو راكع؟ أيكم صاحب هذا النفس؟ قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله. خشيت أن تفوتني الركعة معك. وكانت أخطاء أبي بكرة ثلاثة. السعي الشديد، والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعا، وكان لابد من نهيه عن مثل هذه الأخطاء وطلب عدم العود، لكن دافعه إلى ذلك محمود مشكور، فكان من الإنصاف الدعاء له بالخير "زادك الله حرصا" على فضيلة الجماعة، ولا تعد لأي من الأخطاء الثلاثة.

-[المباحث العربية]-

(أبو بكرة) كنية لهذا الصحابي واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة من فضلاء الصحابة بالبصرة.

(أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام حذف، أي انتهى إلى صفوف جماعة النبي صلى الله عليه وسلم.

(وهو راكع)"هو" ضمير رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبتدأ، وخبره "راكع"

ص: 176

والجملة في محل نصب على الحال.

(فذكر ذلك) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فمشى راكعا، فدخل الصف فصلى، ففرغ من صلاته، فذكر ذلك إشارة إلى ما فعله من الركوع دون الصف.

(ولا تعد) بفتح التاء وضم العين من العود بمعنى الرجوع. وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم التاء وكسر العين من الإعادة.

-[فقه الحديث]-

ركع الصحابي قبل أن يصل إلى الصف حرصا على إدراك الركعة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولذا لم يزجره، بل دعا له بزيادة الحرص على الخير، سيما وأنه لم يأتي بما يفسد الصلاة، لأن مشيه كان خطوة أو خطوتين. وقال مالك والليث: لا بأس بذلك إذا كان فاعله يصل إلى الصف قبل سجود الإمام وقوله "ولا تعد" يحتمل أن يكون المراد منه: ولا تعد لمثل هذا الانفراد عن الصف، أو لا تعد للتأني والتأخر إلى هذا الوقت، أو لا تعد إلى الإسراع في التحرم، لما روي أنه انطلق يسعى وهو حقن النفس. أو لا تعد إلى المشي وأنت راكع، لتصل إلى الصف لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل عقب انصرافه من الصلاة:"أيكم دخل الصف وهو راكع"؟ فقال أبو بكرة: أنا وكأنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاستفسار لا يرضى عن مثل ذلك، لأن هذا المشي وإن لم يفسد الصلاة فيه تشبيه المصلي نفسه في مشيه راكعا بالبهائم، وذلك لا يليق بحال المصلي.

وفيه إخلال بالخشوع الذي ينبغي للصلاة من أول الدخول فيها.

وقد علم من هذا التقرير أنه لا منافاة بين تصويب الفعل في أول الكلام وتخطئته في آخره بقوله "ولا تعد" لأن كلا منهما محمول على جهة، فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعل، حيث لم يخل بالواجبات والأركان في صلاته، مع شدة حرصه على إدراك الركعة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله له "ولا تعد" فليس تخطئة، لأنه لم يأت بما يفسد الصلاة وإنما هو إرشاد إلى ما هو

ص: 177

أكمل وأليق بالمصلي، حتى يراعي الأفضل في المستقبل، ولو كان نهي تحريم لأمره بالإعادة.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

اعتبار نية المرء وقصده حال الخطأ، وتشجيعه على نية الخير مع تبصيره بالصواب.

2 -

لما كان أبو بكرة قد صلى بعض الركعة خارج الصف، ونهى عن العود أخذ منه كراهية الانفراد عن الصف، وهو مذهب الجمهور "أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد" وذهب إلى التحريم أحمد وإسحاق وابن خزيمة من الشافعية لحديث وابصة "أنه صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة" زاد ابن خزيمة في رواية له "لا صلاة خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة" زاد ابن خزيمة في رواية له "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" وأجاب الجمهور بأن المراد لا صلاة كاملة، لأن من سنة الصلاة مع الإمام اتصال الصفوف وسد الفرج. وقد روى البيهقي من طريق مغيرة فيمن صلى خلف الصف وحده أنه صلى الله عليه وسلم قال "صلاته تامة".

3 -

أنه ينبغي للمصلي الداخل في الجماعة موافقة الإمام على أي حال وجده عليها، وقد ورد الأمر بذلك صريحا في قوله صلى الله عليه وسلم "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحال التي أنا عليها".

ص: 178

40 -

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف".

-[المعنى العام]-

رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى بيت عائشة فوجد عجوزين تناقشان عائشة في عذاب القبر، كانتا من يهود المدينة، وكانتا تخدمان عائشة، وكانتا تستعيذان من عذاب القبر، وكانت عائشة تكذبهما وتقول: أفي القبر عذاب؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافق عائشة على إنكاره حيث لم ينزل بذلك وحي، ويخشى أن يكون الخبر من صنع اليهود لفتنة المؤمنين. ونزل الوحي وهو في المسجد، بأن عذاب القبر حق، ورجع ليجد العجوزين تناقشان عائشة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقيهما يا عائشة لقد أوحي إلي أن عذاب القبر حق.

تقول عائشة: فما رأيته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصلي إلا ويستعيذ في صلاته من عذاب القبر، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستعاذات كما يعلمهم القرآن وكان يرفع بها صوته في الصلاة، لتعليمهم وليقتدوا به، كان يقول لهم: استعيذوا بالله في صلاتكم بعد نهاية التشهد الأخير، وقبل السلام، من أربع: عذاب القبر، ومن فتنة وامتحان نزول المسيح الدجال، وممن فتنة الحياة وزينتها وزخارف الدنيا وملذاتها وشهواتها، ومن فتنة الممات والخاتمة وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أمام أصحابه من الاستعاذة من المأثم والمغرم، أي من الإثم والعصيان ومن غلبة الدين والغرامات المالية، التي لا يقدر على أدائها. فقيل له: يا رسول الله. ما أكثر ما تستعيذ من المغرم. فما خطره الذي أزعجك حتى أكثرت من الاستعاذة منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن المغرم باب شر كبير، لأن الرجل إذا

ص: 179

غرم ولم يستطع الأداء اختلق لصاحب الحق الأكاذيب، ووعد أن يوفي الدين في يوم كذا ثم لا يوفي، فيورث المغرم شعبتين من شعب المنافقين، الكذب وخلف الوعد، وما أقبح هاتين الرذيلتين! ! وما أقبح من يتصف بهما.

وهكذا علم الرسول الكريم أمته دعاء يقيهم الشرور في الدنيا والآخرة. صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

-[المباحث العربية]-

(كان يدعو في الصلاة) لم تحدد هذه الرواية في أي موضع من الصلاة كانت الاستعاذة، لكن الروايات الأخرى الصحيحة صرحت بأن موضعها بعد الفراغ من التشهد وقبل السلام.

(اللهم إني أعوذ بك) أي ألجأ إليك طالبا الحصانة والحماية.

(من عذاب القبر) أضيف العذاب إلى القبر، مع أن من لم يقبر من الموتى يعذب أو ينعم في وضعه الذي صار إليه بعد الموت، لأن الغالب على الموتى أن يقبروا.

(وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف الحال المكروه. اهـ، وفي بعض الروايات "من شر فتنة المسيح الدجال" والمسيح بتخفيف السين المكسورة بعد الميم المفتوحة يطلق على الدجال، وعلى عيسى عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، وقيل: إن أريد الدجال شددت السين المكسورة، وإن أريد عيسى خففت. والمشهور الأول. وأصل الإطلاق بتخفيف السين لمسحه الأرض، وأما بتشديدها فلكونه ممسوح العين، وحكى بعضهم أنه بالخاء في الدجال، أما إطلاق المسيح على عيسى عليه السلام فلأنه -كما قيل -كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو لأنه كان يمسح الأرض بسياحته، أو لأن رجله لا أخمص لها، أو للبسه المسموح، أو أن أصل الكلمة بالعبرانية ما شخا فعربت إلى المسيح، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر.

ص: 180

(وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) المحيا والممات مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت، ويحتمل زمان ذلك، أي الفتنة زمن الحياة، من شهوات الدنيا والجهالات، والفتنة زمن الاحتضار من سوء الخاتمة والعياذ بالله.

(اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) أي من الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة، أي أعوذ بك من الوقوع في الذنب و"المغرم" الدين، يقال: غرم الرجل بكسر الراء، إذا استدان فيما لا يجوز، وفيما يجوز، ثم يعجز عن الأداء، فالاستعاذة من غلبة الدين، وقيل: المغرم ما يصيب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذا ما يلزمه أداؤه من غير جناية منه.

(ما أكثر ما تستعيذ من المغرم)"ما" الأولى تعجبية، و"ما" الثانية مصدرية أي ما أكثر استعاذتك من المغرم.

-[فقه الحديث]-

اختلف العلماء في عذاب القبر، هل يقع على الروح فقط، أو عليها وعلى الجسد؟ أو على الجسد وحده؟ جمهور العلماء أنه يقع على الروح والجسد واستدلوا بالحديث "إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم" وبحديث "إنه ليسمع خفق نعالهم" وحديث "تختلف أضلاعه لضمة القبر" وحديث "يضرب بين أذنيه" وحديث "فيقعدانه" مما يدل على عذاب الروح والجسد، فإن عذاب الروح وحده لا يسمع، وما ذكر من التعذيب من صفات الأجساد.

وعذاب القبر ثابت بهذه الأحاديث وغيرها، ويستدل له بقوله تعالى {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} إذ يفيد أن الضرب يعقب الوفاة، وبقوله تعالى عن آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}

وأنكر الخوارج وبعض المعتزلة عذاب القبر مطلقا، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، والأحاديث صريحة في أنه يقع على المؤمنين والكفار من أمتنا ومن الأمم السابقة.

ص: 181

وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود إلى الجسد، حملهم على هذا أن الميت قد يشاهد في قبره حال المساءلة ولا أثر فيه من إقعاد أو ضرب أو ضيق أو سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب، والجواب عن ذلك أن ذلك غير ممتنع في القدرة، والخطأ من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله.

والاستعاذة الواردة مستحبة بعد التشهد وقبل السلام، وليست بواجبة وأفرط ابن حزم، فقال بوجوبها في التشهد الأول والثاني.

وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم واستعاذته مما ذكر بأنه معصوم ومغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأجيب عن ذلك بأجوبة. منها أنه قصد تعليم الأمة أو أن دعاءه واستعاذته لأمته، فيكون المعنى أعوذ بك لأمتي، أو أنه سلك بذلك طريق التواضع وإظهار العبودية، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك.

أما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحقق أنه لا يدركه فعلى الجوابين الأولين لا إشكال، أما على الثالث فقيل: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله في حديث رواه مسلم "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه" قال البدر العيني: وفائدة استعاذته من المسيح الدجال أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل، أنه كذاب، مبطل، مغتر، ساع على وجه الأرض بالفساد، مموه ساحر، حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه.

وقد اختلف العلماء فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد: لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة، أو الموافقة للقرآن الكريم لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".

وقال مالك والشافعي: يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري "ثم يتخير

ص: 182

من الدعاء أعجبه إليه" وفي رواية "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب".

ولا شك أن الدعاء بالمأثور وبأمور الآخرة أولى وأفضل، والخلاف في الجواز وعدم الجواز وبطلان الصلاة وعدم بطلان الصلاة.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

إثبات عذاب القبر.

2 -

إثبات المسيح الدجال وأنه سيخرج في آخر الزمان، وأنه فتنة وشر.

3 -

الالتجاء إلى الله تعالى، والاستعاذة به من جميع الشرور الدنيوية والأخروية.

4 -

بشاعة الدين، والتنفير منه، لما يؤدي إليه من الكذب والخلف بالوعد عند العجز.

5 -

الاستعاذة بالله من الإثم والعصيان.

6 -

استحباب الدعاء في آخر الصلاة.

7 -

كمال شفقته صلى الله عليه وسلم وكمال حرصه على ما ينفع أمته.

ص: 183

41 -

عن زيد بن خالد الجهني صلى الله عليه وسلم قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب".

-[المعنى العام]-

كان العرب يعيشون في السحراء، يستضيئون في ليلهم بقمرها ويسترشدون في أسفارهم وأحوالهم بنجومها، كما حكى عنهم القرآن الكريم بقوله {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وكان من تتبعهم لحركات النجوم أن رصدوا ثمانية وعشرين نجما -وهي المسماة بمنازل القمر -فعرفوا أن كل نجم منها يعيش ثلاثة عشر يوما تقريبا، ثم يسقط في المغرب، ويطلع نجم بدله من المشرق، فسموا هذه النجوم بأسماء.

وثبت لهم من تجاربهم وملاحظاتهم أن المطر كثيرا ما يغيثهم إذا غاب نجم كذا، أو طلع نجم كذا، وارتبط في نفوسهم نزول المطر بمطالع بعض النجوم وبمرور الزمن، وبزحف من الوثنية على معتقداتهم، ظنوا أن هذه النجوم هي التي تسقط المطر، ونسبوا الفضل في المطر إليها، ونسوا الله تعالى صاحب

ص: 184

النعمة، فقالوا: مطرنا بنجم كذا، والفضل في المطر لكوكب كذا.

وجاء الإسلام المحطم للوثنية، المطهر للنفوس من العقائد الفاسدة، الموجه لعبادة الله وحده، فلفت نظرهم مرارا إلى أنه جل شأنه هو الذي يسير الرياح فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء، فيجعله قطعا متراكمة، تثير بسرعة جريها واحتكاكها الرعد والبرق {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}

وكان من الحكمة أن تبلغ التشريعات الإلهية للأمة في مناسبات، لتربط الأحكام بالوقائع، فتستقر في النفس وتتمكن منها، ولا يسهل نسيانها.

لهذا ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في ليلة من ليالي القحط، وفي صحراء الحديبية حين اشتد العطش بالمسلمين وبدوابهم، وحين ساق الله تعالى إليهم سحابة مليئة، أمطرت عليهم غيثا مغيثا، فشربوا وسقوا وأصبحوا فرحين مستبشرين، وصلوا الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم من الصلاة أقبل عليهم يذكرهم بنعمة الله، ويوجههم إلى شكرها، ويستأصل من نفوس ضعفائهم رواسب الجاهلية الأولى، فقال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم اليوم؟ قال تعالى في الحديث القدسي: أصبح فريق من عبادي مؤمنا بي، يسند نعمي إلي، كافرا بالكواكب، لا يسند إليها ما ليس منها يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، فله الحمد وله الشكر، وأصبح فريق من عبادي كافر بي، يجحد نعمائي، ويسند نعمي إلى غيري، ويجعل جزائي على رزقي إياه تكذيبا لي، ويعتقد أن النجوم صاحبة الفضل في رزقه، فيقول: مطرنا بفضل نجم كذا، ومطرنا بتأثير كوكب كذا، فيجحدني ويشكرها وينساني ويذكرها، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.

-[المباحث العربية]-

(صلى لنا رسول الله) اللام بمعنى الباء، أي صلى بنا.

ص: 185

(بالحديبية) تخفف ياؤها وتشدد، والتخفيف هو المختار، يقال: حدب الرجل إذا خرج ظهره، ودخل صدره وبطنه، والأحدب من الأرض الغليظ المرتفع، والحديبية مكان، أو قرية صغيرة، سميت باسم بئر أو شجرة حدباء وهي على تسعة أميال من مكة.

(على إثر سماء كانت من الليل)"إثر" بكسر الهمزة وسكون الثاء، وبفتح الهمزة والثاء، وهو ما يعقب الشيء، والسماء المطر، وأطلق عليه "سماء" لكونه من جهة السماء، والمعنى صلى بنا الصبح عقب مطر نزل في الليل.

(فلما انصرف) أي من الصلاة، أو من مكان الصلاة.

(أقبل على الناس) أي اتجه إليهم بوجهه بعد أن كانوا خلفه في الصلاة والمراد من الناس الصحابة الذين كانوا معه.

(هل تدرون ماذا قال ربكم؟ )"ماذا" في محل مفعول "قال" وقد علقت "تدرون" عن العمل، والاستفهام للتنبيه، وليس على حقيقته من طلب الفهم لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يدرون، والتعبير بلفظ الرب، وإضافته إلى ضمير المخاطبين، للإشعار بالفضل والمنة. أي مربيكم وصاحب الفضل عليكم بالمطر.

(الله ورسوله أعلم)"أعلم" أفعل تفضيل ليس على بابه، إذ لا علم عندهم.

(أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) أي وكافر بي، حذف الجار والمجرور للعلم به مما قبله، والمراد من عباده عموم الناس، وليسوا عباد الرحمن المتشرفين بإضافتهم إليه، لتقسيمهم إلى مؤمن وكافر.

(مطرنا بنوء كذا وكذا) النوء في الأصل ليس النجم، فإنه مصدر ناء النجم ينوء، إذا سقط وغاب، وقيل: إذا نهض وطلع، لكن المراد منه هنا النجم تسمية للفاعل بالمصدر.

ص: 186

-[فقه الحديث]-

يطلق الكفر شرعا ويراد به سلب أصل الإيمان، والخروج عن ملة الإسلام ويطلق ويراد به كفر النعمة وجحودها. وبعض روايات حديثنا تميل إلى الإطلاق الأول، كروايتنا "فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب" وكرواية أحمد "يكون الناس مجدبين، فينزل الله عليهم رزقا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين، يقولون: مطرنا بنوء كذا".

وبعض روايات حديثنا تميل إلى الإطلاق الثاني، كروايتي مسلم "ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب وبالكواكب". "ما أنزل الله من السماء من بركة، إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث فيقولون: الكواكب كذا وكذا" فقوله "بها" يدل على أنه كفر بالنعمة.

وعلى هذا ينبغي أن يقال: إن من قال: مطرنا بنوء كذا معتقدا أن الكوكب فاعل، مدبر، منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية بزعم فهو كافر، خارج عن الملة، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة، فهذا لا يكفر، وإن كره هذا القول لأنها كلمة ترددت بين الكفر وغيره. والله أعلم.

ص: 187

42 -

عن عقبة رضي الله عنه قال: "صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته".

-[المعنى العام]-

كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يمكث في مكانه بعد السلام من صلاة الجماعة بعض الوقت، حتى لا يقوم الرجال إلى أن ينصرف النساء المصليات، وذلك خشية اختلاط الرجال بالنساء في الطريق.

لكن هذه العادة تغيرت يوما، حين سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من صلاة العصر، فقام من مصلاه مسرعا، يتخطى رقاب المصلين قبل أن يقوموا متجها نحو بيته، أحد بيوت أمهات المؤمنين، وتعلق نظر الصحابة به صلى الله عليه وسلم وهو يسرع، وبمنزله حين دخل، ولم يمض إلا قليل من الوقت، حتى خرج إليهم يعلم قلقهم وفزعهم من هذا التصرف غير المعتاد، ويحرص على طمأنتهم وإزالة قلقهم، عاد إليهم ليوضح سر فزعه وإسراعه، وليحثهم على أن يقتدوا به، لكنهم ما رأوه حتى بادروه بالسؤال، قبل أن يوضح لهم، إنهم عجلون يخشون أن يكون في إسراعه خطر عليهم، أو أن يكون من أجل وحي يؤاخذهم عن فعل، ويسيئهم، ثم إنهم لا يصبرون على قلق، يدفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا التصرف، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه مع قربه من ربه أخشى الناس لله، وأتقاهم له، إنه أخر واجبا يقدر على أدائه دون التأخير، إنه نسي أن يوزع شيئا من مال الصدقة، قبل أن يخرج للصلاة، لقد ترك تبر الصدقة في بيته، وجاء للصلاة، ما جوابه لربه لو توفاه الساعة وسأله: لماذا أخرت حقوق الفقراء والمساكين؟ لقد تذكره في الصلاة فأخذ يفكر فيه

ص: 188

وشغل عن إتمام الخشوع، فكان لزاما عليه أن يبادر بأداء هذا الواجب فور القدرة والتمكن من أدائه، فدخل بيته وأمر بتوزيعه على فلان وفلان، ثم عاد يزيل القلق، ويرفع التعجب، ويهدئ خواطر أصحابه صلى الله عليه وسلم.

-[المباحث العربية]-

(فسلم ثم قام)"ثم" عطفت "قام" على "سلم" وليست مفيدة للتراخي، بل بمعنى الفاء، وقرينة ذلك قوله "مسرعا" ويؤيده رواية "فسلم فقام" يعني أن قيامه كان عقب تسليمه من الصلاة مباشرة، أو يقال: إن "ثم" للتراخي الزمني وهو أمر نسبي، وكذلك الإسراع أمر نسبي، فهو تراخ وإسراع.

(يتخطى رقاب الناس) أي يمر بينهم وهم جلوس، والجملة في محل نصب على الحال.

(ففزع الناس) أي خافوا، وكانت تلك عاداتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه، خشية أن ينزل فيهم شيء يسوؤهم.

(فرأى أنهم عجبوا من سرعته) أي فعلم أنهم عجبوا، وطريق العلم ما ورد في بعض الروايات "فقلت" أو "فقيل له".

(ذكرت) أي تذكرت فهو من الذكر بالضم، ويؤيد هذا رواية "ذكرت" بضم الذال وتشديد الكاف وكسرها.

(شيئا من تبر) التبر الذهب غير المضروب، وقيل: ذهب أو فضة أو جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ، وفي رواية "تبرا من الصدقة".

(فكرهت أن يحبسني) يشغلني التفكير فيه عن كمال التوجه والإقبال على الله تعالى، فالفعل "يحبسني" مراد به الماضي أي فكرهت أن حبسني أو كرهت أن يمنعني ويقيدني في الموقف يوم القيامة، حبس سؤال، والكراهة هنا معناها الخوف.

-[فقه الحديث]-

ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب "من صلى بالناس فذكر حاجة

ص: 189

فتخطاهم"، عقب باب "مكث الإمام في مصلاه بعد السلام" أي أن المكث المذكور محله ما إذا لم يعرض أمر مهم، يحتاج معه إلى القيام. وقد سارع النبي بعد فراغه من صلاته إلى قسمة المال بنفسه، كما ورد في رواية أبي عاصم "فقسمته" أو أمر بتقسيمه وتوزيعه، كما في الرواية التي معنا.

-[ويستفاد من هذا الحديث أمور: ]-

1 -

إباحة التخطي لرقاب الناس للحاجة التي لا غنى عنها، كرعاف وحرقة بول، وما أشبه ذلك.

2 -

جواز السرعة للحاجة المهمة، وأن من وجب عليه فرض فالأفضل مبادرته إليه.

3 -

أن عروض التفكير أثناء الصلاة في أمر أجنبي عنها لا يفسدها ولا ينقص من كمالها، وهذا المأخذ معتمد على أن تذكر التبر كان في الصلاة ويؤيده رواية "ذكرت وأنا في الصلاة".

4 -

جواز إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة من وجوه الخير وذلك لا يبطل ولا ينقص من كمالها.

5 -

جواز الإنابة للغير في فعل الخير مع القدرة على المباشرة، أخذا من رواية "فأمرت بقسمته"، أما رواية "فقسمته" فيؤخذ منها إطلاق الفعل على ما يأمر به الإنسان.

6 -

استنبط منه ابن بطال أن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة في الموقف، لقوله صلى الله عليه وسلم "فكرهت أن يحبسني" أي يمنعني في الآخرة.

7 -

أن المصلي ينبغي أن يتخلص من كل ما يشغل قلبه عن كمال التوجه والإقبال على الله، وذلك من قوله أيضا "فكرهت أن يحبسني" أي يشغلني التفكير فيه عن كمال الصلاة.

8 -

أن على الإمام أن يقطع الوسواس، ويزيل الشكوك وأسباب الخوف عمن حوله، إذا رأوه غير المألوف لهم.

ص: 190

9 -

فيه أن المكث بعد الصلاة ليس بواجب، وأن حديث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث في مكانه يسيرا" إنما كان لينصرف النساء دون اختلاط الرجال بهم ومقتضاه أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب لهم هذا المكث وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة:"إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

ثم إن المكث المشروع لا يتقيد بحال، من ذكر، أو دعاء، أو تعليم، أو صلاة نافلة. قال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إن كانت مما يتطوع بعدها فعند الأكثرين أن يتشاغل بالذكر المأثور ثم يتطوع، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع، وإن كانت الصلاة مما لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعين له مكان بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا، وإن شاءوا مكثوا. انتهى بتصرف.

ص: 191