الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الخلق
10 -
عن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال "لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".
-[المعنى العام]-
سبحان من خلق الإنسان وفي طبعه الشك والنسيان، ثم سلط عليه الشيطان الوسواس الخناس، ليأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ليوسوس له، ويشككه في عبادته، ويخرجه من الإقبال على ربه، سبحانه جل شأنه يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، خفف عن الإنسان، ورفع عنه الحرج والضيق أمام الشك والوسواس. رسم له قاعدة استصحاب الأصل وطرح الشك، وإبقاء ما كان على ما كان، وتكفل- جل شأنه -أن يعفو عن الخطأ، ويتقبل العمل، وإن وقع على خلاف الأصل، رحمة منه وفضلا فالمصلى الذي يخيل إليه أنه أحدث وهو في الصلاة، ويخيل إليه أنه خرج منه الريح المبطل للوضوء، المبطل للصلاة، لا ينبغي أن يخرج من الصلاة ولا أن يعتقد بطلانها، بل عليه أن يستصحب الأصل، أي الطهارة التي دخل بها في الصلاة، وأن يطرح الشك الذي طرأ عليه، وأن لا ينصرف حتى يتيقن الحدث، يقينا لا يمازجه شك، يقينا ناشئا عن الحواس الموجبة للعلم، يقينا صادرا عن السمع أو الشم، لا ينصرف حتى يسمع بأذنه ** صوت الريح، أو يشم بأنفه ريح الحدث
بهذا الطريق الشرعي الذي رسمه الإسلام، يسد المسلم على الشيطان أبواب إغوائه، ويدفع عن نفسه أخطار الشك والتردد.
-[المباحث العربية]-
(أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل) الشاكي عبد الله بن زيد الأنصاري، عم عباد، وفي رواية ابن خزيمة. عن عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل .... إلخ.
(الذي يخيل إليه) بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الياء الثانية المفتوحة وأصله من الخيال، والمعنى ظن، والظن هنا أعم من تساوي الاحتمالين أو ترجيح أحدهما على ما هو أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين.
(أنه يجد الشيء) أي الحدث، والعدول عن ذكره صراحة، للأدب وصيانة اللسان عن المستقذر، حيث لا ضرورة. ومعنى وجدانه الحدث ظن خروجه منه.
(في الصلاة) قيد لبيان الواقع وليس للاحتراز، فالحكم خارج الصلاة هو الحكم فيها على ما ذهب إليه الجمهور، وجعله المالكية للاحتراز، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث.
(لا ينفتل -أو لا ينصرف) بالشك من الراوي، والفعل مجزوم ب"لا" الناهية، ويجوز الرفع على أن "لا" نافية.
(حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) معناه حتى يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين.
-[فقه الحديث]-
قال النووي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، فمن ذلك مسألة الباب التي
ورد فيها الحديث، وهي أن من تيقن الطهارة، وشك في الحديث، حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة. هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف.
وحكي عن مالك روايتان، إحداهما: أنه لزمه الوضوء إن كان شك خارج الصلاة. ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والثانية. يلزمه بكل حال. قال النووي: وقال الشافعية: ولا فرق في الشك بين أن يستوي الاحتمالان في وقوع الحدث وعدمه، أو يترجح أحدهما أو يغلب على ظنه، فلا وضوء عليه بكل حال، ويستحب له أن يتوضأ احتياطا.
أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين.
ثم قال النووي: ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة الماء النجس، أو نجاسة الثوب، أو الطعام، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم هذا الحادث. والله أعلم.
قال القرطبي: ومشهور مذهب مالك النقض داخل الصلاة وخارجها وحمل بعض أتباعه الحديث على من كان به وسواس، وتمسكوا بأن الشكوى لا تكون إلا عن علة. قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بما دل على التعميم وهو حديث أبي هريرة عند مسلم، ولفظه "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه. أخرج منه شيء أو لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". اهـ، فهذا الحديث لم يتعرض لشكوى شاك، وهو صريح في طرح الشك. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
مشروعية سؤال العلماء عما يحدث من وقائع.
2 -
وعدم الاستحياء في العلم.
3 -
والعدول عن ذكر الشيء المستقبح.
4 -
ومحاربة الشيطان والوسوسة، وإحباط هذا الكيد بترسيخ اليقين، ففي بعض الروايات "إذ جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك أحدثت. فليقل في نفسه: كذبت".
11 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده".
-[المعنى العام]-
أعلى درجات النظافة، وأسمى مراتب الطهارة، أن نطلب من النظيف أن يزداد نظافة، وأن نكلف احتياطا برفع ما يتوهم من وسخ، وأن نطلب المبالغة في غسل ما لا يهتم بغسله، كجيوب الأنف، والمبالغة في استبراء
النجاسة ولو مع تحقق إزالتها. هذا ما يرمي إليه الحديث الشريف فهو يأمر أن يدخل المتوضئ الماء في أنفه وخياشيمه، ثم يدفعه من الأنف إلى الخارج ليخرج مع الماء ما يحتمل وجوده في منحنيات الأنف. ويأمر المستجمر بالأحجار المنقى بها بقايا البول أو الغائط أن يجعل الحجارة وترا، فإن نقى المكان بحجرين زاد ثالثا، وإن نقى بأربعة زاد خامسا وإن نقى بستة زاد سابعا وهكذا.
ويأمر المسلم إذا استيقظ من نومه أن لا يدخل يده في ماء في إناء، أو في إناء فيه سائل حتى يغسلها ثلاث مرات، قل نومه أو كثر، فخر فراشه أو حقر، غسل يده قبل أن ينام أو لم يغسلها، فإنه لا يدري إلى أين تحركت يده أثناء نومه، وإلى أي المستقذرات تعرضت، قد تكون احتكت بمناعم الجسم بين الفخذين، أو تحت الإبط، فعلق بها عرق خبيث أو ريح كريه وقد تكون قد دلكت مداخل الأنف وإفرازاته، أو إفرازات العين فأصابها ما لو وضع في سائل آذاه، ومبدأ الإسلام النظافة والحرص على نقاء اليد وطهارة السائل وصلاحيته للشرب دون تقزز أو اشمئزاز.
فعلى من قام من نومه أن يغسل يديه، بأن يصب عليهما ماء في الخارج قبل أن يغمسهما في الإناء حتى من لا يعتقد تلوثهما، فإن شك في تلوثهما كان أولى به وأحرى وألزم، وكلما طال النوم، وكلما كان احتمال التعرض للتلوث أكثر كان الطلب آكد. والله أعلم.
-[المباحث العربية]-
(إذا توضأ أحدكم) فيه مجاز المشارفة، أي إذا أراد الوضوء وأشرف عليه وابتدأه.
(فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر) في رواية صحيحة "فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينثر" والاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، مع إخراج ما في الأنف من مخاط وشبهه بقوة الدفع إلى الخارج.
(ومن استجمر فليوتر) الاستجمار مسح البول أو الغائط بالجمار، وهي
الأحجار الصغار، ومنه رمي الجمار في الحج.
(وإذا استيقظ أحدكم من نومه) ظاهره عموم النوم بالليل أو النهار، لكن رواية أبي داود "إذا قام أحدكم من الليل" قد تخصص هذا العموم.
(قبل أن يدخلها في وضوئه) بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به.
(أين باتت يده) أي من جسده، وفي رواية "ولا علام وضعها".
-[فقه الحديث]-
يتناول الحديث ثلاث مسائل فقهية:
الأولى: الاستنشاق والاستنثار في الوضوء، وكمال الاستنثار بإيصال الماء إلى داخل الأنف، وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ثم الاستنثار وطرد الماء مع ما في الأنف إلى الخارج، وتستحب المبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما، وأقل الاستنشاق إدخال قليل من الماء في مقدم الأنف وفتحتيه.
ومذهب مالك والشافعي وأصحابهما أن الاستنشاق سنة في الوضوء والغسل، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، والمشهور عن أحمد أنه واجب في الوضوء والغسل، لا يصحان بدونه، وهو مذهب داود الظاهري وحملوا الأمر على الوجوب، وقالوا: لم يحك أحد ممن وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أنه واجب في الغسل دون الوضوء.
أما الاستنثار فهو مستحب، وليس بواجب باتفاق. وكمال كيفيته أن يطرح الماء من أنفه برفق، لئلا يصيب ما حوله، وأن يستعين في ذلك بأصابع يده اليسرى، يضغط برفق على فتحتي الأنف.
المسألة الثانية: الوتر في الاستجمار، ويرى الشافعية والحنابلة أنه لا بد في الاستنجاء والاكتفاء بالأحجار من إزالة عين النجاسة، واستيفاء ثلاث مسحات، ولو استنجى بحجر واحد له ثلاثة أطراف، فمسح بكل طرف مسحة أجزأه، وإن كانت الأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف،
للقبل ثلاثة أحجار، وللدبر ثلاثة أحجار، إذا حصل الإنقاء بها، فإن لم يحصل الإنقاء بها وجب رابع، فإن حصل الإنقاء به استحب خامس للإيتار به، وهكذا يجب الإنقاء مهما زاد، ويستحب الإيتار.
وذهب المالكية والحنفية إلى أن الشرط الإنقاء فقط ولو حصل بحجر واحد ومسحة واحدة، وقالوا: إن أحاديث الثلاثة محمولة على الندب مبالغة في الإنقاء.
وهل تقوم الخرق والورق المتشرب مقام الأحجار؟ التحقيق نعم، لأن المعنى فيه أن يكون مزيلا مانعا من الانتشار، ولهذا قال الشافعية: والذي يقوم مقام الحجر كل جامد [فلا يصلح الرطب] طاهر، مزيل للعين، [فلا يصلح الزجاج] ليس له حرمة كحيطان المساجد، وأوراق كتب العلم، ولا هو جزء من حيوان، وزاد بعضهم أن لا يكون نفيسا، فلا يصلح بالذهب والفضة واللآلي. **
هذا وقد قال النووي: الذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيستعمل الحجر أولا، لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها باليد، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما مع وجود الآخر جاز، والماء حينئذ أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها.
المسألة الثالثة: غسل اليدين قبل إدخالهما إناء السائل، إن قام من النوم. ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحققين أن غسل اليدين قبل غمسهما لمن قام من النوم، أو شك في نجاستهما مندوب، ويكره تركه، وذهب الإمام أحمد إلى وجوب الغسل عند القيام من نوم الليل دون نوم النهار، والجمهور على أن الماء لا ينجس إذا غمس يده فيه قبل غسلهما، لأن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك. والله أعلم.
12 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة" فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا أو إلى أن ييبسا".
-[المعنى العام]-
الإسلام دين النظافة، نظافة الباطن، ونظافة الظاهر، نظافة السلوك ونظافة البدن والثياب، يمثل السلوك الخاطئ المشي بالنميمة بين الناس، ويمثل القذر في الثياب والبدن عدم التنزه من البول والتعرض للتلوث من بقاياه بسبب عدم الاستبراء منه بالحجارة أو الماء.
أمران يستهين بهما المسلم، ولا يحسبهما من الكبائر التي يعذب عليها بعد الموت، مع أنهما من أول ما يعذب من أجله المؤمن، يصور هذا المنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر مع أصحابه بمقابر المدينة. قال لأصحابه:
إني أسمع صوت إنسانين في هذين القبرين يعذبان، أسمعهما بقدرة أودعها الله في سمعي، وإن أصواتهما أصوات تأوه وتضجر وتألم مما هما فيه، وقد أخبرني ربي أنهما يعذبان في أمرين استهانا بهما، يعذبان في معصيتين ليستا كبيرتين في حسبان الناس، لكنهما كبيرتان عند الله. كان أحدهما في دنياه لا يتحرز من بقايا البول، فيصيب بدنه وثوبه فتبطل صلاته وهو يدري، وكان الآخر في دنياه ينقل الحديث السيئ من شخص إلى المقول فيه، ويزيد عليه للإيقاع بين الناس. وأخذته الشفقة والرحمة صلى الله عليه وسلم فتوجه إلى الله أن يخفف عنهما، ثم طلب من أصحابه جريدة خضراء لينة بما عليها من خوص فشقها نصفين ووضع على كل قبر من القبرين نصفا، وقيل: إن جريدة النخل والرطب من الزرع يسبح الله ما دام رطبا، ولعل الله يخفف عن المعذبين بسبب هذا التسبيح المستمر إلى أن تيبس الجريدتان.
-[المباحث العربية]-
(بحائط من حيطان المدينة) المنورة، والحائط البستان، وأطلق هنا على الحائط الذي يحيط بالقبور.
(أو مكة) الشك من الراوي، لكنه ورد في كتاب الأدب للبخاري بالجزم بأنه من حيطان المدينة.
(فسمع صوت إنسانين) الإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وإضافة "صوت" وهو مفرد إلى "إنسانين" وهو مثنى جائز عند النحاة، والجمع أجود جاء به القرآن الكريم في قوله {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} والظاهر أنهما كانا مسلمين، إذ حصر سبب عذابهما في البول والنميمة ينفي كونهما كافرين.
(يعذبان في قبورهما) كان الظاهر أن يقال: في قبريهما، لكنه جمع هنا لأمن اللبس، وهو جائز.
(وما يعذبان في كبير) أي ولا يعذبان في أمر كبير شاق، بل في أمر سهل الترك يسير، أو لا يعذبان في ذنب كبير في نظر الكثيرين، بل في أمر يحسبونه هينا وهو عند الله الكبير.
(بلى) أي بلى إنهما ليعذبان في كبير.
(لا يستتر من بوله) في رواية "لا يستنزه من البول" وفي رواية "لا يستبرئ من البول" وكلها صحيحة، ومعناها لا يتجنب بوله، ولا يتحرز منه فمعنى "لا يستتر من بوله" أي لا يجعل بينه وبين بوله سترا ووقاية، وحمله بعضهم على ظاهره، وأن معناه لا يستر عورته، وهو مردود، لأنه لا يكون لذكر البول حينئذ فائدة.
(وكان الآخر يمشي بالنميمة) وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار.
(ثم دعا بجريدة رطبة) في رواية "فدعا بعسيب رطب" وهو الجريدة والغصن من النخل، وقيل: العسيب هي الجريدة التي لم ينبت فيها الخوص فإن نبت فهي السعفة، وخص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف.
(فكسرها كسرتين) طولا أو عرضا، وفي رواية "فشقه باثنين".
(لعله أن يخفف عنهما)"لعل" للترجي، أي أرجو أن يخفف الله عنهما والهاء في "لعله" للحال والشأن.
-[فقه الحديث]-
الحديث صريح في أن عدم الاستبراء من أسباب عذاب القبر، وقد صحح ابن خزيمة حديث "أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك التحرز منه ويرى جمهور العلماء أنه من الكبائر، ويؤيدهم ما جاء في بعض الروايات عند البخاري "وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير" وفي سبب كونه كبيرا قيل: إنه يؤدي إلى بطلان الصلاة لتنجيسه الثوب والبدن، فتركه كبيرة ولا شك.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
حجة لمذهب أهل السنة في ثبوت عذاب القبر، خلافا للمعتزلة.
2 -
نجاسة الأبوال مطلقا قليلها وكثيرها، وهو مذهب عامة الفقهاء
وذهب أبو حنيفة إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير للمشقة، وفي الجواهر للمالكية: أن البول والعذرة من بني آدم الآكلين دون الرضع نجسان، وهما طاهران من كل حيوان مباح أكل لحمه.
3 -
وفيه حرمة النميمة، وهي كبيرة بلا خلاف.
4 -
استدل به بعضهم على استحباب وضع الجريد الأخضر على القبور، ومثله كل ما فيه رطوبة من الأشجار والزهور وغيرها، لكونها تسبح ما دامت رطبة، وليس لليابس تسبيح. لكن الخطابي أنكر مثل هذا الفعل وقال عن الحديث: إنه دعا لهما بالتخفيف مدة النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصها، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وجعلها بعضهم خصوصية له صلى الله عليه وسلم ببركة يده فلا يقتدي به، لأنه علل وضعهما بأمر مغيب وهو عذابهما، وغيرهما لا نعلم إن كان يعذب أو لا **، ورده الحافظ ابن حجر فقال: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب في أمر يخفف عنه العذاب لو عذب، كما ندعو بالرحمة لمن لا نعلم أرحم أم لا.
5 -
استدل به بعضهم على استحباب قراءة القرآن على القبور، لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن أعظم رجاء وبركة، ومذهب أبي حنيفة وأحمد وصول ثواب القراءة إلى الميت وأجمع العلماء على أن الدعاء ينفع الأموات، ويصلهم ثوابه.
6 -
وفيه التحذير من استمرار النجاسات في البدن أو الثوب دون إزالة.
13 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
-[المعنى العام]-
انتشر الإسلام في البدو والحضر، وسطع نوره في طرق المدينة وشعاب الصحارى، وغزا شغاف القلوب الهينة اللينة، والقلوب القاسية الجافية، كان الأعراب خلف أغنامهم يسمعون به فيؤمنون، ثم ينتهزون فرصة قربهم من المدينة فينزلون إليها، ويقصدون مسجدها لينعموا برؤية رسول الإسلام ومشافهته، ومن هؤلاء الأعراب الجفاة ذو الخويصرة اليماني دخل المسجد النبوي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فسلم، ثم صلى، ثم قال بصوت جهوري: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعا، بل قل: اللهم ارحمني ومحمدا والمسلمين. ثم قام ذو الخويصرة، فانتحى ناحية من المسجد، وفي زاوية من زواياه وقف يبول، ورآه الصحابة فثارت ثائرتهم، وصاحوا: مه. مه. اكفف. اكفف. به. به. توقف. توقف، وثاروا عليه، واتجهوا نحوه يزجرونه ويردعونه فناداهم رسول الرحمة. تعالوا. دعوه. دعوه. لا تقطعوا
عليه بوله.
دعوه فليكمل. إنه جاهل بالحكم. إنه لا يقصد إساءة للمسجد، إنه يظن أن المكان الذي هو فيه كبقية أماكن الصحراء، إنه يظن أنه متى بعد عن الناس تبول كيف شاء. قدروا ظروف الرجل، فقد بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، يسروا ولا تعسروا، وتحملوا أخف الضررين، تنجس المكان وانتهى الأمر، وقطعكم لبوله سيحدث به ضررا، وسيلوث بدنه وثوبه وأماكن أخرى من المسجد. قالوا: فما العمل يا رسول الله؟ فقال: ائتوني بدلو كبير مملوء ماء فجاءوا به فقال: صبوه على مكان بوله، شيئا فشيئا تطهر الأرض، ثم دعا الرجل وبغاية الرفق ومنتهى اللين قال له: إن هذه المساجد لا يليق بها البول والقذر فقد خصصت لذكر الله والصلاة.
قال: أحسنت يا رسول الله، وجزاك الله خيرا. بأبي أنت وأمي. لن أعود لمثلها أبدا.
-[المباحث العربية]-
(قام أعرابي في المسجد) الأعرابي واحد الأعراب، وهم من سكن البادية عربا أو عجما، فالأعرابي مقابل الحضري، والعربي مقابل العجمي، وفي وصف الرجل بالأعرابي اعتذار عن فعله، والمراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة.
(فتناوله الناس) أي بالزجر واللوم، ففي البخاري "فزجره الناس" وفي مسلم "فصاح به الناس" فقالوا: مه مه" والمراد بعض الناس أي بعض الصحابة الحاضرين في المسجد.
(دعوه) في رواية "ولا تزرموه" بضم التاء وسكون الزاي وكسر الراء، أي لا تقطعوا عليه بوله.
(وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء) يقال: هريقوا وأريقوا أي صبوا على مكان بوله، والسجل بفتح السين وسكون الجيم الدلو العظيمة والذنوب بفتح الذال وضم النون الدلو المملوءة ماء، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب.
-[فقه الحديث]-
يتعرض الحديث إلى تطهير المتنجس، ويحسن بنا أن نستعرض باختصار مذاهب العلماء في التطهير، والتعبير الدقيق أن نطلق على عين النجاسة وجرمها لفظ "نجس" وعلى ما أصابته من مائع أو جامد لفظ "متنجس".
والعين النجسة لا تطهر، إلا ما كان من جلود الميتة، على خلاف بين العلماء، أما ما كان من العين النجسة، كالبول والعذرة فإنه لا يطهر في ذاته وكل ما نفعله إذا أصاب ثوبا أو جامدا أن نزيله ونحوله عنه، وإذا أصاب مائعا أو ماء أن نكثر المائع أو الماء، كثرة تضعف أو تخفي تأثيره، فيصلح المائع أو الماء للاستعمال.
وإزالة النجاسة لا تجوز إلا بالماء عند الشافعية والجمهور، وأصح الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك، وقال أبو حنيفة: يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع كالخل وماء الورد.
ولو وقعت النجاسة في جامد كالفارة تموت في السمن أخرجت وما حولها وانتفع بالباقي.
والحديث الذي نحن بصدده في النجاسة تقع على الأرض، فالحنفية يرون أنه إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة كالبول، فإن كانت الأرض رخوة صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، وإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء حكم بطهارتها، وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت عالية هرمية حفر في أسفلها حفيرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل إلى الحفيرة ثم تكبس الحفيرة. وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل، بل يحفر مكان النجاسة، واستدلوا ببعض روايات الحديث، فعند الدارقطني "احفروا مكانه"، ثم صبوا عليه ذنوبا" وعند أبي داود "خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" وفي مصنف عبد الرزاق "احفروا مكانه، واطرحوا عليه دلوا من ماء".
والشافعية والجمهور على أنه لا حفر، وأن الأرض صلبة أو رخوة تطهر بصب الماء عليها كما هو ظاهر الحديث الصحيح.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة، ولهذا أنكروا بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه.
2 -
وأن بول الآدمي نجس، وهو مجمع عليه.
3 -
وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة عن الأرض المتنجسة، ولا يكفي الجفاف بالريح أو الشمس، وهو مذهب الشافعي ومالك والحنابلة، وقال أبو حنيفة: هما مطهران لأنهما يحيلان الشيء.
4 -
واستدل به على عدم نضوب الماء، لأنه لو اشترط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب.
5 -
وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، فالبول في المسجد مفسدة وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، ففي تنزيه المسجد عن البول مصلحة، وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
6 -
وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع.
7 -
وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزم من غير تعنيف.
8 -
وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
9 -
وفيه صيانة المساجد عن القذى والأقذار.