الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب مواقيت الصلاة
26 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني".
-[المعنى العام]-
في مجال التنافس في الطاعات، ورغبة في التسابق إلى الخيرات يسأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القربات. أي العمل الصالح أحب إلى الله؟ وأكثر ثوابا؟ ويجيبه صلى الله عليه وسلم: أحب الصالحات إلى الله المحافظة على أداء الصلوات في مواقيتها، ويرى ابن مسعود أنه -بحمد الله -يقوم بهذا العمل الصالح، لكنه يجب أن يترقى ويزداد فيسأل: ثم ماذا بعد هذا؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم بر الوالدين، ورعاية أمورهما والإحسان إليهما، قال ابن مسعود: ثم ماذا من الأعمال أحب إلى الله بعد الصلاة على وقتها وبر الوالدين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم الجهاد في سبيل الله.
ورغب ابن مسعود في الاسترسال في السؤال حرصا على الاستزادة من العلم ومعرفة أبواب الخير، لكنه استشعر، أو خاف ملل الرسول صلى الله عليه وسلم فسكت شفقة منه عليه، وهو يعلم أنه لو سأل زيادة لأجيب.
-[المباحث العربية]-
(أي العمل أحب إلى الله؟ ) في بعض الروايات الصحيحة "أي العمل أفضل" وفي بعضها "أي الأعمال أقرب إلى الجنة" والظاهر أن بعض الصيغ من تصرف الرواة بالمعنى.
(الصلاة على وقتها) المقصود الصلاة أول وقتها على الأصح، فلفظ "على" يدل على الاستعلاء على جميع الأوقات، وفي رواية "الصلاة لوقتها" فاللام للابتداء، وقيل: إن اللام بمعنى "في" فالمراد أداؤها في أي جزء من أجزاء وقتها. وعلى هذا تكون رواية "على وقتها" دالة على التمكن من الأداء في الوقت.
(ثم أي؟ ) المضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير: ثم أي العمل أفضل؟ .
(بر الوالدين) البر ضد العقوق، يقال بررت والدي، بفتح الباء وكسر الراء أبره، بفتح الباء، وأنا بر به، بفتح الباء، وبار، وجمع البر أبرار، وجمع البار البررة.
(حدثني بهن رسول الله) القائل عبد الله بن مسعود، وفيه إشارة لتقرير وتأكيد ما تقدم وأنه باشر السؤال وسمع الجواب.
(ولو استزدته لزادني) أي ولو استزدته من هذا النوع، وهو مراتب أفضل الأعمال، وفي رواية "فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه" أي إشفاقا وإبقاء عليه ورفقا به.
-[فقه الحديث]-
اختلف العلماء في المراد من قوله "الصلاة على وقتها" هل المقصود أول وقتها؟ أو طيلة وقتها؟ على رأس القائلين بالرأي الأول ابن بطال، إذ قال: في الحديث أن البدار إلى الصلاة في أول وقتها أفضل من التراخي فيها، لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب.
وعلى رأس القائلين بالرأي الثاني ابن دقيق العيد، إذ قال: ليس في لفظ الحديث ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. اهـ. ونحن نميل إلى رأي ابن بطال، لأن إخراجها عن وقتها محرم ولفظ "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت، يؤيد ما ذهبنا إليه ما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي بلفظ "الصلاة في أول وقتها" وهذا لا يمنع فضل الصلاة في وقتها، لكن الصلاة في أول وقتها أفضل من الصلاة في آخر وقتها ومن جميع الأعمال.
أما بر الوالدين فالآيات تقتضي الوصية بهما، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك، فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى:{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} وقد اختلف العلماء في تقديم حق الأم في البر على الأب، فذهب الجمهور إلى أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، أخذا بالحديث الصحيح "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" وبالحديث الصحيح "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم بالأقرب فالأقرب".
ونقل بعضهم عن مالك أنهما في البر سواء، أخذا مما روي عنه أنه سأله رجل، قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال: أطع أباك، ولا تعص أمك. قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث حين سئل عن المسألة بعينها: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر.
هذا وتقديم الصلاة على البر لأن الصلاة شكر لله، والبر شكر للوالدين، وشكر الله مقدم على شكر الوالدين، موافقة لقوله تعالى {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}
وأما تقديم البر على الجهاد فلأن المراد هنا من الجهاد غير فرض
العين، وهو يتوقف على إذن الوالدين، وخص الثلاثة بالذكر لأنها علامة على غيرها، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها في غير عذر، مع خفة مؤونتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك. فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. قاله الطبري.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما سبق: ]-
1 -
أن أعمال البر يفضل بعضها بعضا.
2 -
الرفق بالعالم والتوقف من الإكثار عليه خشية الملل.
3 -
ما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه.
4 -
وفيه حسن المراجعة في السؤال.
27 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا".
-[المعنى العام]-
الصلاة مناجاة للرب، ووقوف بين يديه، تضرع ودعاء، وتسبيح وذكر واستغفار، إن هي أديت كما ينبغي تجلو القلوب من خبث الغل والحق والحسد والظن السيئ وتصفى النفوس من الحرص والتكالب على متاع الحياة الدنيا، وتحصن المسلم ضد شهوات النفس، ووساوس الشيطان ومغرياته وقد شاءت حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن يوزع هذا الدواء الروحي على ساعات الليل والنهار، خمس صلوات في كل يوم وليلة، ليرجع المؤمن إلى ربه بين الحين والحين، وكلما جذبه الشيطان ناحية الشر جذبته الصلاة ناحية الخير، يخطئ فيغفر له، فهي في يسرها وقربها من العبد ومحوها للخطايا كنهر يجري بالماء أمام البيت، يغتسل فيه جاره خمس مرات في كل يوم وليلة. كما علق به التراب، أو لحق به العرق، أو أصابه قذر الطريق، قام الغسل بإزالة كل ذلك، وأعاد إليه النضارة والنظافة والصفاء.
سؤال وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ليعرفوا قدر الصلاة وأثرها فيحرصوا عليها ويحافظوا على أدائها، سؤال من واقع حياتهم، وهم الذين يعتزون بالماء، ويعرفون قدر الاغتسال به، يقول لهم: أخبروني لو أن نهرا من الماء العذب الصافي، يجري أمام بيت أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات. هل يبقى على جسده وسخ؟ فيقولون بداهة: لا. لا يبقى من وسخ على الجسم، فيقول: ذلك مثل الصلوات الخمس، تطهر المسلم بين الحين والحين، والصلاة إلى الصلاة تكفر ما بينهما، ويمحو الله بها الخطايا.
-[المباحث العربية]-
(أرأيتم) أي أخبروني بجواب هذا الاستفهام، وفي دلالة "أرأيتم" على معنى أخبروني مجازان، الأول في الاستفهام الذي هو طلب الفهم بأن نريد منه مطلق الطلب عن طريق مجاز مرسل علاقته الإطلاق بعد التقييد. الثاني في "رأي" التي هي بمعنى علم أو أبصر، بأن نريد منها المسبب عن العلم
أو عن الإبصار وهو الإخبار، عن طريق المجاز المرسل أيضا علاقته السببية والمسببية فيتحصل من الاستفهام والفعل طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبروني.
(لو أن نهرا)"لو" يقتضي أن يدخل على الفعل، وأن يجاب، لكنه وضع الاستفهام الآتي موضع جوابه، والتقدير لو ثبت أن نهرا صفته كذا وكذا لما بقي من الدرن شيء، والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبتي الوادي سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه، والمراد منه هنا نفس الماء تسمية للشيء باسم محله، وجملة "لو أن نهرا"
…
مستأنفة لبيان الحال المستخبر عنها: كأنه لما قال: أرأيتم؟ قالوا: عن أي شيء تسأل؟ فقال: لو أن نهرا
…
إلخ.
(بباب أحدكم) أي أمام أحدكم، فهو كناية عن قرب النهر وسهولته ويسره، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنهر، أو خبر "أن".
(يغتسل فيه) الجملة حال من النهر بعد وصفه، أو من ضميره في متعلق الجار والمجرور، أو من "أحدكم" أو خبر بعد خبر.
(كل يوم خمسا)"خمسا" منصوب على المفعول المطلق المبين للعدد.
(ما تقول؟ ذلك يبقي من درنه؟ ) الخطاب لكل من يتأتى خطابه، وفي رواية "ما تقولون"؟ أي ماذا تظن فتقول أيها المخاطب؟ أو ماذا تظنون فتقولون؟ أذلك يبقي من درنه؟ والدرن الوسخ، وقد يطلق على الحب الصغير الذي يظهر في بعض الأحيان في بعض الأجسام، لكن المراد هنا الأول لرواية "فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مر بنهر اغتسل فيه" و"من" في "من درنه" تبعيضية، والتقدير: أذلك الغسل يبقي بعض درنه؟ .
(قالوا: لا يبقي من درنه شيئا) كان من الممكن أن يقولوا: لا. لكنهم صرحوا بمضمون الجواب للتأكيد والمبالغة في نفي الدرن. و"يبقي" بضم الياء وكسر القاف، والفاعل ضمير مستتر يعود على الاغتسال و"شيئا" مفعول به و"من درنه" جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من "شيئا" وأصله صفة له
وقدمت عليه فأعربت حالا، وفي رواية "لا يبقى من درنه شيء" يفتح ياء "يبقى" ورفع "شيء" على الفاعلية.
(فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تقرر عندكم هذا الأمر فذلك مثل الصلوات، وجملة "يمحو الله بها الخطايا" مستأنفة، أو حال من الصلوات.
والكلام على سبيل تشبيه التمثيل، أي تشبيه هيئة بهيئة، والمقصود منه هنا إبراز المعقول في صورة المحسوس، لتقريبه إلى الأذهان، وليستقر الحكم في النفس فضل استقرار وتمكن، ووجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسة في بدنه، ويطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهر العبد من أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبا إلا أسقطته.
-[فقه الحديث]-
قال الطبري: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، ويشكل عليه ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا "الصلوات الخمس كفارة لما بينها، ما اجتنبت الكبائر" فعلى هذا القيد [ما اجتنبت الكبائر] يحمل المطلق. اهـ.
ولا خلاف في أن المراد من الخطايا في الحديث، الذنوب الصغائر خاصة يؤكد ذلك تشبيهها بالدرن، والدرن صغير جدا بالنسبة لما هو أكبر من الأقذار أو الحبوب.
نعم الصغائر تكفر أيضا بصالحات أخرى، كصيام رمضان، وصلاة الجمعة، وباجتناب الكبائر، مصداقا لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بل ببعض النوافل، كصوم يوم عرفة التي نحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله.
فإن قيل: لو اجتنبت الكبائر فماذا تكفر الصلاة؟ أجيب بأن اجتناب الكبائر لا يتم إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر.
فإن قيل: إذا كفر اجتناب الكبائر الذنوب الصغائر فماذا تكفر الأعمال المندوبة الواردة في الأحاديث؟ أجيب بأن الأعمال الصالحة المكفرة للصغائر إذا لم توجد صغائر رفعت من الدرجات، وأعطت من الحسنات ما يعادل تكفيرها للصغائر، أو كفرت من الكبائر بقدرها.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
استخدام المعلم سؤال المتعلمين ليستقر الجواب في نفوسهم.
2 -
استعمال التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس.
3 -
فضيلة المحافظة على الصلوات الخمس.
28 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون".
-[المعنى العام]-
كما فضل الله بعض الناس على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض فضل بعض الأوقات على بعض، وتفضيل الأماكن والأوقات تفضيل للعبادة فيهما على العبادة في غيرهما.
وقد فضل الله وقتي العصر والفجر على بقية أوقات اليوم، لأن الفجر وقت النوم، ووقت الخلود إلى الراحة، ووقت البرد في الشتاء، ولأن العصر وقت انشغال الناس بالأعمال والكسب، فكان الترغيب في المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين، وكان فضل الله في الإثابة على صلاتهما عظيما، وشاء الله أن يباهي بعباده المصلين ملائكته، ينزل من السماء إلى الأرض ملائكة في هذين الوقتين. تنزل ملائكة الفجر فتشهد الصلاة مع المصلين، وتستمر إلى صلاة العصر، فتنزل طائفة أخرى من الملائكة تجتمع مع الأولى في صلاة العصر مع المصلين، ثم تصعد طائفة النهار إلى ربها، وتبقى ملائكة الليل فتبيت حتى الفجر، فتنزل ملائكة النهار فتجتمع مع ملائكة الليل في صلاة الفجر، ثم تصعد ملائكة الليل، فيسألهم ربهم سؤال استنطاق: كيف تركتم عبادي؟ وهو أعلم بهم، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون.
فيا سعادة من شهدت صلاته وشهدت له الملائكة، ويا خسارة من أضاع هذا المغنم.
-[المباحث العربية]-
(يتعاقبون فيكم ملائكة) مذهب الأخفش ومن تابعه من النحويين في هذا وفي أمثاله أن الواو في "يتعاقبون" علامة جمع المذكر، وليست الفاعل، وإنما الفاعل "ملائكة" وحكوا مثله في قول العرب: أكلوني البراغيث، وحملوا عليه قوله تعالى {وأسروا النجوى الذين ظلموا}
وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع وجود الفاعل
الظاهر، ويتأولون هذا وأمثاله، ويجعلون الضمير هو الفاعل، ويقدرون له ما يعود عليه نحو: لله ملائكة يتعاقبون فيكم، و"ملائكة" المذكور بعد الفعل أما بدل من الضمير، وإما خبر لمبتدأ محذوف.
ومعنى "يتعاقبون" تأتي طائفة عقيب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية والخطاب في "فيكم" للمصلين.
(وملائكة بالنهار) إعادة النكرة نكرة تفيد أن الثانية غير الأولى.
(ثم يعرج الذين باتوا) عرج من باب نصر، والعروج الصعود.
(فيسألهم) أي ربهم، كما صرح به في بعض الروايات، ولم يصرح به هنا للعلم به، ومقصود السؤال أن ينطقوا بالجواب. إذ هو أعلم بهم منهم.
(تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) جملة "وهم يصلون" حال وكان الترتيب الطبيعي أن يخبروا عن حالة الإتيان، ثم عن حالة الترك، لكنهم لم يراعوا الترتيب الوقوعي، لأنهم طابقوا السؤال "كيف تركتم عبادي" فقدموا جوابه، ثم زادوا عليه.
-[فقه الحديث]-
ذهب أكثر العلماء إلى أن هؤلاء الملائكة هم الحفظة، الذين يكتبون أعمال العباد، فسؤاله لهم عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياها عليهم والغرض من سؤالهم على هذا مدح المؤمنين، والثناء عليهم رفعا لدرجاتهم وزيادة في الرضا عنهم. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكونوا غير الحفظة فسؤاله لهم ما سبق في علمه بقوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وأنه ظهر لهم ما سبق في علمه بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} قال القرطبي: وهذا من خفي لطفه، وجميل ستره جل شأنه، إذ لم يطلعهم إلا على حال عباداتهم، ولم يطلعهم على حالة شهواتهم وما يشبهها. اهـ. وهذا أيضا إنما يصح على أنهم غير الحفظة.
وتخصيص العروج بالذين باتوا في الحديث، إما للاكتفاء بذكر أحد
الأمرين عن الآخر، وإما لأن الليل مظنة المعصية، ومظنة التكاسل.
لكن جاء مصرحا بعروج كل من ملائكة الليل والنهار وسؤالهم في رواية ابن خزيمة. فلا حاجة إلى التكلف والتعليل فالتخصيص للاكتفاء واختيار المبيت عند الاكتفاء لأن الليل مظنة المعصية، فإذا أطاعوا فيه كانوا أكثر طاعة في غيره.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن الصلاة أعلى العبادات، لأنه عليها وقع السؤال والجواب.
2 -
فيه إشارة إلى عظم هاتين الصلاتين.
3 -
وفضل هذين الوقتين.
4 -
وفيه الإيذان بأن الملائكة تحب هذه الأمة ليزدادوا فيهم حبا، ويتقربون بذلك إلى الله تعالى.
5 -
وفيه دلالة على أن الله تعالى يكلم ملائكته.
6 -
وفيه الإخبار بالغيب.
29 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وأقم الصلاة لذكري".
-[المعنى العام]-
حينما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غزوة خيبر، وفي ليلة مظلمة بعد أن تعبوا من المسير، نزلوا يستريحون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يحرسنا؟ فيظل يقظا لا ينام ليوقظنا لصلاة الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله. قال: فاحفظنا، لا تفوتنا صلاة الفجر، وناموا، وقام بلال يصلي ما قدر له، ثم أسند ظهره إلى بعير فنام، فلم يستيقظ أحد إلا بعد أن طلعت الشمس، وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعا وقام الناس فزعين. قال: يا بلال، ألم أقل لك؟ قال: يا رسول الله. بأبي أنت وأمي أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك من النوم الغالب لقوى البشر، ما ألقيت على نومة مثل هذه النومة قط، وأخذ الصحابة يهمسون: ما كفارة نومنا عن الصلاة؟ وسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، ليس في النوم تفريط ولا إثم، إنما التفريط والإثم على من تكاسل وأهمل الصلاة حتى خرج وقتها، فمن نام عن صلاة، أو نسيها فليصل فورا إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، قال تعالى {وأقم الصلاة لذكري} أي لتذكرك إياها وإياي.
-[المباحث العربية]-
(من نسي صلاة) في رواية في الصحيح "من نسي صلاة أو نام عنها" وفيه "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها" والمقصود من الصلاة فريضة أي وقت، وقيل بدخول السنن الراتبة، وسيأتي إيضاحه في فقه الحديث.
(فليصل) المفعول محذوف، أي فليصلها، وفي الصحيح رواية "فليصلها" وفيه "فكفارتها أن يصليها".
(إذا ذكرها) أي حين ذكره لها دون تأخير.
(لا كفارة لها إلا ذلك) أي إلا أداؤها.
{وأقم الصلاة لذكري} اللام للتعليل أو للتوقيت، أي لأجل ذكري، أو حين ذكري، و"ذكري" مصدر مضاف للفاعل، أي لذكري لك، أي لأذكرك بالمدح في الملأ الأعلى، وهذا بعيد عن موطن الاستشهاد، لأن الذكر في الملأ الأعلى للأداء، والمشهود هنا القضاء، أو المعنى لتذكيري لك بها، فالذكر بمعنى التذكير وهذا أولى، أو مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني بها بعد نسيان، وهو أقرب.
وفي الصحيح "فليصلها إذا ذكرها" فإن الله يقول {وأقم الصلاة لذكري} وهي جزء آية في سورة طه، وكاملها {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وقد قرئ "للذكرى" بفتح الراء، أي للتذكر.
-[فقه الحديث]-
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
قال النووي: يؤخذ من قوله "من نسي صلاة فليصل" في رواية "فليصلها" وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر، كنوم ونسيان، أو بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال: وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجب قضاء الفائتة بغير عذر، وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء، قال: وهذا خطأ: من قائله وجهالة. اهـ.
والخطأ والجهالة من قائله ناشئان من أنه ظن أن القضاء من غير المعذور يخرج من وبال المعصية، ولم يقل أحد بذلك.
2 -
وظاهر قوله "إذا ذكرها" يفيد وجوب المبادرة وعدم التأخير في قضاء الفائتة عن وقت الذكر، لكنه محمول على الاستحباب، ويجوز التأخير
عند الجمهور، سواء فاتت بعذر أو بدون عذر، وحكي عن بعضهم أنه يجب قضاؤها على الفور إن فاتت بدون عذر، أي فيأثم بتأخيرها وتصح.
3 -
استدل بقوله "لا كفارة لها إلا ذلك" أنه لا يجب غير إعادتها، خلافا لمن قال: تعاد المقضية مرتين، مرة عند ذكرها، ومرة عند حضور مثلها الآتي أخذا بظاهر رواية في مسلم "فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" والجمهور على أن المراد من هذه الرواية أنه إذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد.
قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بالمرتين وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب، ليحوز فضيلة الوقت في القضاء لكن قال الحافظ ابن حجر: ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا، بل عدوا الحديث غلطا من راويه. قال: ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين "أنهم قالوا: يا رسول الله. ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ قال: لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم".
4 -
استدل بعضهم بتنكير "صلاة" في قوله "من نسي صلاة" على عموم الفريضة والنافلة فقال بوجوب قضاء الفريضة، وباستحباب قضاء النافلة الراتبة. قال النووي: وإن فاتته سنة راتبة، ففيها قولان للشافعي وأصحهما أنه يستحب قضاؤها، وقيل: لا يستحب، وأما السنن التي شرعت لعارض كصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوهما، فلا يشرع قضاؤها بلا خلاف.
5 -
استدل باستشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه السلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ.