الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
17 -
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر".
-[المعنى العام]-
السفر قطعة من العذاب، كثير المشاق مهما تيسرت وسائله، فيه فراق الأهل والوطن والمعارف، وفيه ترك الأموال والممتلكات، وفيه يصبح الإنسان غريبا، عرضة للأخطار.
لهذه المشاق الجسيمة والنفسية خفف الله عن الأمة الإسلامية بعض فرائضها فأباح الفطر للصائم المسافر، مع القضاء، ورخص للمصلي أن يقصر الصلاة الرباعية، وأن يصليها، ركعتين في ثواب أربع ركعات، صدقة تصدق الله بها على عباده المسلمين.
وسواء أكان ابتداء فرض الصلاة مثنى، ثم زيد في صلاة الحضر ركعتان في الظهر والعصر والعشاء -كما تقول عائشة -أم كان ابتداء فرضها على ما هو عليه الآن، وخففت وقصرت في السفر، كما يقول الجمهور -فمما لا شك فيه أن هناك تخفيفا على المسافر رحمة من الله تعالى به.
فله الحمد، وله الشكر، حمدا وشكرا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد.
-[المباحث العربية]-
(فرض الله تعالى الصلاة)"الصلاة" عام مخصوص، والمراد غير المغرب أي الظهر، والعصر والعشاء والفجر.
(فأقرت صلاة السفر) أي ثبت حكمها الأول ركعتين دون تغيير.
(وزيد في صلاة الحضر) في الظهر والعصر والعشاء، في كل منها ركعتان فصارت أربعا.
-[فقه الحديث]-
ظاهر الحديث أن الصلاة -فيما عدا المغرب والصبح -فرضت أولا ركعتين في الحضر والسفر، ثم زيدت صلاة الظهر والعصر والعشاء إلى أربع في الحضر، وذكر الضحاك في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حدة الإسلام الظهر ركعتين، والعصر ركعتين والمغرب ثلاثا والعشاء ركعتين والصبح ركعتين، فلما نزلت آية القبلة تحول للكعبة، وكان قد صلى هذه الصلوات نحو بيت المقدس، فوجهه جبريل عليه السلام بعد ما صلى ركعتين من الظهر نحو الكعبة، وأومأ إليه بأن صل ركعتين، وأمره أن يصلي العصر أربعا والعشاء أربعا، والغداة ركعتين. وقال: يا محمد. أما الفريضة الأولى فهي للمسافرين من أمتك والغزاة. اهـ.
وإلى هذا القول ذهب جماعة من العلماء، والجمهور على خلافه، وتأولوا قول عائشة، ولم يلتفتوا إلى تفسير الضحاك، إذ لا يثبت به حكم، لأنه خال عن صفات الحديث الصحيح.
وقال الأصيلي: أول ما فرضت الصلاة، أربعا على هيئتها اليوم، وأنكر قول عائشة، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد. ولسنا مع الأصيلي في رد حديث عائشة، لأن الحديث صحيح مروي في الصحيحين، وطرقه عن عائشة كثيرة ومشهورة، ولكننا نؤول حديثها ونعمل به، وخير ما قيل في تأويله: إن المراد من قولها "فرضت" أي قدرت، وقال الحافظ ابن حجر:
والذي يظهر لي وبه تجتمع الأدلة أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح لطول القراءة فيها وإلا المغرب لأنها وتر النهار، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية، فالمراد على هذا بقول عائشة "فأقرت صلاة السفر" ما آل إله الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت. اهـ.
والتأويل ضروري لأن حديثها يتعارض أولا مع قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} لأنه دال على أن الأصل الإتمام، إذ القصر معناه التنقيص، فالآية صريحة في أنها كانت في الأصل أربعا.
ويتعارض ثانيا مع ما لوحظ في أول فرض الصلاة ليلة المعراج من قصد التخفيف على الأمة، والانتقال من الاثنين إلى الأربع فيه تشديد ويتعارض ثالثا مع عملها، إذ ثبت أنها كانت تتم في السفر، وإذا كان الأصل في السفر اثنتين فلا أصل للأربع في السفر، لا أول التشريع ولا آخره، وراوي الحديث إذا خالف عمله روايته لا يجب العمل بروايته، أو تؤول.
وكان من السهل عدم الاكتراث بهذا الخلاف، لولا أنه استدل به على أن القصر في السفر فريضة وواجب، لأن الفرض الذي لم تتغير فرضيته لا يجوز خلافه، ولا تجوز الزيادة عليه، ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يزيد في صلاة عن عدد ركعاتها، ولو زاد عامدا فسدت صلاته؟ فكذا المسافر لا يجوز له أن يصلي أربعا، لأن فرضه في الصلاة ركعتان. وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنهما وكثير من العلماء: يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل خروجا من خلاف من أوجبه، ولهم أدلة كثيرة لا تليق بهذا المختصر. وقد نقلتها في كتابي "فتح المنعم شرح صحيح مسلم".
هذا وللقصر في السفر شروط منها أن يكون السفر مباحا، واشترط بعضهم أن يكون سفر طاعة، وجوز أبو حنيفة القصر في سفر المعصية، ومنها أن يكون السفر مسافة ثمانية وأربعين ميلا -أي نحو ثمانين كيلو مترا،
وشرط أبو حنيفة في مسافة القصر ألا تقل عن مائة وعشرين كيلو مترا، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز القصر في السفر الطويل والقصير، حتى لو كان خمسة كيلو مترات. ومنها أن لا ينوي الإقامة أكثر من أربعة أيام عند الشافعية، ولا يحسب يوم الدخول ويوم الخروج، وعند الحنابلة أن لا ينوي الإقامة قدرا يزيد على إحدى وعشرين صلاة. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة خمسة عشر يوما مع يوم الدخول أتم، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
وابتداء القصر من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه، وعند بعض الحنفية إذا أراد السفر صلى ركعتين قصرا، ولو كان في منزله، ومنهم من قال: إذا ركب. وفي العودة له أن يقصر حتى يدخل بيته.
وإن فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر جاز له قصرها على الأصح عند الشافعية، وبه قال أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقصر، وإن فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لم يجز له القصر بلا خلاف.
وإذا دخل وقت صلاة وتمكن من أدائها في الحضر، ثم سافر في أثناء الوقت فإن له أن يقصر على الراجح. والله أعلم.
18 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته".
-[المعنى العام]-
للإسلام حقوق، وعلى المسلم واجبات، ولمنح هذه الحقوق واستيفاء تلك الواجبات كان لا بد من علامة يعرف بها المسلم، ويبين بها المرء عن قبوله للإسلام ودخوله فيه، وقد نصت أحاديث كثيرة صحيحة وصريحة بأن أهم وأبرز هذه العلامات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنها وحدها تحقن الدم، ولذا عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، على قتله الكافر المحارب بعد أن قالها، لكنها وإن حقنت الدم ابتداء، لا تحقنه دواما إذ لا بد من أن يضم إليها الصلاة والزكاة، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" ولا بد أن يضم إليها كذلك الإيمان والإقرار بأصول الشريعة ولا ينكر ما علم من الدين بالضرورة، عملا بالحديث الصحيح" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".
ومما جاء به صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة في الصلاة بصريح القرآن الكريم {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ومشروعية ذكاة الحيوان والطير وذبحه وتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله، بنص القرآن الكريم، فكان ذلك علامة من علامات إسلام المرء، وكان دليلا على استحقاقه حقن الدم وحرمة المال، وعهد الله، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان ملزما للمسلمين أن يرعوا هذه الذمة، ولا يخونوها، وأن يعطوا من هذه
حاله حقوق الإسلام، له ما لنا، وعليه ما علينا، وحسابه على الله، وإن يك صادقا فله صدقه، وإن يك كاذبا فعليه وبال كذبه.
-[المباحث العربية]-
(من صلى صلاتنا) أي داوم على الإتيان بها بشروطها، والمراد من الصلاة المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا، وإن صدق عليها اسم الصلاة، والإضافة في "صلاتنا" قيد لإخراج أصحاب الديانات الأخرى الذين يصلون صلاة ليست كصلاتنا في الهيئة والأركان والشروط، ففي الكلام تشبيه بليغ حذف منه الوجه والأداة.
(واستقبل قبلتنا) في صلاته، وهي الكعبة، فالحديث بعد تحويل القبلة عن بيت المقدس، وبعد تشنيع اليهود عن تحويلها، والجملة من قبيل عطف الخاص على العام، تعظيما للخاص، واهتماما به، وإلا فاستقبال القبلة داخل في الصلاة، لأنه شرط من شروطها.
(وأكل ذبيحتنا) الذبيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي ما تحل شرعا بالذبح والمقصود الاقتصار في أكل ما يذبح على ما ذبح وأبيح بشرعنا، فلا يأكل الخنزير، ولا الميتة، ولا الدم، ولا المنخنقة، ولا المضروبة بمثقل، ولا الميتة متردية من أعلى إلى أسفل، ولا المقتولة بنطح، ولا ما أكل السبع، ولا ما ذكر اسم غير الله عليه.
وليس المراد الأكل الفعلي، بل المقصود الإقرار بحلها دون غيرها وإن لم يطعم في حياته ذبيحة كالنباتيين، لذا جاء في رواية "وذبحوا ذبيحتنا" بخلاف الصلاة، واستقبال القبلة، فالشرط أداؤهما بالفعل.
(فذلك المسلم) أي فذلك المسلم لا غيره، فتعريف المبتدأ والخبر يفيد القصر والاختصاص.
(الذي له ذمة الله وذمة رسوله) أي أمان الله وعهده، وأمان رسوله وعهده فيحرم ماله ودمه إلا بحقه، وفائدة عطف ذمة الرسول على ذمة الله للتصريح باللازم، ولأنه المنفذ لشريعة الله والمطبق لها.
(فلا تخفروا الله في ذمته) الخطاب للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ويقاس عليهم من يأتي بعدهم. والفعل "تخفروا" بضم التاء وكسر الفاء بينهما خاء ساكنة من أخفر الرباعي، ومعناه غدر ونقض العهد، ولم يرع الذمة، فالهمزة فيه للسلب والإزالة، لأن معنى خفر الثلاثي حمى وأجار ورعى العهد. فالمعنى لا تغدروا، ولا تعتدوا، ولا تنقضوا عهد الله لمن هذه حاله.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث: ]-
1 -
فضل استقبال القبلة، والتزامه في الصلاة، فرضها ونقلها، إلا في حالات مستثناه شرعا، والمراد أن يستقبل القبلة بأطراف أصابع رجليه وبجميع ما يمكن من الأعضاء، هذا أكمله، وفي أقله خلاف عند الفقهاء.
2 -
أخذ بعضهم من مفهوم الحديث قتل تارك الصلاة عمدا، لأن من صلى صلاتنا يوفى عهده ويصان دمه وماله. ومفهومه أن من لم يصل صلاتنا لا يحقن دمه، وفي ذلك خلاف طويل بين الفقهاء مذكور في محله.
3 -
وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، والله يتولى السرائر.
4 -
وأن من أظهر شعائر الإسلام أجريت عليه أحكام المسلم، ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك.
5 -
وأن الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبيحة المسلمين هو شعار الإسلام، وقد استشكل على هذا بأن الشعار الحقيقي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأجيب بأن الصلاة متضمنة لهذا الشعار، إذ الشهادة داخلة في الصلاة ركن من أركانها، ثم إن ما ذكر في الحديث هو علامة من علامات المسلم، التي تحقن الدم ابتداء، والشهادة وحدها كذلك، ثم يطالب بعد ذلك ببقية أركان الإسلام، فإن أنكر بعضها فقد أتى ما يناقضها ولم يحقن.
وحكمة الاقتصار على ما ذكر في الحديث أنه يعالج حالة قائمة آنذاك فإن من يقر بالتوحيد من أهل الكتاب، وإن صلوا، واستقبلوا، وذبحوا، لكنهم لا يصلون مثل صلاتنا، ولا يستقبلون قبلتنا، ومنهم من يذبح ذاكرا اسم غير الله، ومنهم من لا يأكل ذبيحتنا، والاطلاع على حال المرء في صلاته وأكله يمكن ويقع بأسرع من غير ذلك من أمور الدين.
19 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة".
-[المعنى العام]-
من فضل الله ورحمته وكرمه على الأمة الإسلامية أن يسر لها سبل
الطاعة وفتح لها أبواب العبادة في شتى الظروف، ومختلف الأحوال، جعل لها الأرض كلها مسجدا، وشرع لها ذكره تعالى باللسان والقلب قياما وقعودا وعلى الجنوب، ويسر التقرب إليه بالصلاة على الدابة، دون التقيد باستقبال القبلة {فأينما تولوا فثم وجه الله} وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه قولا وعملا، وهو في هذا يسافر على راحلته فينوي صلاة النافلة، لا يتحرى بوجهه وصدره القبلة، بل جهة السير والمقصد، ولا يقف في مواطن الوقوف في الصلاة، ولا يجلس في مواطن جلوسها، ولا يسجد سجودها، بل هو على طبيعة الراكب في جلوسه على دابته، يومئ عند الركوع، ويخفض رأسه أكثر من الركوع عند السجود. تلك شريعة الله في النافلة في السفر، يسر وتيسير ولا حرج، أما الفريضة فلها وضعها، كان صلى الله عليه وسلم ينزل فيستقبل القبلة فيصلي على الأرض، ليس في ذلك مشقة، فهي دقائق ولها وقتها المحدد والموسع. فالحمد لله رب العالمين.
-[المباحث العربية]-
(كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته) الراحلة الناقة التي تصلح لأن ترحل وتقال على الذكر والأنثى من الإبل، قاله الجوهري، وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء والهاء في الراحلة للمبالغة لا للتأنيث.
(حيث توجهت به) يعني إلى جهة القبلة أو غيرها.
-[فقه الحديث]-
هذا الحديث نص في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت قال النووي: وهذا جائز بإجماع المسلمين، وشرط أن لا يكون سفر معصية إذ لا يجوز الترخيص بشيء من رخص السفر لعاص بسفره، كمن سافر لقتل نفس، أو لقطع طريق، أو عاقا لوالديه، أو ناشزا على زوجها.
ثم قال: ويجوز التنفل على الراحلة في قصير السفر وطويله عند الشافعية وعند الجمهور، ولا يجوز في داخل البلد وحولها من غير سفر، وعن بعض الشافعية أنه يجوز التنفل في البلدة وحولها من غير سفر على الدابة، وهو قول أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وعن مالك أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة، قال النووي: هو قول غريب.
قال العلماء: واعتبرت الطريق المقصود بدلا من القبلة، بحيث لا يجوز الانحراف عن الطريق المقصود عامدا لغير حاجة المسير، إلا إن كان سائرا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة القبلة، فإن ذلك لا يضره.
وهل يشترط أن يفتتح الصلاة باستقبال القبلة؟ خلاف. والظاهر أنه لا يشترط لظاهر عموم الحديث.
ولم يوضح الحديث كيفية الصلاة على الراحلة، لكن في رواية البخاري عن عامر بن ربيعة قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة يسبح -أي يتنفل -يومئ برأسه قبل أي وجه توجه" وظاهره الإيماء في الركوع والسجود معا ولكن الفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السجود أخفض من الركوع، ليكون البدل على وفق الأصل، وذهب الجمهور إلى طلب السجود على الدابة لمن قدر عليه وتمكن منه دون مشقة، وعن مالك أن الذي يصلي على الدابة لا يسجد وإن تمكن من السجود، بل يومئ.
وظاهر الحديث أن جواز ترك استقبال القبلة في التنفل خاص بالراكب دون الماشي، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، لأن ذلك رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وأجاز الشافعية والحنابلة تنفل الماشي قياسا على الراكب، ولأن السر في هذه الرخصة تيسير تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها، تعظيما لأجورهم رحمة من الله بهم، غير أن بعض هؤلاء المجيزين اشترط استقبال الماشي للقبلة في إحرامه، وعند الركوع، والسجود، واشترط السجود على الأرض، وله التشهد ماشيا، كما أن له القيام ماشيا، واشترط بعضهم التشهد قاعدا، فلا يمشي إلا في حالة القيام.
وراكب السفينة، ومثله راكب الطائرة، لا يتنفل إلا إلى جهة القبلة لتمكنه من الاستقبال بخلاف راكب الراحلة. هذا قول الشافعية والجمهور وعن مالك رواية أنه يجوز لراكب السفينة ما يجوز لراكب الدابة.
أما المكتوبة فلا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة، وهذا مجمع عليه إلا في شدة الخوف، قال النووي: فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود وهو على الدابة وهي واقفة، عليها هودج أو نحوه، جازت الفريضة على الصحيح عند الشافعية، فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح، وقيل: تصح كالسفينة، فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع.
وفي بعض الروايات الصحيحة أن قوله تعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} نزل في صلاة النافلة في السفر على الراحلة، قال العلماء: وحملت هذه الآية على النافلة في السفر، كما حمل قوله تعالى {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} على الفرائض وعلى النوافل في غير السفر. والله أعلم.
20 -
عن علقمة قال: قال عبد الله صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم لا
أدري زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم فلما أقبل علينا بوجهه قال "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين".
-[المعنى العام]-
سبحان من أودع في كل قلب ما شغله، وسبحان من أرسل رسلا من البشر، مبشرين ومنذرين، يعلمون الناس الكتاب والحكمة، اصطفاهم الله فلم يترفعوا على أممهم، ولم يدعوا لأنفسهم ما ليس لهم، فأعلنوا بألسنتهم أنهم بشر، وشاء الله أن تشهد حياتهم وتصرفاتهم بأنهم بشر، يحبون ويكرهون، يصومون ويفطرون، يقومون وينامون، يفكرون وينشغلون وينسون ويذكرون.
ومن من الرسل كان مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيما كلف به؟ ومن منهم حمل مثل ما حمل في رسالته؟ إنه رسول البشر عامة، أبيضهم وأحمرهم، وغيره من إخوانه الرسل كان كل منهم رسول قومه خاصة، لقد حورب من أهله وهاجر من وطنه، وما إن وطئت قدمه وطنه الثاني حتى بنى مسجده، وفتح فيه مدرسته، التي يعلم فيها أمته، بدأ الأعداء يتربصون به، ويهاجمونه ويكيدون له، فلم يكن بد من أن يحمل سيفه، ويدافع عن دينه، وبدأت الغزوات الواحدة تلو الأخرى، وكلما عاد من غزوة ورى بغيرها، وما وضع سلاحه حتى لبسه، وقد تهون حروب السيف أمام حروب المنافقين ومكايدهم، حتى وصل الكيد أن تناولوا عرضه في زوجته، حشود من الأفكار يشحن بها قلبه صلى الله عليه وسلم وهكذا تعظم المشاغل بعظمة الرجال وعظمة ما يناط بهم من أعمال، فهل نعجب إذا نسي صلى الله عليه وسلم في صلاته كم صلى؟ وهل نعجب إذا قام في صلاة رباعية بعد ركعتين، ولم يجلس للتشهد الوسط؟
وهل نعجب إذا قام لخامسة في صلاة رباعية؟ لقد نبهوه وسبحوا فلم يلتفت إلى تسبيحهم، فقاموا معه وتابعوه، حتى قضى صلاته وسلم فسلموا وتحول عن القبلة بعد السلام واستقبلهم، وكانت الأحكام الشرعية تنزل تباعا من الله وظنوا أن أمر الصلاة قد تغير، فسأل سائلهم: أحدث في الصلاة شيء؟ أم نسيت يا رسول الله؟ قال: لم يحدث هذا ولا ذاك، فماذا رأيتم؟ قالوا: صليت خمسا بدل أربع، فنظر في وجوه القوم، فإذا هي تصدق السائل وتذكر صلى الله عليه وسلم ما نسي، فاستقبل القبلة، وثنى رجليه وجلس جلسة السجود وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل عليهم بوجهه يعلمهم يقول: لو حدث في الصلاة زيادة أو نقص لأخبرتكم به، وإنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، أصبتم إذ نبهتموني وأحسنتم، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، أصلى ثلاثا أم أربعا؟ فليجتهد في الصواب وليكمل، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو.
-[المباحث العربية]-
(لا أدري زاد أو نقص) هذا الشك من إبراهيم النخعي، فرواية ابن مسعود لا شك فيها، ولفظها "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا" ثم رواية علقمة عن ابن مسعود لا شك فيها، ويعترف إبراهيم بأن الشك من جهته هو، مصرحا بذلك في بعض الروايات، إذ يقول: والوهم مني، وفي بعض الراويات يقول: وايم الله ما جاء ذلك [الشك] إلا من قبلي. ولو أنه تدبر في الرواية لطرح الشك، لأنه لو كان نقصا لأكمل في الصلاة.
(أحدث في الصلاة شيء) أي زيادة؟
(وما ذاك؟ ) أي ذلك الشيء الذي تقصدونه بأنه حدث؟ .
(قالوا: صليت كذا وكذا)"كذا وكذا" كناية عن عدد قيل فعلا، وفي رواية الصحيح "قالوا: صليت خمسا" والذي كنى ابن مسعود.
(ولكن إنما أنا بشر) قصر نفسه صلى الله عليه وسلم على البشرية من قبيل قصر الموصوف على الصفة قصرا إضافيا، أي إنما أنا بشر لا ملك.
(أنسى كما تنسون) وجه الشبه مطلق النسيان، لا كميته، ولا نوعيته.
(فليتحر الصواب فليتم عليه) روي بألفاظ مختلفة "فلينظر أحرى ذلك للصواب "وفليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" و "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" والتحري للصواب طلب ومحاولة الوصول إليه، أو إلى ما يقرب منه، والتحري في الأصل هو القصد، والشك عند الأصوليين هو ما استوى طرفاه الفعل والعدم، وللبحث بقية في فقه الحديث.
-[فقه الحديث]-
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي في الصلاة فقام من ثنتين ولم يجلس، ولم يتشهد التشهد الوسط، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، ومرة نسي، فسلم من ثنتين، والصلاة رباعية فعاد، فأتم الصلاة ثم سجد سجدتين بعد التسليم، ومرة نسي، فسلم من ثلاث، والصلاة رباعية فعاد، فصلى الركعة، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم، وحديثنا صلى الرباعية خمسا، ثم عاد، فسجد للسهو ثم سلم.
وضبطا لشوارد الموضوع نقسم الخطوات إلى:
متى يشرع سجود السهو؟ وما موضعه؟ قبل السلام أو بعده؟ وما حكمه؟ وما كيفيته؟ وماذا يفعل الشاك؟ وما حكم سهو الأنبياء ونسيانهم؟ وماذا تأخذ من الحديث من أحكام.
أما المواضع التي يشرع فيها سجود السهو: بالإضافة إلى حالة الزيادة أو النقصان المشار إليهما فقد قال النووي في المجموع: لو ترك بعضا من الأبعاض [وهي التشهد الأول، والجلوس له، والقنوت، والقيام له والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأول، وكذلك على الآل في التشهد الأخير] جبر بسجود السهو إذا تركه سهوا، وإن تركه عمدا فوجهن. أحدهما لا يسجد، لأن السجود مشروع للسهو، وبه قال أبو حنيفة، وقيل: يسجد، وأما غير الأبعاض من السنن كالتعوذ ودعاء الاستفتاح ورفع اليدين والتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش والسورة بعد
الفاتحة ووضع اليدين على الركبتين وسائر السنن القولية غير الأبعاض فلا يسجد لها، سواء تركها عمدا أم سهوا، لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود لشيء منها، والسجود زيادة في الصلاة، فلا يجوز إلا بتوقيف، والسنن تخالف الأبعاض، فإنه ورد التوقيف في التشهد الأول وجلوسه، وقسنا عليه باقيها، أما إذا فعل منهيا عنه مما لا تبطل الصلاة بعمده كالالتفات والخطوة وكف الثوب، ومسح الحصى، وأشباه ذلك، فلا يسجد للسهو لعمده ولا لسهوه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة، ووضعها، وخلع نعليه في الصلاة ولم يسجد لشيء من ذلك. فإن فعل ساهيا منهيا عنه تبطل الصلاة بعمده كالكلام والركوع الزائدين، فهذا يسجد لسهوه، إذا لم تبطل به الصلاة. وقال أبو حنيفة: يسجد للجهر والإسرار، وقال مالك: يسجد لترك جميع الهيئات. وأما موضعه. قبل السلام أو بعده؟ فقد اختلف فيه الفقهاء.
فداود الظاهري: ذهب إلى أنه لا يسجد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للسهو، وبالأوضاع الواردة نفسها، فيقتصر على ما ورد، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء.
وذهب الإمام أحمد والحنابلة: إلى أنه يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، وبعد السلام في المواضع التي سجد فيها بعد السلام. قال ابن قدامة في المغني: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الوضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام وما عداهما يسجد له قبل السلام اهـ. ويقصد بالموضعين ما ورد في الصحيح من حديث ذي اليدين حين سلم صلى الله عليه وسلم من ثنتين في رباعية، من أنه أتم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم، وما جاء في الصحيح من حديث عمران بن حصين في إحدى روايتيه، حين سلم صلى الله عليه وسلم من ثلاث في رباعية، من أنه صلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم.
وذهب مالك والشافعي في قول له: إلى التفرقة بين السهو بالزيادة والسهو بالنقص، فيسجد للزيادة بعد السلام، وللنقض قبله، قال بعضهم: والفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك، لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ وهم بذلك يشيرون إلى الحديث الصحيح "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى؟ ثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما كانتا ترغيما للشيطان".
وذهب أبو حنيفة وأصحابه، وحكى قولا للشافعي -أن سجود السهو كله بعد السلام.
وفي قول للشافعي أن سجود السهو كله قبل السلام.
وعند التحقيق نجد أن أمر هذا الخلاف كله هين، فقد نقل الماوردي وغيره الإجماع على جواز هذا أو ذاك، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا قال ابن عبد البر: إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عند الحنفية في الأولوية. نعم حكى بعضهم خلافا في الإجزاء عند الشافعية والمالكية والحنفية ولكنه في قول ضعيف، والمعتمد في المسألة أن الخلاف في الأولى والأفضل.
وحكم سجود السهو مسنون كله عند الشافعية، وعند المالكية واجب للنقص دون الزيادة، وعند الحنابلة التفصيل بين الواجبات غير الأركان فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده، وعند الحنفية واجب كله.
أما كيفيته فهو أن يكبر، ثم يسجد، ثم يكبر، فيرفع، ثم يكبر فيسجد، ثم يكبر، فيرفع، فهذه سجدتان، فلو اقتصر على واحدة ساهيا لم يلزمه
شيء، أما عامدا فتبطل صلاته عند الشافعية دون الحنفية، والتكبير في سجدتي السهو مشروع بالإجماع، كما هو في سجود الصلاة، والجهر به كما في الجهر به في سجود الصلاة، وتكبير الصلوات كله سنة، غير تكبيرة الإحرام فهي ركن عند الجمهور، وعند أحمد والظاهرية، أن تكبير الصلوات كله واجب.
ولا خلاف أن سجود السهو الواقع قبل السلام لا يحتاج إلى تكبيرة إحرام إنما الخلاف في السجود الذي يقع بعد السلام، والجمهور على أنه يكتفي بتكبيرة السجود، وهو غالب الأحاديث.
وهل يسلم إذا سجد بعد السلام؟ حكى القرطبي في قول مالك وجوب السلام بعد سجدتي السهو.
وهل يتشهد بعد سجود السهو؟ الجمهور على أنه لا تشهد بعد سجود السهو الواقع قبل السلام، وأما الواقع بعد السلام فإنه يتشهد عند الحنفية وأحمد وبعض المالكية وقول عند الشافعية.
أما موقف الذي يشك وهو في الصلاة، أصلى ثلاثا أم أربعا؟ فقد اختلف الفقهاء فيما يجب عليه فعله، نظرا لاختلاف الروايات، فقد ذهب الحسن البصري وطائفة من السلف إلى أنه إذا شك المصلي، فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان، وهو جالس، عملا بظاهر رواية صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا" فإذا لم يدر أحدكم كم صلى؟ فليسجد سجدتين وهو جالس" وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور: متى شك في صلاته. هل صلى ثلاثا أو أربعا؟ لزمه البناء على اليقين -وهو الأقل -ويجب عليه أن يأتي برابعة، ويسجد للسهو، عملا برواية "فليبن على ما استيقن" فإذا تيقن التمام سجد سجدتين للسهو، ويؤيدهم حديث الترمذي" إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين؟ فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا، ثم ليتم ما بقي من صلاته، حتى يكون الوهم في الزيادة خيرا من النقصان".
وقال بعض الحنفية: إن كان الشك قد عرض له لأول مرة بطلت صلاته وأعاد، وإن صار الشك عادة له اجتهد، وعمل بغالب الظن، وإن لم يظن شيئا عمل بالأقل.
وفي سهو الأنبياء يقول النووي: يجوز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع، وهو مذهب الجمهور، وظاهر القرآن والحديث، واتفقوا على أنه لا يقر عليه، بل يعلمه الله تعالى به، والسهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يحصل منه مفسدة، بل تحصل فيه فائدة، وهي بيان أحكام الناس وتقرير الأحكام.
واختلفوا في جواز السهو في الأخبار، والحق ترجيح قول من منع السهو على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضا ولا في غضب.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]-
1 -
أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الإمام، وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى أن المؤتم يسجد لسهو الإمام، ولا يسجد لسهو نفسه.
2 -
وأن سجود السهو خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بالسجود لا يسجد. وهو قول الجمهور.
3 -
أن الإمام يرجع إلى قول المأمومين في أفعال الصلاة، ولو لم يتذكر، وبه قال مالك وأحمد.
4 -
ومن قوله "لو حدث شيء في الصلاة لنبأتكم به" أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة.
5 -
وأن الشرع يأمر التابع مهما قل شأنه أن يذكر المتبوع بما ينساه.
6 -
وأن الكلام العمد فيما يصلح الصلاة لا يفسدها. وفيه نظر.
7 -
استحباب إقبال الإمام على الجماعة بوجهه بعد الصلاة.
8 -
أن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة.
21 -
عن عائشة أم المؤمنين أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رآتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
-[المعنى العام]-
مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الأخير، وأذن له نساؤه أن يمرض في بيت عائشة، وأن يجتمعن إليه فيه، وكانت أم حبيبة وأم سلمة قد هاجرتا إلى الحبشة فيمن هاجر، ورأتا هناك في كنيسة تسمى مارية تماثيل مصورة يسجد عندها الناس على أنها معبودات، أو على أنها رمز لصالحين، يرجى خيرهم ونفعهم، رأتا كيف يقدس الناس هذه التماثيل في الكنيسة؟ وكيف يركعون
لها؟ وخطر في نفس أم حبيبة النهاية والمصير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الفراش، وخطر لها ما يصير الأمر بعده، وكيف يكون قبره، وكيف يصبح مسجده، وبرزت صورة الكنيسة وما فيها من تماثيل في خيالها، فقامت تروي وتقول: يا رسول الله. لقد رأيت ورأت أم سلمة بالحبشة في كنيسة تسمى مارية تماثيل كثيرة، تمثل أشخاصا، وتصورهم كأنهم أجساد بشرية أحياء، ورأينا الناس يعظمونها ** ويقدسونها ويركعون عندها.
وكان في عرض هذه الصورة تنبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشي على أثره أن يحدث معه بعد موته ما حدث مع غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: لعن الله اليهود والنصارى، كانوا إذا مات فيهم النبي، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره كنيسة وصوروا فيها هذه الصور، تعظيما لأصحابها، وذكرى لصلاحهم ليقتدي بهم، فلما طال عليهم الأمد سول لهم الشيطان أن أجدادهم كانوا يعبدون هذه التماثيل فعبدوها. ألا وإني أنهاكم أن يتخذ قبري مسجدا ألا وإني أنهاكم أن تصوروا بعدي الصور والتماثيل، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
-[المباحث العربية]-
(أم حبيبة) أم المؤمنين، رملة بنت أبي سفيان، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش، فتوفي هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة سنة ست من الهجرة.
(أم سلمة) أم المؤمنين، هند بنت أبي أمية المخزومي، هاجر بها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا وهاجرا إلى المدينة مات زوجها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ذكرتا كنيسة) الظاهر أن إحداهما ذكرت والأخرى أمنت، فنسب الذكر إليهما، والكنيسة معبد النصارى.
(فيها تصاوير) المراد من التصاوير هنا التماثيل.
(بنوا على قبره مسجدا) أي مكان سجود، وليس المراد المسجد المعروف للمسلمين، فإن معبد النصارى يسمى كنيسة وبيعة بكسر الباء.
-[فقه الحديث]-
قال الحافظ ابن حجر: إنما بنى الأوائل على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وصورا صورهم فيها ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذاكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدوا، ثم خلف من بعدهم خلوف، جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها. فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك. اهـ.
وظاهر كلام الحافظ أن الخوف الحقيقي منشؤه الصور والتماثيل، ليس بناء المساجد على القبور، على معنى أنه لو وضعت هذه التماثيل على القبور من غير المساجد، أو على أماكن أخرى غير القبور، كما كانت على الصفا والمروة لكان النهي قائما، لأن المحذور المخيف هو التماثيل، وبالتالي يكون بناء المساجد على القبور بدون التصاوير لا يؤدي إلى هذا المحذور، وبالتالي يحذر صلى الله عليه وسلم أن يفعل معه بعد موته مثل ما صنع مع أنبياء اليهود من تصويره صلى الله عليه وسلم وقد يؤيد هذا الاتجاه أن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام ودعي إلى الكنيسة قال: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور وكان ابن عباس يصلي في البيعة، إلا بيعة تماثيل -ذكر ذلك البخاري -ولم يبحث أي منهما، ولم يبن فعله على كون الكنيسة بها قبر أو لا.
لكن هناك روايات في الصحيح أوعدت باللعن والقتل، لاتخاذهم القبور مساجد، دون ذكر للتماثيل والصور، مما يفيد أن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد معرض للعن والطرد من رحمة الله، ومما لا شك فيه أنهم لم يكونوا يتخذون القبر وحده مسجدا، بل كان القبر جزء مسجد، وعلى ذلك فلا فرق بين أن يكون القبر في زاوية المسجد أو في وسطه. غاية الأمر أن الحرمة تشتد، والجرم يعظم إذا جعل القبر في القبلة، بحيث يستقبله المصلون وكذلك لا فرق بين أن يسبق بناء المسجد على بناء القبر،
أو العكس، فكل من الوضعين في النهاية يؤدي إلى تعظيم صاحب القبر، مما يهدد مستقبلا بالمحظور.
وإذا كانت العلة في المنع أن يؤدي إلى تعظيم وتقديس صاحب القبر مما يؤدي إلى عبادته، أو إلى احتمال عبادته، ولو بنسبة واحد في الألف كان ممنوعا، كذلك كل مظهر من مظاهر التعظيم، كبناء القبة، والمقام استصحابا للعلة، وإغلاقا لباب الفتنة وسدا للذرائع، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفن بحجرة عائشة، هو وصاحباه، وكانت خارجة عن المسجد، ولما احتاج الصحابة والتابعون إلى الزيادة في المسجد، حين كثر المسلمون دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، وبنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب.
2 -
ذم فاعل المحرمات.
3 -
النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم حيث ورد اللعن عليه، وذهب الشافعي وأصحابه إلى القول بالكراهة.
22 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا".
-[المعنى العام]-
من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل لها الأرض كلها مسجدا وجعل أماكن الصلوات شهداء للمصلي يوم القيامة، وجعل البركة والرحمة تحل في مكان العبادة، وأنزل ملائكته تشهد الصلاة في أماكن المصلين المختلفة ومن هنا كان للبيوت حق في أن تحل بها بعض عبادة أصحابها.
ثم إن المسلم مطالب بتدريب أهله على الصلاة، وفيهم من لا يستطيع حضور الصلاة في المسجد كالنساء والمرضى، فكان من الخير له ولهم أن يصلي بعض الصلوات في بيته ليراه ويقتدي به أمثال هؤلاء.
ومن هذا المنطلق رغبت الشريعة الإسلامية في الصلاة في البيوت، وأن يجعل المسلم لبيته نصيبا من صلاته، ليحل الخير فيه، ونفرت الشريعة الإسلامية من حرمان البيوت من الصلاة، ومن ذكر الله، فشبهت البيوت التي لا يصلى فيها بالقبور، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب النوافل في بيته وقال:"إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وقال: "اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم".
أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته.
-[المباحث العربية]-
(اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم)"من" تبعيضية، أي اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم، وهذا البعض يصدق بفريضة أو راتبة أو نافلة مطلقة
والتحقيق سيأتي في فقه الحديث.
(ولا تتخذوها قبورا) في الكلام تشبيه بليغ، حذف فيه الأداة ووجه الشبه والأصل: ولا تتخذوها كالقبور في هجرها من الصلاة. أو في كونها إنما نقصد للنوم الذي هو موت، وذكر بعضهم في بيان وجه الشبه أربعة معان أحدها: أن القبور مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، فلا يصلي فيها، وليس كذلك البيوت، فصلوا فيها، ثانيها: أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر، لا عن الصلاة في البيوت، فصلوا فيها، ولا تشبهوها بها، ثالثها: أن مثل الذاكر كالحي، وغير الذاكر كالميت، فمن لم يصل في البيت جعل نفسه كالميت، وجعل بيته كالقبر، الرابع: قول الخطابي: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم، فلا تصلوا فيها، فإن النوم أخو الموت.
-[فقه الحديث]-
ذكر الإمام مسلم في هذا المقام مجموعة من الروايات، منها "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا". إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا".
"عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت". ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة".
قال بعض العلماء: إن المراد ببعض الصلوات المطلوب صلاته في البيوت إنما هو بعض من الفرائض، ليقتدي به من لا يخرج إلى المسجد من النساء والمرضى.
والجمهور على أن المراد به النوافل، لأن السر في عمل التطوع أفضل وهذا هو الأظهر، على أن رواية "فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة "ورواية" إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من
صلاته" ترجحان أن المراد صلاة النافلة، بل تكادان تكونان نصا في ذلك.
وعمم الإمام النووي خيرية الصلاة في البيوت في جميع النوافل، راتبة الفرائض والمطلقة، ولم يستثن إلا النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وبعضهم استحب الرواتب في المسجد، وقصر البيوت على النفل المطلق.
ومن فوائد الصلاة في البيوت تبركها بالصلاة، ونزول الرحمة فيها وحضور الملائكة، ونفرة الشيطان منها، وقال القاضي عياض: إنما أمرنا بالصلاة في البيوت لأن النوافل في البيوت أبعد عن الرياء، وأصون من المحيطات، ولما ورد في الحديث "توروا بيوتكم بذكر الله تعالى، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة وقد حصن من الشياطين" رواه الطبراني.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أخذ منه بعضهم من مقارنة البيوت والقبور أن الحي أفضل من المبيت، وأن في طول العمر في الطاعة فضيلة.
2 -
الندب إلى الصلاة في البيوت.
3 -
الندب إلى ذكر الله تعالى في البيوت، وأنه لا يخلى من الذكر فيه.
4 -
استدل به بعضهم على كراهة الصلاة في المقابر.
5 -
استدل به بعضهم على منع الدفن في البيوت، ويؤيده حديث سلم "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" وأجازه بعضهم مستدلا بدفن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، الذي كان يسكنه أيام حياته، ورد هذا بجواز أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن كل نبي يدفن حيث يقبض، ورد هذا الرد بدفن أبي بكر وعمر في بيت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأن هذا خاص بصحبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
23 -
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة".
-[المعنى العام]-
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة من اللين، على أساس قليل من الحجارة، وسقفه من جريد النخل، مما يمنع الشمس ولا يقي المطر، حتى رأيناه صلى الله عليه وسلم ليلة القدر يسجد في ماء وطين، وجعل أعمدته جذوع النخل وجعل ارتفاع حوائطه قامة أو تزيد، وجعل أضلاعه متساوية، طول الضلع مائة ذراع، وظل المسجد كذلك في عهد أبي بكر، فلما كان عهد عمر رأى الجريد قد نخر وتساقط، والحوائط قد تهشمت فأعاد بناءه على الهيئة التي بناه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم باللين، وبالارتفاع نفسه، وجريد النخل، غير أنه زاد في سعته للحاجة.
وفي عهد عثمان، وفي سنة ثلاثين من الهجرة فكر عثمان في إعادة بناء المسجد، وكان التقدم العمراني، بسبب اتصال المسلمين بالفرس والروم وكثرة الأموال، واستعمل المسلمون في بناء بيوتهم الحجارة بأنواعها والجص والألوان والأخشاب الثمينة، ورأى عثمان أن المسجد ينبغي أن يساير التقدم
في البناء، وأن يبنى بالحجارة، لما لها من طول البقاء، وحسن المنظر، فجلب للمسجد نوعا مشهورا من الخشب يسمى بالساج، جلبه من بلاد الهند ليسقف المسجد به، وجلب أنواعا جيدة من الحجارة المنقوشة ليبني حوائطه بها، ويقيم بها أعمدته، وجلب القصة والجص ليطلي به البناء بعد تمامه.
وشعر بعض المسلمين أن في هذ التغيير الشكلي للمسجد إسرافا لا داعي له وأن إعادة بنائه بالوضع السابق يذكر الناس بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من الزهد والتقشف، وخشوا أن يفتح هذا العمل باب التنافس في المظاهر في عمارة المساجد. هذه المخاوف دفعت الكثيرين من الصحابة أن يعارضوا فكرة عثمان، وأن ينتقدوها، وأن يحاولوا إثناءه عن تنفيذها وأكثروا الكلام، فروى لهم عثمان رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا مثله في الجنة". ورضي الصحابة وأقروا عثمان، ولم تبق المعارضة طويلا، وتم بناء المسجد بناء كريما. فرضي الله عن عثمان، لحرصه على النهضة المسايرة للشريعة ورضي الله عن الصحابة المعارضين لحرصهم على أهدافها، وجزى الجميع عن الإسلام خير الجزاء.
-[المباحث العربية]-
(عند قول الناس فيه) أي في عثمان، وذلك أن بعضهم أنكر عليه تغييره بناء المسجد، وتكلموا في عثمان يخطئونه ويلومونه.
(حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام مجاز المشارفة، أي حين أراد أن يبني، لأن النقد والإنكار توجه إليه حين خطط للبناء وأعد أدواته وأعلن عزمه قبل أن يبني، ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسعه وشيده، فأطلق البناء على التجديد، والمراد من المسجد هنا بعضه، لأن الذي شيد بعضه لا كله، فقد بقيت رحبة واسعة.
(إنكم قد أكثرتم) أي أكثرتم الكلام والإنكار على فعلي.
(من بنى مسجدا) التنكير للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع
عند الترمذي "صغيرا أو كبيرا وفي رواية" ولو كمفحص قطاة" والقطاة طائر صغير، ومفحصه عشه الذي يضع فيه البيض.
(يبتغي به وجه الله) أي يطلب به رضا الله، والمراد من ذلك الإخلاص.
(بنى الله له بيتا في الجنة) في بعض الروايات في الصحيح "بنى الله له بيتا مثله في الجنة" ولا شك أن المماثلة في مسمى البيت، إذ موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها. وبناء الجنة من در وياقوت، ولعل المماثلة في أصل الصفات لا في مقدارها، فالمسجد الواسع يجازى ببيت واسع، والمسجد المشيد يجازى ببيت مشيد، بقطع النظر عن ماهية ومقدار التشييد، ولعل هذا هو مقصد عثمان رضي الله عنه من الاستدلال بالحديث على فعله.
-[فقه الحديث]-
مما لا شك فيه أن إنكار البعض على عثمان إنما كان موجها إلى الغلو في مواد البناء، دون إعادة البناء، ودون التوسعة التي أرادها، فلم ينكر أحد على عمر التوسعة التي وسعها، ولا إعادة البناء، ولهذا نجد من الصعوبة فهم رد عثمان على أنه رد مقنع، هم ينكرون الغلو، ولا ينكرون البناء وفضله وعثمان يدلل على فضل البناء، وحتى رواية "بنى الله له في الجنة مثله" لا تؤيد المماثلة في التشييد والمغالاة، وإلا لتنافس المسلمون في ذلك بدرجة لا يقول بها أحد من العلماء.
ويبدو لي أن عثمان أقنع المنكرين بما لم يذكر في الحديث، وأنه اقتصر على هذا الجزء كدليل على فضل بناء المساجد، وأغفل الكلام الآخر الخاص بالواقعة الخاصة، لعله قال لهم: إن عمر الحجارة يفوق بكثير عمر اللبن، وإن خشب الساج يفوق متانة الجريد، فطول عمر البناء بهما يعادل زيادة تكاليفهما، بل إن التكاليف في تلك الأيام لم يكن يحسب لها حساب فقد امتلأت خزائن الدولة وخزائن الناس، فلعله قال لهم: إن المسجد يجب
أن يجد المصلي فيه راحته وأمنه من الحر والبرد، ليتفرغ قلبه للعبادة، وأنه ينبغي أن لا يقل قبولا عند المصلين عن بيوتهم. ونحو ذلك مما أقنعهم.
والحديث يفيد إنكار زخرفة المساجد، فإن الصحابة أنكروا التشييد بالخشب والجص، مع فائدتهما في ذات البناء وقوته، فإنكارهم للزخرفة بناء على هذا لا شك فيه، لعدم وجود الفائدة، مع الإضرار بالخشوع، وعلى ذلك فليس من الشريعة زركشة المساجد بالألوان المختلفة، ولا كتابة الآيات والأحاديث على الجدران، كل ذلك بدع نشأت في عهد الوليد بن عبد الملك قال الحافظ ابن حجر: وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة. ثم قال: ورخص في ذلك بعضهم، وهو قول أبي حنيفة، إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال وقد حاول البدر العيني -وهو حنفي المذهب أن يضعف القول الذي نسب إلى أبي حنيفة، فقال: مذهب أصحابنا أن ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد معناه تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه، سواء أكان ناظرا أم غيره، إما لاشتغال المصلي به، وإما لأنه إخراج المال في غير وجهه. اهـ.
والحق أن المنع من الزخرفة للعلتين معا، شغل المصلي ووضع المال في غير وجهه، وعدم الزخرفة لا يؤدي إلى الاستهانة بالمساجد فلتشيد المساجد دون زخرفة، وما أكثر العمارات الخالية من الزخرفة المشيدة كأحسن تشييد، يدعو إلى الإعجاب والتقدير والإكبار، لقد كان عمر قادرا على زخرفة المسجد ولكنه قال للصانع: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس. رواه البخاري.
والحديث يدعو إلى إخلاص النية لله، ومعنى ذلك توقف هذا الجزاء على الإخلاص، أما من يقصد ببناء المسجد المباهاة والمراءاة فإن عمله محبط. وهل يدخل في ذلك من شهر مسجدا باسمه؟ أو كتب اسمه عليه؟ قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص.
وظاهر الحديث أن الجزاء المذكور مرتبط بالبناء، لكن لو نظرنا إلى المعنى والحكمة، استحق هذا الجزاء من وقف قطعة الأرض، ومن أمر بالبناء، ومن أنفق عليه، ومن اشترك فيه متطوعا، ومن عمل فيه بأجر، فالله واسع الفضل ففي الحديث "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة. صانعه المحتسب في صنعته [متطوعا أو بأجرة يقصد معها وجه الله] والرامي به، والممد له" أي المناول.
24 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه وتصلي يعني عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه".
-[المعنى العام]-
إذا كانت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وإذا كانت صلاة المرء جماعة في المسجد تزيد على صلاته في بيته، أو في مكان
عمله بخمس وعشرين درجة، كان على المسلم أن يتحمل في سبيل الحصول على هذا الفضل ما يقابله من صعاب ومشاق، من الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، ومن المشي طويلا لبعيد الدار عن المسجد، ومن انتظار الصلاة حتى تقام، ولكل من ذلك أجر.
فمن توضأ وأسبغ الوضوء وأحسنه، وتوجه نحو المسجد للصلاة لا يحركه ولا يدفعه إلا الرغبة في صلاة الجماعة مع الإمام في المسجد لم يخط خطوة إلا كان له بها حسنة، وإلا محي عنه بها سيئة، من حين يخرج من بيته إلى حين يدخل المسجد فإذا دخل المسجد وجلس ينتظر الصلاة أعطاه الله ثواب الصلاة ما دام منتظرا لها، وقد سخر الله ملائكته أن تحضر جماعات المسلمين، فتدعو لمنتظري صلاتهم، تقول في دعائهم: اللهم اغفر لهم. اللهم ارحمهم. تظل تدعو للمنتظر ما دام متطهرا ما لم يحدث.
-[المباحث العربية]-
(وصلاته في سوقه) المراد محل عمله.
(فأحسن الوضوء) إحسان الوضوء إتمامه وإكماله وإسباغ أعضائه.
(لا يريد إلا الصلاة) في بعض الروايات "لا ينهزه إلا الصلاة" أي لا يقيمه ولا يحركه ولا يجعله ينهض إلا الصلاة في جماعة.
(لم يخط خطوة)"يخط" بفتح الياء وسكون الخاء وضم الطاء، و"خطوة" فيها ضم الخاء وفتحها.
(فإذا دخل المسجد كان في صلاة) في ثواب صلاة، لا في حكمها، إذ يحل له الكلام وغيره مما يمنع في الصلاة.
(ما كانت تحبسه)"ما" مصدرية دوامية، أي مدة كون الصلاة تحبسه.
(وتصلي الملائكة عليه) الصلاة من الملائكة الدعاء.
(ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه) كأنه خرج مخرج الغالب،
والمقصود ما دام في المسجد، فإنه لو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نيته كان كمن بقي في مكانه.
(اللهم اغفر له) مقول لقول محذوف، هذا القول تفسير لصلاة الملائكة.
(ما لم يحدث فيه) في رواية في الصحيح "ما لم يؤذ فيه. ما لم يحدث" فالمطلوب أمران ليدوم استغفار الملائكة له، عدم الإيذاء باليد أو اللسان أو غيرهما من الجوارح في مصلاه، وأن يظل على طهارته من غير حدث.
-[فقه الحديث]-
الحديث في فضل صلاة الجماعة، وفضل إسباغ الوضوء، وفضل الخطى إلى المسجد، وفضل انتظار الصلاة.
أما فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد فالأحاديث الكثيرة صريحة في أنها تفضل صلاة الفرد ببضع وعشرين درجة، ولا خلاف في ذلك، إنما القصد الجمع بين الأحاديث التي جعلت الدرجات خمسا وعشرين والروايات التي جعلتها سبعا وعشرين، وقد ذهب العلماء في ذلك مذاهب كثيرة فقيل: إن إثبات أفضلية سبع وعشرين درجة تتضمن أفضلية خمس وعشرين درجة ولا تنافيها. وقيل: إنه أخبر أولا بخمس وعشرين، ثم أعلمه الله بالزيادة، فأخبر بها، ومعنى هذا أن رواية "سبع وعشرين" ناسخة لرواية "خمس وعشرين" وهذا الرأي ضعيف، وقيل: السبع مختصة بالجهرية والخمس مختصة بالسرية، وخير الأجوبة أن الأمر يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة والمحافظة على الهيئات والخشوع وكثرة الجماعة وفضلهم ونحو ذلك.
وإنما فضلت صلاة الجماعة صلاة الفرد، لأن الإسلام حريص على ترابط المجتمع، وغرس المودة والمحبة بين أبنائه، لقد ولد الإسلام في
مجتمع متفرق لا يضمه هدف، ولا تجمعه غاية، يغير بعضه على بعض، وتترفع القبيلة على أختها، فحارب الإسلام هذه العصبية، وسوى بين الناس كأسنان المشط ونادى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}
"ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى" وكان لا بد من وسائل تقود إلى غرس هذا المبدأ، وكان لا بد من تدريبات عملية تطبع المسلمين على الإحساس بالاجتماع والألفة والمساواة، فكانت صلاة الجماعة. يقف المسلمون فيها صفوفا كصفوف الملائكة، مستقيمة متراصة المناكب متلاصقة، والأقدام متحاذية، الغني بجوار الفقير، والعظيم بجوار الوضيع، الكل يتحرك حركة واحدة، ويسكن سكونا واحدا، فإذا ما قضيت الصلاة التقوا، وتعارفوا، ودرسوا مصالحهم وعرفوا غائبهم، فكانت الفوائد الكثيرة في صلاة الجماعة، فكان الحث عليها والترغيب فيها.
ولما كانت بعض الروايات تربط الفضل بصلاة الجماعة، بقطع النظر عن كونها في المسجد، أو في البيت، أو في المتجر، أو في المصنع، أو في المدرسة ولما كانت بعض الروايات -كحديثنا -تربط صلاة الجماعة الفاضلة بالمسجد قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر من المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا، لكنه خرج مخرج الغالب، في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا. اهـ.
وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في المسجد الذي يصلي فيه الجمعة، مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في غيره، وجاء عن بعضهم قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في أي مسجد، دون البيت والسوق، أخذا بظاهر حديثنا، مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في البيت والسوق ونحوهما.
والذي تستريح إليه النفس أن التضعيف إلى خمس وعشرين عام في الجماعات على المنفرد، في أي مكان، مع تقرير نوع زائد من الفضل للجماعة في المسجد، ونوع زيادة من الفضل للجماعة في مسجد الجماعة
وهذا الرأي يعمل بكل الأحاديث مطلقها ومقيدها.
واختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة، فداود الظاهري ورواية عن أحمد أن الجماعة فرض عين وشرط لصحة الصلاة، وفي رواية عن أحمد وجماعة من محدثي الشافعية أنها فرض عين وليست شرطا لصحة الصلاة فتصح بدونها مع الإثم، واستحقاق العقوبة، وجمهور المتقدمين من الشافعية وكثير من الحنفية والمالكية أنها فرض كفاية.
والمشهور عن المتأخرين أنها سنة مؤكدة، ولكل أدلة ذكرتها في كتابي فتح المنعم شرح صحيح مسلم.
وأما فضل إسباغ الوضوء، ففي الصحيح "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" وأما فضل الخطى إلى المسجد وانتظار الصلاة فسيأتي في الحديث رقم (34) والله أعلم.
25 -
عن أبي جهيم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو يعلم
المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه قال أبو النضر لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة".
-[المعنى العام]-
حرص الشارع الحكيم على تقديس الصلاة، وحمايتها من مظاهر اللهو والعبث، وحماية ساحتها من الاعتراض، وتوفير وسائل الخشوع والمناجاة فأمر المصلي بأن يحجز مكان صلاته من مرور الناس، بجدار أو بعصا أو بساتر ما، وحذر المار من أن يمر بين يدي المصلي، وخوفه بالوعيد الشديد الذي يستصغر أمام هوله أن يقف أربعين سنة انتظارا لانتهاء المصلي من صلاته، لو قدر له أن يبقى في صلاة هذه المدة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة، فلم يكن يصلي إلا إلى ساتر، وكان أحيانا يتخذ بعيره ساترا، وأحيانا يتخذ الجدار، وأحيانا يتخذ الإسطوانة في المسجد، وحرض المصلي، إن اعتدى على قداسة موضع صلاته أحد بالمرور بين يديه، أن يدفعه بيده دفعا خفيفا، فإن لم يمتنع دفعه بما هو أشد إلى أن يصل إلى المنع إلا بالمقاتلة كان له أن يقاتله، وهكذا يوفر الإسلام للمصلي وسائل وظروف الخشوع، ويهيئ له ظروف الانصراف إلى الله بقلبه وجوارحه في صلاته إنها مناجاة الله.
-[المباحث العربية]-
(لو يعلم المار بين يدي المصلي) أي أمامه، وبالقرب منه، وكل ما بين يديك تستطيع ملامسته، فالظاهر أن المقصود بالمسافة ما تناله يد المصلي لو مدت.
(ماذا عليه من الإثم) أي ما الذي عليه من الإثم بسبب مروره بين يدي المصلي.
(لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر) أي لكان وقوفه أربعين خيرا
له من المرور، ولا خيرية في المرور ولا في الوقوف، فأفعل التفضيل ليس على بابه فهو من قبيل: الضرب خير من الشتم، أي لو خير لاختار الوقوف باعتباره أخف الضررين.
-[فقه الحديث]-
هذا الحديث يوجه المار بين يدي المصلي وينذره ويحذره، وهناك في الصحيح أحاديث أخرى توجه المصلي أن يقي نفسه ومكانه من أن يمر أحد بين يديه، فعن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى راحلته" وفي رواية "صلى إلى بعيره" وفي حديث "كان يغرز العنزة -أي الحربة -ويصلي إليها" وفي حديث كان يعرض راحلته وهو صلى إليها وفي حديث إذا وضع أحدكم بين يده مثل مؤخرة الرحل وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك وفي حديث أبي سعيد الخدري "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع، فإن أبي فليقاتله، فإنما هو شيطان" فالموضوع ككشف العورة والنظر إليها، كل من الناظر والمنظور عليه واجب، وتقصير أحدهما في واجبه لا يبرر تقصير الآخر، وإذا كان على المصلي أن يتخذ سترة كان على المار أن لا يمر بين المصلي وسترته، ولا بين يديه إن لم يتخذ سترة.
قال النووي: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، واختلفوا إذا كان في موضع يأمن المرور بين يديه، ومذهبنا أنها مشروعة مطلقا. اهـ. وهل الخط في الأرض أو على الرمل يقوم مقام السترة عند عدمها؟ المختار استحبابه إذا لم يجد غيره، إذ به ثبت حريم للمصلي، وفي كيفيته قيل: يجعله مقوسا كالهلال، وقيل: أفقيا معترضا بينه وبين القبلة، وقيل: يخطه يمينا وشمالا، ويستحب أن يدنو المصلي من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
وإطلاق الأربعين في إثم المار بين يدي المصلي للمبالغة في تعظيم
الأمر على المار وليس العدد مرادا، فقد ورد عند ابن ماجه "لكان أن يقف مائة عام خيرا من الخطوة التي خطاها" ولا شك أن الإثم يختص بمن يعلم النهي وارتكبه، إذ قوله "لو يعلم المار" دليل على توقف هذا الجزاء على العلم.
وقد قسم بعض المالكية أحوال المار والمصلي في الإثم إلى أربعة أقسام:
1 -
يأثم المار دون المصلي، كأن يصلي إلى سترة في شارع غير مطروق.
2 -
يأثم المصلي دون المار، كأن يصلي في طريق مشروع مسلوك بغير سترة ولا يجد المار مندوحة [هذا غير مسلم، بل على المار أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته].
3 -
يأثم المصلي والمار جميعا، كأن يصلي في طريق مسلوك بغير سترة ويجد المار مندوحة، فيأثمان.
4 -
لا يأثمان، كأن يصلي إلى سترة في غير طريق مشروع، ولم يجد المار مندوحة [وهذا أيضا غير مسلم، بل على المار أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته].
أما كيف يفعل إذا رأى مارا بينه وبين سترته؟ فإن الأحاديث تأمر بمنعه من المرور، ففي مسلم عن أبي صالح السمان قال: بينما أنا مع أبي سعيد يصلي يوم الجمعة إلى شيء يستره، إذ جاءه رجل شاب من بني أبي معيط، أراد أن يجتاز بين يديه، فدفع في نحره، فنظر فلم يجد مساغا إلا بين يدي أبي سعيد، فعاد، فدفع في نحره أشد من الدفعة الأولى، فمثل قائما، فنال من أبي سعيد، ثم زاحم الناس فخرج، فدخل على مروان، فشكا إليه ما لقي. قال: ودخل أبو سعيد على مروان، فقال له مروان: مالك ولابن أخيك؟ جاء يشكوك. فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه
فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان".
والذي عليه جمهور الفقهاء أنه يستحب للمصلي إلى سترة أن يشير للمار أو يسبح إذا كان بعيدا عنه، وليس له أن يمشي إليه ليرده، فإن كان قريبا منه استحب له أن يرده برفق بيده، فإن أبى فله أن يدفعه بشدة، ثم له أن يقاتله بغير سلاح، فإن هلك فلا قود عليه باتفاق، وفي وجوب ديته مذهبان.
والجمهور على أن الصلاة لا يقطعها مرور من مر، وفي رواية عن أحمد يقطعها مرور الكلب الأسود، وفي النفس من قطعها بمرور الحمار والمرأة شيء واستند إلى أحاديث قال عنها الجمهور: إنها منسوخة أو مؤولة، وهذه الأحاديث وتأويلها مذكورة في كتابنا فتح المنعم فليرجع إليها من شاء.