الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب العلم
8 -
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
-[المعنى العام]-
كان المسجد النبوي بالمدينة المدرسة الأولى في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس فيه في أوقات الفراغ، يجتمع مع أصحابه، يقرأ عليهم ما ينزل من القرآن ويعلمهم أمور دينهم، ويتخولهم بين الحين والحين بالموعظة والرقاق والآداب. وكان المسجد مطروقا بين طريقين، وجزؤه غير المسقوف يصل بين جهتين بدون أبواب، فكان بعض الناس يمر به إذا انتقل من الجهة إلى الأخرى وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بالمسجد، دخل ثلاثة من الرجال ** دخلوا يمرون في طريقهم إلى الجهة الأخرى، فلما وصلوا عند الحلقة، رغب أحدهم في الجلوس، فوجد في الحلقة مكانا خاليا يكفيه، فجلس فيه، وتردد الثاني في الجلوس، إن له مصلحة خرج يقضيها، أيذهب إليها؟ ويستمر في مشيه؟ أم يجلس كما جلس صاحبه؟ وبعد خطوات بعد
بها عن الحلقة استحيا من نفسه، واستحيا أن يعاب من صاحبه ومن الصحابة الجالسين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد فجلس خلف الحلقة، حيث لم يجد فرجة كما وجد الأول، وأما الثالث فلم يتردد في الانصراف إلى مصلحته، والإعراض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النفر الثلاثة، ورآهم الجالسون في الحلقة، وثارت في نفوسهم تساؤلات عن حكم الشريعة فيهم فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من عظته قال: أخبركم عن النفر الثلاثة الذين رأيتموهم؟ أما الأول فقد لجأ إلى الله، وإلى العلم، فاحتضنه الله برعايته ورضوانه، وأما الثاني فقد غلبه الحياء، فنال رحمة الله وعفوه، وأما الثالث فاستغنى فاستغنى الله عنه، ومن يستغن الله عنه فقد حرم الخير كله، وكان من المغضوب عليهم والآثمين المطرودين.
-[المباحث العربية]-
(بينما هو جالس) يعظ الناس ويعلمهم، و"بينما" أصله "بين" ظرف زمان زيدت عليه "ما" وقد تزداد الألف، فيقال "بينا" وهو ملازم للإضافة إلى جملة ويحتاج إلى جواب هو العامل فيه، إذا لم يكن في الجملة لفظ المفاجأة فإن وجد فالعامل معنى المفاجأة.
(والناس معه) الجملة في محل نصب حال من الضمير في "جالس".
(إذ أقبل ثلاثة نفر)"إذ" فجائية، ومعناها هو عامل النصب في "بين" والتقدير فاجأه ثلاثة نفر بين هو جالس، أي وقت جلوسه، والنفر بفتح النون والفاء اسم جمع، لهذا وقع تمييزا لجمع، ويطلق على جماعة من الرجال ليس فيهم امرأة، ويقع على العدد من ثلاثة إلى عشرة، والإضافة بيانية، إضافة تمييز مبين، أي ثلاثة هم نفر. وكان إقبالهم من باب المسجد مارين بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان للمسجد بابان متقابلان يمر به المارة ويطرقونه كالشارع.
(فأقبل اثنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقبال آخر غير الأول، والمقصود منه هنا توجههما إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أنس "فإذا ثلاثة نفر
يمرون فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا".
(فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام مضاف محذوف، أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو "على" بمعنى "عند".
(فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة)"أما" حرف تفصيل، تجب الفاء في تلو تاليه "فرأى" و"الفرجة" بضم الفاء وفتحها هي الخلاء بين الشيئين و"الحلقة" بإسكان اللام وحكي فتحها، كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتح الحاء واللام.
(وأما الآخر فجلس خلفهم) ضمير الجمع للحلقة باعتبار مكونيها من الصحابة.
(وأما الثالث فأدبر ذاهبا)"ذاهبا" حال مؤكدة، حيث إن المراد من الإدبار الذهاب، وقيل المراد من الإدبار هنا الإعراض عن المجلس، فذاهبا حال مؤسسة، وقيل معنى "ذاهبا" مستمرا في ذهابه، فتكون حالا مؤسسة أيضا
(فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من موضوع عظته ودرسه.
(ألا أخبركم عن النفر الثلاثة)"ألا" هي همزة الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، دخلت على "لا" النافية، ونفي النفي إثبات، فآل المعنى إلى: أخبركم عن النفر الثلاثة، وفائدتها على هذا التنبيه إلى أهمية ما بعدها. وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن أحوال النفر الثلاثة.
(فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني، وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن {إذ أوى الفتية إلى الكهف} بالقصر و {وآويناهما إلى ربوة} بالمد، وحكي في اللغة القصر والمد معا فيهما. ومعنى "أوى إلى الله" لجأ إلى الله، أو في الكلام مضافان محذوفان أي لجأ أو انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى "فآواه الله" أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إليه ورحمه ورضي عنه.
(وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه) أي لم يفعل كما فعل زميله الأول فترك المزاحمة حياء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، أو المراد أنه لم يفعل كما فعل زميله الثالث أي استحيا من الذهاب عن المجلس، يشير إلى هذا المعنى رواية الحاكم ولفظها "ومضى الثاني قليلا، ثم جاء فجلس".
(وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) أي أعرض عن مجلس العلم وانصرف عنه، فعامله الله تعالى وجزاه على إساءته إعراضا عنه، وصرفا لرحمته ورضوانه عنه، والإعراض في الأصل انصراف النفس عن الشيء وعدم التوجه إليه، ففي الكلام مشاكلة ومقابلة، كقوله تعالى {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وقد وصف إعراض الله تعالى في حديث "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
…
" الحديث. فالمراد من الإعراض الإهمال، وعدم الإحسان.
-[فقه الحديث]-
لم يتعرض الحديث بالنسبة للذين جلسا في مجلس العلم إلى تسليمهما، هل سلما؟ فرد عليهما السلام؟ أو لم يسلما؟ ولا إلى أنهما صليا تحية المسجد أو لم يصليا؟ وقد تناول العلماء هاتين النقطتين بالتأويل والتوجيه، فقيل: لعلهما سلما، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة السلام، أو أنهما سلما، ولم يرد أحد عليهما، لأن المشتغل بالعلم، المستغرق في العبادة لا يجب عليه الرد ولم ينقل إلينا هذا أو ذلك لشهرته، وعدم الحاجة إلى الإخبار به، وقيل: لعلهما لم يسلما اعتمادا على عدم مشروعية السلام على المشتغل بالعلم. وعلى كلا الجوابين لا مؤاخذة عليهما. إذ لو أتيا ما يلامان عليه لنبههما صلى الله عليه وسلم وعلمهما، فلا وجه لهذا الإشكال أساسا، أما الإشكال الثاني فقد قيل: لعلهما كانا على غير وضوء، ورد بأنه لو كان كذلك لنبههما صلى الله عليه وسلم فاعتذرا ولم ينقل إلينا شيء من ذلك، وقيل: لعل دخولهما كان في وقت كراهة التنفل، ويرده الشافعية بأن تحية المسجد لا تكره في أي وقت، وقيل: لعلهما صليا، ولم ينقل إلينا لاهتمام الرواة بغير ذلك من القصة،
وعلى كل لم يثبت أنهما أتيا ما يلامان عليه، فليس في الحديث دليل على إثبات حكم، أو نفيه، لأن ما سكت عنه الراوي لا يستدل به على نفي أو إثبات. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
اتخاذ المسجد مكانا لدراسة العلم والوعظ.
2 -
استحباب التحليق في دروس العلم ومجالس الذكر، لأن ذلك أدعى إلى القرب من المعلم والقائد.
3 -
وأن من سبق إلى مكان في الحلقة أو في المسجد كان أحق به.
4 -
استحباب القرب من المعلم للتبرك، وللمناقشة، وللتمكن من السماع.
5 -
سد الخلل والفرجة في حلقة العلم، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة.
6 -
جواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي، كما فعل الثاني، قاله الحافظ ابن حجر، والتحقيق أن الحديث لا يشير إلى ذلك، وإن كان هذا الحكم صحيحا، فقد تكون الفرجة في الحلقة الخارجية إن كانت هناك حلقات، على أن ظاهر الحديث أنها كانت حلقة واحدة، وإلا لقال "فرأى فرجة في إحدى الحلقات
…
".
7 -
وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. قاله الحافظ ابن حجر أيضا. وليس في الحديث إشارة إلى المزاحمة.
8 -
فضيلة الاستحياء من الانصراف عن باب الخير ودرس العلم، أو من المزاحمة في الحلقات، والثناء على المستحي.
9 -
استحباب الجلوس حيث ينتهي المجلس.
10 -
ذم من سنحت له فرصة الخير والعلم فانصرف عنها، وهو
محمول على فعل ذلك بدون عذر.
11 -
جواز الدعاء على المذنب بسخط الله، وهذا على أن قوله:"فأعرض الله عنه" خبر لفظا، إنشاء ودعاء معنى، وعلى أنه كان مسلما معرضا بغير عذر، والأولى أن يقال: إنه كان منافقا، أو أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمره أما المسلم فلا يدعي عليه.
12 -
جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها، وأن ذلك لا يعد من الغيبة.
13 -
الثناء على من فعل جميلا.
14 -
وابتداء العالم جلساءه بما يزيل عنهم الشبهات ويوضح لهم أسرار الوقائع.
9 -
عن ابن شهاب قال قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيبا يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
-[المعنى العام]-
بينما كان صلى الله عليه وسلم يوزع الصدقات والأعطيات على مستحقيها اعترض أحدهم على القسمة، فقال: اعدل يا رسول الله. قال: ويحك؟ من يعدل إذا لم أعدل؟ تفقه يا هذا في دينك، وتعلم قواعد شريعتك، وتفهم أحكام الإسلام، والرضا بما حكم نبيه، ومن لم يتفقه في الدين حرم الخير، ولم يبال الله به، وإن من فقه الدين أن تعلم يا هذا أن الله هو المعطي، هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، إنه على كل شيء قدير، وإن من الدين أن تعلم يا هذا أنني ما أنا إلا قاسم وموزع ومناول، ما أنا إلا أداة منفذة لإرادة الله، وإرادة الله فوق كل شيء، وهو الذي يعطي، تعلم يا هذا فقه الدين، واسلك طريق من أراد اللهم بهم خيرا، فهم قناديل منيرة في كل عصر، يبقون على الحق ما بقي الزمان، لا يطفئهم أعداء الله، ولا يضرهم العتاة، حتى يأتي أمر الله، وتقوم الساعة.
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
-[المباحث العربية]-
(عن معاوية بن أبي سفيان) أصل السند في البخاري: قال حميد بن
عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبا يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) قال الزمخشري: تقول: سمعت رجلا يقول كذا، فتوقع السمع على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفت الرجل بما يسمع، في مثل: سمعت رجلا يقول كذا، أو جعلت ما يسمع حالا من الرجل إذا كان معرفة، كما في "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فأغناك الوصف أو الحال عن ذكر المسموع وهو القول، ولولا الوصف أو الحال لم يكن بد من أن يقال: سمعت قول فلان
…
إلخ. انتهى بتصرف.
(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)"يفقهه" بسكون الهاء، مجزوم جوابا للشرط، أي يفهمه، يقال: فقه بضم القاف إذا صار فقيها والفقه سجية له، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر إذا فهم.
وفقهه الله، صيره وجعله يفهم، ويسابق في الفهم، ويصبح الفهم سجية وملكة له، ولما كان الفقه في اللغة يشمل الفهم في أي من الأمور، دنيوية أو أخروية خصه هنا بالفهم في الدين، أي فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان في العقائد، أو الأحكام الفرعية، أو مطلق التفسير أو مطلق الحديث أو الآداب، وهو المراد من الخير الخير الأخروي، ونكر "خيرا" ليشمل القليل والكثير، بناء على أن التفقه في الدين موزع يزيد وينقص على مختلف الفقهاء.
(وإنما أنا قاسم، والله عز وجل يعطي)"إنما" أداة قصر، وهو هنا من قصر الموصوف على صفة، وهو غير حقيقي بل إضافي، قصر قلب لمن يعتقد أنه معط فقط، وقصر إفراد لمن يعتقد أنه قاسم ومعط، أي أنا قاسم ولست معطيا أي ما أنا إلا واسطة مناولة وتوصيل، والعطاء الحقيقي كله من الله. والمقسوم والمعطي محذوف للتعميم، أي كل ما أوصله ليس لي فيه إلا المناولة وقصر المقسوم والمعطي على مال الفيء والصدقة مراعاة لسبب ورود الحديث أو قصره على الموحي به وتبليغه مراعاة لصدر الحديث "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقصره على هذا أو ذاك تضييق لواسع. لكن أيا من هذين الأمرين يصلح وجه ارتباط بين هذه الجملة وبين صدر
الحديث، وعبر بالمضارع بدل اسم الفاعل في "يعطي" لإفادة التجدد والحدوث وتوالي النعم والعطاء، وجملتا "عز وجل" معترضتان بين المبتدأ والخبر للتنزيه والتقديس.
(ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله) أي على دين الله وفقهه، والمراد بالأمة أمة الإجابة، وتصدق ببعض أفرادها، وما يقوم به بعضها يستند وينسب إليها، أي وسيظل بعض أفراد هذه الأمة متفقهين في دين الله. أما من هم المقصودون بهذا البعض؟ فآراء، تأتي في فقه الحديث. وأما علاقة هذه الجملة بما قبلها فهي رفع إيهام أن الخير والتفقه في الدين مرتبط بزمن أو قرون.
(لا يضرهم من خالفهم) أي لا يثنيهم وعد أو وعيد عن قيامهم على دين الله، وجهرهم بالحق، وصلابتهم فيه.
(حتى يأتي أمر الله) أي قيام الساعة. أي إلى نهاية الدنيا، وبعدها يكون الحكم لله وحده، والأمر لله وحده، ولا تكليف، فلا وجه للاستشكال بأن ما بعد "حتى" يخالف ما قبلها، فيترتب عليه أن هذه الأمة بعد قيام الساعة لا تقوم على أمر الله، أو يضرها حينئذ من خالفها، وقيل: إن لفظ الغاية قصد به التأبيد، كقوله تعالى {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي قائمين على دين الله أبدا، أو لا يضرهم من خالفهم أبدا وقيل: المراد من أمر الله الثاني فتنة الدجال، فما بعد الغاية يخالف ما قبلها وأحسن التوجيهات هو الأول.
-[فقه الحديث]-
إذا كان الحديث قد سيق إثر اعتراض أحد الصحابة على عطاء أعطيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما كان يطمع، أو اعتراضه على تقسيم الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الفيء والصدقات، وأنه أريد به إلزام المعترض بالتسليم، وإرشاده إلى الاستزاد من التفقه في دين الله، ليعلم أن الإيمان الحقيقي في قبول ما جاء وما يجئ به محمد صلى الله عليه وسلم وأن (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، وتوجيهه إلى
فهم قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}
وإذا كان هذا هو المورد فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن التفقه في الدين خير، قال الحافظ: ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين ويعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير.
2 -
أن التفقه في الدين لا يكون بالاكتساب فقط، بل بالاكتساب لمن يفتح الله عليه به.
3 -
أن من يفتح الله عليه بذلك سيبقى جنسه موجودا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي نوعية هذا الجنس قال بعضهم: هم أهل العلم بالقرآن والحديث والآثار، وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ وقال القاضي عياض: أراد أحمد: أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، وهذا توجيه حسن، ووسع الإمام النووي الدائرة فقال: يحتمل أن تكون هذه الطائفة من أنواع المؤمنين، ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد ومن زاهد، ومن آمر بالمعروف، ومن فقيه ومحدث وغير ذلك من أنواع الخير، ومن حيث اجتماع هذه الطائفة في مكان قال: ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين. اهـ.
وفي استمرار هذا النوع إلى قيام الساعة كلام كثير استدعاه أحاديث صحيحة، منها "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة، كحفالة الشعير أو التمر (أي ما يتساقط من قشور الشعير والتمر) لا يبالهم الله باله". تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز (أي يركب بعضهم بعضا) على أولئك تقوم الساعة". "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر
فيهم السمن" وفيه "يبعث الله ريحا طيبة، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان".
هذه الأحاديث في البخاري ومسلم، ويتعارض ظاهرها مع حديثنا، قال الحافظ ابن حجر: وجدت في هذا مناظرة. أخرج الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك".
فقال عبد الله: أجل "ويبعث الله ريحا، ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة".
قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا فالمراد من قوله في حديث عقبة "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. اهـ
ويمكن في حديثنا حمل قوله "حتى يأتي أمر الله" على معنى: حتى يأتي أمر الله بهذه الريح فتقبضهم" والله أعلم.
4 -
وفي الحديث بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس.
5 -
ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم.
6 -
أخذ منه بعضهم دليلا على حجية الإجماع، لأن مفهومه أن الحق لا يعدو هذه الأمة.
7 -
استدل به البعض على امتناع خلو أي عصر عن مجتهد.
8 -
فيه أدبه صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته، حيث لم يغلظ القول لمن اعترض عليه بل وجهه برفق إلى تعلم الدين.
9 -
وفيه اعترافه بأن المعطي لكل شيء هو الله تعالى وأن الإنسان ما هو إلا واسطة.
10 -
وفيه إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وما يكون في آخر الزمان والله أعلم.